جامعة الرّوح القدس – الكسليك
كليّة اللاهوت الحبريّة
تعليم الكنيسة الاجتماعي
الأب لويس الخوند
الكسليك – لبنان
2006-2007
المقدِّمة
إن تعليم الكنيسة الاجتماعي “يدخل في نطاق علم اللاهوت وبالتحديد اللاهوت الخلقي”[1]. وإن كانَ موطن المسيحيّ في السّماء، فهذا لا يعني أنّه معفىً من مسؤولياته في المجالين الاجتماعيّ والسياسيّ. بل على العكس، فنحن، مواطنو ملكوت المسيح، ملزَمون بخدمة البشر أجمعين في سبيل بناء الوطن الزمني على هذه الأرض بروح العدالة والمحبّة. لذا باستطاعة المعمّد أن يقدّم مساهمته المميّزة، بصفته مسيح آخر، في المجالات كافة، إن في المجال العلميّ أو الفنّي أو السياسيّ، إلخ”[2]
1- ماذا نفهم باللاهوت الخلقي الاجتماعي؟
ما هو تعليم الكنيسة الاجتماعي؟
2- هل يحق للكنيسة أن تتعاطى الشأن الاجتماعي؟
كلا! لِمَ؟ هذا شأن السّلطة المدنيّة – والكنيسة جماعة روحيّة
نعم! لِمَ؟ الكنيسة جماعة منظورة “في العالم”.”خبيرة في الإنسانيّة”.
3- أهميّة تعليم الكنيسة الاجتماعي
لأنَّها تعطي مبادئ للتفكير
ومقاييس للحكم
وتوجيهات للعمل
4- مصادر تعليم الكنيسة الاجتماعي
- العقل السَّليم والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة
- الوحي الإلهي وآباء الكنيسة واللاهوتيّون
5- حدود تدخُّل الكنيسة في الشأن الاجتماعي
- لا تعطي حلولاً تقنيّة ولا تطرح أنظمة
- بل تعطي مبادئ وقِيَماً وتوجيهات
6- علاقة الكنيسة بالسّلطة المدنيّة
- إستقلال كل منهما
- وتكامل بينهما في خدمة الإنسان والمجتمع
7- دورنا: نتعلَّم ونلتزم، مسؤوليّة ومشاركةوكل هذا من وحي التجسّد والفداء والعنصرة
أولاً: في العهد القديم
- تحضرنا دعوة الكتاب أن “أخضِعوا الأرض” “وفيها تظهر إرادة الخالق في الإنسان: أن يتوصَّل بعمله إلى أن يُحْرِز هذا الإخضاع الذي هو ميزته الخاصّة في العالم المتطوِّر”(يوحنا بولس الثاني، العمل البشري، 14/9/1981، عدد9، صفحة31).
- “قايين وهابيل” هما رمز الصِّراع ما بين الشر والخير، ما بين الأشرار والأخيار.
- إبراهيم، جعله الله أباً لأمم كثيرة، لا لليهود وحسب، بل للأمم.
- موسى هو “مخلّص الشعب”، وهذا دور المسؤول. الوصيّة الأولى أخلاقيّة.
- إن ربَّ الأسرة مسؤول عن تربية أولاده. والمقصود عناصر الإيمان الأساسيّة، وتعليم أخلاقي ينصبّ حول الشريعة الألهيّة (تث6/7).
- وللكهنة في هذا الحقل مسؤوليّة أوسع. وعلى اللاّويّين بدورهم مهمّة تعليم الشريعة وتفسيرها حتّى يمكن تطبيقها في الحياة (تث17/10-11).
- والأنبياء، إذ يعلنون كلمة الله، يتوّعدون، يعظون، يعدون ويعزّون.
- آشعيا يثور على العبادة الفارغة غير المتجسِّدة رحمةً.
- هوشع يعاند الخيانة الزوجيّة ويحرّر فتنجح المحبّة.
- عاموس نبي العدالة الاجتماعيّة والمساواة بين الأغنياء والفقراء.
- والحكماء يقومون إزاء تلامذتهم بدورٍ تربوي (سي30/3).
ويبدو تعليم “الحكمة” مستنداً إلى خبرة الإجيال، أكثر منه إلى الكلمة الإلهيّة.
ثانياً: في العهد الجديد
- يوحنا المعمدان، للجُباة : لا تطالبوا بأكثر مما أُمرتم به. للجنود: لا تظلِموا أحداً.
- أولى تجارب يسوع ” تهدف إلى قيام إنجيل إجتماعي غريب عن إنجيل يسوع” (البطريرك صفير في افتتاح المجمع البطريركي الماروني، الأحد 17/10/2004). علَّم التطويبات، والفضائل والصَّدقة، وربط بين الدين والأخلاق (متى5/23-24). إزدجر الريح والبحر، فحدث هدوء عظيم. شفى المرضى. غفر الخطايا. علَّم أن الله أب. وبالنتيجة فالبشر جميعاً أخوة. بتعليمه يعلن الملكوت ويقدّم قواعد للسلوك، “قيل لكم…امّا أنا فأقول لكم:” لا تحلفوا”. إصفحوا، أحبّوا، تصدّقوا، لا تدينوا. يعلِّم الحق. ويخدم (مر10/45).
- في القتل (متى5/21-26).
- في الصفح (متى5/38-42).
- في محبّة الأعداء (متى5/42-48).
- في الصدقة (متى6/1-4).
- مثل السامري الصالح (لو10/29-37).
- والرسل يقومون برسالة التعليم، حول سرّ المسيح المحور، والأخلاقيّة المسيحيّة وفق المسيح وحسب توجيهاته الدينيّة والخلقيّة في آن. كانوا جميعاً “قلباً واحداً”. ” يتقاسمون الخيرات”. ولم يكن بينهم معوز.
- بولس الرسول كان يفتخر بأنّه كان يمارس مهنة يعيش منها (حياكة الخيام). يحث أهل روما على الحياة الجديدة (روم12) وأهل قورنتس ليكونوا في المسيح “خليقةً جديدة” (2قور5/17( وأهل تسالونيكي على العمل.
ثالثاً: لدى آباء الكنيسة
الرسوليون والإنطاكيون (اليونان والسريان)، والكبادوكيون والإسكندريون واللاتين جميعهم ضمّنوا مواعظهم توجيهاتٍ أخلاقيّة شخصيّة وإجتماعيّة. “تحدّثوا عن الفقراء والأغنياء” والمشاركة والخدمة والصّدقة والمساواة والعدالة. حريٌّ بنا أن نكون أوفياء لتعاليم الآباء.
رابعاً: لدى السلطات الكنسيّة
على مدى الأجيال يمتدّ تعليم الكنيسة الدّينيّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ، لتنوير الإيمان في جميع الميادين.
1- الكنيسة تهتمّ بالشأن الاجتماعيّ
إن الشأن الاجتماعي قد أولته الكنيسة اهتماماً ناشطاً تجلّى دائماً بطرق متنوّعة جداً، ابتدأ من رسالة لاون الثالث عشر العامّة الشهيرة في “الشؤون الحديثة” Rerum Novarum (15/5/1891). تلتها مجموعة تعليميّة تواكب الواقع والأحداث والمستجدّات على مختلف الصُّعد الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة: “أربعون سنة”Quadragesimo anno لبيوس الحادي عشر (15/5/1931) وأم ومعلّمة Mater et Magistra، ليوحنا الثالث والعشرين، عام 1961 بمناسبة مرور سبعبين عاماً على رسالة “الشؤون الحديثة”.
الدستور الراعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، القسم الأول، الفصل الثاني، يتحدّث عن “الجماعة الإنسانيّة”. في هذا الفصل يعطي المجمع المبادئ العامّة التي يمكن تطبيقها على جميع الأنظمة.
وقبل المجمع وبعده، هنالك وثائقُ عديدة وضعتها السلطة التعليميّة في الكنيسة وشرحت فيها بإسهاب التعليم المسيحي حول المجتمع الإنساني. وهو تطبيق المبادئ الأساسيّة على مختلف ظروف الحياة المتغيّرة في تاريخ البشر. وعلى مدى التاريخ نلاحظ ديناميّة وتطوّر تعليم الكنيسة الاجتماعي.
2- تطوّر تعليم الكنيسة الاجتماعي
طوال السنين المنصرمة منذ إصدار رسالة البابا لاون الثالث عشر “الشؤون الحديثة” (15/5/1891)، ما فتئت القضيّة الاجتماعيّة تشغل بال الكنيسة. لنا شاهد على ذلك في الرسائل الحبريّة والمجمع الفاتيكاني الثاني والرسائل الراعوية والأساقفة والرؤساء العامين والمجالس واللجان واللاهوتيّين.
3-رسالة “الشؤون الحديثة”
تُعدّ هذه الرسالة فاتحة الرسائل البابويّة في الشأن الاجتماعي. تبدأ الرسالة بوصف الحالة التي وصلت إليها القضيّة الاجتماعيّة مع التقدُّم الصِّناعي بين جماعة رأس المال وجماعة العمل. كان موضوعها: القضيّة العماليّة. طرحت في المقدّمة “الوضع الاجتماعي المأساويّ”: اضطّراب العلاقات بين العمّال وأرباب العمل، وتدفّق الثروة بين أيدي قلّة من النّاس، بينما الكثرة في عوز، تنامي وعي العمال لذواتهم، والانحلال في الاخلاق، وصراع الطبقات، والهجرة من الأرياف إلى المدينة للعمل. وتدهور الزراعة وتقسّم العائلة، إلخ.
في القسم الأول عالجت الحلّ الاشتراكيّ القائم على إلغاء الملكيّة الخاصّة وعلى صراع الطبقات ، فأظهرت أن الملكيّة الخاصّة حقّ طبيعيّ للإنسان، وهذا الحقّ سابق للدولة. ولا تناقض بين الملكيّة الخاصّة ومشاعيّة الخيرات.
في القسم الثاني أوردت الرِّسالة الحلّ المسيحي، المستند إلى حقّ الكنيسة في التدخُّل، وقوام الحلّ المسيحي مبادئ أساسيّة: 1) لا مفرّ من الفوارق، 2) لا لصراع الطبقات، 3) إحترام الإنسان موجبات العدالة، 4) الأجر العادل، 5) عدم التعلّق بخيرات الأرض، 6) حسن التصرّف بالخيرات، 7) الفقر ليس عاراً، 8) المحبّة الأخويّة. وتتحدّث الرّسالة عن دور الكنيسة وعملها الاجتماعي: فالكنيسة تعلّم وتعمل. الكنيسة تعنى بالحياة الأرضيّة. الكنيسة تدعم الطبقات المحرومة بمؤسَّسات المحبّة.
في القسم الثالث تتحدّث الرسالة عن دور الدولة في نظر الكنيسة: تتدخّل لتأمين المنفعة العامّة (الخير العامّ)، لترسيخ أسس المواطنيّة المشتركة، لحماية الجماعات والأفراد، لتطبيق النظام على الجميع فيسود السّلام الاجتماعيّ، حماية الملكيّة الخاصّة، تدارك الإضرابات ومعالجة أسبابها، إحترام كرامة الإنسان، تحديد شروط العمل، تحديد الأجر العادل، تشجيع الرغبة في التملّك.
في القسم الرابع تتحدّث الرسالة عن دور الجمعيّات المهنيّة (النقابات العماليّة) وأثرِها النافع في المجتمع، وحقها في الوجود وعلاقتِها مع الدولة، وتنظيمِها وإدارتِها وتأثيرِها.
تختم الرسالة بدعوة الجميع إلى العمل.
4- بعد “الشؤون الحديثة” توالت الرسائل الحبريّة الاجتماعيّة: السنة الأربعون لبيوس الحادي عشر (15/5/1931) والرسالة الإذاعيّة لبيوس الثاني عشر (1941) بمناسبة الذكرى الخمسين لتلك الرسالة، البابا يوحنا الثالث والعشرون أصدر الرسالة العامّة أم ومعلمة (سنة 1961) بمناسبة الذكرى السبعين و“السلام على الأرض” (11/4/1963)، والمجمع الفاتيكاني الثاني، الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء” (7/12/1965) و“الكرامة البشريّة” (7/12/1965)، وبولس السادس، “ترقي الشعوب” (26/3/1967). و”السنة الثمانون” (14/5/1971)، ويوحنا بولس الثاني،“فادي الانسان” (4/3/1979)، و“الغنيّ بالرحمة” (30/11/1980). وأعاد التأكيد على أهميّة العمل والأخلاق والاهتمام بالشأن الاجتماعي عبر ثلاث رسائل عامّة. تتعلّق الأولى بقيمة العمل الانساني عند المسيحيّة وهي بعنوان “مزاولة العمل” (Laborem Exercens) بمناسبة الذكرى التسعين للرسالة عينها (14/9/1981). والثانية تتعلّق بـ “الاهتمام بالشأن الاجتماعي” (Sollicitudo Rei Socialis) (30/12/1987)، والثالثة “السنة المئة” (Centesimus Annus) (1/5/1991).
في رسالة “الاهتمام بالشأن الإجتماعي” أكّد البابا يوحنّا بولس الثاني اهتمام الكنيسة بالقضايا الاجتماعيّة، وقد أصدرها في الذكرى العشرين لصدور رسالة قداسة البابا بولس السادس “ترقي الشعوب” (1967). وهي تقع في خمسة فصول. وهكذا يرافق تعليمُ الكنيسة الاجتماعيّ التطوّرَ التاريخيّ (السنة المئة، 3/5). وتُظهر الكنيسة اهتماماً خاصاً بالقضيّة الاجتماعيّة (أش ج1). وإِنّ التعليم الاجتماعيّ تراث تقليديّ في كل تاريخ الكنيسة (العمل البشري،3/1).
5- تقول الكنيسة بمسؤوليّة الجميع تجاه الجميع.
6- وتفكِّر الكنيسة بمختلف مظاهر العدالة.
7- وللكنيسة كفاءة في القضايا الاجتماعيّة.
8- الكنيسة رسولة السّلام على الأرض (السّلام على الأرض؛ الكنيسة في عالم اليوم، القسم الثاني، الفصل الخامس).
9- الكنيسة متضامنة مع العائلة البشريّة بأسرها (ك ع 1).
10- الكنيسة تتفحّص في كل آن علامات الأزمنة وتفسّرها على ضوء الإنجيل (ك ع4). وترافق التغييرات في الأوضاع، وفي النظام الاجتماعيّ، والمتغيّرات السيكولوجيّة والأخلاقيّة والدينيّة في العالم، وتساؤلات الجنس البشريّ العميقة.
11- الكنيسة تدافع عن كرامة الشخص البشري وتنوّع الثقافات والعائلة والحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والحياة السياسيّة وصون السّلام وبنيان جماعة الأمم.
12- وبما أن “القضيّة الاجتماعيّة أصبحت قضيّة عالميّة”، فالكنيسة تقول بالتضامن البشريّ في سبيل رقي الإنسان ورقي البشريّة (ت ش).
13- خلاصة تعليم الكنيسة الاجتماعي
أ- مبادئ للتفكير
ب- مقاييس للحكم
ج- توجيهات للعمل
14- إن تعليم الكنيسة الاجتماعيّ لا يحدّد قواعد عمليّة، ولكنّه يضع قواعد للتنظيم الاجتماعيّ. فرسالة الكنيسة لا تقوم بفرض حلول عمليّة، بل بتوجيهات ميدانيّة وراعويّة.
15- تقول الكنيسة المعلّمة الاجتماعيّة لجميع أبنائها بضرورة معرفة تعليمها الاجتماعيّ وضرورة نشره والسّعي إلى تطبيق مبادئه، لأنّه حيّزُ تطبيق البشارة الجديدة بالإنجيل في عصرنا (“أم ومعلّمة”).
16- “فعلى الجميع أن يبدّلوا تفكيرهم ومواقفهم” (ك ع 63/16) ويتجدّدوا بعقولهم، ويكون لهم “فكر المسيح” (1قور2/16) وتضامنه مع البشر (ك ع 32). ويسيروا “سيرة جديرة” بإنجيل المسيح” (فل1/27)، في سبيل ” الأخلاق والتجدّد الاجتماعيّ والمدنيّ” (تألق الحقيقة، 98-101).
17– الأحد 17/10/2004 شدّد البطريرك المارونيّ مار نصرالله بطرس صفير على أن “يكون العمل مصدر تحرير للطاقة البشريّة، ولا يمكنه أن يكون عملاً للعمل فقط”. وركّز على “البعد الشخصيّ للعمل”. وهو أيضاً وسيلة لتوسيع دائرة التضامن بين جميع أعضاء الجسم الاجتماعيّ. العمل أداة للاشتراك في المجتمع. “إن كل وظيفة إجتماعيّة تفترض أن يسعى الإنسان إلى تطوير حياته الداخليّة التي توجّه عمله. وتضفي عليه عمقه ومعناه الصحيح”[3].
18– في الجلسة الأولى ألقى البطريرك صفير كلمة جاء فيها:” لا حاجة بنا إلى تعداد ما يشكوه مجتمعنا من سوء إدارة على الصعيد الرسميّ، وهدر للمال العامّ، وفساد منتشر على جميع المستويات والرشوة التي أصبحت شيئاً مألوفاً، فلا معاملة إداريّة تُنجَز من دون مقابل ماليّ، واختلاسات من مصارف ومؤسَّسات، وامتهان مُزْرٍ لحقوق الإنسان، ولا مساءلة، حتى قال لنا أحد المسؤولين من البلدان الديموقراطيّة الغربيّة: أإلى هذا الحدّ بلغ الفساد عندكم؟ وهذا أمر مُخجل. فكيف العمل لوضع حدّ لهذا الاهتراء، إن لم يكن بالعودة إلى المبادئ الدينيّة والأخلاقيّة السّليمة. قِدَماً قيل ما هذّب الأخلاق إلا الدين”.
19– الملفّ الثاني من نصوص المجمع البطريركي الماروني (بكركي 2006)، في النص العاشر، في العائلة، وفي النّص الحادي عشر في الشبيبة. ويبحث الملف الثالث في الكنيسة المارونيّة وعالم اليوم: في التعليم العامّ والتقنيّ، والتعليم العالي، والثقافة، والسياسة، والشأن الاجتماعيّ، والإعلام والأرض.
20– المجمع البطريركيّ المارونيّ، الملفّ الثالث: الكنيسة المارونيّة في عالم اليوم، النص 20: “الكنيسة المارونيّة والشأن الاجتماعيّ”: “الكنيسة هي استمرار لسرّ تجسّد المسيح ولعمله الخلاصيّ للإنسان” (1). “رسالة الكنيسة خلاص الإنسان ككائن إجتماعيّ”(2). “تتبنّى الكنيسة سياسة إجتماعيّة تقوم على أهداف ثابتة وعميقة أهمّها: الحقّ في بناء عائلة (29-31)، الحق في السّكن (32-34)، الحقّ في العمل (35-36)، الحقّ في الصحّة والطبابة (37)، الحقّ في التعليم وفي الثقافة (38-39)، على مستوى القيم والأخلاق(40)، على مستوى الأشخاص (41)، على مستوى المؤسَّسات (42)، وعلى مستوى التطلّعات (43).
“إن الكنيسة المارونيّة تؤمن بأنّ رسالتها هي بالأساس الشهادة لعالم الروح في عالم الماديّات؛ ولعالم المحبّة والخدمة والتضحية، في عالم المنفعة والأنا وحبّ الذات؛ ولعالم الصلاة والتأمّل والصمت، في عالم الضجّة وحبّ المظاهر. رسالة الكنيسة، بجميع أبنائها، أن تنخرط في هذا العالم لتشارك في مشاكله وتعايشها، وان تنسلخ عنه في الوقت نفسه لتشهد لعالم آخر، عالم المسيح الذي دعانا لنكون على صورته ومثاله في المحبّة والتواضع، والتجرّد، والخدمة، والقداسة” (44).
“اجتماعيا، تدافع الكنيسة عن العدالة الاجتماعيّة والمساواة في الحقوق والواجبات من أجل تطوير المجتمع ديموقراطياً، والخروج من الاقطاعيّة”[4].
يوحي المجمع البطريركي الماروني بان تتضمّن التنشئة المستمرّة النامية “التمكّن من مواكبة تعاليم الكنيسة الجامعة والإرشادات الرسوليّة والرسائل البابويّة الخاصة، وبيانات مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك، ورسائل بطاركة الشرق الكاثوليك ورسائل البطريرك الماروني في المناسبات المختلفة، والنظرة المسيحية إلى المسائل الاجتماعيّة بحسب تعليم الكنيسة الاجتماعيّ والأخلاقيّ” (النصوص والتوصيات، ص 336).
I – الاقتصاد
المقدّمة
الإنسان كائن إقتصادي. والكنيسة “خبيرة في الإنسانيّة”. و”الأم والمعلّمة” تهتم للشأن الاقتصادي. فالاقتصاد، كغيره من قضايا العالم، في طلب اهتمامات الكنيسة.
فيمَ يقوم دور الكنيسة في الميدان الاقتصادي؟ يوضح كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة:” تُصدر الكنيسة حكماً أخلاقيّاً في الشأن الاقتصادي، عندما تقتضي ذلك حقوق الإنسان الأساسيّة أو خلاص النفوس(ك ع76). فتسعى إلى الإيحاء بمواقف عادلة في العلاقة بالخيور الأرضيّة وفي العلائق الاقتصاديّة” (ت م ك ك 2420). وإنّ المسيحيّة ومعتقداتها، قد وضعت مبادئ اقتصادية واضحة انطلاقاً من أمر الله لآدم لدى خروجه من الجنّة أن عليه أن يؤمّن حاجيّاته الماديّة بالتعب والكدّ.
ولهذا السبب كان همّ الكنيسة باستمرار نشر قواعد اخلاقيّة صارمة بشأن أعمال الإنسان في حياته الاقتصادية والماديّة. وهذه القواعد تدور جميعها حول ضرورة حصول المرء على احتياجاته الماديّة عبرَ العمل الجاد والدؤوب والخلاق والمعطاء.
1- في العهد القديم
حسب الشريعة، كل إنسان دخَل في العهد له الحق في العيش الكريم. لأنه صار عضواً في شعب الله. الوصيّة السّابعة تحرّم كل اعتداء على مقتنيات الآخرين من خلال متلاك جائر أو إستغلال للغير. إن السّرقة والنصب هي في التوراة إنتقاص للغير الذي يحق له أن يُعترف به ويُحترم في ما يمتلكه، إن تضامن الأُسر والعشائر يعوِّض بسخاء عن فقدان الممتلكات. كانت المقتيات جميعها تُعتَبَر عطايا يهوه، الخالق الذي وهب الأرض. وتمتد العلاقات بين الناس إلى مساعدة المحتاجين والفقراء.
الأنبياء يحكمون بأن الرّغبة الجامحة في الامتلاك واضطهاد الضعفاء والاستغلال بغيضة في عيني الله.
2- في العهد الجديد
ويسوع أعلن أن قيمة الإنسان لا تقوم في ما يملكه. إن يسوع يطالب باستخدام الخيرات الأرضيّة استخداماً يتغلَّب على التعطُّش إلى الثروات. وقف يسوع إلى جانب الفقراء والمظلومين. ويحترم يسوع حقوق قيصر (لو20/25).
في الجماعة المسيحيّة الأولى ، كان كل شيء بينهم مشتركاً: تقاسم طوعي للأموال. وبولس يعد السّرقة والجشع من بين الخطايا الجسيمة (1قور6/10).
3- عند آباء الكنيسة
القدّيس باسيليوس الكبير (329-379) يعتبر أن الخيرات هي لجميع الناس ولا سيّما للفقراء، يقول باسيليوس للغني:” لا تستثمر الضيقة لترفع الأسعار، ولا تنتظر القحط لترفع أهراءك”. ويعدّ باسيليوس البخيل سارقاً. يشدّد على ممارسة الرّحمة.
القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو (339-397) يؤكِّد أن خيرات الأرض هي لجميع سكّانها: “الطبيعة قد أفاضت كلّ شيء على الجميع بوجه مشترك”، ويطالب أمبروسيوس بحق الفقير بالصَّدقة.
القدّيس يوحنّا الذهبي الفم(345-407) يكشف عمّا يحوي الغنى من ظلم واستغلال، الغنى بحدّ ذاته خير، ولكن ثروات الأغنياء ليست لهم وحدهم. ويؤكد أن خيرات الأرض هي لله، وبالتالي لجميع الناس، أبناء الله.
القدّيس أغوسطينوس (354-430) يقول بأن امتلاك الخيرات الماديّة سبب الشِّقاق بين الأخوة. يرى أغوسطينوس أن البخل أكبر عائق لمعرفة الله. ويرى قيمة المال باستعماله.
في العصور الحديثة: من أهمّ العناصر التي ترتكز عليها الحياة الاقتصاديّة في أوروبا استبدال الأدوات اليدويّة البسيطة التي تستخدم قوى الإنسان، بالآلآت والماكينات الكبرى المعقدة التي تستخدم قوى الطبيعة كالفحم والبترول والغاز الطبيعي والكهرباء والطاقة الذريّة. وقد كان لهذه الظاهرة الاقتصاديّة تأثير كبير على الحياة الاجتماعيّة.
4- في العصور الحديثة
مع حملة بونابرت إلى مصر عام 1798، كان للموارثة دور رائد في تعزيز الاقتصاد المصري. وتُغيَّر أيضاً وجه الاقتصاد، وانقلبت العلاقة القائمة من بين الانتاج والاستهلاك، ففي الاقتصاد المبني على الحِرف اليدويّة يكون الإنتاج ضئيلاً، أمّا في الاقتصاد المبني على الصناعات الكبرى، فالإنتاج يتزايد بسرعة.
10- لمحة عن النظريّات الاقتصاديّة
أ- الرأسماليّة: نظام إقتصادي مبني قبل كل شيء على الملكيّة الفرديّة لوسائل الإنتاج، وبالتالي على الفصل القائم بين رأس المال والعمل. فالذي يملك رأس المال يملك بالفعل عينه إدارة المؤسسة الاقتصاديّة. وراح علماء الاقتصاد يبنون نظرياتهم الاقتصاديّة لإيجاد أفضل وسيلة لزيادة الإنتاج والأرباح وتحديد العلاقات بين الرأسماليين مؤسِّسي المشاريع والعمّال من جهة، وبين الرأسماليين والدولة من جهة أخرى.
ب- نظريّة الاقتصاد الحرّ Le libéralisme économique : مبدأها الأساسي الفصل التام بين العالم الاقتصادي وعالم الآداب والأخلاق. فبينا تأْمر الآداب والأخلاق بفعل الخير، يسعى الإقتصاد وراء المنفعة والرّبح. ومن ثمَّ لا يمكن نعت الأعمال الاقتصاديّة بقولنا إنها موافِقة للأخلاق أو مناقضة لها. فالعدالة فضيلة أدبيّة، أما الأجر والأسعار فلا تحدَّد طبقاً لمبادئ أخلاقيّة الإنسان، بل طبقاً لمبادئ الاقتصاد، التي لا تخضع لإرادة الإنسان، بل لحتميّة السوق وقانون العرض والطلب. وتعتنق هذه النظريّة مبدأ المنافسة الحرّة قياساً أوحد لتنطيم العلاقات بين العوامل الاقتصاديّة. وترفض هذه النظريّة تدخل الدولة في شؤون الحياة الاقتصاديّة إلا لإزالة العراقيل والعقبات التي تحول دون حريّة الاقتصاد.
وتشمل حريّة الاقتصاد أربعة مبادئ: حريّة إنشاء المشاريع والمؤسسات الاقتصاديّة؛ حريّة الإنتاج؛ حريّة إنتقال رؤوس الأموال والبضائع؛ حريّة الاستهلاك. وما لبثت الدول أن تدخّلت، ولا سيّما الدول المتخلّفة إقتصاديّاً ، فأقامت الحواجز الجمركيّة وفرضت الضرائب الاقتصاديّة.
ج- النظرية الجديدة للاقتصاد الحرّ
تعتمد على ضرورة تدخُّل الدولة لمنع الاحتكار ولضمان الحريّات الاقتصاديّة وإزالة المساوئ الناتجة عن تلك الحريّات كالفقر والبطالة. ويكون تدخّلها على نوعين: في القوانين وفي الشؤون الاقتصاديّة.
د- إقتصاد الدولة ( أو رأسماليّة الدولة)Capitalisme de l’Etat
تتدخل الدولة للحدّ من الملكيّة الخاصّة، وهذا يناقض مبدأ الاقتصاد الحرّ القائل بحق الأفراد في الاستملاك دون حدّ. وكذلك تدخّلت الدولة في التشريع الاقتصادي لتنظيم الأجور وشروط العمل.
ه- الإشتراكيّة العلميّة Le socialisme scientifique
إن بيان الحزب الشيوعيLe manifeste du parti communiste الذي كتبه كارل ماركس سنة 1848 مع Engels، يركِّز على أفكار رئيسيّة منها: إن الأُجَراء لا يستطيعون التحرّر من النير الاقتصادي إلا بتحطيم الأساليب البورجوازيّة لاستخدام القوى المنتجة وخلق الظروف الإجتماعيّة للإنتاج.
يرى بعض أتباع ماركس، أصحاب النزعة الإصلاحيّة، أنه ليس من الضَّروري إنتظار نهاية تطوُّر النظام الرأسمالي للقيام بثورة وإجراء التعديلات اللازمة في النظام الاقتصادي.
وتهدف النزعة الثوريّة إلى إزالة الدّولة السياسيّة التي تساند الرأسماليين والاستعاضة عنها بدولة إقتصاديّة، أي بدولة من المنتجين، تعتمد على النقابات.
11– موقف الكنيسة
إزاء ذاك التطوّر في المجال الاقتصادي وما نشأ عنه من نظريات إقتصاديّة، ما كان موقف الكنيسة؟ كانَ همّ المنيسة باستمرار نشر قواعد أخلاقيّة صارمة بشأن أعمال الانسان الاقتصاديّة والماديّة. قد تميّز القرن التاسع عشر في أوروبا بنشر التعاليم المسيحيّة الاجتماعيّة) (Le christianisme social وكانت ركيزتها الرسالة البابويّة الشهيرة “الشؤون الحديثة” (Rerum Novarum).
12- لاون الثالث عشر، “الشؤون الحديثة” (15/5/1891)
أ- تبدأ الرسالة بوصف التغيّر الذي طرأ على الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة: إن التعطّش إلى الشؤون الحديثة الذي استولى على المجتمعات منذ زمن، فألقى بها في هياج محموم، كان لا بدّ له، عاجلاً أم آجلاً، أن ينتقل من نطاق السياسة إلى الدائرة المجاورة، دائرة الاقتصاد الاجتماعي. إن الانحلال في الأخلاق أدّى إلى صراع رهيب.
ب- في العلاقات بين أرباب العمل والعمّال (16) وفي الشرائع والقوانين الاقتصاديّة، يطلب البابا احترام كرامة العامل وصيانة مكانته البشريّة(32).
ج- تضاربت الآراء حول مفهوم الدولة ودورها في المجتمع، ولا سيّما في عالم الاقتصاد (25-35). فاعتبر الليبراليّون أنّه لا ينبغي لها أن تكوِّن في الاقتصاد أيَّ مركز قرار فوق مراكز القرار الخاصّة. فعالم الاقتصاد قائم بذاته، وله قوانينه المرتكزة على المنافسة الحرّة وعلى مبدإ العرض والطلب، وعلى حرّيّة التعاقد بين أرباب العمل والعمّال.
د- هذا المفهوم للاقتصاد وما نتج عنه أثارا ردّات فعل عديدة، كان أهمّها الاشتراكيّة – الماركسيّة التي دعت إلى إلغاء الملكيّة الخاصّة والمبادرة الشخصيّة في عالم الاقتصاد، وتسليم كلّ شيء للدولة التي يجب أن تكون المالكَ الوحيد، والقابضَ على زمام النظام الاقتصاديّ من إنتاج وتسويق، سواء في الصناعة أو الزراعة أو التجارة (3).
ه- انتقد البابا لاون الثالث عشر مبدأ الاقتصاد الحرّ ومبدأ الاشتراكيّة في آن واحد. وحبّذ إنشاء النقابات والجمعيّات العماليّة، وذلك في سبيل تحسين أوضاع العمّال الاقتصاديّة (36-44).
و- وعت الكنيسة المعضلة الاجتماعيّة ، وراح رجال الإكليروس والعلمانيون، في نور تعاليم الكنيسة وبرعايتها، يشرحون التعاليم الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
ز- هذه الرسالة قد دعاها بحق البابا بيوس الحادي عشر، ولا تزال تدعى “الشرعة الكبرى لإعادة بناء العالم المعاصر، إقتصادياً واجتماعيّاً” (السنة الأربعون،15/5/1931، 39).
ح- ويرى يوحنّا الثالث والعشرون في رسالة ” الشؤون الحديثة” “موسوعة كاثوليكيّة للشؤون الإقتصاديّة والإجتماعيّة”، (أم ومعلّمة، 15/5/1961، 15).
ط- ويرى يوحنّا بولس الثاني أن ما حمل البابا لاون الثالث عشر على كتابة رسالته “الشؤون الحديثة”، إنما هي رغبة في”إرساء العدالة في الوضع الاقتصادي والاجتماعي آنذاك” (السنة المئة، 11 أيار 1991، 5).
وقد تمّ تأكيد محتوى “الشؤون الحديثة ومبادئ الحلّ المسيحي للقضيّة العماليّة من قبل بيوس الحادي عشر عبر رسالته العامّة “أربعون سنة” Quadragesimo Anno
13- بيوس الحادي عشر، السنة الأربعون،15/5/1931
بمناسبة مرور أربعين سنة على الرسالة العامّة السابقة، تمّ التركيز على أهميّة الأخلاق في الحقل الاقتصادي
أ- يصرّح البابا في بداية الفصل الثاني بسلطة الكنيسة وتعليمها في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي، بل في جميع الأمور التي لها علاقة بالشريعة الأخلاقيّة وتفسيرها والتبشير بها (41).”ذلك أنه، وإن كانت العلوم الاقتصاديّة والنظام الأخلاقي يخضعان كلٌّ منهما في مجاله، لمبادئ خاصّة، فمن الخطأ الجسيم القول أن النظام الاقتصادي والنظام الأخلاقي بعيدان أو غريبان أحدهما عن الآخر، بحيث إن الأول لا يمتّ إلى الثاني بأيّة صلة” (42).
ب- يجب إزالة الخلافات بين الطبقات الاجتماعيّة بإنشاء “نقابات أو تجمّعات مِهَن”(82). فجميع النقابات من شأنها القضاء على مساوئ المنافسة الحرّة وعلى التحكّم الاقتصادي(88). وهذا التضامن بين الطبقات يجب أن يشمل جميع الشعوب، فتعزز الأمم علاقاتها الاقتصاديّة بعضها ببعض في سبيل تعاون إقتصادي دوليّ (89-90).
ت- ويؤكد البابا أخيراً ضرورة إصلاح الأخلاق، إذ إن أنانيّة البشر المتحجّرة هي أكبر عائق أمام تطوير النظام الاقتصادي (96-97).
ث- يعالج الفصل الثالث ما طرأ من تحولات على النظام الاقتصادي منذ لاون الثالث عشر.
- في الرأسماليّة والنظام الاقتصادي الليبيرالي، خلّف التحكّم الاقتصادي المنافسة الحرّة، وتعاظم السّلطة” لدى أولئك الذين بيدهم المال، فيوزعون الإعتمادات على هواهم، فيمسكون بحياة الجسم الاقتصادي بين أيديهم (106).” وهذا بدوره يؤدي إلى الصِّراع من أجل السيطرة الإقتصاديّة؛ ثم التنازع حول التأثير على السّلطة السياسية بغية استغلال قدرتها في الصّراع الاقتصادي”(108). إن علاج تلك الحالة يكمن في تنظيم المنافسة الحرّة والتحكّم الاقتصادي (110).
- يؤكد البابا ضرورة “تجديد كامل لتلك الرّوح المسيحيّة التي كثيراً ما فقدها، للأسف، أولئك الذين يهتمون بالشؤون الاقتصاديّة”(127). وماذا ينفع أن يتلقَّن الناس المبادئ الأكيدة التي يجب أن تقود نشاطهم الاقتصادي، إذا ما استسلموا للانجراف وراء الجشع الجامح والأنانيّة الذميمة”(131).
- ويوضح قداسته أن “تخلّي الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة عن المبادئ المسيحيّة”، ينجم “عن أهواء النفس المنحرفة”(132).
ج- من النواحي الإيجابيّة لهذه الرسالة التركيز على العلاقة الصحيحة التي يجب أن تربط النظام الاقتصادي بالشرائع الأدبيّة، أو بالتالي التشديد على ضرورة إصلاح الأخلاق.
ح- يرغب البابا في إعادة النقابات المهنيّة على ما كانت عليه في القرون الوسطى. ولكن تعقيد الحياة الاقتصاديّة في عصره يحول دون ذلك.
خ- يشجب البابا التجاوزات المجحفة التي يؤدي إليها المبدأ الأساسي الذي يرتكز عليه نظام الرأسماليّة، ويطلب من الدولة أن تتدخل لمنع احتكار الثروة الاقتصاديّة بين أيدي قلّة من أصحاب الأموال.
د- ولا يفوت البابا بيوس الحادي عشر ” أن حريّة السوق قد خلّفت ديكتاتوريّة إقتصاديّة فأصبحت الحياة الاقتصاديّة كلها قاسية للغاية”.
14- بيوس الثاني عشر
أ- في رسالة سنة 1941 يعدّد النواحي الإيجابيّة للنظام الجديد: ومنها النمو الاقتصادي لجميع الأمم:” لا مكان لتلك الأنانيّة التي تحمل على احتكار الموارد الاقتصاديّة”، العمل على إيجاد حلّ للاقتصاد العالمي، مع ما يلزم ذلك من ضمانات، ويذكّر بثلاثة قيَم: إستعمال الخيرات الماديّة، العمل والعيلة.
ب- في خطاب 27 نيسان1941، يرى الاقتصاد المبنيّ على الملكيّة الخاصّة لوسائل الإنتاج هو”الحصيلة الحيّة للمبادرة الحرّة التي يقوم بها الأفراد أو الجماعات”.
ج- في خطاب13 حزيران 1943، يؤكّد البابا حقوق العامل، ومنها الادّخار لأوقات الضيق الاقتصادي والشيخوخة.
وقد حدّد التعاليم الاقتصاديّة البابا يوحنا الثالث والعشرون عبر الرسالة العامّة “أم ومعلمّمة”.
15- يوحنا الثالث والعشرون، أم ومعلّمة، 15/5/1961
بمناسبة مرور سبعين عاماً على رسالة “الشؤون الحديثة”.
أ- يتكلّم البابا على التطورات التي طرأت على المسألة الاجتماعيّة في العشرين عاماً التي سبقت الذكرى الخمسين لرسالة البابا لاون الثالث عشر”الشؤون الحديثة” ( اي من سنة1941 إلى سنة 1961).
ب- في الفصل الثاني توضيحات عقائديّة في مختلف الموضوعات الاقتصاديّة. يبيّن البابا أن العدالة الاجتماعيّة تفرض”على التطوّر الاجتماعي أن يواكب دائماً التطوّر الاقتصادي” (73)، لأن الاقتصاد بمجمله لا يبغي إلا رقيّ جميع المواطنين ونموّهم، “ولا تبرير آخر له”(74). ويثني البابا على الجهود التي تقوم بها منظمة العمل الدوليّة، التي تجهد من أجل إقامة نظام إقتصادي واجتماعي في كل العالم”(103). ويعود البابا فيؤكّد أن حريّة العمل في المجال الاقتصادي تقتضي الاعتراف بحريّة اختيار الوسائل اللازمة لممارسة هذا الحق، منها حريّة “الملكيّة الخاصّة، حتى لوسائل الإنتاج”(109). ويضيف:” بما أن الاقتصاد ينعم بانطلاقة سريعة وبزيادة إنتاجيّة، فالعدل والإنصاف يتطلّبان أن تزاد أجور العمل ضمن حدود الخير العام”(112).
ج- وفي الفصل الثالث، وموضوعه “الوجوه الجديدة للقضيّة الاجتماعيّة” ، يرى البابا أن سبب الهجرة من الريف إلى المدينة سببها النمو الاقتصادي في الصّناعة من جهة والركود في القطاع الزراعي من جهة أخرى. يؤكِّد البابا أن “التطوّر المتوازن في مختلف قطاعات الاقتصاد يستوجب أن تولي السّلطات العامّة أموراً عدّة تتعلّق بالزراعة اهتمامها الخاص: تحقيق النظام الضريبي والتسليف والتأمينات والضمان الاجتماعي، وضمانة الأسعار الزراعيّة. يطلب البابا من السّلطات العامّة “أن تسعى إلى قيام نمو متناغم ومتزامن، على أكبر قدر ممكن في الزراعة والّصناعة والخدمات، وأن تكون قاعدة عملها بأن يشعر مواطنو المناطق الأقل نمواً أنهم الصانعون الأساسيّون لمستويات النمو الحاصلة في الحقول الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة” (151).
د- يعرض البابا لقضيّة يقول عنها إنها “قد تكون الأكثر أهميّة في عصرنا وهي قضيّة العلاقات المتبادلة بين البلدان المتطوّرة إقتصاديّاً والبلدان النامية. ويعطي البابا بعض التوجيهات حول هذا الموضوع:” التوزيع العادل، واحترام شخصيّة كل شعب، والنزاهة السياسيّة وتراتبيّة القيم”، ويثني البابا على ما يقوم به المواطنون الكاثوليك في الأمم الأقل حظوة، “للمشاركة في مجهود التنمية في الحقل الاقتصادي والاجتماعي داخل بلدهم”(182).
ه- يعرب البابا عن حزنه من أن “الاختراعات العلميّة والتطورات التقنيّة والثروات الاقتصاديّة تُستخدم لصناعة أسلحة باستطاعتها أن تقود إلى خراب الإنسانيّة الشامل وإلى موت شنيع”(198).
و-” ولذلك فمهما تقدّم التطور التقني والاقتصادي، لن تقوم في العالم عدالة أو سلام، طالما لم يدرك الناس أن كرامتهم تنبع من كونهم مخلوقين من الله”(215).
ز- على الكاثوليك الذين يشاركون في نشاطات إقتصاديّة واجتماعيّة مع غير الكاثوليك “أن يحافظوا على مصداقيتهم ولا يرتضوا أيّة مساوئ تمسّ بصحة الدين والأخلاق”.
16- يوحنا الثالث والعشرون، “السّلام على الأرض”، 11نيسان1963
أ- على صعيد العلاقات بين الجماعات السياسيّة، يقضي العدل بأن تعمل السّلطات العامّة على “تحسين أوضاع الأقليّات الإتنيّة في حياتها ولا سيّما في ما له علاقة بالنشاطات الاقتصاديّة”(96).
ب- وعلى صعيد حاجة الجماعات السياسيّة بعضها إلى بعض، “إن الوضع الاقتصادي في بلدٍ ما منوطٌ أكثر بالأوضاع الاقتصاديّة السائدة في البلدان الأخرى”(130).
ج- في إطار الاشتراك في الحياة العامّة، يتحدّث البابا عن العلاقات بين الكاثوليك وغير الكاثوليك في مختلف الميادين الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
17- المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي حول “الكنيسة في عالم اليوم” (7كانون الثاني1965)
تعترف الكنيسة بـ “التضامن في حقلي الوطنيّة والاقتصاد” (42/2). “وفضلاً عن ذلك فالكنيسة، في جوهر رسالتها وطبيعتها، غير مرتبطة بأي نظام من أنظمة الاقتصاد” (42/3).
في القسم الثاني، الفصل الثالث: “الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة”
أ- ينطلق المجمع من مبدأ أساسي هو أنّه في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة أيضاً يجب النظر إلى كرامة الشخص الإنساني وإلى خير المجتمع، ويوجّه انتقاداً للتفاوت في توزيع الخيرات.
ب- لا يكتفي المجمع بتكرار تعاليم البابا في الشؤون الاقتصاديّة، بل ينظر إلى تلك الشؤون من ناحية خاصّة هي ناحية الإنماء.
ت- يضع المجمع ثلاثة مبادئ يجب أن يتوجّه بموجبها الإنماء الإقتصادي، الإنماء الإقتصادي يجب أن يكون في حقوق الإنسان؛ يجب أن يساهم أكبر عدد من الناس في توجيه الإنماء الإقتصادي، يجب العمل على إزالة الفروق الإقتصاديّة والإجتماعيّة الفادحة.
ث- ومن المبادئ التي توجّه الحياة الإقتصاديّة والإجتماعيّة: العمل وشروطه، يجب إشراك الجميع في إدارة المؤسسات، الخيرات الأرضيّة لجميع الناس(79)، الملكيّة الخاصّة والملكيّة العامّة (71).
ج- الظلم من أهم أسباب خلافات البشر، “وكثير من هذه الظلم هو وليد تفاوت مفرط في الحقل الإقتصادي (83).
18- بولس السادس “ترقّي الشعوب”، 26آذار1967
أ- قبل البحث في سبيل الترقّي والتقدّم التي يجب الأخذ بها، يعرض البابا “للرؤية المسيحيّة للترقّي”، فيبيّن أن الترقّي لا ينحصر في النمو الإقتصادي. ويعرض البابا المبادئ المسيحيّة التي يجب أن يستند إليها كل إصلاح إقتصادي: الحريّة والمسؤوليّة والمشاركة في العمل، إحترام سُلَّم القيَم، والإنفتاح على المطلق.
ب- يذكّر البابا بما أعلنه المجمع الفاتيكاني الثاني: أن الله قد أعدَّ الأرض وكلّ ما فيها لخدمة جميع البشر وجميع الشعوب(22)، ويؤكّد البابا من جديد تعليم الكنيسة التقليدي بالنسبة إلى حق الأفراد في الملكيّة الخاصّة(23)، ويرفض “تجاوزات الرأسماليّة الحرّة”، حين “ترى في الربح العلّة الجوهريّة للتقدّم الإقتصادي، وفي المضاربة السّتّة العليا في الاقتصاد”. ثم يذكر “بأن الاقتصاد دائماً هو لخدمة الانسان”(26). ويرى قداسته أن المشكلات الإقتصاديّة في مختلف بلدان العالم قد أصبحت مرتبطة بعضها ببعض، فلا تستطيع دولة أن تحلّ مشكلاتها على حِدة. ومن الأفضل أنَّ تندرج التعاقدات “في مناهج تعاون عالميّ، فتكونبنجوةٍ من كلّ ريبة. فيتقلّص ظلّ التحاذر بين الأطراف” (52-55).
19- بولس السادس، رسالة إلى الكردينال موريس روا، الذكرى الثمانون (14أيار 1971)
حول ” مسؤوليّة المسيحيين السياسيّة” في إرساء نظام إجتماعي يجد فيه العالم حلاً لمشكلاته الإقتصاديّة والإجتماعيّة والسياسيّة.
أ- يؤكد البابا حقّ الهجرة ويطلب من الدول التي تستقبل المهاجرين، أن “تتجاوز موقفاً…. ضيّق”، وتساعد هؤلاء العمّال، لكونهم يسهمون بالمجهود الإقتصادي في البلدان الذي فتح لهم أبوابه”(17).
ب- يعدّد البابا أخطاء الماركسيّة، ومنها “إضطلاع جماعي بالسلطة السياسيّة والإقتصاديّة بقيادة حزب فرد يعتبر ذاته هو وحده التعبير عن الخير العام، وينزع عن الأفراد والمنظمات الأخرى إي إمكانيّة مبادرة واختيار”.
ج- ثمّة فكرة جديدة ترد في موضوع العمّال، وهي”ظهور قوى إقتصاديّة جديدة من جرّاء الطرق الحديثة في الإنتاج وتفجّر الحدود القوميّة: هذه القوى هي المؤسسات التي تمتد إلى عدّة دول”(44).
د- هنالك أيضاً فكرة جديدة أخرى، وهي ضرورة الإنتقال من الإقتصاد إلى السياسة. يقول البابا أن “النشاط الإقتصادي يعرّض لخطر أن يمتصّ أكثر مما ينبغي القوى والحريّة، وهذا ما يجعل الإنتقال من الإقتصاد إلى السياسة أمراً ضرورياً”(46).
20- يوحنا بولس الثاني، “فادي الإنسان” 4أذار1979
أ- يوضح البابا أن “التقدّم التقني والتقدّم الحضاري الإنساني في عصرنا الذي يتميّز بسيطرة التقنيّة يتطلّبان تقدّما متوازياً في حقل الأخلاق والحياة الأدبيّة” (15).
ب- يعالج البابا الأخطار التي تهدّد الإنسان اليوم: ردات حالة الإنسان اليوم تبتعد على ما يبدو عمّا يقتضيه النظام الأدبي الوضعيّ” ويفسّر السيادة التي أولاها الله الإنسان على إنها “إيثار قاعدة الأخلاق على التقنيّة”(16).
ج- ويهتم قداسته “البنى الماليّة والنقديّة والإنتاجيّة والتجاريّة التي تعتمد على مختلف الضغوط السياسيّة لتدير الإقتصاد العالمي” (16).
21- يوحنا بولس الثاني، “مزاولة العمل” 14أيلول 1981
أ- إن ماركسيّة البلدان الأوروبيّة الشرقيّة قد حوّلت الإشكاليّة “الإقتصاديّة” إلى أيدولوجيا ترتكز على صراع بين العمّال والرأسماليين، “أمسى صراعاً منهجياً بين طبقتين” (11). ولكن العمل البشري هو حجر الزاوية في التقدّم الاقتصادي الّذي يشمل البضائع والخدمات وهودليل تقدم.
ب- إن ربَّ العمل غير المباشر هو أولاً الدولة في بنياتها التشريعيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة ومؤسساتها المتختصّة.
ج- ضرورة اتخاذ خطوات جريئة وجذريّة لإعادة تقديم العمل الزراعي بوصفه عنصراً أساسيّاً في هيكليّة إقتصاديّة متوازية وصحيحة.
22- يوحنا بولس الثاني “الإهتمام يالشأن الإجتماعي،30 كانون الأول 1987
أ- التفاوت “بين المناطق المعروفة بالشمال المتطوّر ومناطق الجنوب النامي”، يشمل مختلف القطاعات:” الإنتاج وتوزيع الأغذية والوقاية الصحيحة، والصحّة، والسّكن، وتوفّر مياه الشرب، وأحوال العمل ولا سيّما عمل النساء، ومدة الحياة، وسائر المؤشِّرات الإجتماعيّة والإقتصاديّة” (14/و3).
ب- إلى جانب التخلّف الإقتصادي، يتكلَّم البابا على التخلّف الثقافي، في مختلف مظاهره، ….، التمييز العنصري، والتضييق على حقّ المبادرة الإقتصاديّة بحجّة المساواة بين الجميع في المجتمع.
ج- ثم يتوسَّع البابا في خطر صناعة السّلاح وآفة المتاجرة به؛”وهكذا نجد أنفسنا في مواجهة ظاهرة غريبة:مبيناً المساعدات الإقتصاديّة والمخططات الإنمائيّة تصطدم بقضيّة كأداء من الحواجز الإيديولوجيّة والموانع النقديّة والتسويقيّة، نرى الأسلحة، من كل صوب أتت، تجوب مختلف إنحاء العالم بحريّة تكاد تكون مطلقة” (24/2).
د- ويقرّ البابا “بما يبذله بعض الحكّام والسياسيين والإقتصاديين والنقابيين ورجالات العلم والموظفين الدوليين- ومنهم كثيرون يستوحون الإيمان الديني- لكي يعالجوا بطريقة سمحة، وللكثير من التضحيات الشخصيّة، الآفات العالميّة”(26/9).
ه- ويقول البابا بـ ” ضرورة البعد الخلقي للنموّ الإقتصادي” هذا يعني أن النمو الصحيح لا يمكن أن يقتصر على النمو الإقتصادي (28/1).
و- يؤكّد البابا أن الكنيسة ” لاتقترح أنظمة ولا برامج إقتصاديّة وسياسيّة، ولا تبدي إيثاراً لهذه أو تلك، شرط أن تظل كرامة الإنسان محترمة ومعززة كما يجب” (41/1).
23- يوحنا بولس الثاني، السنة المئة، 1أيار 1991
أ- يعدّد البابا العوامل التي أدّت إلى انهيار الشيوعيّة في أوروبا الوسطى والشرقيّة سنة 1989، ومنها أولاً انتهاك حقوق العمّال. والسبب الثاني هو عقم النظام الإجتماعي المبني على انتهاك حقوق الإنسان في المبادرة والحريّة في المجال الإقتصادي، والذي لا ينظر إلى الإنسان إلا من زاوية الإقتصاد. (23-24). بعد سقوط النظام الاشتراكي الروسي، وفي دول أوروبا الشرقيّة، دخل الاقتصاد العولمة، وسقطت الحواجز الاقتصاديّة بين الدول وأصبحت التجارة حرّة.
ب- ثمّ يتكلّم على المشكلات الخاصة والمحاذير الناشئة ضمن الأنظمة الإقتصاديّة الأكثر تطوّراً: المشكلة الأولى هي كيفيّة تأمين نوعيّة السِّلع المنتجة والمعدّة للإستهلاك(36). المشكلة الثانية هي مشكلة إتلاف البيئيّة الطبيعيّة(27). المشكلة الثالثة هي مشكلة إتلاف البيئيّة البشريّة والبيئيّة الإجتماعيّة(39). المشكلة الرابعة: تغرّب الإنسان (41).
ج- ثم يسأل البابا: “هل الرأسماليّة بعد فشل الشيوعيّة هي النظام الإجتماعي الأصح، وهي القطب الذي يجبي اليه جهود البلدان الساعية إلى ترميم إقتصادها ومجتمعها؟ هل هي النموذج الذي يجب أن تطرحه على بلدان العالم الثالث في التماسها طريق النمو الصحيح لإقتصادها ومجتمها المدني؟
“فإذا عنينا بالرأسماليّة نهجاً إقتصادياً يعترف بالدور الأساسي والإيجابي للمؤسسة والسوق والملكيّة الخاصة وما تفترضه من تحمّل للمسؤولية وسائل الإنتاج، فالإبداعيّة الإنسانيّة الحرّة في النطاق الإقتصادي، فالجواب إيجابي، ولكن إذا عنينا بالرأسماليّة نظاماً حيث الحريّة في المجال الإقتصادي لا تسيّجها قرائن قانونيّة تجعلها في خدمة الحريّة البشريّة الكاملة، وتعتبرها مقوِّماً خاصاً من مقومات هذه الحريّة المتمحورة حول الأخلاق والدين، فالجواب إذ ذاك سلبي واضح” (42).
وليس ما يرفع مستوى المعيشة، سوى النمو الاقتصادي السريع. والدول الّتي ازدهر اقتصادها بسرعة، هي تلك الّتي عرفت كيف تضع حداً للفقر والتهميش الاجتماعي.
“إن العروة الّتي لا تنفصم بين الحقيقة والحريّة والتي تعبّر بكل وضوح عن الرابطة الأساسيّة القائمة بين حكمة الله وإرادة الانسان، تعني الكثير لحياة البشر في النطاق الاجتماعي الاقتصادي والسياسي الاقتصادي، كما يتضح من تعليم الكنيسة الاجتماعي، وكما يتضح أيضاً من عرضها للوصايا الّتي تنظم الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والمدنيّة، ليس فقط في ما يتعلّق بالمواقف الّتي يجب اتخاذها بوجه عام، بل أيضاً في ما يتعلّق بالتصرّفات المعينة والمركزة والأفعال المحددة”(يوحنا بولس الثاني، “تألق الحقيقة”،6/9/1993،99).
هذا ما يؤكده التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة: “في الشأن الاقتصادي يتطلّب احترامُ كرامة الشخص البشري ممارسة فضيلة القناعة (la tempérance) لاعتدال في التمسك بخيرات العالم، وفضيلة العدل (la justice)لصيانة حقوق القريب وإعطائه ما هو واجب له، والتضامن (la solidarité) الانساني بحسب القاعدة الذهبية، وجودِ الرَّب الّذي هو الغنيّ قد افتقر من أجلنا لكي نغتني نحن بفقره (2قور8/9)” (7-24).
مع الأحداث الأمنيّة التي شهدها لبنان في نيسان العام 1996، بدأ تدهور دراماتيكي للوضع الإقتصادي، فقد تراجعت نسبة النمو وخفّت الاستثمارات، وبالتالي فرص العمل والسيولة الماليّة في يد المواطنين وتفاقم العجز والدين العام ولاحت في الأفق ملامح إنهيار كبير. وقد حذّر سيد بكركي، في الخامس عشر من حزيران 1996، من التغاضي عن معالجة اسباب شكوى المواطنين بعد أن قامت “أصوات تنادي بثورة الجياع”، وبعد ان تفاقمت الأزمة المعيشيّة.
ويرى يوحنا بولس الثاني” أنَّ تطوّر الظروف الاجتماعيّة الاقتصاديّة قد أدّى إلى تغيير التصرفات الجماعيّة تغييراً عميقاً، ومن ثمّ إلى تغيير ملامح الأحد” (يوم الرَّب، 31/5/1998، 4).
في الحادي والعشرين من أيلول 1994، تطرق البطريرك صفير أمام الحريري، إلى الأزمة الإقتصاديّة الحادّة والمشاكل الحياتيّة التي يعاني منها اللبنانيّون ومزاحمة الأجانب لليد العاملة اللبنانيّة والتعقدين في حماية الانتاج اللبناني وضألة الأجور والفساد في الوسط السياسي كما الإداري (في النهار، الخميس 24/11/2005، ص 17/6).
المسؤوليّة المسيحيّة في الممارسات الاقتصاديّة
(كميل مبارك، الانتروبولوجيا والأخلاق الإجتماعيّة، 2001، البحث السابع، ص 224+).
“فالواقع يبيّن أنك إذا كنت قابلاً للتدهور الخلقي فأنت قلبل للتحسن الخلقي. وهنا أعود إلى الوضع الاقتصادي. وأتصور أنَّ من يبذل جهداً كبيراً في انتاجه مثل الفلاح والصناعي يكون أقلّ تعرضاً للخطيئة من المتداول المال الّذي لا جهد فيه” (جورج خضر، “التغيير الجذري” في النهار، السبت 16/تموز2005، ص12).
“في الولايات المتحدة، المعيار الأساسي لتقويم رجال السياسة هو النظر في قدرتهم على النهوض اقتصادياً بالدولة. وإذا نما الاقتصاد في لبنان وانعكس علىالناس ازدهاراً وعلاً وثقافة، فإنَّ ذلك قد ينعكس أيضاً إيجاباً على الحساسيات الطائفيّة. لنتّعظ من الأميركيين الذين وجّهوا اهتمامهم نحو البنيان والازدهار الاقتصادي واكتسحوا العالم” (بولس نعمان، في النجوى/المسيرة، 1034، 22/8/2005،ص7/2).
24- الاقتصاد والحياة الرهبانيّة (أوراق رهبانيّة، 7 تشرين الأول2002).
هادي محفوظ: “تدبير الخيور الزمنيّة وفق لو16” (ص5- 16)
جوزف قزي، “المال الخائن / لو16/11” (ص 17-23)
توما مهنا، “أعطنا خبزنا كفاف يومنا”، (ص25-32)
جورج خضر، “شهوة المال” (ص33-37)
ميشال عواد، “لا تعبدوا ربين… لأنكم ملح الأرض (الكنيسة والأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة)” (ص39-51).
نجم شهوان، “الاقتصاد والرسالة في الحياة المكرسة اليوم” (ص53-57)
إيلي قزي، ” وجهة نظر في تطور الاقتصاد والحياة الديريّة في الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة” (ص59-71)
لويس مراد،” التنظيم الاقتصادي والمالي في الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة” (ص73-80)
أنطوان راجح، “اقتصاد أنطوني تحكمه الرسالة الكنيسة”(ص81-91)
إيلي مجدلاني، “سياسة الأوقاف الإسلاميّة والمسيحيّة” (ص93-111).
25- المجمع البطريركي الماروني، الدورة الثانية، تشرين الأول 2004
في الملف الثاني: التجدّد الراعوي والروحي في الكنيسة المارونيّة، في النص التاسع، وعنوانه العلمانيون، وفي الفصل الثالث جزء ثانٍ عن دور العلمانيين في البنى المدنيّة، وفي هذا الجزء قضايا وطنيّة وإجتماعيّة وإقتصاديّة. في البند 26:” ما لم تستطيع الحرب فعله أكملته الأوضاع الإقتصاديّة المترديّة، التي اجتاحت لبنان وأماكن كثيرة من العالم في السنوات الأخيرة. جميع هذه العوامل تضع المؤمن الماروني أمام تحدّيات مهمّة يحاول الكثيرون مواجهتها بإلتزامهم المسيحي وهم يعيشون ويعملون ضمن البنى المدنيّة إن في الحياة الإقتصاديّة أو في الحياة السياسيّة أو الحياة المهنيّة على اختلافها وتنوّعها. وأبدى البيان الختمي للمجمع أسفه لأن اقتصاد لبنان بطا أن يكون اقتصاد إنتاج يوفّر للبنانيين الكرامة والبقاء في أرضهم (في النهار، الخميس 28/10/2004، 7/4 و 9/1).
في النّص العاشر “العائلة المارونيّة”: “بعد حروب خلّفت أوضاعاً معيشيّة صعبة على كلّ المستويات، إزداد الوضع الاقتصادي سوءاً، انعكس سلباً على الحياة العائليّة، فشكّل ضغطاً على العائلة وأفرادها، أدّى في بعض الحالات إلى هجرة الاب وغيابه عن دوره، أو إلى عمل الزوجين المستمرّ وافتقاد الأولاد لحضورهما. كما أدّى إلى توتّر وتعب كانت نتيجتهما علاقةً سيّئة. وقابل هذا الوضع شبه غياب للمؤسسات العامة عن مسؤولياتها تجاه العائلة، مما جعل عائلاتنا اللبنانيّة ترزح تحت أعباء الطبابة والتعليم والمسكن ومتطلبات الحالات الخاصّة كلإعاقة وغيرها، بينما راحت الكنيسة تقوم بمبادرات محدودة وغير كافية، ساعيةً إلى تطوير هيكليتها الرعويّة والمؤسساتية لمواكبة أبنائها في أنماط عيشهم الجديد وتحدّياته” (31).
النصّ الثالث عشر: “الرعية والعمل الراعوي” عدد8، والملف الثالث: الكنيسة المارونيّة في عالم اليوم، النصّ 21:”الكنيسة المارونيّة والقضايا الاقتصاديّة”.
– II الحقوق والواجبات
المقدّمة
” الانسان الشخص، في كرامته الكيانيّة، هو صاحب حقوق، هو حامل حقوق (Sogetto dei diritti) يتعيَّن على الآخرين إقرارها ورعايتها” (د. يوسف كمال الحاج).
ظهرت فلسفة حقوق الإنسان للمرة الأولى في لوائح حمورابي (125 ق.م)، ثمّ ما لبثت أن عولجت تباعاً وإن ضمن أفكار مقتضبة وغير مباشرة، في كتاب التوراة، وأعمال كونفوشيوس (الصين) والعهد الجديد.
في العهد القديم
كل إنسان دخل في العهد بين الله وشعبه له الحق في العيش الكريم، لأنّه صار عضواً في شعب الله. يحق له أن يُعترف به ويُحترم في ذاته وحياته وسلامته الجسديّة والنفسيّة.
إن احترام حقوق الآخرين يشمل الأقرباء وجميع المقيمين في أرض العهد (تث 24/14-15). نسمع آشعيا يضع ما ندعوه اليوم “العدالة الاجتماعيّة” في صلب الواجبات الدينيّة (آش1/13-17؛ 58 /6-7). هذا وإنّ الارتباط بين لفظي حقّ وعدل، خلال الكتاب المقدّس، ليؤكّد أنّهما مطلبان حتميّان دائمان من مطالب الضمير. هكذا كانت كرازة الأنبياء (عا 5/7 و24؛ 6/12؛ أش 5/7 و16؛ ار 4/2؛ 9/23). وذلك كان تعليم الحكماء (مثل 2/9).
في العهد الجديد
يشدّد يسوع باستمرار، على واجبات الأغنياء تجاه الفقراء. فالجميع هم “أبناء الآب الذي في السماوات” (متى5/45).
تبقى قاعدة الإنجيل الذهبيّة تقرّر: “إفعلوا للنّاس ما أردتم أن يفعله النّاس لكم” (متّى 7/12). وأمّا وصيّة يسوع الخاصّة فهي: “ليكن حبُّ بعضكم لبعض كما أنا أحببتكم” (يو 13/34).
القدّيس باسيليوس الكبير (329-379)
ركّز باسيليوس تعاليمه الاجتماعيّة على واجب الأغنياء بمساعدة الفقراء: “لا تفارقك الرحمة والحق، إكسر للجائع خبزك”. “التمثيليّة” “هي من حق الجميع”. ولا يتردد باسيليوس في مصارحة الغنيّ بكلّ جرأة: “للفقير الحقّ بالرغيف الذي تحتفظ به، والعريان بالثوب الذي تختزنه”.
القديس أمبروسيوس أسقف ميلانو (339-397)
“الطبيعة هي التي أنتجت الحقّ المشترك والتملّك أنشأ الحقّ الخاص”. يطالب بحقوق الفقير. وأولى حقوق الفقير مساعدته للبقاء.
في القرن السابع عشر كان حِلفٌ بين البطريرك يوحنّا مخلوف (1609 – 1633) والامير فخر الدين، “وقد تطوّر ذاك الحلف إلى اتفاق مع الغرب المسيحي، حيث أقدم الأوروبيون على مساعدة المسيحيين في الشرق، للدفاع عن حقوقهم”[5].
مع إنشاء المجتمع الصناعي في القرن التاسع عشر، أصبحت هيكليات الانتاج والرأسمال قوة جديدة آلت، باستيلاء قلّة من النّاس عليها، بالنسبة إلى الجماهير الكادحة، إلى حرمانٍ من الحقوق، كان من الواجب إعلان العصيان عليها.
أهم تعاليم الرسالة في “الشؤون الحديثة” (Rerum novarum) (15/5/1891) أنّ من مهام الدولة، بنظر الكنيسة، صيانة حقوق الأفراد والجماعة. عليها، يّقول لاون الثالث عشر، أن تسهر على ضمان حقوق أبناء المجتمع الواحد، ولا سيّما منهم الضعفاء والمحتاجين.
الياس الحويك جاهد كثيراً مذكان كاهناً، ثم اسقفاً ونائباً بطريركيًّا (سنة 1889) ثم بطريركاً (سنة 1899)، من أجل المحافظة على حقوق الكنيسة المارونيّة وكرامتها وامتيازاتها.
في الرسالة العامّة الأولى “الحبريّة العظمى“Summi Pontificatus (20/10/1939)، يؤكد البابا بيوس الثاني عشر أن جميع الناس “أياً كان أصلهم أو لغتهم… ينعمون بحقوق متساوية، على أنهم أبناء في بيت الرّب”(47). وإنّ إعطاء الدولة سلطة مطلقة يقود إلى انتهاك الحقوق داخل الدول في ما بينها (71).
في الرسالة الإذاعيّة التي أصدرها (عيد العنصرة1941)، يصرّح بيوس الثاني عشر بأن حق الانسان باستعمال الخيرات الماديّة المعيشيّة يسمو فوق أيّ قانون اقتصادي آخر، وحتّى قانون الملكيّة الخاصّة.
ومن علامات الأزمنة في موضوع علاقات الأفراد والجماعات السياسيّة بالمجتمع العالمي: إنشاء منظمة الأمم المتحدة في 26 حزيران 1945، والاعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي أعلنته تلك المنظمة في 10 كانون الأول 1948، أي بعد ثلاث سنوات على إنشاء الأمم المتحدة: “الإيمان بالحقوق الأساسيّة للإنسان”. كان للدكتور شارل مالك دور بارز في وضع نصوص الشرعة الدوليّة لحقوق الإنسان. وقد حرص آباء هذا الاعلان، ومنهم المفكر اللبناني الكبير شارل مالك على إلحاق “الإعلان” بعدد من الاتفاقات والمعاهدات والتشريعات المُلزِمة التي تضمن تطبيق المبادئ الواردة فيها، وهذا ما حدث فعلاً، وكان عدد المعاهدات التي تلت التوقيع والإعلام مطمئناً لمالك ومن جانَبَهُ الرأي. وبعد وضع هذا المدماك الفكري لحقوق الإنسان، باتت ممارسة الدفاع عن الحقّ الإنسانيّ الشغل الشاغل لعدد من الهيأت والأفراد الذين نذروا أنفسهم ومؤسّساتهم لهذا النضال وأصبحت كلمة “ناشط” في حقوق الإنسان أقرب إلى وسام يسعى إلى نيله من أراد إثبات إنسانيّته أمام ذاته والآخرين. وللدكتور كمال يوسف الحاج كتاب قيّم حول “الاعلان”[6]. إنّ ذاك الإعلان قد لقي ترحيباً كبيراً من جانب الكنيسة.
في الرسالة العامّة “أمّ ومعلّمة“Mater et Magistra (15 أيار 1961)، يوجز البابا يوحنا الثالث والعشرون أهمّ تعاليم رسالة البابا لاون الثالث عشر “الشؤون الحديثة”، ومنها: على الدول أن “تحمي حقوق جميع المواطنين، لا سيّما الأكثر ضعفاً منهم، والعمال والنساء والأولاد”(20).
في الرسالة العامّة “السّلام على الأرض” Pacem in Terris(11نيسان 1963) للبابا يوحنّا الثالث والعشرين، وجد الدكتور يوسف كمال الحاج ليس فقط أبعاد حقوق الانسان القانونيّة والانسانيّة، “الناجمة عن الكرامة الشخصيّة الكيانيّة”، بل أساساتِها اللاهوتيّة ومنبَعَها الإلهي. فالانسان، خليقة الله وصورته، يتمتّع بكرامة هي من كرامة خالقه، ومنها تنبع جميع الحقوق.
القسم الأول من الرسالة هو شرعة كاملة لحقوق الانسان، وفي الوقت عينه إعلان للرابط الجوهري بين الحقوق وواجبات. إنّ البُعد الذي ترتكز عليه حقوق الانسان وواجباته هو “كرامة الشخص البشريّ” الذي وُهب العقل والإرادة الحرّة. لذا فإنه صلباً وذاتاً صاحب حقوق وواجبات” (9).
يتحدّث البابا عن مختلف حقوق الانسان: الحق في مستوى حياتيّ لائق (11)، في القيم الأدبيّة والثقافيّة(12-13)، في عبادة الله وفقاً لما يطلبه الخير (14)، في حريّة اختيار حالة في الحياة (15)، في العمل وفي الملكيّة الخاصّة “بما في ذلك ملكيّة وسائل الانتاج” (18-22)، في الاجتماع والتشارك (23-24)، في الهجرة والاستيطان (25)، في الإسهام في الحياة العامّة (26)، وفي حماية القانون (27).
يقابل هذه الحقوقَ واجباتٌ لا بدّ لكلّ إنسان منا القيام بها (28-38). ويشدّد البابا على احترام القيم الاجتماعيّة: الحقيقة والعدالة والمحبّة والحريّة (35-36).
في القسم الثاني: إنحصار صلاحيّة السلطات في حماية حقوق الانسان الشخص ورعايتها. ويعدّد البابا مهامّ السلطات العامّة ومنها: إنشاء أوضاع تسهّل لكلّ واحد الدفاع عن حقوقه والقيام بواجباته (63).
ومن علامات الأزمنة، مجال العلاقات بين الأفراد والسلطات العامّة في نطاق البلد الواحد: إن رسالة الدول (“النواميس” العامّة في النص اللاتيني الأصلي) تحدّد بوضوح أكثر ما للمواطنين وللسلطات العامّة من حقوق وواجبات ورعايتها وتعزيزها (75-78).
ويثبّت يوحنا الثالث والعشرون بسلطانه ما علّمه أسلافه “على الدوام في شأن الجماعات السياسيّة ، وهو أن للدول في ما بينها حقوقاً وواجبات متبادلة (80).
في القسم الرابع من الرسالة تشجيع قيام (إنشاء) سلطة عالميّة أو أونيفرسالية مُقرَّة من الجميع، تعلو الدول، دون أن تبتلعها، من أجل صون حقوق الانسان الشخص في كلّ مكان من العالم. أمّا الحرب، فلا تذكرها الرسالة إلا لتقول عنها في نهاية المطاف أنها لم تعد، في عصر القدرات النووية، “أهلاً لاستعادة الحقوق السليبة” (127)، ولقد عدّ البابا يوحنّا الثالث والعشرون في رسالته العامّة هذه، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان “دليلاً واضحاً على بُعد نظر منظمة الأمم المتحدة” (143)، و”مرقى إلى إرساء النّظام السياسي والحقوقي المطلوب” للجماعة البشرية الأونيفرسالية، لأنه اعترف رسمياً بالكرامة الشخصية لعموم البشر وبالحقوق الأساسية الناجمة عنها (144). ان هذه الرسالة العامة التاريخية أرست أولى شرعة كنسيّة متكاملة لحقوق الانسان، وأخلت الكينسة محلّ الصدارة في نصرة هذه الحقوق[7].
وفي 24 أيار 1963، وهو على فراش الموت، قال يوحنّا الثالث والعشرون: “اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وبالتأكيد أكثر من القرون السابقة، نحن مدعوون إلى خدمة الإنسان كإنسان، لا الكاثوليك وحدهم، إلى الدفاع فوق كل شيء وفي كل مكان عن حقوق الشخص الانساني، لا عن حقوق الكنيسة الكاثوليكيّة وحدها”.
ويشير المجمع الفاتيكاني الثاني، في الدستور الراعوي “فرح ورجاء“، الذي صدر في 7/12/1965، إلى أن العالم المعاصر يزيد من أهميّة “الشعور بكرامة الانسان السامية التي تفوق كل شيء، والتي لا تُمَسّ حقوقها وواجباتها الكاملة”. ويقول المجمع إنّ الخير العام ينطوي على حقوق وواجبات تتعلّق بالجنس البشريّ كلّه (ك ع 26). يجب الاعتراف لجميع البشر بالحقوق الأساسيّة وعدم التمييز في هذه الحقوق الأساسيّة، “سواء كان التمييز قائماً على الجنس ، أو العرق، أو لون البشرة، أو الوضع الاجتماعيّ، أو اللغة، أو الدين”. يجب تجاوزه وإسقاطه على أنّه مخالف لتصميم الله […] فلتعمل المؤسّسات الإنسانيّة، سواء كانت خاصة أو عامّة، على أن تكون في خدمة كرامة الإنسان ومصيره. ولتقاوم في الوقت نفسه وبشدة كل استعباد اجتماعي أو سياسي، وتحافظ على الحقوق الأساسية للبشر في ظلّ كل نظام سياسي” (29/2 و4). ويذكّر المجمع “بقيمة حقوق الانسان الدائمة وبمبادئها الشموليّة الثابتة… فالأعمال التي تناقض هذه الحقوق والمبادئ مناقضة صريحة، لهي أعمال إجراميّة رهيبة” (79/2). “لا يمكن أن ننكر على الحكومات حقّها في الدفاع المشروع، بعد أن تكون قد استنفدت إمكانات الحلّ السلمي جميعها” (79/4).
في رسالة وجهها إلى الأمم المتحدة في 4 تشرين الأوّل، 1970، اعتبر البابا بولس السادس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، “إحدى أجمل مفاخرها، وتابع يقول، في رسالته في اليوم العالمي للسلام مطلع عام 1971، التي أرادها “صدىً للإعلان العالمي”، وفي معرض تعليقه على المادة الأولى منه: “إلى هذه الذروة وصلت تعاليم الحضارة”.
وإن هذا الالتزام الرائع للكنيسة هو ما كان البابا بولس السادس قد عبّر عنه، بكلام مباشر ونموذجيّ، عندما أعلن، في رسالة إلى العالم (10/1974): “تعتقد الكنيسة بحزم كبير أن تعزيز حقوق الإنسان هو مطلب من الإنجيل وأنّه يجب أن يحتلّ مكانة مركزيّة في كهنوت خدمتها”.
واقتفى يوحنّا بولس الثاني خطى سلفيه، فامتدح الاعلان العالمي منذ رسالته الأولى “فادي الإنسان” (4/3/1979)[8].
في الرسالة العامّة “فادي الإنسان” Redemptor Hominis، يقدّر البابا يوحنا بولس الثاني تأسيسَ منظّمة الأمم المتّحدة وتحديد حقوق الإنسان الموضوعيّة التي لا تُمَسّ، وتنظيمَها، بعد أن تعهّدت الدول أعضاء تلك المنظّمة بعضُها تجاه البعض الآخر، بالمحافظة التامّة على هذه الحقوق(17/1). ويشير البابا إلى ارتباط رسالة الكنيسة بتأمين هذه الحقوق (17/2). وتتأمّن مصالح المجتمع العامّة عندما تعمل الدولة على احترام حقوق الانسان، وقد “أصبح مبدأُ حقوق الانسان مُرتَكَزاً للعدالة الاجتماعيّة ومقياساً يُعتمد عليه لمعرفة ما إذا كان يُحافظ على هذه الحقوق في حياة المؤسّسات السياسيّة” (17/7). وفي معرض الكلام عن هذه الحقوق، يلمّح يوحنّا بولس الثاني “إلى الحقّ في الحريّة الدينيّة وحريّة الضمير. والحدّ من الحريّة الدينيّة وخرقُها يتنافيان وكرامةَ الإنسان وحقوقَه الوضعيّة” (17/8). ويُناشد بإلحاح باسم جميع المؤمنين بالله على كلّ الأرض، من يتولّون، بشكلٍ، أو بآخر، تنظيم الحياة الإجتماعيّة والعامّة أن يحترموا حقوق الدين ونشاط الكنيسة” (17/10).
وفي خطابه الأوّل أمام الجمعيّة العامّة لمنظمة الأمم المتحدة في 2 تشرين الأوّل 1979، قال يوحنّا بولس الثاني في الإعلان العالمي إنّه “نُصبَةٌ على الطريق الطويل والصعب للجنس البشري”.
وأُتيح ليوحنا بولس الثاني أن يعلن من على منبر الأونسكو:”أن كلّ تهديد لحقوق الانسان، أكان في إطار خيراته الروحيّة أم خيراته الماديّة، هو تعدِّ على هذا البعد الأساسي وقيمة الإنسان الأساسيّة” (خطاب في الأونسكو، 2/6/1980).
في رسالته العامّة “الغنيّ بالرحمة” Dives in misericordia الصادرة في 30 تشرين الثاني 1980، ينطلق يوحنّا بولس الثاني من مثل الابن الشاطر (لو 15: 14 – 32) للتأمّل في العلاقة بين الخطيئة والكرامة والرحمة. التعليم اليوحنّا بولسي في حقوق الإنسان، قائم على التبشير بانتروبولوجيا متمحورة بكليتها حول المسيح، لا حول الإنسان المجرّد كما تراه الأتسويّة الملحدة، أو، بكلام آخر، على إبراز الإنسان “الحسّي”، لا النظريّ، كحامل لحقوق أساسيّة تستوجب الحماية، ومن ثمّ على تأكيد واجب الكنيسة الإنجيليّ في الدفاع عن حقوق الإنسان.
في الرسالة العامّة “مزاولة العمل” Laborem Exercens (14/9/1981)، يتوسّع البابا يوحنا بولس الثاني في الحقّ في العمل وحقوق العمّال وواجباتهم، كما فعل من قبله البابا يوحنا الثالث والعشرون انطلاقاً من “حقوق الانسان” التي يركّز عليها في معظم رسائله. الإنسان المصاب بإعاقة في طاقاته الجسديّة أو الروحيّة، إنسان بكل ما يتجسَّد في الانسانيّة من حقوق مقدّسة لا تُمَسّ وكرامة عظيمة (22). والنمو لا يكون نموّاً صحيّاً إذا لم يحترم حقوقَ الانسان ويعزّزها:”العلاقة الصّحيحة بين النموّ الصحيح واحترام حقوق الانسان تُبرِز مرة أخرى ، طابعه الخلقي” (33/3).
“إنّ حقوق الانسان تصدر بحسب منطق باطنيّ، من كرامة الشخص البشريّ نفسها. وقد وعت الكنيسة أنّ أمر حماية تلك الحقوق والدفاع عنها هو أمرٌ ملحّ… إن تأكيد حقوق الانسان، قبل أن يُعرَض بشكل منهجيّ نظريّ، منتظم وكامل، قد ظهر في الكنيسة كخدمة واقعيّة للبشريّة. فالكنيسة، بتفكيرها قد عملت، على نحو ما، على تمييز الأسس الفلسفيّة واللاهوتيّة التي ترتكز عليها تلك الحقوق، وتحديد مقتضياتها القانونيّة والسياسيّة والأخلاقيّة، كما يبدو من وثائق تعليمها الاجتماعيّ”[9].
ولاحقاً، شجّع قداسته على قيام “راعوية لحقوق الإنسان”، في قلب الكنيسة، وذلك في خطابه الافتتاحيّ لمؤتمر “الكنيسة وحقوق الإنسان”، الذي نظّمه المجلس البابويّ “عدالة وسلام”، في 15 تشرين الثاني 1988، على أن تتجسّد تك الراعوية في جميع أبرشيّات الكنيسة حول العالم. ثلاثة وعشرين عاماً على المجمع الفاتيكاني، أصدر يوحنّا بولس الثاني
الإرشاد الرسوليّ “العلمانيون المؤمنون بالمسيح” Christifideles laici، (30كانون الأوّل 1988). شدّد قداسته على وجوب “التأكيد بقوّة متزايدة على حسّ الكرامة الشخصيّة لدى كلّ إنسان” (5)، وعلى أن “اكتشاف كرامة الشخص الإنساني غير القابلة للانتهاك، ومساعدة الآخرين على اكتشافها، يشكّلان مهمّة جوهريّة، بل، وبوجه ما، المهمّة المركزيّة والموحّدة في الخدمة التي تجد الكنيسة نفسها، والمؤمنون العلمانيون في داخلها، مدعوّة إلى تأديتها للأسرة البشريّة” (37).
وجرد قداسته الحقوق الإنسانيّة وفقاً للتعريف التالي: الحقّ في عدم التعرّض للتمييز على أساس العنصر، واللغة، والدين، والجنس؛ الحقّ في حيازة ملكية خاصة، وهو حقّ معتبر وضروريّ، على ألا ينفصل أبداً عن مبدأ أكثر جذريّة هو مبدأ المآل الصميم لخيرات الأرض “Destination universelle des bien de la terre”.
الحقّ في حريّة تكوين الجمعيّات، وحريّة التعبير والاستعلام،وذلك دوماً في إطار الحقيقة وكرامة الأشخاص؛ الحق في المشاركة في الحياة السياسيّة، “المدعوّة إلى تعزيز الخير العامّ، عنصرياً ومؤسساتيا” (42). وعلى هذا الأساس، كان قداسته ينبّه الدول إلى أن “احترامها [للحق في] الحريّة الدينيّة هو بمثابة “المحكّ”، لتقيّدها بالحقوق الأساسيّة الأخرى، (خطاب أمام السلك الديبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي، في 9/1/1989، 6).
وفي الرسالة العامّة “السنة المئة” Centesimus Annus (1أيار1991)، يذكّر البابا يوحنا بولس الثاني بما انتشر في أعقاب الحرب العالميّة الثانية من تحسّس أعمق لحقوق الانسان، وكرّسته وثائق دوليّة كالإعلان العالميّ لحقوق الانسان سنة 1948 (21)، ويعدّد البابا العوامل التي أدّت إلى انتهاء الأنظمة الطاغية في أوروبا الوسطى والشرقيّة سنة1989. فالسبب الأول الحاسم الذي انطلقت منه تلك التحولات هو، بلا شكّ، انتهاك حقوق العمّال (23). السبب الثاني هم عقم النظام الاجتماعي المبني على انتهاك حقوق الانسان في المبادرة والحريّة (24).
إن الكنيسة، محافظةً منها على الانسان الذي ترى فيه صورة الله ، “تردّد دائماً صرخة الإنجيل في الدفاع عن فقراء العالم، المهدّدين والمحتَضَرين والمنكرة عليهم حقوقهم الانسانيّة” (45).
“ولا تبلغ الحريّة شأوها إلا في الاعتراف بحقوق الانسان وأهمها: الحق في الحياة والأسرة والمعرفة والعمل والملكيّة الخاصة والحريّة الدينيّة. ودور الدولة في هذا المضمار يقوم على ضمان تلك الحريّات والحقوق، مع المحافظة على حقّها في التدخّل لمنع الاحتكار الذي يهدّد بشلّ النمو أو عرقلته” (47-48).
أصدر نصرالله بطرس صفير، في الكنيسة وحقوق الإنسان، 9/2/1993.
وفي الحادي والعشرين من أيلول 1994 لفت البطريرك صفير الرئيس الحريري إلى ضرورة احترام حقوق الإنسان في معاملة السجناء. فسمير جعجع لا يُترك لهُ مجال لرؤية الشمس إلاّ لوقتٍ قصير جدًّا خلافاً للقوانين المرعيّة، وأميمة طرّاف السجينة المريضة التي لا تُنقل إلى المستشفى[10].
في الإرشاد الرسولي”رجاء جديد للبنان” (10/7/1997)، يقول يوحنا بولس الثاني:” من بين العناصر الأساسيّة لقيام دولة القانون، تبرز صيانة حقوق الانسان، أي احترامُ كلّ شخص وكل جماعة… إن الدولة، لما تتمتّع به من صلاحيّات ووظائف، هي الضمانة الأولى لحريّات الشخص البشريّ وحقوقه” (114).
“يجب على السلطات الشرعيّة داخل الأمّة أن تسهر على تمكين كلّ الجماعات والأفراد، من التمتّع بالحقوق نفسها، والخضوع للواجبات عينها، وفقاً لمبادئ الإنصاف والمساواة والعدالة… وإنّ حقوق الله وحقوق الانسان مترابطة، وانتهاك حقوقِ الإنسان هو انتهاك لحقوق الله” (115).
و”من أجل أن يسود السّلام في لبنان وفي المنطقة، ويتمكّن الجميع من الإفادة من التقدّم، يحثّ يوحنّا بولس الثاني “السلطات وجميع المواطنين اللبنانيين على أن يعملوا بكل قواهم كي تُحتَرم حقوق الانسان كلّ الاحترام، وهي العناصر الجوهريّة للشرع الطبيعي، السابقة لكلّ دستور وكلّ تشريع دولة، أن تحترم خاصّة في توزيع العدالة وفي الضمانات التي تحقّ شرعاً للمتَّهمين أو المسجونين. ومن بين الحقوق الجوهريّة أيضاً، الحريّة الدينيّة… إن صيانة حقوق الانسان شأن ملحّ؛ فالأمر يتعلّق بمستقبل أمّة، بل بمستقبل البشريّة جمعاء، لأن ما دام كائن بشريٌّ يُمتَهَن في أعمق حقوقه الأساسيّة كانت البشريّة جمعاء كلّها مُثخَنَةً بالجراح”(116).
في خطاب 7 نيسان1998، إلى المشاركين في اللقاء الجامعي الدوليّ، قال يوحنا بولس الثاني:”تجد حقوق الانسان جذورها في الله وتترسّخ في تصميم الخلق وتدخل في المخطط الخلاصي. لذا يمكن القول بجرأة أن حقوق الانسان هي أيضاً حقوق الله”.
وعاد يوحنّا بولس الثاني فوضع بتفصيل أكبر أهداف الـ “الراعويّة لحقوق الإنسان”، وذلك في مناسبة أخرى، وتحديداً لدى افتتاح مؤتمر في الأوّل من تموز 1998 حول “حقوق الإنسان ورسالة الكنيسة الرعائيّة” فرأى أنّ “الهدف الأول لراعويّة الحقوق الإنسانيّة هو العمل على أن يؤدّي القبول بالحقوق العميمة أيضاً، إلى وضعها، روحاً، موضع التطبيق أينما كان وعلى النحو الأفضل إنطلاقاً من الحقيقة حول الإنسان ومن الكرامة المتساوية لكل شخص، ؤجلاً كان أو امرأة، هو المخلوق على صورة الله والصائر إبناً لله بالمسيح” (3).
بناء على ذلك تصدى قداسته بقوة لكلّ محالولة تبتغي تجزئة الحقوق أو نسبتها. فواجه الأنظمة الشيوعيّة والديكتاتوريّة التي سعت إلى بتر الحقوق المدينة والسياسيّة من منظومة الحقوق العامّة، وندّد بالرأسماليّة المتوحّشة، التي انكرت وما تزال على الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة أي قوام قانوني، فطالب بـ “هندسة جديدة للاقتصاد العالمي، تلزم جميع الأطراف، من السلطات الوطنيّة العامّة، فالمؤسّسات الخاصّة.
ومن الأهداف الأخرى التي اختطّها يوحنّا بولس الثاني لرعويية حقوق الإنسان الاعتناء بالبعد التربوي، بحيث يقود التعليم الدؤوب على احترام هذه الحقوق، بحكم الطبيعة، إلى حلق “ثقافة حقيقيّة لحقوق الإنسان” هي المدخل الضروري لقيام “دولة القانون” في الأوطان و”لتأسيس المجتمع الدولي على احترام الحق”. ويؤمن قداسته بأن احترام حقوق الإنسان يمكّن أن ينثقف في جميع البيئات الحضاريّة، لأن حقوق الإنسان هي، بحكم طبيعتها ذاتاً، “عميمة تكونها تجد منبعها في الكرامة المتساوية لكل إنسان” (5).
ويعود باستمرار، في تعليمه، إلى الحقّ في الحياة، الذي كان يسميّه أوّل الحقوق وأكثرها أساسيّة. وفي هذا المجال، أولى قداسته عناية خاصّة لحق الجنين في أن يكون فرداً إنسانياً وحاملاً لحقوق “غير قابلة للانتهاك” لا من جانب النظام الأخلاقي ولا النظام الحقوقي” (11/1999). ولا يجد يوحنّا بولس الثاني أي تناقض بين عميميّة الحقوق من جهة وبين خصوصية الثقافات أو تنوّع التقاليد من جهة أخرى، الا أنّه يعلم، من جهة أخرى، أن حقوق الإنسان لا يمكن أن تصبح نسبيّة، أو انتقائيّة أو قابلة للتجزئة، باسم الخصوصيّة الثقافيّة. يقول: “ان تأكيد عميمية الحقوق ولاقابلية تجزئتها لا يلغي الختلافات الثقافيّة والسياسيّة المشروعة على مستوى ممارسة الحقوق الشخصيّة، بشرط احترام المستويات التي أرساها الإعلان العالمي. [لحقوق الإنسان] للبشرية جمعاء ، وذلك في جميع الحالات” (3).
وفي الكلام على حقوق الانسان، يذكّر قداسة البابا يوحنا بولس الثاني بمسؤوليّة الحكّام فيقول:”يجب على السلطات الشرعيّة داخل الأمة أن تسهر على تمكين كل الجماعات والأفراد من التمتع بالحقوق نفسها والخضوع للواجبات عينها، وفقاً لمبادئ الإنصاف والعدالة”[11].
فعلى مدى حبريّةٍ طويلة دامت ستاً وعشرين سنة، دافع يوحنّا بولس الثاني، بجرأة بنويّة، عن جملة من الحقوق الإنسانيّة التي رأى أنّها مازالت عرضة للانتهاك “روحاً”، ان في السلوك العملي أو في القوانين الوضعيّة، رغم أنّها مقرّة “نصاً”.
وفي شأن مشروع الشرعة الواحدة للمدارس الكاثوليكيّة (مؤتمر أيلول2004)، يقول النص بإعادة النظر في المسار القيميّ السائد حالياً”من أجل توفير احترام الحقوق الانسانيّة للجميع”.
يقول نعمة الله أبي نصر: “أين حقوق الانسان السجين في هذا الوطن، وعن أي معايير دوليّة نتكلّم ويتباهى بها المسؤولين والحكّام في هذا الوطن” (في النجوى ،997، 6/12/2004، ص9/1).
فالخير العام يقرّ للإنسان “حقوقاً” ويرتّب عليه “واجبات”. فله حقوق على الدولة، وعليه واجبات تجاه مجتمعه ووطنه. وبهذا يقاس رقيّ المجتمع، بالمعيار الذي به يُحترم الانسان في جميع حقوقه، وخاصّة في كرامته الانسانيّة الشخصيّة، وعيشه اللائق الكريم، ومستوى معيشته، ودخله الفردي، وتأميناته الصحيّة والمهنيّة والعلميّة والعائليّة والاجتماعيّة.
وتقول “مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة”، في الباب الخامس عشر، الفصل الأول، القانون595:”يعود إلى الكنيسة… أن تدلي برأيها في شتّى الأمور البشريّة، بقدر ما تقتضي ذلك كرامة الشخص الانسانيّ، وحقوقُه الأساسيّة”.
“وإذا أصبح مواطنٌ رجلَ دينٍ، فهل تُسقط عنه صفتُه الدينيّة حقَّه في وطنه، ومطالبة دولته بتقويم ما تداخلها من اعوجاج؟” (صفير).
قال غريغوريوس الثالث لحّام: “نكتشف الأماكن الكثيرة التي فيها جماعات مسيحيّة مُضطهَدة، وتعيش في وضع الأقليّات المحرومة جزءاً من حقوقها الطبيعيّة”[12].
الثلاثاء 29/11/2005، في اليوم الثاني لمؤتمر بطاركة الشرق الكاثوليك في عمّان، قال البطريرك ميشال صبّاح: القضيّة الفلسطينيّة: “هي أولاً قضيّة حقوق لشعب حُرم حقوقه وأرضه. وأمّا المقاييس التي تحكم العلاقات بين الشعوب فلا بدّ من إعادة النظر فيها لتؤسَّس على المُساواة من حيث الكرامة والحقوق والواجبات” (في النهار، الأربعاء 30/11/2005).
جاء في التقرير عن العدالة والسلام في لبنان الذي أعدّه الدكتور يوسف كمال الحاج: “إنّ المسيحيين في لبنان كأشخاص والعائلات الروحيّة كجماعات يتمتّعون بحيّز واسع من الحقوق الأساسيّة والحريّات العامّة، وذلك بما لا يُقاس مقارنةً بتلك المُتاحة في دول المحيط”، مُشيراً إلى أنّ الدستور اللبنانيّ “يكفل للمواطن الفرد حقوقه المدنيّة والسياسيّة كفالةً تامّة من دون أيّ تمييز”. ولا حظ التقرير “أنّ أداء السلطات اللبنانيّة على صعيد حقوق الإنسان ما زال ضعيفاً جدًّا.
“فرغم أنّ الكنيسة في لبنان محظيّة أيّما حظوة (رجاء جديد للبنان، 82)، في التمتّع بكلّ حقوقها، لا يبدو أنّ المسيحيين في لبنان واثقون من مواصلة التمتّع بهذا الواقع أو بمكتسبات نظامهم الحرّ والتعدّدي في حال انقلاب موازين القوى”.
في البيان الختامي لمجلس البطاركة الكاثوليك في الشرق، الجمعة 2/12/2005، في عمّان (الأردن)، لاحظ الأحبار أنّ الملايين في منطقتنا العربيّة تُعاني “غياب الحقوق”. ورأوا “غياب الممارسة الديمقراطيّة الحقّ في العديد من البلدان”. ورأوا “أنّ من واجب الحكومات أن تتنبّه إلى هذه الحقوق وأن تعمل جاهدة لإرساء حقوق الإنسان”. وإنّ القضيّة الفلسطينيّة هي في نظرهم “قضيّة شعب حُرم حقوقه وسُلبت أرضه”. ويرى الأحبار “أن من حق العراق أن يعيش حرًّا كريماً قويًّا بجميع أبنائه على تنوّع دياناتهم وأعرافهم”.
“إن الانخراط في النضال من اجل الديموقراطيّة والدفاع عن حقوق الإنسان هو استثمار في المستقبل” الذي يرجو الأحبار “أن يكون ينبوع أمل ورجاء في عيش الأخوّة الشاملة والمواطنيّة الصادقة، يشعر معها كلّ مواطن بالكرامة والاطمئنان والأمل في حياة سعيدة هانئة”.
ويحثُّ الأحبار أبناءهم “على السعي إلى التعاون والعمل المشترك مع المنظّمات المدنيّة والحكوميّة وكلّ الجماعات والأفراد الذين يُناضلون من أجل الحريّة والتعدديّة والديموقراطيّة وحقوق الإنسان”.
ويطلب الأحبار من مؤمنيهم “الاهتمام بشتّى أمور الشأن العامّ والتضحية في سبيله والعمل الجادّ في سبيل إقرار الديموقراطيّة الحقّ المبنيّة على شرعة حقوق الإنسان”. ويطلبون بإلحاح من جامعاتنا ومدارسنا وكلّ مؤسّساتنا التعليميّة والتربويّة العمل على “الدفاع عن حقوق الإنسان والديموقراطيّة والحريّة”.
وفي غير مجال، يرى البطريرك صفير “إذا كان السجين يستأهل العقاب للإصلاح، فهو لم يفقد حقوقه الإنسانيّة التي تُذكّره بأنّه إنسان، رغم ما اقترف من مساوئ”. ويُذكّر بالمّادة الثانيّة من الإعلان العالمي بحقوق الإنسان التي تنصّ على أنّ لكلّ إنسان حق التمتّع بجميع الحقوق والحريّات الواردة في الإعلان. فـ “هل كلّ المواطنين عندنا متساوون في هذا المجال؟” (عظة الأحد 18/12/2005؛ في النهار، الإثنين 19/12/2005).
فالتبادليّة الاحتراميّة Réciprocité “هي مبدأ حقوق الإنسان وقاعدة الثقافة الديموقراطيّة، وإلاّ تأجّجت العصبيّات وتفلّتت الأصوليّات في متاهات العنف المسفوك بطيبة خاطر وببرودة تصميم” (سمير خوري، “القيادة في المؤسسة الدينيّة من الفوقيّة إلى الخميريّة في العالم”، في المشرق، كانون الثاني – حزيران 2006، ص 52).
والخير العامّ يقتضي من قادة الشعب “أن يضمنوا للمواطنين أولاً حقوقهم الأساسيّة” (يوسف كلاّس، في عظة 26/12/2005؛ في النهار، الثلاثاء 27/12/2005).
شدّد البابا بندكتوس السادس عشر على أهميّة حماية جميع حقوق الإنسان، وخصوصاً الحق في الحريّة الدينيّة لأنها تتعلّق “بأهمّ العلاقات الإنسانيّة على الإطلاق، العلاقة بالله”، مشيراً إلى انتهاك هذا الحق في بلدان كثيرة تقول إنّ لديها تقاليد حضاريّة عريقة، وخصوصاً فيما يتعلّق بالأقليّات. وتطرّق البابا إلى القضايا الدوليّة فأكّد حقّ إسرائيل في البقاء في سلام ضمن إطار القواعد والحقوق الدوليّة، وهذه الأطر ذاتها التي يجب أن يتمتّع بها الشعب الفلسطيني لإقامة مستقبلهم الديمقراطيّ الحرّ.
وفي رسالته الله محبّة (25/12/2005)،يشير بنديكتوس السادس عشر إلى واجب الدين في أن ينبّه الدولة إلى كلّ مخالفة لحقوق الإنسان وكرامته، وأن ينشئ الضمائر على كلّ ما هو حقّ وصلاح.
قالت الجمعيّة العموميّة التاسعة لـ “مجلس الكنائس العالمي”، في هراري (14- 23 شباط 2006): “لم يعد يمكن الدول التلطّي وراء ذريعة السيادة من أجل انتهاك حقوق مواطنيها والاخلال بذلك”.
وفي موضوع: “الإرهاب وحقوق الإنسان”، أكّدت دور الكنائس في السعي إلى السلام وتحقيقه. وقالت إنّ “عنف دول أو فاعلين غيرها ضدّ مدنيين غير مسلحين وأبرياء، لأسباب سياسيّة أو دينيّة، لا يمكن تبريره شرعياً أو لاهوتيًّا أو أخلاقياً”.
في موضوع “المياه من أجل الحياة”، دعت إلى “بذل كلّ الجهود من أجل إرساء آليات قانونيّة تضمن حقّ الحياة كحقّ أساسيّ من حقوق الإنسان، وذلك على المستويات المحليّة والإقليميّة والدوليّة”.
و”المقيمون على الأراضي اللبنانيّة يطالبون بمساواتهم، من حيث الحقوق باللبنانيين الأصليين، فيما هؤلاء يهاجرون. فضلاً عن المجنَّسين الذين لم تعمد الدولة حتّى اليوم إلى الفصل في قضيتهم، ومساحة الوطن الصغير أصبحت تضيق بساكنيها” (صفير في رسالة الفصح، 14/4/2006).
في رسالة، في 24/4/2006، قال كاثوليكوس الأرمن لبيت كيليكيا آرام الأوّل كيشيشيان: “إن حقوق الإنسان تشكّل ركيزة المجتمعات والأوطان والدول المتطورة وهي حقوق منحها الله للإنسان. وبالتالي، لا يحقّ لانسان الاستيلاء عليها، لأنّ في ذلك دحضاً للنعمة الإلهيّة. وبهذا، فإنّ قوة المجتمعات الحيّة وعظمتها ليستا في عددها ولا اقتصادها أو قوتها العسكريّة، إنّما في صدقها تجاه مسلّمات حقوق الإنسان”.
وجاء في نصوص وتوصيات المجمع البطريركي الماروني: “إنّ حقوق الأفراد وحقوق الجماعات هي الطرف الآخر لحقوق الله، فإنّ الكنيسة تعدّ نفسها مؤتمنة عليها، ومن واجبها الدفاع عنها وإدانة منتهكيها، كائناً من كانوا وللسبب عينه، تعتقد الكنيسة المارونيّة بأن من واجبها، مع شقيقاتها الكنائس الإنطاكيّة، ان تظلّ في حوار دائم مع أهل الدين الاسلامي في الشرق العربي من أجل عقد خناصر الدينين على الدفاع عن هذه الحقوق معاً، وتذكير حكّام الدول بأن إحقاق السلام في الواقع السياسي للأوطان يفترض احترام حقوق الأشخاص، كلّ الأشخاص، وحقوق الجماعات، كلّ الجماعات، وأن السلام لا يستقيم إلاّ بتعزيز الإثنين معاً” (ص 93، عدد 44).
مساواة المراة بالرجل في الحقوق والواجبات من القيم الاجتماعيّة السامية، الالتزام بها ضمن قواعد ميثاق مناقبيّ إعلاميّ. وفي سياق تعزيز حريّة الاعلام الزمني في لبنان ودعم أمانته للحقيقة، “تكرّر كنيستنا تعهّدها بأن تبقى الصوت النبويّ الذي يرصُد كلّ انتهاك لحقوق الإنسان بغية التنديد به وتصويب الأمور” (ص 822).
وفي يوم العمل التربوي الذي نظّمته الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة في لبنان، الخميس 21/9/2006، في مدرسة سيّدة الرسل في الروضة تحت عنوان “المدرسة الكاثوليكيّة وبناء المواطن اللبنانيّ”، ألقى المطران سمير مظلوم كلمة تحدث فيها عن “التربية على حقوق الإنسان؛ والناس هم عيال الله، وهذا ما تعلّمه كلّ الأديان، وبخاصّة الدين المسيحي الذي يعتبر كل إنسان أخاً للإنسان. وعلى كل النّاس بالتالي أن يعامل بعضهم بعضاً معاملة أخوّة، فكيف بهم إذا كانوا أبناء وطن واحد يجمعهم تاريخ وتراث وتطلّع واحد إلى المستقبل؟”.
III – الحوار
يسوع هو “حوار الله مع البشريّة”.
وعلّم السيّد المسيح تلاميذه أنّ الحوار مع الآخر تبقى نتيجته قبول الآخر، وعلى هذا الأساس حاور السيّد المسيح جماعاتٍ وفرقاً وأفراداً من اليهود ناصبوه العداء كالفريسيين والصدوقيين والكتبة والناموسيين، الذين في آخر المطاف هيأوا له آخرة حزينة. وعلى هذا الاساس انطلق الرسل الحواريون إلى العالم كلّه، ودخلوا في حوار مستمرّ، أولاً مع اليهود الذين كانوا يعيشون في أرض الشتات، ثم مع الديانات الأخرى.
المحبّة تجمع القلوب، والصلاة تستمطر نعمة الله، والتواضع يليّن العقول. ولكن، ما نفع هذه الشروط إن لم يتمّ اللقاء بين الطرفين للحوار والتباحث والتفاوض؟
إنّ ما يطلبه القديس نرنسيس شنورهالي (كيليكيا 1102 – 13 آب 1173) هو الحوار المُجدي الذي يميّزه عن المجادلات العقيمة: “على الجميع أن يبدأوا المباحثات بروح الله من أجل بنيان النفوس”. وضع المبادئ لخلق جوّ ملائم للحوار المثمر: أن يتمّ الحوار بروح المسيح “رأس الزاوية والمثل الأوحد، فهو الحقّ بالذات”؛ أن يتمّ الحوار برحابة صدر، “لا بالقول وحسب، إنّما بالعمل أيضاً؛ ان يتمّ الحوار بروح التسامح والوداعة والهدوء، لكي لا ينقلب الحوار إلى حديث بين “طرشان”؛ أن يتمّ الحوار بروح المساواة، التي تنبع من التواضع، والمتواضع الحقيقي هو المحبّ للحقيقة، فكل المؤمنين في المسيح سواسية أكباراً كانوا أم صغاراً، لانّ قمّة الحكمة أن يرى الإنسان غلطه ويعتنق الحقّ[13].
الاحد 28 تشرين الثاني 1962 الذي صادف عيد يسوع الملك والذكرى الرابعة لاعتلاء قداسته السدة البطرسية، كان البابا يوحنا الثالث والعشرون يحتفل في كابيلّته بالذبيحة الإلهيّة على نيّة السّلام. وبعد القدّاس، سلّمه المونسنيور أنجيلو دلّلاكوا رسالة من الرئيس الاميركي وصلت لتوّها فيها يشكر كينيدي البابا على مساعدته بعد استجابة خروتشوف لنداء 25 اكتوبر (أُبلغ فيه البابا يوحنّا أن الطرفين كينيدي وخرتشيف بأتمناته على ترتيب مخرج لحلّ أزمة كوبا)، بل ومطالبته بمباشرة الحوار حول مسائل أعمّ كنزع السِّلاح. وتحقيق الانفراج العالمي.
من علامات الازمنة، في موضوع العلاقات بين الجماعات السياسيّة: ثمة اقتناع يسود العقول اكثر فأكثر فحواه أنّ النزاعات بين الشعوب يجب ان يُعمل على تسويتها، ليس عن طريق اللجوء إلى السلاح، بل عن طريق التحاور والتفاوض (يوحنا الثالث والعشرون، السلام على الارض، 11 نيسان 1963، 126).
جاء في خطاب الكردينال جوزف سووينس رئيس اساقفة بروكسل موفد البابا يوحنا الى منظمة الامم المتحدة في نيويورك، في 13 أيار 1963: “ان الوثيقة الحبرية..صُمِّمَت لتكون رسالة مفتوحة على الكون وحواراً مع جميع البشر ذوي الارادة الصالحة.. لا يمكن ان يقوم حوار بين البشر إلا إذا قبل طرفا الحوار تراتبية في القيم او على الاقل بمبدأ اولي يفرض احترامه على الجميع. وهذا المبدأ، تقول لنا الرسالة، هو الاقرار بالشخص الانساني في كرامته وفي حقوقه ( DC,1963.col.733-742)
عام 1964 أُنشِئَ المجلس البابوي للحوار بين الاديان، في غاية لتعزيز حوار الكنيسة الجامعة مع الاديان الاخرى.
في المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965)، عرّفت الكنيسة نفسها على انها كنيسة الحوار من منطلق هويتها ودعوتها ورسالتها يطلب المجمع احترام الشخص البشري، “أيًا كان في غير استثناء” (ك ع 27/1). واحترام الاشخاص ومحبتهم يجب ان يمتدّا حتى “الى الذين يخالفوننا تفكيراً وعملاً في امور الاجتماع والسياسة او الدين وبمقدار ما نعمل بانسانية ومحبة على تفهّم نظرياتهم تفهّماً أعمق يصبح الحوار معهم اشدّ سهولة” (28/1).
ويريد المجمع الفاتيكاني الثاني ان يتحاور بشأن تساؤلات جميع الناس، مع مجموع الاسرة البشرية (3) ويدعو المجمع الى “الحوار بين جميع الناس” (ك ع 92). وقد اثمر المجمع تنامياً حميداً للحوار المثمر بين المسيحية والاسلام، وخلق مناخاً جديداً من الحوار والتفاعل الطيبين بين أتباعهما.
ما يلفت في هذا الموضوع هو الواقع الذي كان عليه الأمر في بداية المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965) حين كان الحوار الكاثوليكي مع الاسلام غائباً تماماً عن الدورتين الأوليين منه، في مقابل الحضور الكثيف لحوار كاثوليكي يهودي يُعزى الفضل بتحقيقه إلى الكاردينال بيا Bea اليهودي الأصل. ولكن حيويّة بعض البطاركة والأساقفة الشرقيين المشاركين في المجمع وانتخاب البابا بولس السادس قبل الدورة الثالثة، ومواقفه مع المستشرق لويس ماسينيون المعروف بحبّه واحترامه للتراث الروحي الإسلامي، شكّلا عاملين أساسيّين لإدراج موضوع الحوار المسيحي الاسلامي على جدول أعمال المجمع. فكان من ثمار هذين العاملين الوثيقة المعروفة بعنوان “في عصرنا” المخصّصة للعلاقات مع الأديان غير المسيحيّة ومنها بخاصّة الاسلام واليهوديّة.
إلى ذلك تدعو الوثيقة “في عصرنا” (7/12/1965) كلّ من أبناء الديانتين، المسيحيّة والاسلاميّة إلى “نسيان الماضي والعمل باجتهاد في سبيل التفاهم في ما بينهم. وأن يعزّزوا جميعهم معاً، من أجل جميع النّاس، العدالة الاجتماعيّة والقيم الروحيّة والسلام والحريّة” (3).
ويبيّن البابا بولس السادس، في “ترقي الشعوب”، (26/3/1967) “انّ الحوار الصادق بين الحضارات كما بين الافراد يُنتج الاخوة الشاملة (73).
وفي أوّل زيارة قام بها البابا يوحنّا بولس الثاني[14] إلى بلد إسلاميّ، تركيا، بدعوة من البطريركيّة القسطنطينيّة، عام 1979، كانت الوثيقة “في عصرنا” ماثلةً في ذهنه ليذكّر بما أشارت إليه من تقدير تكنّه الكنيسة الكاثوليكيّة نحو الإسلام والمسيحيين.
عام 1980 قام العاهل المغربي الحسن الثاني بزيارته الأولى إلى الفاتيكان.
يمثّل “حوار الحياة” و”حوار المبادلات اللاهوتية” و”حوار الاختبار الروحي” اشكال الحوار الثلاثية (المجلس البابوي للحوار بين الأديان، موقف الكنيسة من أتباع الديانات الأخرى،1984،28-35). .
لم يشهد الحوار المسيحيّ – الإسلاميّ حيوية كتلك التي شهدها في العقدين الأخيرين من ولاية قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني، بدءاً من زيارته العربية الأولى إلى المغرب عام 1985 إلى زيارته الأخيرة التي قام بها إلى سوريا في أيّار 2001.
عام 1985 قام الحبر الروماني يوحنّا بولس الثاني بزيارة إلى أول بلد عربي إسلامي (المغرب) وبدعوة من ملكها بصفاته المتعددة كرئيس للبلاد ورئيس للجنة القدس وأمير المؤمنين والسليل الخامس والثلاثين لبنيّ الإسلام محمّد بن عبدالله. يبقى لوقائع الزيارة إلى مملكة المغرب والكلمات المعبّرة التي ألقيت في خلالها الأثر العميق في نفوس الشبيبة العربية وتاريخ العلاقات بين المرجعيتين، الفاتيكان والدار البيضاء. ثلاث قضايا شكّلت محور الزيارة إلى المملكة المغربية: الوضع في لبنان، ومستقبل مدينة القدس، والحوار المسيحي الإسلامي.
وقد خصّ الكرسي الرسولي الديانة الاسلامية بلفتة خاصة حين انشأ، عام 1988، لجنة رسمية تابع للمجلس البابوي للحوار مهمتها حصرًا تعزيز العلاقات الدينية مع المسلمين.
“ان تفاهما بين الديانتين حول نصرة حقوق الانسان، والسلام، والعدالة الاجتماعية، معروفٌ في ادبيات الكنيسة تحت اسم “حوار الاعمال” (المجلس البابوي للحوار بين الأديان ومجمع تبشير الشعوب، حوار وبشارة، تلأملات وتوجيهات في سبيل الحوار بين الأديان والتبشير بالإنجيل، 1991، عدد42).
وفي الرسالة السنة المئةCA (1 ايار 1991)، يقول البابا يوحنا بولس الثاني ان “الحرية لا تبلغ شأوها (قمتها) إلاّ في السعي لاكتشاف الحقيقة بالحوار مع الغير” (46). “وإنّه مطلوب، من جهة أخرى، من جميع ذوي النوايا الصالحة، أن يتأهّبوا للحوار والتعاضد، وهذا يصحّ خصوصاً في الأفراد والجماعات الذين ينهضون بمسؤوليات خاصّة في المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، سواء على الصعيد الوطنيّ أم على الصعيد الدوليّ” (60).
يناشد يوحنا بولس الثاني جميع المسؤولين في البلدان التي خاضت تجربة الحوار المجدية بين الاديان ان يتصدّوا لمسألة التمييز الصارخ وغير المبرّر التي يتعرض فيها المسيحيون في الشرق الاوسط او في افريقيا،” بجدية وواقعية. فالامر يتعلق باحترام ضمير الشخص الانساني، والسّلم المدني، ومصداقية المعاهدات الدولية” (خطابه أمام السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي، 11 كانون الثاني 1992).
وفي الرسالة الراعوية “الحضور المسيحي في الشرق شهادة ورسالة” (عيد الفصح 1992)، يقول بطاركة الشرق الكاثوليك، بأن في الشرق الانطاكي “مخاضاً حضارياً عميقاً” يستدعي “حضور الحوار” (45-51). ويذكّر بتعليم المجمع الفاتيكاني الثاني بهذا الشأن (64) ويحدِّد شروط الحوار (47) ويقول بالحوار مع اخوتنا المسلمين (48). وهو مسؤوليّة متبادلة (49). واخوتنا اليهود طرفٌ في هذا الحوار (50). ومع كلّ ذي ارادة صالحة (51).
ومن جهة “حوار الحياة” يقوم النموذج اللبناني، كما يقول البطريرك نصرالله صفير، على “تفاعل عملي يومي قائم في مختلف الحقول والميادين” (في افتتاح الدورة العادية السنوية لمجلس البطاركة والأساقفة سنة 1992).
عام 1993، كانت أوضاع السودان الداخليّة تشهد مرحلة حرجة على صعيد وحدته الوطنيّة في ظلّ تصاعد الموجات الأصوليّة، يقابلها ارتفاع صوت المنظّمات الدوليّة المدافعة عن حقوق الإنسان. لقد ألقى البابا في حينه أثناء تلك الزيارة كلاماً صريحاً وحازماً أمام المسؤولين السودانيين قلّما صدر عنه، انتقاداً لسياسةٍ سلبية حيال الأقليّات المسيحيّة والأرواحيّة في جنوب البلاد. سياسة كانت قد ظهرت من خلال سلسلة من الأعمال المنافية لأبسط الحقوق الإنسانيّة الأساسيّة من مضايقة للمبشرين المسيحيين واقفال الرعايا والمدارس وتهجير الأعداد الكبيرة من البشر من منطقة إلى أخرى.
وفي الرسالة الراعويّة “معاً أمام الله في سبيل الانسان والمجتمع” (ميلاد 1994)يقول بطاركة الشرق الكاثوليك: “إنّ حضارتنا العربية هي حضارة الوجه والوجه لا نكتشفه إلا بالتلاقي الودّيّ والتحاور الحقيقيّ” (24). ويدعو بطاركة الشرق الكاثوليك ابناء الديانتين الاسلام والمسيحية، الى الانتقال من الصراع الى الحوار والتعاون البناء “على الصعيد العالمي لخير البشرية جمعاء” (39). والى الحوار بين الاديان في الشرق” (42)
وفي رسالة “ليكونوا واحدا” (25/5/1995)، يتكلّم يوحنا بولس الثاني على مبادئ التزام الكنيسة الكاثوليكية العملَ المسكوني: الحوار المسكوني (28-30)، بنيات الحوار المحلية (31-32)، الحوار بمثابة فحص الضمير (33-35)، الحوار سبيلاً لحلّ التباينات (36-39)، الحوار مع كنائس الشرق (50-51)، تقدّم الحوار (59-61)، الحوار مع الكتائس والجماعات الكنسية الاخرى في الغرب (64-70) متابعة الحوار وتكثيفه (77-79).
عام 1996، حملت زيارة يوحنّا بولس الثاني إلى تونس، دعوةً إلى فتح صفحة جديدة من العلاقات مع الاسلام في الحوار والتعاون الأخوي الصادق. ثم في قصر قرطاج وفي حصور رئيس البلاد زين الدين بن عليّ أطلق البابا نداءً ملحًّا لتعزيز الحوار المسيحي الاسلامي مستنكراً مرة أخرى جميع أشكال التطرّف. وأشاد بالمبادرات التونسيّة لتعزيز الحوار والتسامح.
في الحياة المكرّسة (25/3/1996)، بقول يوحنّا بولس الثاني بأنّ الحوار الدائم تنعشه المحبّة، هو من القيم الثابتة في الحياة المكرّسة (50).
وفي الارشاد الرسولي “رجاء جديد للبنان” (10/7/1997)، احتلّ موضوع الحوار المسيحيّ الاسلاميّ مكانة خاصّة أنّ الحوار الحقيقي بين الأديان التوحيديّة الكبرى يرتكز على الاحترام المتبادل والعمل معاً على حفظ العدالة الاجتماعيّة والقيم الأخلاقيّة والسلام والحريّة.
مستويات هذا الحوار: أن “يتعلّم الاشخاص والعائلات تقدير بعضهم بعضاً، في الحياة اليوميّة وفي العمل وفي الحياة الوطنيّة العمليّة”. عدم اهمال الحوار الديني (91)، “حواراً صادقاً وعميقاً” (93). يدعو يوحنا بولس الثاني الكنيسة الكاثوليكية في لبنان الى “التزامها الحوار بين الاديان”، “حوار حقيقي” (89)، “الحوار الاسلامي ـ المسيحي” (90-91)، “حوار يراعي مشاعر الافراد والجماعات المختلفة سبيلاً لا بدّ منه للعيش المشترك، وبناء المجتمع” (90)، “هذا الحوار يجب ان يتواصل على مستويات عدّة (91).
ويقول قداسته في هذا الصدد: “أنّ الكنيسة الكاثوليكية منفتحة على الحوار والتعاون مع المسلمين في لبنان، وتريد أيضاً ان تكون منفتحة على الحوار والتعاون مع مسلمي سائر الدول العربية”. بناءً على ذلك، يشدِّد قداسته، بالنسبة الى مسيحيي لبنان، على أن يُقيموا، هم وسائر مسيحيّي البلدان العربية حواراً صادقاً، وعميقاً مع المسلمين”، آملاً ان يستطيع الحوار والتعاون بين المسيحيين والمسلمين في لبنان ان يساعدا على ان تتحقق الخطوة ذاتها في بلدان عربية اخرى (93).
طوال سنوات الإعداد لليوبيل الكبير، حاولت الكنيسة، من خلال لقاءات رفيعة المستوى، أن تقيم علاقات انفتاح وحوار مع ممثّلي ديانات أخرى.
ان الاحتفال بيوبيل العام 2000 سيتيح فرصة عظيمة للحوار بين الاديان، لا سيما في ضوء احداث العقود الاخيرة” (يوحنا بولس الثاني، اطلالة الالف الثالث، 10/11/1994، عدد53).
زار الاب الاقدس مقام الازهر في القاهرة في 24/2/2000، ولقي من الحفاوة في استقباله ما جعل الطرفين يعتمدان ذاك التاريخ موعداً سنوياً للقاء هيئتي الحوار التابعتين لكل منهما.
“فيجب أن يستمرّ هذا الحوار. في اطار من التعدّديّة الثقافيّة والدينيّة الصريح، كما ينتظره ممجتمع الألف الثالث، هذا الحوار مهمّ لكي يضمن أيضاً ظروف السلام ويبعد شحّ الحروب الدينيّة المخيف التي خضّبت بالدّم مراحل عديدة من التاريخ البشريّ” (يوحنّا بولس الثاني، نحو ألفيّة جديدة، 6/1/2001، 55).
ثم كانت زيارته التاريخية للمسجد الاموي في دمشق يوم 6/5/2001، وهو اول مسجد يزوره حبرٌ أعظم على الاطلاق، ولأوّل مرّة في تاريخ العلاقات بين الديانتين. هناك ناشد قداسته الديانتين ان تعرّفا عن نفسيهما “كجماعتين تتحاوران باحترام لا كجماعتين متخاصمتين ابداً بعد اليوم”.
وكان من المتوقّع أن يزور قداسته الأراضي العراقيّة كمحطّة أولى في رحلة حجّه إلى مواقع مهبط الوحي الإلهي على الطريق التي سلكها أبو المؤمنين ابراهيم الخليل، وفي فلسطين حيث مكان ولادة المسيح وموته وقيامته ونشأة الكنيسة. ولا ننسى رحلاته إلى بلدان إسلاميّة عديدة في أفريقيا وآسيا. جميعها محطّات على طريق الحوار الحيّ بين أبناء الديانتين التوحيديتين. أنذه حوار أراد البابا ترسيخ قواعده في اطار حوار أوسع بين كلّ جميع الأديان، كجزء من رسالة الكنيسة حيال الأمم وكجزء هامّ من خطّته الراعويّة في عالمنا المعاصر. خطّة تشمل بنيتها أيضاً الحوار العملي بين مؤسّسات لاهوتيّة وفقهيّة وأكاديميّة ولجان مشتركة، أضف إليها التمثيل الديبلوماسيّ والبعثات الراعويّة المتعدّدة التي جرت في أكثر من بلد عربيّ مسيحي.
وتوّجه مجلس كنائس الشرق الاوسط الى المواطنين “المسلمين، الذين يشدّنا اليهم الانتماء الوطني الواحد، والارض الواحدة، والهمّ الواحد، والمصير الواحد، لنواصل العمل معاً في حوار حياة من اجل مجتمع يحترم التنوّع، ويحقق المساواة ، ويحافظ على الحريات، ويصون كرامة الانسان وحقوقه” (رؤساء الكنائس في الشرق، الرسالة الراعوية الثالثة، 21/8/2000، 15).
ويحث المجمع البطريركي الماروني الاكليريكيين والرهبان والراهبات والعلمانيين، على ان يأخذوا بالاعتبار أهمّ النتائج التي توصلت اليها الحوارات المسكونية الرسمية وغير الرسمية لا سيما التي تتعلق بكنائسنا الشرقية، ففي الكليّات ومعاهد اللاهوت والعلوم الدينية يتمّ اعداد من سيُختارون للمشاركة في لجان الحوار اللاهوتية المحلية والاقليمية والعالمية بعد ان يكونوا قد اتموا تنشئتهم العلمية، وبفضل رابطة كليات ومعاهد اللاهوت في الشرق الاوسط (ATIME) “تتحوّل تلك المؤسّسات الى واحات بحث وحوار لتعزيز الامور المشتركة بين الكنائس ومعالجة تلك التي ما زالت موضوع خلاف بينها. ولا ريب في أنّ الانطاكيين، بالعودة الى الينابيع، يُسهمون في إثراء الفكر اللاهوتي مّما يُعزز الحوار المسكوني على الصعيد المحلي والاقليمي والعالمي بين الكنيسة الكاثولكية والكنائس الاورثوذكسية والاورثوذكسية الشرقية، لما لهذا التراث من فرادة واصالة ويُشكِّل هذا الامر بالنسبة الى كنيستنا المارونية والكنائس الانطاكية الشقيقة المعنية مباشرة بهذا الحوار والمشاركة فيه، خُطوةً مباركةً على طريق استعادة الشركة التامّة بينها” (النصوص والتوصيات، بكركي، 2005، 47).
ومن صلب دعوة كنيستنا المارونية، ان تبقى في هذا الشرق، وفي العالم، “آية وفاء لعيش حضارة المحبة عبر تعزيزها التلاقي والحوار بين جميع أبناء هذه البقعة من العالم، لا سيما بين المسيحيين والمسلمين” (النّص الثالث، 1).
ان رسالة العيش الطيّب بين الاديان، او ما نسميه العيش المشترك بين الاديان، “ترتِّب على كنيستنا المارونية حضور الملتزم بالحوار المثمر والمعزِّز لطيب التعايش بين أديان المنطقة، لا سيما بين المسيحيين والاسلام في الشرق العربي” (22).
“بناءً على ما تقدّم، يرى المجمع البطريركي الماروني أن ثمة حاجة ملحّة إلى إطلاق حوار مسيحي إسلامي صريح على مستوى المنطقة العربيّة اليوم من أجل معرفة أسباب التفاوت بين بلدانها في رعاية التعايش المسيحي والاسلامي والعمل على تعزيز طيب هذا التعايش” (44).
“تعلّق الكنيسة إذاً أهميّة كبيرة على الحوار مع الديانات الأخرى، وتبذل في سبيله نشاطاً مكثفاً من خلال المجلس البابوي للحوار مع الأديان” (52).
“ومن الواجب أن نلاحظ بعين التفاؤل انفتاح الاسلام المتزايد على مفهوم الحوار النديّ مع المسيحيّة في الشرق” (57).
“القرآن والمسيحية”، الكتاب الثالث في سلسلة “في سبيل الحوار الإسلامي – المسيحي”، للأستاذ الحدّاد، يصدر عن المكتبة البولسيّة. في الكتاب بحثٌ في موقف القرآن الحقيقي من المسيحيّة، في كشفٍ وتحليلٍ للمغالطات الّتي طغت على شرح الآيات القرآنيّة الّتي تشير إلى المسيحيّة، وفي تبديد للتراكمات التاريخيّة وتأثيرها حتّى زمن غير بعيد، على الحوار بين الملَّتين. وفي رأي الأستاذ الحدّاد أنَّ ” أهل الإنجيل وأهل القرآن هم أهل الكتاب، فلا يصحّ حوار في ما بينهم إلا على أساس الكتابين؛ وعلى اساس البحث الاستقرائي، لا البرهان النظري. هذا هو الأسلوب الجديد”.
لِمَ الحوار؟
لأنّه عندما يتميّز المجتمع بالخلافات والصراعات الدينية الأثنيّة والفوارق الاجتماعيّة، وتتصاعد هذه الخلافات إلى حالة العنف، يبدأ المصلحون والمهتمّون بالشأن العامّ بالتفكير بالعمل لإيجاد القواسم المشتركة لتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتناحرة والمتصارعة. ولكنّ الحوار ينطلق في أمر اساسيّ وجوهريّ مهمّ، وهو البحث عن الحقيقة في وجهة نظر الآخر، ويمكن أن نلخّصها في أمور ثلاثة وهي:
1- إن الحقيقة ليست حكراً على أيّ طرف؟
2- صواب الرأي عند طرفٍ ما لا يعني بالضرورة خطأ الرأي في الرأي الآخر؛
3- الحوار يعني بالدرجة الأولى رؤية الآخر، سماع الآخر، احترام الآخر، عدم إهمال أو تجاهل أو التقليل من أهميّة دور الآخر.
أمّا ميادين الحوار فتتلّخص بالنقاط التالية: حوار الحياة، حوار العمل، حوار الفكر وحوار التجارب[15].
الجلوس إلى مائدة جسد الرّب يقتفي الالتزام بمسؤوليّة في الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، ناسجين نَسيجَ الحوار والشركة (يوحنّا بولس الثاني، امكث معنا ياربّ، 7/10/2004، 27).
وفي البيان الختامي لمجلس البطاركة الكاثوليك في الشرق (1/12/2005)، جاء أن “بناء الديمقراطيّة والحريّة يعني المبادرة إلى الاتصال بالآخرين وإقامة حوار ديمقراطي معهم للتفاعل بين الأفكار وتفحّص هوامش اللقاء والتفاهم مع الآخرين وتعزيزها. بهذه الطريقة، نتحوّل مواطنين ملتزمين نغلّب نقاط التفاهم المشترك على الخلاف والأحزاب بين شرائح واسعة من المجتمع”.
ومن أجل حوار فاعل وتعاون مثمر يوصي الأحبار بإعادة النظر في مناهج التربية الدينيّة المسيحيّة والإسلاميّة، فتساهم في تهيئة المواطن المسيحي والمسلم على السواء، للمعرفة المتبادلة والإحترام والمحبّة ليصبحا قادرين على بناء أوطانهم معاً ومواجهة تحديات العولمة والفتن”.
يقول الأب أوليفر برج أوليفييه: رعاية الفقراء الصغار “طريقة لعيش الحوار أيضاً”. الحوار يشكل أيضاً إحدى الرسالات الأساسيّة للرهبانيّة اليسوعيّة. ويشدّد الأب أوليفر على “الدور الكبير للرهبانيّة في تعزيزه خلال هذا القرن”. مع الأولاد المشردين، يعيش حواراً “على المستوى البسيط وخصوصاً أن هؤلاء لديهم انتماءات مختلفة” على قوله.
ويذهب إلى موضوع العولمة: “إنّها فرصة للحوار. والرهبانيّة تهتمّ بالحوار كثيراً”. الأب أوليفر يؤمن بالحوار والثقافة. فهو رجلها بامتياز. ويقفز لبنان إلى بال الأب أوليفر عندما يتوسع في موضوع الحوار. “نجد فيه حواراً بين الديانات، كما ان تاريخه يتكلّم كثيراً عن الحوار. ولكن علينا التنبّه إلى ما في هذا التاريخ ويعوق الحوار، كي يعرف اللبنانيّون تجاوزه” (في النهار، 5/12/2005، ص 13).
ندّدَ رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة في الشرق الأوسط “بكل أشكال العنف في المنطقة العربيّة، وفي كل العالم”، مهيبين “بالجميع أن يحلّوا مشاكلهم وصراعاتهم بالوسائل السليمة والحوار والفهم المتبادل”، ومؤكّدين دعمهم لعقد مؤتمر دولي لمكافحة الإرهاب، مطالباً ببذل الجهد لدعم الحوار المسيحي – الإسلامي (في النهار، السبت 11/12/2005).
إنّ “التوجيهات – إزاء التطوّر المتنامي – يجب أن تدرَك في الحوار مع جميع الذين يهتمّون بجدٍّ بالإنسان والعالم” (بنديكتوس السادس عشر، الله محبّة، 25/12/2005، 27).
“الأحداث المتسارعة قد أوصلتنا اليوم إلى الخيار بين طريقين لا ثالث لهما، فإمّا أن نستمرّ في التدهور وتعود البلاد لا سمح الله إلى الآفاق المسدودة، وإمّا أن يجلس الناس معاً ويتحاوروا بصدق ويعيدوا التفاهم إلى العقول والمحبّة إلى القلوب والوحدة إلى الصفوف، وأن يتنازل كلّ منهم عن بعض مواقفه الخاصّة ليضمنوا أولاً وقوف لبنان” (بولس مطر، عظة الأحد 26/12/2005، في النهار، الإثنين 27/12/2005). أغناطيوس سعاده، “محطّات تمهّد للحوار بين الاسلام والمسيحيّة”، في المنارة، 2 – 3، 2005، ص 437 – 454.
في 16/1/2006، أصدر المجلس التنفيذيّ للرابطة المارونيّة بياناً جاء فيه أن “الرابطة المارونيّة تدعو جميع الأفرقاء إلى مزيد من الإنفتاح على الرأي الآخر، بالحوار الحقيقي الجدّي حيال كل القضايا الأساسيّة من دون استثناء، وترى الرابطة المارونيّة في الإقدام على طرح جميع المسائل والمشكلات الشائكة على بساط الحوار بكل صراحة ووضوح على أساس الحرص علىالسيادة والاستقلال؟ إنّما هو علامة صحّة بالغة الأهميّة. وفي هذا الصدد، من الضرورة القصوى أن يتنبّه جيمع المعنيين بالحوار وبالمبادرات من أجل إيجاد الحلول للمشكلات اللبنانيّة المعلّقة أو الخلافيّة إلى أنّنا في لبنان لسنا قاصرين على الإطلاق” (في النهار، الثلاثاء 17/1/2006، ص 5).
“أمّا الصمت والكبت والهروب من الحوار، فيؤدّي إلى مزيد من الانتقاد، الذي غالباً ما يتجاوز حدود الواقع، فالانسان عدو ما يجهل” (بشارة الراعي، أناجيل الآحاد في زمن الصوم الكبير، 2006، ص 76).
“نتابع الحوار حول الطاولة المستديرة ونتمنّى على الذين يمثّلون طبقات الشعب اللبنانيّ أن يرتكزوا على العقل والمحبّة وأن ينبذوا ما هو سيّئ، أن نتحاور بكلمات جميلة ومفيدة للوطن، كي نصل جميعاً إلى الحلول التي تؤمّن لنا السلام والمحبّة والوئام والتفاهم في هذه البلاد التي عانت الكثير من المآسي” (الياس قربان، عظة الأحد 5/3/2006).
وفي تدشين كنيسة مار أنطونيوس البادواني في الشيّاح، صلّى بولس مطر: لـ “يكون الحوار الذي يجري اليوم في بلادنا مقدمة لزمن جديد يحنو الله فيه علينا، يجعلنا نسلّم بعضنا على بعض” (الأحد 5/3/2006).
وفي عظة الأحد (5/3/2006)، رحب صفير بالحوار الوطنيّ الدائر مذكراً المجتمعين بأنّ “قادة الشعوب خدامهم”.
في موضوع “الاحترام المتبادل والمسؤوليّة والحوار بين الأشخاص من مختلف الديانات”، توقفت الجمعيّة العمومية التاسعة لـ “مجلس والكنائس العالمي” (14 – 23 شباط 2006) عند الرسوم الكاريكاتوريّة الدانمركيّة عن النبيّ محمّد قائلة: “نقرّ بأنّه من المهمّ جداً تقوية الحوار والتعاون بين المسيحيّين والمسلمين.
“فالحوار المسيحيّ السياسيّ مطلوب إلى جانب الحوار الكنسي في هدف إيجابيّ هو بناء الوطن مع المسلمين وذلك لاقامة بلد موحّد في خدمة الجميع” (جورج خضر، “الارثوذكسيّة في لبنان”، في النّهار، السبت 18/3/2006، ص 12).
في عظة الأحد 19/3/2006، أعرب البطريرك صفير عن سروره أن يرى “أن الحوار القائم بين أهل السياسة يتقدّم في جوّ من التفاهم المتبادل. ويبقى أن ينصرّف المتحاورون إلى معالجة وضع الشعب المعيشي الذي بات لا يحتمل التسوي والتأجيل.
“ما أحوجنا في هذه الأيّام، ونحن نبني من جديد وطن الثقافة، وحقوق الإنسان، والحريّة والسيادة، … إلى حوار مسيحيّ إسلاميّ صادق، مبنيّ على ركائز فكريّة متينة لتوطيد العيش المشترك الذي هو الطمأنينة الوحيدة لبقاء لبنان” (خليل علوان، كمال يوسف الحاج، ثلاثون، 2 نيسان 2006، ص 9).
في حديث إلى حبيب شلوق، (14/4/2006) عشيّة الذكرى السنويّة العشرين لتبوّئه الشدّة البطريركيّة، في 14/4/1986، لاحظ البطريرك صفير أن المؤسّسات الدستوريّة لو كانت تعمل كما يجب “لما كنّا في حاجة إلى هذا الحوار”.
قيل في البطريرك صفير: “عشرون سنة رجل لبنان الواحد والحوار بين الطوائف” (بلديّة حارة حريك، في النجوى/المسيرة، 1068 – 1069، 24/4/2006، ص 16).
في رسالة الفصح، الخميس 20/4/2006 قال المطران الياس قربان، متروبوليت طرابلس والكورة للروم الأرثوذكس، “أن لا مستحيل في أي حوار محبّ، لانّ المخلّص أطلق كلمة حوار إلهيّة في هذا العالم”.
في مقابلة اجرتها معه “النّهار” في باريس، في 20/5/2006، أعلن البطريرك الأورشليمي للاتين ميشيل صبّاح أن “الحوار يجب أن يخلف المرحلة الاستعماريّة. ونحن في الشرق بحاجة إلى الحوار حتّى نبني ونصبح قوّة ثانية للعالم وليس قوّة مصارعة فارضة أو مستغلّة ثرواتنا”.
في محاضرته في جامعة ريغنسيور في ألمانيا، في 11 أيلول 2006، بعنوان “العلاقة بين الإيمان والعقل والجامعة”، يتساءل البابا بنديكتوس السادس عشر: كيف نريد أن نتحاور مع العالم، أي الدين ونرفض أيضاً ما هو أساس العقل أي المنطق؟ ويقول: لا حوار إلا إذا اكتشفنا العقل. البابا يدعو إلى حوار العقل، إلى حوار نقديّ مبني على الفكر، لا على الإلحاد من جهة، ولا على العنف من جهة أخرى. والحوار لا يتمّ بالكلام المائع، إنّما قد يكون شديداً أو قاسياً أحياناً، إنّما الشرط أن يكون محقاًّ.
“فكيف انقلبت محاضرة تدعو إلى حوار الحضارات وإلى عمق الإنسان إلى تصادم فكريّ وهياج وإثارة مشاعر؟ ان محاضرة البابا تدعو إلى الحوار الصريح والصادق في اطار الاحترام المتبادل. المحاضرة هي تأكيد على الاحترام والحوار المتبادل.
على أثرها، استقبل البابا سفراء الدول المسلمة المعتمدين لدى الكرسيّ الرسوليّ، لتأكيد تمسّكه بالحوار في خضمّ موجة الاحتجاجات على كلامٍ له عن الاسلام والعنف، ورأى اختصاصيّ في شؤون الفاتيكان لدى صحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطاليّة ماركو بوليتي أن “الطابع الجديد والاستثنائي لذاك الاجتماع يشهد على عزيمة للخروج من الأزمة وكذلك على رغبة في معاودة الحوار بطريقة خلاّقة”.
– IV السّلام
المقدّمة
السَّلام هو موضوع السّاعة وكل ساعة. هو مشتهى جميع الأجيال. التوق إلى السلام، نزعة انسانيّة طبيعيّة وبديهيّة فكل إنسان يفتّش عن العيش في طمأنينة وسلام. فيا ليت آدم وحوّاء استمرّا بسلام مع الله! إذا ً لبقينا بسلام معاً! ويا ليت قايين استفسر من أخيه هابيل عن سرّ قبول الله ذبيحة هذا الأخير، لعاشا ثنائياً أخوياً سلامياً ولقضيا على الشرّ من أول تجربته!
يُشير النبي حزقيّال إلى الله، بحضوره المقدّس، يُشدّد اليهوديّة والسامرة، المملكتين المنقسمتين والمتناحرتين، ويُباركهما في معاهدة سلامٍ ووئام.
وقال صاحب المزامير “العدل والسلام تعانقا” (مز 85/11) ولكن السُّبل التي يسلكها الانسان لاقتناء السّلام ليست هي دائماً سبل الله. لذا عليه بالتوبة الدائمة إلى الله ليأتي مسعاه إلى السّلام حقيقياً، وأن يصغي إلى يسوع حامل سلام الله إلى أرض البشر. “طوبى لفاعلي السّلام، فإنهم أبناء الله يدعون” (متى5/9).
يظهر بولس ارتباط السّلام بالفداء. إِن المسيح “هو سلامنا”، فقد حقّق السّلام مصالحاً الشعبين (اليهود والوثنيين) “بإحلاله السلام بينهما” واتحادَهما “في جسد واحد” (أف2/14-16)، بدمه “على الصليب” (قول1/20). بواسطة يسوع المسيح يحيا المؤمن في سلام مع الله (روم5/1)، إله السّلام (2قور13/11). إن السّلام هو ثمر الروح (غل5/22). “جاء وبشرنا بالسلام”. “وليتغلّب في قلوبكم سلام المسيح، السلام الذي إليه دعيتم في جسدٍ واحد” (قو 3/15). فالعيش مع الآخرين في حقٍّ وسلام، هو تصرّف إنسان “حكيم وفهيم” (يع 3/13) يعرف الله. لأنّ “الحق” (آ 14) و”الحكمة” عطيّة “من علُ”. فـ “الحكمة النازلة من علُ”، هي “مُسالمة” (آ 17). “وثمر البرّ يزرع السلام لفاعلي السلام (آ 18).
ويرى يوحنا، مثل بولس، أن السّلام هو ثمرة ذبيحة يسوع المسيح (16/33). فهو يختلف تماماً عن السّلام الذي يعطيه العالم. يوضح يوحنا أن في حضور يسوع ينبوعَ السّلام وجوهره:”السّلام أستودعكم وسلامي أعطيكم”(14/27). إنّ كلمات سيّدنا يسوع المسيح تُشكّل قاعدة روحيّة متينة لتأمّل المؤمنين وجهودهم في سعيهم الحثيث نحو العدل والسلام الذي هو عطيّة الله وحين يتغلَّب على الموت يعطي، مع سلامه، الروح القدس وسلطة غفران الخطايا (20/19-23).
يقول القديس أوغوسطينوس (354-430):” المدينة الأرضيّة (الدولة)، التي لا تحيا من الايمان، تتوق هي أيضاً إلى السّلام الأرضي”. وعلى الصعيد الاجتماعي، فالذين ينتمون في وقت ما إلى المدينة السماويّة، بقرار حرّ منهم، يجتهدون في تأمين السّلام الخارجي، أي السلام على الأرض، بشرط أن لا يسيء هذا السلام إلى الدين الذي يعلّم عبادة الله الواحد الحقيقي.
أمام ظاهرة الخلافات بين الناس والمؤسسات والدول في كل زمان ومكان، يقول أوغوسطينوس:”إذا إراد الأخوة أن يعيشوا في وئام، فعليهم أن يتوقوا إلى تلك خير لا يتجزّأ”.
لاون الثالث عشر وبيوس الحادي عشر وبيوس الثاني عشر ويوحنا الثالث والعشرون وبولس السادس كانوا صناعاً طيبين وشجعاناً للسلام الحقيقي.
في جو الصراع بين الأمم من جهة ورجاء سلام عادل ودائم من جهة أخرى، اتخذ البابا بيوس الثاني عشر موضوع رسائله الإذاعيّة إلى العالم المفهومَ المسيحي للنظام الخاص في العلاقات بين الدول.
ولقد نشر، على مدى السنين العشرين من حبريّته، خمس إنسيكليكات مخصصة حصراً لدعوة المؤمنين في العالم أجمع إلىالصلاة من أجل السلام، ومنها Optatissima Pose كما أنه ألقى ونشر أكثر من عشرين خطاباً إذاعيّاً ورسالةمكرّسة كلياً لإيضاح فكر الكنيسة في مسألة السلام. لقد كان شعار بيوس الثاني عشر مدة حبريته:”السلام ثمرة العدالة”.
ففي رسالة سنة1939، عرض نقاطاً من أجل سلام عالمي دائم.
ورسالة سنة1942 كان موضوعها السلام والنظام داخل الدول ومقتضياته.
ورسالة سنة 1943 أكدت أن السلام الحقيقي لا يمكن أن يُبنى على الازدهار المادي فقط، بل يجب تركيزه على العدالة والحق.
رسالة سنة1944 حددت بعض الشروط للمحافظة على السلام في نهاية الحرب العالميّة الثانيةلة: ضرورة إنشاء منظمة دوليّة تحافظ على السلام، ويقرّ لها الجميع بسلطة عليا تمنع التعديات.
في شهر تشرين الثاني من عام 1945 جرى في لندن التوقيع على الميثاق التأسيسي لمنظّمة الأونسكو. وقد جاء في مقدمة الميثاق: “إنّ الحروب تولد في عقول البشر، وفي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام”. “وإن السلام يُشاد كلّ يوم. وبناؤه صنيعة كلٍّ منّا لأنّه موقفٌ تصهره التربية والعلم والثقافة التي تُعطي لكلِّ امرئٍ القدرة على التصرّف بمقتضى ضميره” (محمّد السمّاك، في النهار، الأحد 13/11/2005، ص 11/1).
وعندما كان أنجيلو رونكالي (يوحنا الثالث والعشرون) سفيراً باباوياً في فرنسا، قال في خطاب أمام رئيس الجمهوريّة الفرنسيّة (Vincent Auriot) في 30كانون الأول1950:” أن قواعد السلام هي قواعد الحضارة ذاتها”.
في رسالته الأولى Urbi et Orbi، التي صدرت في 29 تشرين الأول 1958، أي في اليوم التالي لانتخابه، توجه قداسة البابا يوحنا الثالث والعشرون إلى مسؤولي الأمم لحضّهم على الالتزام بالسلام المؤسس على الحقوق المشروعة لجميع الأطراف والمنفوح بروح المحبّة.
كما أن السلام كان أحد موضوعات رسالته العامّة الأولىAd Petri) (Cathedram(29جزيران1959). وتمحورت رسالته الميلاديّة الثانية (23كانون الأول 1959) حول السلام وانطوت بشكل معلّب على بعض المبادئ التي ستوسعها رسالة “السلام على الأرض”.
تشير الرسالة “أم ومعلّمة”، (1961) إلى ما يخيّم على العالم من ظلّ كثيف، هو ظلّ الحرب … يوم كثيف فيه هذه الرسالة، أي في أوائل الستينات. وهو ظلّ يشير إليه الحوار القائم بين الشعوب، والتسابق إلى التسلّح، والخوف الدائم من وقوع كوارث.
جاء في رسالة إذاعيّة للبابا يوحنا الثالث والعشرين، في 11أيلول 1962 ما يلي:” أي إنسان لا يسعى إلى السلام بجميع قواه؟ وهكذا الكنيسة، أكثر من أي أحد، لأنها أم الجميع. فبصوت باباواتها لا تنفك تعلن حبها للسلام، وإرادتها في صنع السلام، وتعاونها المخلص مع كلّ جهد مخلص لصالح السلام”. وجاء فيها أيضاً:”ثمة إشارات أكيدة من التفهم السامي قد انبثقت لنا أن دعاء السلام المتضمن في رسالتنا الإذاعيّة في 25 أكتوبر الماضي (1961)، لم يكن كلاماً ذهب مع الرّيح، بل مسَّ العقول والقلوب وفتح مطلاّت جديدة مع الثقةالأخويّة وبشائر آفاق هادئة من السلام الحقيقي الإجتماعي والدولي”.
الأربعاء 25 تشرين الأوّل 1962: في خطاب مختصر أمام ثمانمئة من الحجّاج البرتغاليين، دسّ، بشكل شبه إرتجالي، مقطعاً جاء فيه:” إنّ البابا يتحدّث دائماً بشكل جيّد عن جميع المسؤولين الرسميّين أيّاً كانت جهتهم، عندما يسعون إلى التلاقي لتجنّب الحرب في الواقع وتوفير شيء من السلام للبشريّة”.وجاء أيضاً ما يلي:” ليس للكنيسة ما هو أعزّ على قلبها من السلام والأخوّة بين البشر، وستعمل بلا كلل على إرسائهما… تتوسّل إلى جميع الحكّام أن… يلبّوا كلّ ما في وسعهم من أجل إنقاذ السلام!”.
مساء ذلك اليوم، أبلغ البيت الأبيض أن السفيرين السوفياتيين في لندن وبون قد أبديا اهتمامهما بمناقشة حل سلمي للنزاع. وفي لقاء لخروتشوف مع كزنز في 13 كانون الأوّل 1962، باح الرئيس السوفياتي خروتشوف بما يلي:”قد نكون، البابا وأنا، نختلف في أمور كثيرة ، لكنّنا واحد في سعينا إلى السلام… وفي صدد ما فعله البابا لأجل السلام، فإنّ تدخّله كان عملاً إنسانياً سيسجّله له التاريخ”.
بعد أسبوعين من انتهاء أزمة كوبا، بدأ يوحنّا يفكِّر جديّاً في جمع تعليم الكتيسة الإجتماعي حول السلام منذ البابا لاون الثالث عشر من أجل سكبه في رسالة عامّة واحدة. فلقد كان البابا يوحنّا يشعر منذ زمن بغياب نصّ جامع للفكر المسيحي حول مسألة السلام.
في الأوّل من آذار 1963، أعلنت اللجنة المشرفة على جائزة بالتسان (Balzan) العلميّة للسلام منح البابا جائزتها السنويّة تقديراً لعمله من أجل السلام “السلام بين البشر والشعوب، وحرصه الدائم على المساهمة في المحافظة على علاقات سلميّة بين الدول، إن في نداءاته السلميّة الموجهة الاّ إرادة البشر الصالحة، أو في مبادراته الديبلوماسيّة الأخيرة 0أي دوره في الأزمة الكوبية)، على ما جاء في براءة الجائزة (DC, 1963, col.417).
عند التوقيع الرسمي على النسخ الخمس الأولى من الرسالة في 9 نيسان 1963، أمام الصحافة والتلفزة، قال: “السلام العميم هو خير يهمّ الجميع دون تمييز، لذا فإنّنا فتحنا قلبنا للجميع”.
موضوع الرسالة “السلام على الأرض” Pacem in terris للبابا يوحنّا الثالث والعشرين (11 نيسان 1963). قدّم لها ونقلها إلى العربيّة الدكتور يوسف كمال الحاج، حركة “عدالة ومحبّة”، 2004، تعليم الكنيسة الإجتماعي، سلسلة الدراسات، 1، 368 ص. عمل جبّار قام به الدكتور يوسف: بعد التصدير للمطران سمير مظلوم، كان المدخل. وجاءت المقدّمة العامّة في مئة صفحة ونيّف فبدت دراسة شاملة. ثمّ كان نصّ الرسالة باللاتينيّة والعربيّة. يا ليت اللاتينيّ كان صفحة والعربيّ في الصفحة المقابلة. بعد ذلك، كان كلام يوحنّا الثالث والعشرين، وأخيراً “مسرد” للمصطلحات الأساسيّة وأسماء العلم.
أبعاد السلام الحقيقي وشروطه الضروريّة لتأمينه على الأرض وارتباطه بضرورة احترام حقوق الإنسان.
نقطة الانطلاق للبحث في السلام هي أن “السلام على الأرض“هو موضوع الرغبة التي تختلج في قلب البشريّة عبر الأزمنة جميعها، لا يمكن أن يتأسّس ويتوطّد إلاّ على ” حفظ النظام الذي رسمه الله غاية الحفظ” (1).
ويشدِّد البابا على احترام القيم الاجتماعيّة. قواعد السلام أربع: الحقيقة، والعدالة، والمحبّة والحريّة (35-36).
الحقيقة هي أساس السلام، في ما كان لو كان كلٌّ من النّاس يعي بصدق، فضلاً عمّا له من حقوق، ما عليه من واجبات تُجاه قريبه. والعدالة تبني السلام، في ما لو كان كلٌّ من النّاس يحترم حقوق الآخر ويجهد في القيام بواجباته تُجاهه. والمحبّة تكون خميرة سلام، في ما لو كان النّاس يعتبرون حاجات الآخرين كحاجاتهم، ويتقاسمون معهم ما يملكون، بدءًا بقيم الروح. والحريّة تُغذّي السلام، وتحمله على أن يُثمر في ما لو كان الأفراد، لدى اختيارهم الوسائل المُتّخذة لبلوغه، ينقادون للعقل ويتحمّلون بشجاعة مسؤوليّة أعمالهم (نصرالله بطرس صفير، عظة الأحد، في الجزء السادس عشر، 2003، ص 8+).
ويرفض البابا فكرة تبرير السلاح بالادّعاء القائل إن الأوضاع “تجعل صيانة السلام منوطة بتوازن القوى المسلّحة” (1).
تشجِّع الرسالة قيام سلطة عالميّة تعلو الدول، دون أن تبتلعها، من أجل التغلّب على تحديّات حفظ السلام العالمي.
نقاط مفصليّة جعلت من هذه الرسالة “إنجيل السلام”: “مخاطبتها جميع البشر، سموّها بالإنسان الشخص فوق كلّ قيمة مجتمعيّة أخرى، إصدارها شرعة كنسيّة لحقوق الإنسان، إرساؤها مفهوم السلام على ركائز روحيّة (الحقيقة والعدالة والمحبّة والحريّة)، دعمها الخيار الديمقراطي في بناء الدول، مناداتها بنزع السلاح وبالتخلّي عن حجّة الحرب، إجهارها بضرورة إنشاء سلطة عامّة أونيفرساليّة، تشجيعها تعاون السلام” (د. يوسف كمال الحاج، ص16).
كتبت صحيفة إيطاليّة يساريّة: “لئن سيتذكّر التاريخ يوحنّا الثالث والعشرين من خلال لقب “بابا السلام”، إلاّ أنّه سيذكر أكثر فضله في جعل سلام الله على مستوى واقع عصرنا”(Giancarlo Zizola, Giovanni XXIII: la fede e la politica, Editori Laterza, Roma, 2000, p.295).
قرّر المتروبوليت نيقوديم، ميتروبوليت مينسك في روسيا البيضاء والمسؤول عن العلاقات الدوليّة في بطريركيّة موسكو الأرثوذكسيّة ما بين 1960 و1972، ان يسجّل تقديره لعمل البابا يوحنّا الثالث والعشرين ولفكره النيِّر في موضوعي وحدة الكنائس والسلام، فأهدى أطروحة الدكتوراه التي أنجزها إلى “يوحنّا الثالث والعشرين أسقف روما” (A Riccaudi, Il vaticano e Mosca , Bari, p.260-261 1992).
“غن في عصر اكتشف الطاقة الذريّة، لكن أمامه أن يكتشف طاقة السلام والوئام الخلاّقة التي ينجزها فعل بسيط من الحبّ والتفاهم المتبادل” (Card. Léon Joseph Suenens, Dans DC,1963, avril13)
في آخر رسالة فصحيّة له عشيّة السبت العظيم، في 13 نيسان 1963، أعلن البابا يوحنّا في راديو الفاتيكان :”السلام مع الله في إتمام مشيئته. السلام مع البشر في احترام حقّ كلّ واحد، لأنّ كل واحد مختوم بوجه العلي (مز4/7). السلام في الأسر حيث يعاون الأزواج الرب على ثقل الحياة وحيث ينمو البنون حول المائدة كأغراس الزيتون(مز128/3). السلام في قلب الأمم، حيث الإرادة الساهرة على تعزيز النمو الحسن التنظيم لحياة المواطنين، والسلام، أخيراً، في العلاقات بين الشعوب، بروح من الصدق ونبذ الارتياب وسوء الفهم والوعيد” (DC, 1963, col. 578-579).
ومن جهته علّق الأمين العام لمنظّمة الأمم المتّحدة يوشانت (U Thant)، في مؤتمر صحفي في مبنى الأمم المتّحدة: “ليُسمح لي بالاستفادة من هذه المناسبة لتقديم مشاعر الثناء لقداسته على … شجاعته في بذل الجهود غير الواهنة من أجل السلام وبقاء البشريّة” (La Croix, 13 avril 1963).
وعلّقت وكالة “تاس” السوفياتيّة للأنباء على الرسالة العامّة في سابقة لا مثيل لها إزاء المنشورات الكنسيّة، بما يلي: لقيت الانسيكليكا الجديدة… صدىً عظيماً في العالم أجمع، لأنّها كانت مكرّسة للمسألة التي تَقُضُّ مضجع البشريّة، ألا وهي حفظ السلام على m;mfkh” (La croix, 16-17 avril 1963).
وردّاً على مجلّة Zarubejom السوفياتيّة، قال راديو الفاتيكان في تعليق بُثَّ في الحادي والعشرين من نيسان 1963: ” قد تكون نقطة الاتّفاق الوحيدة والعميقة بين الكاتوليك والشيوعيّين هي بالضبط هذا التأكيد. يتكلّم الطرفان على السلام، لكن المعنى والقيمة اللذين يضعهما كلّ منهما في هذه الكلمة يعكسان التضادّ الكامل في مفاهيمهما الجوهريّة. فبالنسبة إلى الكنيسة، وبالنسبة إلى يوحنّا الثالث والعشرين لا يُرافق السلام سوى نعتٍ واحد: السلام المسيحي، سلام الشخص الإنساني… أمّا الشيوعيّة فلا تعرف سوى الطبقة، والدولة وكفاحهما من أجل مجتمع إشتراكي أو أوطوبيّ يحتكر وحده ميزة السلام. السلام، بالنسبة إلى المسيحي، غايته الشخص الإنساني، وتنجم عن توازن منشود ومطلوب، ومدرَك، بين الحقوق والواجبات المُعترف بها. أمّا بالنسبة إلى الشيوعيّة، فالسلام غايته الطبقة والدولة، وهو نتيجة لكفاحٍ دائم ومتعدّد الأشكال يتوّج بانتظار طبقة على الطبقات الأولى(DC, 1963, col.672).
وفي حديث أعطي في 22 نيسان 1963 إلى صحيفة Il giorno. الميلانيّة، علّق خروتشوف على الرسالة بما يلي :” نصفّق لمواقف البابا يوحنّا الثالث والعشرين من أجل السلام”.
علّق الرئيس كينيدي على الرسالة العامّة قائلاً في خطاب له في جامعة بوسطن : “عن نتعلّم الكلام بلغة الرقي والسلام من فوق حواجز المذاهب والمعتقدات” (La croix, 23 avril 1963).
وفي مقابلة عامّة أمام المؤمنين والحجّاج في 24 نيسان 1963، تحدّث البابا يوحنّا عن الرسالة العامّة قائلاً: ” انّه لعزيز على قلبنا أن ننشر هذا السلام من حولنا، فالسلام هو خير يهمّ البشر جميعاً دون استثناء. لدى عودتكم إلى بيوتكم وأوطانكم، كونوا شعراء للسلام أناً حللتم: السلام مع الله في حَرَم الضمير، السلام في الأسرة، السلام في المهنة، السلام مع جميع النّاس بمقدار ما يكون الأمر رهناً بكم” (DC, 1963, col.650-651)
كتب الأوسر فاتوري رومانو في 8 أيّار 1963 ردّاً على انتقادات صحيفة Il Tempo : ان هذه الرسالة تطالب “بحرّية القدرة على التعبير عن جميع القيم الطبيعيّة المشتركة بين البشر من أجل بناء سلام مؤسّس على الحقيقة انطلاقاً من الأسفل”.
وفي العاشر من أيّار 1963: “السلام هو بيت، بيت الجميع. إنّه القنطرة التي تربط السماء بالأرض. إنّ التعليم الذي تقدّمه الكنيسة للعالم، إذا ما عرض على أنام اليوم دون تحريف مغرض، لا يسعه إلاّ أن يزيد في العالم من عدد هؤلاء الذين يصحّ تسميتهم، بجدارة وافتخار، بناة السلام وصانعيه”(DC, 1963 col.718)
وتقديراً لأهميّة الرسالة رعت منظّمة الأمم المتّحدة من 17 إلى 20 شباط 1965، لقاء دوليّاً هاماً في مركزها في نيويورك، جاء تحت عنوان: ” ندوة حول قضايا السلام العالميّة في ضوء تعاليم البابا يوحنّا الثالث والعشرين الواردة في انسيكليك ” السلام على الأرض…”.
يؤكّد المجمع الفاتيكاني الثاني إيمان المسيحيّة بأنّ الله يعدّ لنا أرضاً جديدةً “تُشبع سعادتها جميع رغبات السلام” (ك ع 39/1).
الفصل الخامس: صيانة السلام وبنيان جماعة الأمم
يوضّح المجمع أن “السلام ليس مجرّد غياب للحرب، ولا هو مجرّد إقامة توازن بين القوى المتناوئة، ولا هو ثمرة سيطرة مستبدّة، ولكنّه يحدَّد في حقّ ودقّة بأنّه عمل العدل (اش 32/17)” (78/1).
“وعندما تقوم الكنيسة بفعل رسالتها الإلهيّة، على تبشير جميع الناس ببشارة الإنجيل وتوزّع عليهم كنوزَ النعمة، فهي تعمل على توطيد السلام في كلّ مكان” (89). ويُعرب المجمع عن رغبته في إنشاء هيئة في الكنيسة الجامعة من شأنها أن تحضّ جماعة الكاثوليكيين على تنشيط النمّو في المناطق الفقيرة” (90/3).
ويرى بولس السادس في “ترقّي الشعوب” (1967)، أنّ “الترقّي هو الاسم الجديد للسلام”. “فالسلام لا يقوم على غياب الحرب” (76).
وفي كلام البابا بولس السادس شرح لوصيّة السلام التي استودعها يسوع لتلاميذه، إذ يقول: “إنّ فكرة تكريس اليوم الأوّل من العام الجديد ليكون “يوم السلام”، ليس لها، في نظرنا، صفة محض دينيّة وكاثوليكيّة، بل تبغي أن يتبنّاها كل محبّ مخلص للسلام… فتوجِّه تاريخ العالم صوب مستقبل سعيد”. ويتحدّث عن ركائز السلام. ثمّ يضيف قائلاً: “إنّ السلام هو من ميّزات الدين المسيحي، والمناداة بالسلام إنّما هي، في نظر المسيحي، المناداة بالمسيح: إنّه سلامنا! وإنجيله “إنجيل السلام”! وقد أتمّ المصالحة العامّة ببذل ذاته على الصليب؛ ونحن تلميذه مدعوون إلى أن نكون فاعلي سلام! وإنّما من الإنجيل، ومنه وحده، في النهاية، ينبع بالفعل السلام!” (1968؛ راجع زمن الميلاد المجيد، الكسليك).
في الرسالة العامّة”فادي الانسان” (4آذار 1979)، يكرّر البابا يوحنا بولس الثاني قول البابوات اسلافه والمجمع الفاتيكاني الثاني “إن السّلام يقوم على احترام حقوق الانسان التي لا تمسّ، فالسّلام صنيع العدالة (17/2).
وفي الرسالة العامّة “الاهتمام بالشأن الاجتماعي” (30/12/1987)، يؤكد البابا يوحنا بولس الثاني على العلاقة بين العدالة في النمو والسّلام العالمي بقوله:” النمو هو الاسم الآخر للسّلام” (10/1).
ومن الوجوه الإيجابيّة في العالم المعاصر (11-26):”الاهتمام بشأن السّلام، وهو بمثابة علامة من علامات احترام الحياة”، ويتسجّل أيضاً، التنبّه إلى أن السلام لا يتجزأ: فإما أن يكون سلام الجميع، أو لا يكون سلام أحد (26/7). ويقرّ بما يبذله الكثيرون ويسعون،”بجميع الوسائل الممكنة، إلى أن يتمكن عدد متزايد من الرجال والنساء من التمتع بحسنات السّلام”(26/87).
ويقول البابا بأن القيم الايجابيّة التي نوّه بها” تدل على أن هناك اهتماماً أخلاقياً جديداً في ما له علاقة بالمعضلات الإنسانيّة الكبرى في التنمية والسّلام” (26/10). وعلى هذا فإن التضامن الذي يطرحه يوحنا بولس الثاني “هو طريق السّلام”. ” السّلام ثمرة التضامن” (39/9-11).
في ما يُعرف اليوم بـ “النظام الدولي الجديد” الذي تبحث عنه الأسرة الدوليّة، والذي لا يزال قيد المجهول، يأمل بطاركة الشرق الكاثوليك أن تكون الكلمة الأخيرة” كلمة خير تعزز قواعد العدل والسّلام والنموّ البشريّ أجمعين” (مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، الحضور المسيحي في الشرق شهادة ورسالة، الفصح 6،1992).
في التاسع من تشرين الأوّل 1997، في مقابلة مع يوحنّا بولس الثاني، قال نصرالله بطرس صفير لقداسته: “إنّ مسيرة السلام لا تتقدّم والمؤسف أنّ لبنان لم ينعم بالسلم ما لم تتقدّم هذه المسيرة” (في النهار، 21/11/2005، ص 16/3).
وبعد أسبوع على عودته من روما، سافر صفير إلى مصر بالمشاركة في مؤتمر بطاركة وأساقفة الشرق الكاثوليك. وزار الأحبارُ الرَئيس المصريّ حسني مبارك. سأل البطريرك كاسباريان: “هل السلام قريب؟”. أجاب مبارك: “ما دام نتانياهو في الحكم لا سلام وهو رجل يكذب يقول ما لا يفعل”. وخلال إقامته في مصر ترأس بطريرك الموارنة قدّاساً في دير القديسة تريز في الإسكندريّة وأكّد أنّ “السلام ليس بالأمر السهل ولكنّه ليس بالمستحيل ولم يكن العنف يوماً سبيلاً إليه”.
في الرابع من كانون الأوّل 1997، وفي باريس، ألتقى صفير بالعماد ميشال عون، ودار الحديث عن الوضع في لبنان، وهو يرى أنّه يجب عدم ربط الأمن في لبنان بالسلام في المنطقة (في النهار، الإثنين 21/11/2005، ص 16/5).
“وإن السلام يُشاد كلّ يوم. وبناؤه صنيعة كلٍّ منّا لأنّه موقفٌ تصهره التربية والعلم والثقافة التي تُعطي لكلِّ امرئٍ القدرة على التصرّف بمقتضى ضميره” (محمّد السمّاك، في النهار، الأحد 13/11/2005، ص 11/1).
في مؤتمر الاتّحاد العالمي لقدامى المدارس الكاثوليكيّة، الخميس 24/11/2005، في سيّدة الجبل، قال صفير: “السلام هو أثمن ما نصبو إليه في عالمنا اليوم، ويكفي الاطلاع على الصحافة المكتوبة والمرئيّة للتاكّد من ذلك، فالسلام أثمن ما نستطيع أن نمتلكه، ولا يسعنا ذلك إلا إذا طبّقنا تعاليم السيّد المسيح: كلماتي هي روح الحياة، هو الوحيد الذي يمكنه أن يعطينا السلام الحقيقي، وقد قال: سلامي أعطيكم، أعطيكم سلامي لا كما يعطيه العالم، لا تخافوا لأنّي معكم إلى نهاية العالم” (في النهار، السبت 26/11/2005).
في اليوم الثاني لمؤتمر بطاركة الشرق الكاثوليك، الثلاثاء 29/11/2005، في عمّان، أشار البطريرك ميشال صبّاح إلى أنّه “لا يمكن أن يستقرّ سلام ما دام ثمّة أفراد أو شعبوب مظلومة”. وقال: “في الأرض المقدّسة والعراق بخاصّة، الدماء كثيرة والطرق تبدو مسدودة في وجه السلام وفي وجه كرامة الإنسان، وفي وجه الله، فكأنّ الإنسان أصبح في حال عجزٍ غير قادرٍ على استقبال هبة السلام التي يطلبها من الله” (في النهار، الأربعاء 30/11/2005).
في البيان الختامي لمؤتمرهم الخامس عشر، في عمّان، لاحظ مجلس البطاركة الكاثوليك في الشرق “أنّ شعوبنا تُعاني غياب السلام وتُحرم أحياناً أبسط مقوّمات الحياة الكريمة”. ولاحظ الأحبار أن شعوبنا قادرة على المساهمة في صنع السلام في بلادنا وفي العالم”. والأرض المقدّسة جعل الله الديانات ثلاث تتعايش فيها جنباً إلى جنب، “لتصبح بذلك حقاً مصدر سلامٍ عادل لشعوبها ولشعوب المنطقة والعالم”.
وإنّ السلام الذي ينشُده الأحبار، “وتنشدُهُ بلادنا لن يتحقّق في تكديس الأسلحة الفتّاكة وخوض المعارك الضارية وتهديم المدن والقرى وارتكاب المجازر. لا بل نجده في صون العدالة وكرامة المواطنين، وفي معاملة الفقير بالرفق وإشراك المعوز في ما جاد به الله علينا من خيوره وفي إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه من دون منّة أو تعالٍ أو استكبار”.
ويوصي الأحبار أبناءهم “بنشرهم التسامح والاحترام المتبادل والعدالة والسلام في المجتمع الواحد”. ويطلبون بإلحاد من جامعاتنا ومدارسنا وكلّ مؤسّساتنا التعليميّة والتربويّة العمل “على ترسيح أسس العدل والسلام”.
ويوصي الأحبار “بإنشاء اللجان للعدالة والسلام في جميع أبرشياتنا وبإنشاء لجنة مركزيّة تابعة لمجلس البطاركة لتنسيق العمل بينها”.
ودعا بيان رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة في الشرق الأوسط إلى “ضرورة الحفاظ على علاقات المحبّة والسلام بين المسيحيين والمسلمين في المنطقة العربية والعالم كلّه”.
أشار البابا بنديكتس السادس عشر، الإثنين 9/1/2006، إلى أنّ الإرهاب “لا يتردّد في ضرب الأشخاص الأبرياء، من دون تمييز، أو فرض الابتزاز اللا إنساني، مسبباً الذعر في مجتمعات بأسرها، من أجل إرغام الزعامات السياسيّة على دعم مخططات الإرهابيين”. ودعا إلى حلّ النزاعات السلميّة في أفريقيا والشرق الأوسط، وخصوصاً العراق، مهد الحضارات العريقة، الذي عانى “يومياً في السنوات الأخيرة الأعمال العنيفة للإرهاب”.
“فاللقاءات ضمن مجموعاتٍ صغيرة، والعلاقات والصداقات على الصعيد المحلّي تُسهم جميعها في كثيرٍ من الأحيان في إذكاء روح السلام والمصالحة وتعطيه دفعاً قوياً”. مواجهة الماضي المتأثّر بالضعف البشري والخطيئة، “تتطلّب فحصاً للضمير ووقفة صدقٍ من الأشخاص والجماعات. ولا ريب في أنّ هذه هي المسيرة التي يريد الله أن يرافقنا فيها حتّى نضحي أكثر فأكثر شعبه وحتّى يستقرّ سلام المسيح في قلوبنا وفي ما بيننا” (أسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس، 18- 25/1/2006، ص 12 و20).
بعد قدّاس الأحد 30/1/2006، قال صفير: عودة الخير وفيضه بين أيدي اللبنانيين، “لن يكون مستحيلاً إذا عرفوا كيف يجمعون صفوفهم فلا يتفرّقوا وأن يكونوا يداً واحدة في مقابل من لا يريد لهم السلام والطمأنينة والخير” (في النهار، الإثنين 31/1/2006، ص 4/4-5).
بعض المراجع:
– زمن الميلاد المجيد، جامعة الروح القدس، الكسليك، 1977، ص 457 – 483، 653 – 660
– نصرالله بطرس صفير، “ثقافة السلام”، عظة الأحد، 23/11/2003
– نصرالله بطرس صفير، “مع الحرب يضيع كل شيء” عظة الأحد، 7/9/2003
– نصرالله بطرس صفير، “التضامن والانماء المتوازن ونزع الأسلحة”، عظة الأحد، 31/8/2003
– V السياسة
المقدمة
الإنسان كائن اجتماعي. ولكل جماعة سلطة تسوسها. والسياسة خدمة، وليست تسلّطاً “ولا هي مَصلحة شخصيّة. “السياسة فن شريف جداً وشديد الصعوبة”(ك ع 75/6). أَلا فليسمع المسلّطون!
الخضوع للسلطة المدنيّة (روم13/1-7).
في سنة 1868، عقدت الجمعيّة العلمية السورية اجتماعاً سريا أنشد فيه الشاعر ابراهيم اليازجي – كان في الحادية والعشرين من عمره – قصيدته المشهورة:
“تنبهوا واستفيقوا ايها العربُ، فقد طمى الخَطْبُ حتى غاصت الرُكَبُ”
وكانت اليقظة السياسيّة والدعوة إلى التحرّر من الحكم العثماني نتيجة محتمة لليقظة الفكريّة.
مهمّة الدولة: صيانة حقوق الأفراد والجماعة (الشؤون الحديثة). فجميع المؤسّسات والمسؤولين في خدمة الإنسان والمجتمع. إنّ واقع ظاهرة تفاقم عدد اللاجئين السياسيّين، بعد الحرب العالميّة، استدعى تسميته مفوّض سامي لشؤون اللاجئين في إطار “عصبة الأمم”، وذلك في العام 1921. في الفصل الثالث من الرسالة العامّة “السنة الأربعون” Quadragesimo Anno (15 أيار 1931)، يعالج البابا بيوس الحادي عشر ما طرأ من تحوّلات على النظام الاقتصاديّ منذ لاون الثالث عشر فيقول في الرأسماليّة والنظام الاقتصاديّ الليبراليّ :”إنّ تجمّع السلطة والقوى الماليّة يؤدي بدوره إلى الصّراع من أجل الاستيلاء على السّلطة وذلك بالتنازع حول التأثير على السلطة السياسيّة بغية استغلال مواردها وقدرتها في الصراع الاقتصاديّ”.
ويطلب البابا من الدولة أن تتدخل لمراقبة أنظمة الرأسماليّة ومنع احتكار السلطة السياسيّة والثروة الاقتصاديّة بين أيدي قلّة من أصحاب الأموال.
الرسالة العامّة الأُولى “الحبريّة العُظمى” (Sumnir Pontificatus) (20/10/1939) جاءت ذات طابعٍ لاهوتيّ، ولَم تتطرَّق إلى الشؤون السياسيّة بشكل مباشر، بل من حيث علاقتها بالفكر اللاهوتيّ المسيحيّ.
وفي رسائله الإذاعيّة وخطاباته، تطرّق البابا بيوس الثاني عشر إلى مختلف الموضوعات السياسيّة. رسالة سنة 1941 اعتبرت الحريّة السياسيّة من النواحي الإيجابيّة للنظام الجديد في العلاقات بين الدول. “إنّ نظام الجماعات السياسيّة السليم يجب أن يقوم على ناموس الفضيلة كما على صخرة راسخة صلدة”. وعام 1951، تمَّ إنشاء مفوَّضيّة عُليا لشؤون اللاجئين في إطار منظّمة الأُمم المُتّحدة.
ويتكلّم البابا يوحنا الثالث والعشرون على التطوّرات “في الحقل السياسيّ”. يقول قداسته: “نلمس تحدّيات متعدِّدة: ففي بلدان عدّة، هنالك مشاركة المواطنين إلى أيّ أصل اجتماعيّ انتموا، في المسؤوليّات السياسيّة” (أم ومعلّمة، 49). ويؤكِّد البابا دور المبادرة الخاصّة فيقول: ” تعلّمنا الخبرة أنّه حيث تغيب المبادرة الخاصّة يبرز الاستبداد السياسيّ” (57). وعلى الصعيد العالميّ يجب العمل على إزالة المضاربة غير المشروعة بين البلدان، وتشجيع التعاون بين الاقتصاديّات الوطنيّة، والنهوض بالتطوّر الاقتصاديّ لدى الدول الأقل تجهيزاً (80). ويطلب البابا من الدُوَل أن تساعد الحِرَفيِّين “في حقول التربية والضرائب والتسليف والتأمينات والضمان الاجتماعيّ” (88). ويشير البابا إلى أن “تنامي التأمينات وأنظمة الضمان الاجتماعيّ يُتيح لعدد أَوفَر من الأشخاص بأن ينظروا إلى المستقبل بطُمَأنينة” (105). نلاحظ أنّ البابا يركِّز على كرامة الشخص البشريّ وعلى ما يتضمَّنه العمل من قِيَم إنسانيّة (107).
حول المقاييس المتعلقة بالتنمية، يعطي البابا يوحنا الثالث والعشرون بعض التوجيهات، ومنها: “النزاهة السياسيّة؛ يجب أن لا تؤدّي المساعدات الطارئة من قبل البلدان المتطوّرة تجاه البلدان النامية إلى تأثير على سياسة البلدان النامية. وإِلا يكون ذلك شكلاً جديداً من الاستعمار” (172).
في فلسفة القوميّة، انتهى بحث كمال يوسف الحاج إلى أنّ القوميّة هي وجود سياسيّ كما أنّ الوجود السياسيّ هو قوميّة. وقد قعّدَ جدليّة القوميّة والكيان السياسيّ على مبدأ فلسفي خلاصته أن “جوهر الحقيقة تحقيق في وجود. كذلك جوهر القوميّة أن تتحقّق في وجود الدولة. وعليه، فالقوميّة دعوة سياسيّة، أوّلاً وآخراً، قوامها شعور جماعة من الناس أنّهم ذوو شركة طبيعيّة إنسانيّة، فيما بينهم، وذوو حقّ لأجل التكتّل، في وحدة سياسيّة هي الدولة. عندما نجد كياناً سياسيًّا تكون إزاء قوميّة”. قال كمال الحاج أن “القلسفة مشروع سياسيّ”. منهجه الفلسفيّ قائم على تعادليّة الجوهر والوجود، المرتكزة أصلاً على سرّ التجسّد المسيحيّ، هذه التعادليّة، التي على غرارها أقام تعادليّات ، منها تعادليّة الفلسفة والسياسة.
في كتابه “الإنسان المعاصر عتيق” Modern Man is obselete كتب الناشر الأميركي المحب للسلام، نورمان كزنز Norman Cousinsرئيس الوفد الأميركي إلى مؤتمر “أندوفر(Andover)، في ولاية ميريلاند الأميركيّة:”البابا يوحنا الثالث والعشرون هو السلطة الوحيدة ما فوق الوطنيّة التي تعترف بها جميع الأطراف، وتدخّله لحلّ الأزمة(الكوبيّة) لا يمكن أن يؤخذ على محمل التمييز السياسي”. وقال كزنز للأب الدومينيكاني البلجيكي فيلكس مورليون Félix Morlion الذي كان حاضراً في أندوفر: “التحدي (بين كندي وخروتشوف) ليس سياسيّاً وحسب، بل هو شامل”. فكتب مورليون رسالة إلى خروتشوف:”نحن نعتقد فعلاً أنك صديق للسلام وأنّك لن تقبل بهلاك الملايين من أجل النفوذ السياسيّ”.
وكان البابا قد كلّف بياترو بافان Pietro Pavan وضع مسودة لرسالة عامة “تدل، في ضوء العقل المنوَّر بالإيمان، إلى السّلام الأصيل وإلى الدرب الواضحة والأكيدة المؤديّة إليه”. وكانت هناك أيضاً توجيهات أخرى، منها أن تتضمن الرسالة إرشادات رعائيّة تنذر المؤمنين الكاثوليك في عملهم من أجل السلام ضمن مجتمع بات تعددياً ومتعلمناً، وتحضهم على الانخراط في السياسة متسلحين بكفاءة حقيقيّة ومسؤوليّة تقريريّة كاملة.
إنجاز إخلاء سبيل رئيس أساقفة أوكرانيا جوزف سليبي الذي كان محتجزاً في الاتحاد السوفياتي منذ العام 1947، ومعانقة البابا له في الفاتيكان في 10 شباط 1963، أسّس لما سيعرف بالـ Ostpolitik، أي سياسة الانفتاح على الشرق، في الدبلوماسية الفاتيكانيّة. وسيكون ربّان هذه الديبلوماسيّة الجديدة المونسنيور الشاب أغوسطينو كاسارولي(Agostino Casaroli)، الكاردينال العتيد المسؤول عن السياسة الخارجيّة الفاتيكانيّة على مدى عقود.
وفي الرسالة “السلام على الأرض” (11/4/1963)، يتحدّث البابا يوحنا الثالث والعشرون عن النظام في الأَنام، فيقول “إن رأياً خاطئاً يفضي غالباً إلى ضلال ويقوم على اعتقاد كثيرين بأنّ العلاقات بين الأفراد وجماعاتهم السياسيّة يمكن أن تحكمها القوانين إياها التي تخضع لها القوى والعناصر اللاّعاقلة في الكون”(6). إنّ القوانين التي خطّها الباري في الطبيعة الانسانيّة هي التي تعلّم بوضوح “كيف يتوجّب إدارة العلاقات القائمة بين المواطنين والسلطات العامّة في نطاق الجماعة السياسيّة الواحدة، فضلاً عن تلك القائمة بين الجماعات السياسيّة نفسها، وأخيراً تلك القائمة بين كلّ من الأفراد والجماعات السياسيّة من جهة ومجتمع الأقوام جميعها من جهة أخرى”(7).
والجزء الأوّل من القسم الثاني يعالج موضوع السلطة السياسيّة (46-52). ويثبّت البابا بسلطته ما علّمه أسلافه “على الدوام في شأن الجماعات السياسيّة، وهو أنّ للدول في ما بينها حقوقاً وواجبات متبادَلة”(80). وثمّة ظاهرة مُجحفة برزت على مستوى العلاقات بين الدُول، لا سيّما بعد الحرب العالميّة الثانيّة: إنّها ظاهرة تفاقم عدد اللاجئين السياسيّين (103) ولا يتردّد البابا يوحنّا ههنا، في اعتماد لهجة الاستنكار الواضح من أجل إدانة السلطات الوطنيّة التي تضيّق “التخوم المشروعة للحريّة” على المواطنين وتقوّض سلامة حقوقهم الوطنيّة والسياسيّة (104). ويذهب البابا يوحنّا في الفقرة 106، إلى ما ذهبت إليه المادة الرابعة عشرة من إعلان 1948، القائلة بحقّ اللجوء السياسيّ، فيثبت الحقّ الطبيعيّ للإنسان في نشدان اللجوء لدى بلدان أخرى هرباً من الاضطهاد.
ويتحدّث البابا يوحنا الثالث والعشرون عن العلاقات بين الكاثوليك وغير الكاثوليك في الميادين السياسيّة (158).
ويقول المجمع الفاتيكاني الثاني:(ك ع 7/12/1965)
في الوضع البشريّ في عالم اليوم، يزداد الاقتناع بأن في إمكان الجنس البشريّ ومن الواجب عليه أن ينشر نظاماً سياسيّاً “يخدم الانسان خدمة تتحسّن مع الأيام، وتساعد الأفراد على إثبات كرامتهم الإنسانيّة وإنمائها” (ك ع 9). واحترام الأشخاص ومحبّتهم يجب أن يمتدّا حتى “إلى الذين يخالفوننا تفكيراً وعملاً في أمور السياسة” (28/1).
والكنيسة، في جوهر رسالتها وطبيعتها غبر مرتبطة “بأيّ نظام من أنظمة السياسة”(43/3).
والفصل الرابع من الدستور الراعوي عنوانه :” حياة الجماعة السياسيّة”. يلاحظ المجمع أنّ هناك تطّوراً في المجال السياسيّ يتجلى في الرغبة في المزيد من الحريّة والمشاركة والتضامن والتعاون في الحياة العامّة” (73). فلا بدّ من تفهّم “طبيعة الجماعة السياسيّة وغايتها ودور السّلطة فيها. وتبدو السلطة العامّة ضروريّة لتوجّه حقوق الجميع نحو الخير العامّ، محافِظة على الحريّات ومضطلِعة بمسؤوليّتها ضمن حدود القانون (74). ولا تحيا الجماعة السياسيّة إلاّ بمقدار ما يسهم” الجميع في الحياة العامّة”، بـ “تقديم الخدمات الماديّة والانسانيّة للدولة” (75/2). وللمسيحيّين في هذا المجال “دور خاص”. عليهم أن يعطوا المثل بتحمّل “المسؤوليّات والاندفاع في سبيل الخير العامّ” (75/5)، واضعين المصلحة العامّة قبل مصالحهم الخاصّة. ويشدّد المجمع على ضرورة “التربية الوطنيّة والسياسيّة… سواء للشعوب كافّة أو للشبّان على الأخصّ” للقيام بأعباء السياسة. فالسياسة شأن نبيل، لا بل “فنّ شريف وشديد الصعوبة” (75/6). لذا يجب إعادة الاعتبار للعمل السياسيّ، لأنّ السياسة هي خدمة من أجل الخير العامّ.
ويلفت المجمعُ الانتباهَ إلى ضرورة التمييز بين الجماعة السياسيّة والكنيسة. ويبيّن أنّه “من المهمّ جدّاً، ولا سيّما في المجتمعات التعدّدية، أن يُنظر نظرة قويمة إلى العلاقة بين الجماعة السياسيّة والكنيسة” (76/2). وعدم ارتباط الكنيسة بأيّ نظام سياسيّ، لا يعني أنّه لا يحقّ لها أن تنتقد النظم السياسيّة حين “تتهاوى السلطة السياسيّة إلى خُطَط الكيانيّة أو خطط الديكتاتوريّة التي تنتهك حقوق الأشخاص أو المنظّمات الاجتماعيّة”. وللكنيسة والجماعة السياسيّة حقلان مستقلاّن، ولكنّهما في خدمة الانسان والمجتمع (76/3).
وفي الرسالة العامة ” ترقي الشعوب“Populorum Progressio (26 آذار 1967) يرى البابا بولس السادس أنّ من أهمّ ما يطمح إليه الناس :الاستقلال السياسيّ (7-8).
في 14 أيار 1971، بمناسبة الذكرى الثمانين لرسالة البابا لاون الثالث عشر “الشؤون الحديثة”، وجّه البابا بولس السادس رسالة إلى الكردينال موريس روا ، رئيس “المجلس البابويّ للعدالة والسلام” ورئيس “مجلس العلمانيين” حول ” مسؤوليّة المسيحيّين السياسيّة” في إرساء نظام إجتماعيّ يجد فيه العالم حلاً لمشكلاته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة. ومن أولويات العمل:” الارتقاء إلى المستويات السياسيّة يعبّر عن مطلب من مطالب إنسان اليوم، هو مشاركة اكثر في تحمّل المسؤوليات واتخاذ القرارات” (47).
إنّ بولس السادس وصف العمل السياسيّ بـ “الطريق الصعب لعيش الالتزام المسيحيّ في خدمة الآخرين”. “إنّ السياسة وإن ارتبطت أحياناً بالفساد والعجز، هي رهان كبير، هدفها الوصول إلى مجتمع يعترف فيه كلّ شخص بالآخر على أنّه أخوه ويعاملُه على هذا الأساس” (جمعيّة الأساقفة الفرنسييّن من أجل ممارسة مسيحيّة للسياسة 1932).
وفي الرسالة العامة “فادي الانسان” Redemptor Hominis (4آذار1979)، يتّهم قداسة البابا يوحنا بولس الثاني “البنى الماليّة والنقديّة والانتاجيّة والتجاريّة التي تعتمد على مختلف الضغوط السياسيّة لتدير الاقتصاد العالميّ”(16/5). ويبيّن البابا أنّ “مفهوم الدولة الأساسيّ، بوصفها جماعة سياسيّة يقوم على أن يكون المجتمع ومَن يتألف منه وهو الشعب سيّد مصيره وصانعاً له”(17/6).
في الرسالة العامّة “السنة المئة” Centesimus Annus (1أيار1991)، يقول البابا يوحنا بولس الثاني إنّ أحداث عام 1989 كانت “إنذاراً لجميع الذين يريدون، بحجّة تطبيق الواقعيّة السياسيّة، أن يجرّدوا السياسة من الحقّ والأخلاق” (25). ويعلن أنّ الإقرار بحقوق الضمير البشريّ هو الأساس لكلّ نظام سياسيّ يتمتّع بالحريّة الحقّة (29). ويؤيّد البابا النظام الديموقراطيّ، ولكن ضمن شروط محدَّدة، أي في دولة شرعيّة وعلى أساس الخضوع للقيم التي تعلو التوازنات السياسيّة.
وفي الرسالة الراعويّة “الحضور المسيحي في الشرق شهادة ورسالة” (عيد الفصح 1992)، يقول بطاركة الشرق الكاثوليك: إنّ الإنسان في منطقتنا يتألّم “في تطلعاته الانسانيّة والسياسيّة”(53).
إنّ “عيش الالتزام المسيحيّ في خدمة الآخرين يفترض كما كان يقول الكاردينال روجيه إتشيغاراي: “أن ننوجد أوّلاً لنتعايش ثانياً ونخدم الآخرين” (Il faut exister pour coexister). وإنّنا إذ نتكلّم في السياسة من موقع مارونيّ (كنسيّ أو علمانيّ) لا بدّ من الأخذ في الاعتبار دائماً أنّنا أمام مفصلتين كبيرتين تتقدّمان على كلّ ما عداهما وتحدّدان خصوصيّتنا الثقافيّة ودورنا الثقافيّ، وهما : الديموقراطيّة والحداثة إزاء نفسنا وإزاء الآخرين! ومن دون ذلك نكون كمن يحرث في الفراغ!”.
- “لأن جماعاتنا في هذا الشرق يفهمون الفدراليّة على أنّها تقسيم، لذلك نسمّيها لهم اللامركزيّة الانمائيّة أو اللامركزيّة السياسيّة” (بولس نعمان، في النجوى/المسيرة، 1034، 22/8/2005، ص8/3).
“نحن لا نطلب من الحكم أن يكون فردوسيًّا ولكن أن يكون جادًّا لنصير على نقائصه وندعمه في الخير الذي يقدم به حتّى لا يجوع الفقراء ولا يموت كلّ المرضى ولا يبقى الولد بلا مدرسة” (جورج خضر، “الصبر”، في النهار، السبت 15/11/2005، ص 12).
في ندوة في الكسليك حول الجزء الثاني “السادس والسبعون” من سيرة البطريرك صفير، للصحافيّ أنطوان سعد، قال الوزير محمد الصفديّ: “لقد كانت بكركي ولا تزال أشبه بكرسيّ اعتراف للسياسيّين الذين يريحون ضمائرهم بالتحدّث إليها والاستئناس برأيها أو الاستماع إلى نصائحها، ويقيني أنّ في الكتاب حقائق لن يرتاح لكشفها عدد كبير من السياسيّين من جميع الطوائف” (في النهار، 1/12/2005، ص 26/4).
ويرى مطران أنطلياس يوسف بشارة أنّا نحن مجتمع متقدّم ونفخر بالاختلاف في الآراء السياسيّة، واللبنانيّون جميعاً أمام تحدّي العيش معاً في وطن للإنسان يعيشون فيه مسلمين ومسيحيّين بكرامة (في النهار، 2/12/2005).
العمل السياسيّ خدمة للإنسان والإنسانيّة
هناك جزء من العمل السياسيّ والذي يمتلك بشكلٍ خاصّ القدرة على استعراض نفسه في الإعلام. وقد انفصل عن متطلّبات الأخلاق. حتّى أنّ العمل السياسيّ “اللاأخلاقي” اقترن بمجموعة من الصفات، فالشطارة والتكتيك والدبلوماسيّة. ويُمسي العمل السياسيّ فنّ إبراز كلّ ما يظهر أنّنا على حقّ وإخفاء كلّ ما يظهر الحقيقة. لقد انفصلت السياسة إلى حدٍّ كبير على الأخلاق. لكن أليس الانفصال هذا وراء جزء كبير من المآسي التي يتخبّوا فيها بمجتمعنا المعاصر؟ أليس الانفصال هذا وراء اليأس أو الاشمئزاز الذي يشعر به معظم مواطني العالم، لدرجة اعتبار العمل السياسيّ عملاً موبوءاً لا يمكن أن يؤدّي إلى أي نتيجة؟ العمل اللاعنفي يسعى إلى إعادة العمل السياسيّ إلى جوهره، وبالتالي إلى تعزيز الأمل بفاعليّته. من طرق المقاومة اللاعنفيّة، عدم التعاون السياسيّ:
أ. رفض الاعتراف بالسلعة: سحق الولاء وعدم الاعتراف بالشرعيّة.
ب. عدم تعاون المواطنين مع الحكومة: مقاطعة المؤسّسات الرسميّة.
ج. عدم تعاون الموظّفين الرسميّين: شلّ الاتّصالات.
عدم تعاون الحكوميّ الدوليّ: تغيير في التمثيل الديبلوماسيّ.
د. (وليد صلَيبي، نعم للمقاومة لا للعنف، 2005).
في التقرير عن العدالة والسلام في لبنان، الذي أعدّه الدكتور يوسف كمال الحاج، لمؤتمر بطاركة الشرق الكاثوليك، في عمان، في 30/11/2005 جاء ما يلي: يأمل المسيحيّون في لنبان من مجلس البطاركة الموقّر أن يضغط بشدّة وثبات في ملفّ مرسوم التجنيس الاعتباطيّ لعام 1994، أن يضع مذكّرة رسميّة تطالب بتجنيس المنتشرين المسيحيّين من ذوي الأصول اللبنانيّة الثابتة وتمنح اللبنانيين المهاجرين، وهم مسيحيّون في غالبيّتهم حقّ الانتخاب على شتّى المستويات في النظام السياسيّ اللبنانيّ”. إنّ المسيحيّين القلقين وشريحة كبيرة من المسلمين الحائرين “اعتادوا التعامل مع عقل البطريرك (صفير) لا مع أفكار السياسيّين” (أنطوان جعجع، “الوحدة الوطنيّة لا تلغي وحدة المسيحيين”، في النجوى/المسيرة، 1049، 5/12/2005، ص 15/201).
في البيان الختاميّ لمؤتمرهم الخامس عشر في عمان – الأردن، أشار مجلس البطاركة الكاثوليك إلى أنّ شعوبنا انتظرت الحلول من الخدمات، من الحكومات، ثمّ من أحزاب وقوى سياسيّة متعدِّدة، وعندما فشلت هذه القوى في تقديم الحلول لجأ الكثيرون إلى القيادات الدينيّة.
ما يشغل بال بكركي “هو إعادة الأمور إلى نصابها، أي إلى مشاركة حقيقيّة بين الطوائف المكوِّنة للبنان، فيما يبدو أنّ الحسابات الشخصيّة والأحقاد القديمة تتحكّم بتصرّفات القيادات السياسيّة المسيحيّة ومواقفها” (أنطوان سعد، في النجوى/المسيرة، 1052، 26/12/2005، ص 5/3).
“هناك أسس موضوعية مشتركة لا تتبدّل بتبدّل الأحوال السياسيّة” (جورج صقر، “قلبنا على لبنان”، في النهار، السبت 21/1/2006، ص 12).
في رسالته البابويّة الأولى (25/12/2005) “الله محبّة”، قال البابا بنيدكتوس الـ 16 إنّ على الكنيسة واجب التأثير على الزعماء السياسيّين لتخفيف المعاناة وتشجيع العدالة من خلال عملها الخيريّ، مؤكِّداً أنّه ليست للكنيسة أيّ رغبة في أن تحكم دولاً أو تضع سياسات عامّة، إلاّ أنّها لا يمكن أن تبقى صامتة عندما تكون ثمّة حاجة إلى أعمالها الخيريّة.
وجاء في المجمع البطريركيّ المارونيّ:
“إلى جانب النمّو الأصوليّ، وهو ظاهرة معاصرة نسبياًّ، هناك مآزق عربيّة قديمة العهد على الصعيد الحضاري. أوّلها وأهمّها هو غياب الحريّات السياسيّة للمسيحيّين في أغلبيّة المجتمعات العربيّة” (المجمع، ص 92). أضف إلى ذلك القضايا السياسيّة المصيريّة المزمنة، كالقضيّة الفلسطينيّة، والمأساة العراقيّة والمسألة اللبنانيّة” (صص 93).
من لبنان كان الانتشار المارونيّ إلى البلدان العربيّة المحيطة. واتّخذ ذاك الانتشار القديم صورة حضاريّة مميّزة في مصر “هناك اندمج أبناء الكنيسة المارونيّة في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة أحسن اندماج” (ص 116).
“ساهمت الحرب في إضعاف نظام القيم في لبنان، وشهدت السنوات الأخيرة ممارسات سياسيّة بعيدة عن القواعد الأخلاقيّة” ( المجمع البطريركيّ المارونيّ، الملفّ الثالث، النصّ التاسع عشر “الكنيسة المارونيّة والسياسة” ص 126، عدد 54، وص 127، عدد 57).
“في هذه الظروف الصعبة، إذا انكفأ الموارنة عن تأدية دورهم كمواطنين، واستسلموا للانتقاد والاتّهام والتشكيك، وانتظروا حتّى تُسوّى الأمور وتكتمل الشروط والظروف ليشاركوا في الشأن العام، يكونون كمَن يعاقب نفسه ويترك السّاحة لأشخاصٍ أقلّ كفاءةً وأخلاقاً وفضائل يستولون على قضاياهم العامّة”.
المجمع اللبنانيّ (1736) قسّم البطريركيّة إلى أبرشيّات. مع المجمع أخذت صورة الأسقف ملامح ثابتة على الصعيد السياسيّ. فالبعض لعب دوراً سياسيًّا لدى الوالي والسلطان لحماية أبنائهم (المجمع ص 184). يهتمّ الموارنة برضى البطريرك “حتّى في مواقفهم السياسيّة المختلفة حيناً، والمتعارضة أحياناً” (ص 19).
ولعلّ بقاء منطقتنا ضمن دائرة النخلّف السياسيّ “يزيد أمور الكنيسة تعقيداً” (المجمع ص 207).
وتبقى التوافقيّة السياسيّة همّ الأساقفة الأساس “فيعملون على ترسيخها وترجمتها في أُطُر متعدِّدة تسمح للجماعات والأفراد بالحصول على حقوقهم كافية”. وتصدر عن الأساقفة “تيّارات فكريّة واجتماعيّة وسياسيّة تعزِّز العيش المشترك وتطوّر صيغته السياسيّة فتتلاءم والحاجات” (ص 211). “ومن هنا تنبع الحاجة إلى رسم سياسة رعويّة متكاملة”، “سياسة جديدة لنشر البشارة الإنجيليّة” (ص 213).
إنَّ الكاهن هو “المدبِّر والراعي” الذي أقامه السيّد المسيح “ليسوس شعبه ويرعى خرافه الناطقة” (كتاب الشرطونيّة في درجة القسوسيّة، في صلوات وضع اليد؛ وكتاب القدّاس، في صلاة العطر من أحد تجديد البيعة، ص 226).
أصبحت كنيستنا اليوم، في بداية الألف الثالث، تعيش في عالم “تضاعفت فيه التحديّات الدينيّة والفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة” (ص 262).
دور العلمانيّين “في الحياة السياسيّة” (ص 331-332)
“يجب إعادة الاعتبار للعمل السياسيّ، لأنّ السياسة هي خدمة من أجل الخير العام” ( ص 722).
في حديث مع حبيب شلوق، في 14/4/2006، في الذكرى السنويّة العشرين لتبوّئه سدّة البطريركيّة المارونيّة (14/4/1986)، قال البطريرك صفير” “السياسة بالمعنى الضعيف ليست من شأن رجال الدّين، إنّما في إمكان هؤلاء أن يعطوا مبادئ يمكن على أساسها أن يسير السياسيّون وأن تجري السياسة، مثلاً الاستقامة والتجرّد وخدمة الناس وما سوى ذلك من ميادين ترتفع في السياسة ولا تنحدر بها. أمّا سياسة تعيين فلان أو غيره في هذا المركز جنياً لفائدة معروفة، فهذا ليس من شأن رجال الدّين ويجب ألاّ يكون من شأن رجال السياسة كذلك. نوعيّة السياسة تبدّلت أيضاً، فبدلاً من أن ترتفع فتتحسّن، إذا بها تنحدر… ولا يمكننا أن ننكر أنّ لسوريا نفوذاً في لبنان على بعض السياسيّين، وهم ربّما ينتمون إليها، لا يمكننا أن نقول أكثر من انتمائهم إلى لبنان وإنّما يتقيّدون بها أكثر ممّا يتقيّدون بسواها.
وفي ندوة “البطريركيّة المارونيّة والبطريرك صفير: الدور التاريخيّ والحالي والمُنتَظَر”، التي عُقدَت في باحة الصرح البطريركيّ في 19 نيسان 2006، قال طارق متري، وزير الثقافة اللبنانيّ: “يعلّمنا البطريرك صفير أنّه يترتّب على النخب السياسيّة التي يحتاجها بلدنا، حتّى ينهض معناه ويتجدّد، أن تقود بدل أن تسود. أمّا قيادته هو فهي صنو الرعاية. ألا نفعنا الله بها”.
رأى متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأوثوذوكس المطران الياس عوده أن ما يخيف: هو انّ الكلام السياسيّ في بلدنا ليس مبنيًّا في أكثر الأوقات على الحقيقة وعلى محبّة الوطن الصادقة”. وقال: “معظم السياسيّين يتراشقون بالكلام الفارغ أذيّة بالوطن والمواطنين، وشعبنا يتألّم” (عظة صباح أحد الفصح، 23/4/2006).
مع السياسيّين يجب أن نكون دائماً متحفّظين، إنّما لا شكّ أنّ السياسيّين الفرنسيّين يهتمّون بلبنان. السياسيّون الفرنسيّون لا ينظرون إلى لبنان من خلال الموارنة فقط، ولكن هذا لا يمنع أن تكون لهم علاقات طيّبة جدًّا مع البطريركيّة المارونيّة. في الواقع دور الموارنة كموارنة في السياسة تغيّر، وهو افتقد قسماً كبيراً من أهميّته بسبب التطورات التي حدثت في لبنان خصوصاً انقسام الموارنة على بعضهم بعضاً وابتعادهم لفترة طويلة عن مراكز المسؤوليّة، ممّا أضاع جزءاً كبيراً من قدرتهم على التأثير” (سمير مظلوم، في المسيرة/النجوى، 1074، 29/5/2006، ص 12/3، 13/1-2).
راجع أيضاً
- · يوحنا بولس الثاني، رجاء جديد للبنان، 10/7/1997، 112.
- · مجمع العقيدة والإيمان، مذكرة عقيديّة بشأن قضايا تتعلّق بالتزام الكاثوليك وتصرّفهم في الحياة السياسيّة،24/11/2002.
- · لويس الخوند، “السلطة غير التسلّط“، في النجوى/المسيرة، 995، ألإثنين 22/11/2003، ص22-24.
- · المجمع البطريركي الماورني، مسودّة النصوص المجمعيّة الدورة الثانية، تشرين الأول 2004، الملف الثالث: الكنيسة المارونيّة في عالم اليوم، النص التاسع عشر:” الكنيسة المارونيّة والسياسة” ص105-144.
- · كميل مبارك، الإنتروبولوجيا والأخلاق الاجتماعيّة، 2001، البحث الخامس: الحريّة والالتزم السياسي والإجتماعي (ص 155+).
- · كيرلّس سليم بسترس، تعليم الكنيسة الاجتماعي، الفصل السابع عشر: “الكنيسة والسياسة” ص 303-308.
- · نصرالله صفير، “السلطة لا تفرض بالقوة”، عظة الأحد، 14/9/2004.
- · نصرالله صفير، “العلاقات بين الدول”، عظة الأحد، 24/8/2003.
VI – العدالة
المقدمة
ان عصرنا متعطش الى العدالة وإلى سلطة عادلة.
في العهد القديم
مخطط الله، منذ البد، ان يُخضع الانسانُ، الذي خلقه الله على صورته، الارضَ، والكون كلّه في القداسة والعدالة. “الصدقة” البيبليّة والشرعيّة “وهي أيضاً فضيلة تقوم بأن نردّ لكل واحد ما يخصّه. وهي أيضاً صفة تجعل من كل سلطة أو لقب أو فعل أو حدث أو شيء موافقاً لما يطلبه الحق أو العُرف أو جوهر الشيء. والقياسات والأوزان “عادلة” (لا 19/36؛ جز 45/10)، إن كانت موافقة للقواعد المعترف بها” (بولس الفغالي، المحيط الجامع في الكتاب المقدّس والشرق القديم، المكتبة البولسيّة، 2003، ص831/2). الاحسان هو فريضة عدالة تجاه الفقراء. نسمع آشعيا يضع ما ندعوه اليوم “العدالة الاجتماعيّة” في صلب الواجبات الدينيّة، بل يجعلها قياساً للدين والتقوى. فالتقوى الى الله باطلة من دون الرحمة والعدالة تجاه الناس (اش1/13-17؛ 58/6-7). ويطلب النبي العدل في الشرائع والحكم (اش10/1-2؛ 5/8-10). ويرى آشعيا ان السبي الى بابل كان عقاباً من قبل الله لشعبه الذي لم يحقق العدل والانصاف (اش5/7-15). ويمين الرب التي تسند نسل إبراهيم المنفي في بابل هي “عادلة” (أش 41/10)، “لأن تدخله وفداءه يتوافقان مع مواعيد الخلاص وإعلانات الأنبياء. في هذا المنظار، صار عملُ الله الخلاصيّ تجلّي برّه وصدقه” (المرجع نفسه، ص831-832). والعدالة هي سند العرش الملكي أش9/6؛ 16/5؛ مثل16/12؛ 20/28؛ 25/5؛ 29/14) كما هي سند عرش الله (مز89/15؛ 97/2؛ أش33/5). يختار الله الملك لأنه “يحب العدل” ( مز45/8). هو يدعى لكي “يملك في العدل” أش32/1)، “ويقيم الحق والانصاف” أو العدل (2صم8/15؛ 1مل10/9؛ إر22/3 و 15؛ 23/5؛ 33/15؛ حز45/9؛ أخ18/14؛ 2أخ9/8). حسب 1مل3/28، نَعِمَ الملك سليمان “بحكمة إلهيّة لكي يقيم العدل”. وهناك النداءات “للحكم بحسب العدل” (لا19/15؛ أش11/3-5؛ مثل31/9). والاشارات إلى “الأحكان العادلة” (تث16/18)، ” والقاضي العادل” (مز7/12). هذه العبارة تعني أن على الملك، بالنظر إلى وظيفته، أن يسهر لكي تطبَّق بدقة قواعدُ الحياة الاجتماعيّة والعدالة التوزيعيّة والجزائيّة، مع مراعاة حقوق الفقراء والصعفاء (مز72/12-13؛ 1تس11/4). وإذا كان الخلف الذي يقيمه الله لدواود يوصف بأنه “نبت صدّيق” (إر23/5)، فهذا يعني أنه يكون نسلاً شرعياً لداود.
ينسب النبيّ حزقيال إلى الله أنّه يرى بعدلٍ، ثمّ يبيّن أنّ “الرعاة يرعون أنفسهم، ولم يرعوا غنمي” (حز 34/9). بأيّ معنى يرعى الله العدل؟ المعنى أنّه لا يُحابي الوجوه وفي هذا الكلام كثيرٌ من الوصف العدل الإلهي.
والنبي عاموس يعرَّف أنه “نبي العدالة الاجتماعية” (عا 5/21-24؛ 4/1). وهنالك تلميحات إلى القضاة الذين يدوسون العدالة (عا5/7و10) (راجع جريدة بيبليا، 16/95).
ويوجز النبي ميخا إرادة الله بقوله: “ما يطلب الله منا هو ان نقيم العدل” (مي6/8). وتبدو الرحمة على نحو ما مناقضة للعدل الالهي واكثر قدرة وأعظم منه والمحبّة هي التي تربط بين العدل والرحمة.
من هذه الاقوال الوجيزة يتّضح ان العدل والرحمة منذ العهد القديم مرتبطان بالايمان والتقوى وأن الحياة الاجتماعيّة لا يمكن فصلها عن الحياة الدينية. ان نداء الانبياء يجب ان يدوي أيضًا في عالمنا المضطرب.
في العهد الجديد
في (متى23/23) يُذكّر يسوع الكتبة والفريسيين ورؤساء الكهنة باستمرار بأنّ مجرَّد ممارسة الشرائع الخارجيّة لا يكفي إن أهملت الامور الاساسيّة، أي العدل والرحمة والامانة. انه يتمّ معاني الشريعة الأصليّة والعميقة. وما هذه النظرة إلى الأمور إلا “الحكم العادل” وما تبقّى يُشكلّ “الحكم بحسب الظاهر”: “أحكموا الحكم العادل” (يو7/24). الحكم بالعدل يقود إلى الاعلان : “يسوع أماننا وسلامنا” (أف2/14).
القديس يعقوب يحذّر الاغنياء الذين لا يدفعون الأجور العادلة لعمّالهم (يع5/1-4).
فرسالتنا البيبلية يجب أن تجيب على متطلِّبات الكلمة من خلال تصرّف بنّاء يبني مجتمع عدالة وحريّة للجميع. هذا يعني تحضير تفاسير للكتاب المقدس تسلِّط الضوء على الوضع الاجتماعي السياسي وتتحدّى البنى الاجتماعيّة الظالمة وانتهاك حقوق الانسان وحالات الظلم والاستغلال ويتطلَّب أيضًا أن ننضم الى جميع الفرق والحركات التي تعمل من اجل العدل والسلام والتضامن مع المضطهدين.
في الرسالة “الشؤون الحديثة” يبني البابا لاون الثالث عشر الملكيّة الخاصَّة على العدل. فالملُك الخاص ما هو الا نتيجة أجرة العامل وتعب يديه (4). ويستند البابا ايضًا في مطاليته بالمحافظة على الملكيّة الخاصَّة الى واجبات الانسان العيليّة (10). “وهكذا فالاشتراكيون بإحلالهم عناية الدولة محلّ العناية الابويّة يذهبون ضدَّ العدالة الطبيعيّة ويفككون اللحمة في العائلات” (11). وتربط هذه الرسالة الأجر العادل “بتأمين الحاجات(17). إن ممّا يجعل أية أمة تزدهر، هو احترام العدالة، والاعتدال في فرض الضرائب (26). ومن ثمّ على العقود المبرمة بين رب العمل والعامل أن تحترم قانون العدالة الطبيعيّة القاضي بأن يكون الأجر كافيًا لتأمين عيش العامل القنوع والشريف (34). وقال البابا لاون الثالث عشر: على الدولة ان تسهر على تأمين العدالة في توزيع الخيرات بين جميع ابناء المجتمع الواحد.
وفي الرسالة “اربعون سنة” يرى البابا بيوس الحادي عشر ان تنظيم العلاقات بين رأس المال والعمل يجب ان يكون وفقاً لمقتضيات العدالة التّبادلية وفي إخضاع المنافسة الحرّة والتحكم الاقتصادي لسلطة الدولة وفقا لشرائع عامّة تصون العدالة الاجتماعيّة (11). يمكن التوفيق بين الاشتراكيّة والمسيحيّة في تحويل صراع الطبقات الى نقاش مشروع لإحلال العدالة. ويرى البابا صلاح المجتمع بالعدالة في التوزيع والاستهلاك.
وفي الرسالة العامة الاولى “الحبرية العظمى”( Summi Pontificatus) 20 تشرين الاول 1939)، يقول بيوس الثاني عشر: “لا يمكن التمسُّك بفكرة التقدّم غير المحدود (87)، ولكن السلطات تعدنا بنظام جديد مبني على العدالة والازدهار (79). فلا بدَّ من الدعوة الى تجديد “روحي ديني” ينبع من المسيح ويتأسَّس عليه، تُجسّده العدالة وتُكلّله المحبّة (83). تودّ الكنيسة ان يرى جميع الناس الربّ يسوع المسيح وكنيسته في نورهما الحقيقي، بحيث ان الذين بأيديهم السلطة “يسمحون لها بان تعمل بحريّة لتثقيف الجيل الطالع بحسب مبادئ العدالة والرحمة” (93).
في جو الصراع بين الامم من جهة ورجاء سلام عادل ودائم من جهة اخرى، اتخذ البابا بيوس الثاني عشر موضوع رسائله الاذاعية الى العالم المفهوم المسيحي للنظام الخاص في العلاقات بين الدول.
ففي رسالة سنة 1939 عرض نقاطاً من أجل سلام عالمي دائم من بينها تلبية الاحتياجات الحقيقيّة والطلبات العادلة التي تشعر بها الامم والشعوب والاقليات واحترام شريعة الله، المدوَّنة إمّا في الانجيل وإمّا في الشريعة الطبيعية التي توحي بالعدالة والمحبّة بين الامم.
ورسالة سنة 1943 اكّدت أن السّلام الحقيقي يجب تركيزه على العدالة والحق.
في خطاب للعمال الايطاليين في 13 كانون الثاني 1943، رأى البابا بيوس الثاني عشر املاً في حياة افضل لهم ولعيالهم، “ليس في الثورة، بل في تطوّر منسجم، يرتكز على ما تتضمنه الانظمة المسيحيّة من حق وعدالة”.
وفي رسالة الميلاد سنة 1944، أكّد البابا ان على الناخبين والمنتخبين ان يقبلوا الاختلافات التي تحول دون تحقيق المساواة والعدالة والمحبة.
وفي الرسالة العامة “أمّ ومعلِّمة” يؤكد البابا يوحنا الثالث والعشرون ان تحديد قيمة الاجر لا يمكن ان يُترك أَمرُه للمفارقة الحرّة ولا لمزاجية الاقوياء، بل يجب ان يتمّ طبقًا للعدل والانصاف (71).
يبيِّن البابا ان العدالة الاجتماعية تفرض “على التطوّر الاجتماعي ان يواكب دائما التطوّر الاقتصادي” (73). من ثم يشير قداسته الى “ان ازدهار شعب ما يجب ان يقاس بتوزيع الخيرات والثروات توزيعاً عادلاً” (74).
يؤكد البابا ان العدالة تقضي ايضاً “ليس فقط بتوزيع الموارد الناتجة عن العمل” توزيعاً اكثر انصافاً بل ايضا بتعديل بنى المؤسسة بغية إفساح المجال للعمّال للإسهام في تنظيم العمل وانماء “حسّ المسؤولية والمبادرة الشخصيّة” (82-83). ويعتبر البابا إتلاف الفائض من إنتاج البلدان الغنية، خطيئة ضد العدالة والانسانيّة. لا يمكن للثقة المتبادلة في التعاون الدولي ان تقوم وتتوطد بين الدول إلا إذا أقرّ الجميع بشريعتي الحق والعدالة ووضعوهما “موضع التنفيذ” (207).
“ولذلك فمهما تقدّم التطوّر التقني والاقتصادي، لن تقوم في العالم عدالة او سلام طالما لم يدرك الناس ان كرامتهم تنبع من كونهم مخلوقين من الله وانهم ابناء الله” (215).
وفي الرسالة العامة “السلام على الارض” Pacem In Terris (11 نيسان 1963)، يقول البابا يوحنا الثالث والعشرون بأن العلاقات بين الجماعات السياسيّة يجب ان تتمّ في الحقيقة والعدل والتضامن والمحبة (35-36). ويقضي العدل بأن تعمل السّلطات العامة على “تحسين اوضاع الاقليات الاتنية في حياتها ولا سيما في ما له علاقة باللغة والثقافة والعادات والثروات والنشاطات الاقتصاديّة” (96). ومن علامات الازمنة التي رصدتها الرسالة رفض اللجوء الى الحرب لإحقاق العدالة (127). يشير البابا الى الصعوبة التي يلاقيها البشر في تحقيق العدالة (155-156). في هاتين الفقرتين تعبيرٌ جليّ عن ديناميّة العدالة واتّساع آفاقها.
وجاء في الدستور الراعوي “فرح ورجاء” (7/12/1965): العدالة قبل المحبّة(8). ويجب ان يبنى النظام الاجتماعي على العدالة (26). ويجب العمل على إزالة التفاوت الاقتصادي والاجتماعي من اجل تحقيق “العدالة الاجتماعيّة” (29/3).ويدعو المسيحيين “حتى يعملوا مع جميع الناس، على دعم السلام بالحب والعدل في ما بينهم”(77/2). فالسلام عمل العدالة (77-78). يجب أن يتّحد المسيحيون “بجميع الذين يحبون العدل ويمارسونه (92). ويُعرب المجمع عن رغبته في “انشاء هيئة في الكنيسة الجامعة من شأنها ان تحضّ جماعة الكاثوليكيين على… نشر العدالة الاجتماعيّة بين الامم” (90/3).
في رسالة الى الكردينال موريس روا “الذكرى الثمانون” (14 ايار 1971)، يقرّ البابا بولس السادس ببعض التقدّم على صعيد العلاقات الانسانيّة تحقيقاً لعدالة اكثر” (15). من أولويات العمل ان للدولة وعليها ان تتدخل لضمان العدالة والخير العام (64).
ويوحنا بولس الثاني قد اهتمّ منذ انتخابه اهتماماً خاصاً باميركا اللاتينية وبالجهود التي تبذلها لحلّ مشكلاتها الاجتماعيّة والسياسيّة موضحاً السبل التي يجب انتاجها لتحقيق العدالة فيها.
في الرسالة العامة “فادي الانسان” Redemptor Hominis(4 اذار 1979)، يعالج البابا يوحنا بولس الثاني الاخطار التي تهدد انسان اليوم :”ان حالة الانسان اليوم تبتعد على ما يبدد عما … تتطلبه العدالة” (16/1).
لا شك ان حسن العدالة قد انتشر في العالم المعاصر. وهذا الحسّ يُظهر بشكل اشد ما يناقض العدالة في العلاقات بين الناس وبين الطبقات وبين الجماعات وبين الدول (يوحنا بولس الثاني، “الغني بالرحمة” Dives in Misericordia(30/11/1980، 12/1). لكن كثيراً ما يحدث ان “البرامج المبنيّة على فكرة العدالة والتي يجب ان تؤدي الى تحقيقها في حياة الاشخاص الاجتماعية والجماعات والمجتمعات البشرية تحوَّل في الواقع عن هدفها (12/3). هذا لا ينقص من فئة العدالة، بل يؤكد ضرورة تركيزها على ما هو أعمق منها، اي على قيمة المحبة وسائر القيم الروحيّة (12/4).
مخطّط الله، منذ البدء، أن يُخضع الإنسانُ، الذي خلقه الله على صورته، الأرضَ والكونَ كلّهُ في القداسة والعدالة (مزاولة العمل، 1981، 25).
في الرسالة العامة الاهتمام بالشأن الاجتماعيSollicitudo rei socialis (30/12/1987)، يقول يوحنا بولس الثاني “الواقع أن المسألة الاجتماعية اذا كانت قد اكتسبت حجمها العالمي، فذلك لأن مُقتضى العدالة لا يمكن ان يتحقق الا على هذا الصعيد” (10/2).
وفي الرسالة العامة “السنة المئة”Annus Centesimus(1 ايار 1991)، يوضح البابا يوحنا بولس الثاني ان سعي البلدان بعد انقاض الحرب العالمية الثانية لترميم مجتمع ديمقراطي مبني على العدالة الاجتماعية يجب ان يُرافقه التنبّه للمحافظة على الحرية والقيم الانسانية (19). ويوضح البابا في الفصل السادس ان العطاء ضروري من باب العدالة (58).
في الثاني والعشرين من نيسان 1994، في تجمّع مناصري القوّات اللبنانيّة في بكركي، إثر توقيف سمير جعجع قائد القوّات اللبنانية، قال صفير: “إذا كانت العدالة لبعض النّاس وليست للبعض الآخر فهي لا تكون عدالة” (في النهار، 25/4/1994؛ في المسيرة/النجوى، 1048، 22/11/2005، ص 8/3).
في الرابع من كانون الأوّل 1997، ومع عدد من الصحافيين، قال البطريرك صفير: “يجب أن تقوم العدالة ويستقرّ النظام الديموقراطي في لبنان لكي يطمئنّ جميع اللبنانيين أكانوا في الداخل أم في الخارج ويتعاونوا في سبيل إنهاضه” (في الصحف المحليّة، 5/12/1997؛ في النهار، الإثنين 21/11/2005، ص 16/5).
فالعدل في نظر قداسة البابا يوحنا بولس الثاني لا يقوم فقط على اعطاء كل ذي حق حقّه، بل على توفير فرص المساواة بين المواطنين والعناية بمن هم معرضون للاهمال او النسيان سبب وضعهم الاجتماعي او الثقافي او الصحي ويحرمون بالتالي من امكانات التقدم” (المسيرة/النجوى 19/11/2000، ص.17/1).
في البيان الختامي لمؤتمر البطاركة الكاثوليك في الشرق، الجمعة 1/12/2005 لاحظ الأحبار “غياباً مقلقاً للعدالة الإجتماعيّة.
يقول المطران يوسف بشارة: “ارساء العدل من الصفات التي يجب ان يتحلّى بها المسيحي الذي يريد ان يتعاطى السياسة كمسيحي. فهو اهتمام من اهتمامات رجل السياسة” (في المسيرة). وقال المطران يوسف بشارة للنّهار: “هناك مشروع لبناء الدولة وعلينا أن نبنيها على أساس القانون والحق والعدالة. وإذا كان لدينا قاضٍ مسيحي فاسد لا يوصلنا إلى حقِّنا وقاضٍ مسلم نزيه وعادل فأيهما أفضل؟”. القاسم المشترك بين المسيحيين، ودائماً بحسب بشارة، هو “أنّ في إمكانهم الاتفاق على العمل من أجل سيادة لبنان وحريّته واستقلاله وكلّ مقوّماته الأساسيّة. وانطلاقاً من هذه الأرضيّة نستطيع التعامل مع غير المسيحيين لمصلحة الوطن” (في النهار، 2/12/2005).
وأكّد رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة في الشرق الأوسط أن السلام الحقيقي والدائم والشامل في الشرق الأوسط لن يتحقّق إلا بالعدالة الكاملة (في النهار، 10/12/2005).
“المستوى الأعلى للعدل الإلهي هو المحبّة، أي إنّنا نكون قد تجاوزنا نظام المحاسبة ودخلنا الرأفة… إنّ العدل البشري إذا أقيم في كلّ مجلس إنّما يكشف لك انّ بهاء العدل الإلهي قد هبط على الأرض فكما أنّ الله محبّة يمكن أن يمارس المسؤول هذه المحبّة الإلهيّة بوسائل النّاس.
“في بلدنا العدل بين البشر عسير لكوننا منقسمين عشائر أو طوائف… وإذا عامل المواطنون بعضهم بعضاً بتهذيب ولطف يصعد هذا إلى صعيد الحكّام والقضاة لكونهم من طينة هذا المجتمع الذي يكون قد تآلف على العدل الذي فيه دائماً رأفةٌ ورحمة” (جورج خضر، “رعاية الله ورعاية الدولة”، في النهار، السبت 14/1/2006، ص 12/1).
إنّ نظام السجون في لبنان، وإلى حدٍّ كبير ما يُسمّى قانون “العقوبات” في لبنان، مفهوم يعكس عموماً “عدالة العقاب” Justice pénale لأنّه يعني إنزال العقاب بالفاعل عن طريق حجز حريّته في أسوء الظروف وأقسى الشروط المنافية لحقوق الإنسان والكرامة الإنسانيّة، حتّى إعدامه” (بول مرقس، في النهار، 26/1/2006، ص 18/1).
“إنّ الله يبقى الله، أي العدالة المطلقة والحبّ المطلق والخير المطلق فلا يستطيع أحد أن يحجّم الله، أو أن يجعله على صورة أفعاله أو على مقياسه. إنّ البحث يجب أن ينصبّ على الحكمة والحقيقة والعدالة هذه القيم التي تميّز الإنسان عن الحيوان وهذا البحث يرفع حياتنا فوق الملذّات الجسديّة ويعطينا أهدافاً كبيرة” (اسكندر الهاشم، “الموارنة إلى أين؟”، في النهار، 31/1/2006).
– VIIالعمل
في العهد القديم (“العمل” في معجم اللاهوت الكتابي، ص 563 – 566)
عهد الخالق إلى الإنسان إخضاع الأرض (تك1/22). إنّ التحرير من مصر، من دار العبوديّة، ومن العمل المفروض ظلماً، أمور ماثلة أمام أعين شعب الله، في الوصيتين السابعة والعاشرة: فلا مكان بين اشعب الله لمثل تلك الأوضاع من الحياة والعمل، ومثل ذاك الاستغلال للبشر، ومثل تلك المزاعم بصدد ما اكتسبه آخرون بعملهم.
في العهد الجديد
يسوع رجل العمل. هو نجّار الناصرة في دنيا العمل. وخبرته انعكست في تعليمه. قال الرب يسوع:” أبي يعمل وأنا أيضاً أعمل”. “طوبى لمن يعلّم ويعمل”. ويناشد بولس أهل تسالونيكي أن يعملوا بأيديهم (1تس4/13). وإنّ محبّة الفقراء هي أحد البواعث على واجب العمل، حتّى يكون للانسان ما يُشرك فيه المحتاج (أف4/28): تشديد على العمل اليدوي، في إطار حضارة يونانيّة قديمة تحتقره بينما التعليم الربّيني يعتبرُه وسيلة للعيش الكريم والغاية مزدوجة: الحريّة الشخصيّة (1قور4/12)، ومساعدة المحتاجين (رسل20/34-35).
يوحنا فم الذهب (345- 407)
يرى في صعوبة العمل نتيجة للخطيئة الأولى. ثمَّ إِنّ خيراتِ الأرض هي حصيلة العمل. فالله نفسه “يعمل”، بحسب قول الإنجيل (يو5/17). وللعمل قيمة أخلاقيّة وتربويّة. فهو مناسبة لإنشاء علاقات إنسانيّة تقرّب الناس بعضَهم من بعض في المجتمع، على أنهم أعضاء أسرة واحدة، وتُفسح في المجال للصداقة وممارسة المحبّة في جميع أشكالها.
التاريخ المعاصر
إنّ نظام المنافسة الحرّة حمل أرباب العمل على دفع أجور منخفضة للعمّال. ولم يستطع العمّال المطالبة بأجور مرتفعة، خوفاً من أن يعرّضوا أنفسهم للطرد من العمل. فالعاطلون عن العمل دوماً كثيرون، وهم ينتظرون عملاً شاغراً يقبلون به ولو بأجور زهيدة. من أولئك العمّال، تكوّنت طبقة البروليتاريا. النظريّة الجديدة للاقتصاد الحرّ تعتمد على ضرورة تدخّل الدولة. فعلى الدولة أن تسنّ القوانين الملائمة لتأمين سبل الحياة للعاطلين عن العمل.
وفي اقتصاد الدولة (أو رأسماليّة الدولة)، تدخَّلت الدولة في التشريع الاقتصادي لتنظيم شروط العمل في سبيل اشتراك العمّال في سير العمل عن طريق لجان المؤسّسة. وأشهر روّاد الاشتراكيّة المثاليّة Saint Simon (1760-1825) الذي يرى في ازدهار الصناعة المصدر الأكبر لزيادة ثروات الدول وثروات الأفراد، على أن يُفرض العمل على الجميع فلا يبقى أحد عاطلاً عن العمل.
ومن الأفكار الرئيسيّة في بيان الحزب الشيوعي الذي كتبه Karl Marx (1818-1883) سنة 1848، مع Engels : أن نضال العمّال يرتدي في بدايته طابع النضال القومي ليصير شيئاً فشيئاً نضالاً دولياً. وعلى العمّال أن ينظموا أنفسهم في حزب طبقيّ للاستيلاء على السلطة السياسيّة في كل بلد. وعلى نظرية صراع الطبقات في المجتمع تدعو الاشتراكيّة العلميّة العمال إلى الثورة على البورجوازيّة[16].
حوالي سنة1850 بدأت فرنسا بتحقيق بعض مطالب الكاثوليك، من أساقفة وعلمانيين في ما يختص مثلاً السَّهر على العقود والاتفاقيات المبرمة بين العمال وأرباب العمل.
أشهر روّاد النزعة التقدميّة في حركة “الكاثوليك الاجتماعيين” الأسقف الألمانيWilhelm von Ketteler (1811-1877) الذي دافع عن تحسين شروط العمل كزيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل وتأمين أيام الراحة، وخطر العمل على الأفراد الذين لا يزالون في سن الدراسة ومنع النساء من العمل في المصانع.
أما في انكلترا فكان رائد الحركة الاجتماعيّة الكردينالManning (1808-1891)، الذي طالب بحقوق العمّال في الاضراب وفي إنشاء الاتحادات والنقابات.
من أهم تعاليم الرسالة “الشؤون الحديثة” للاون الثالث عشر (15/5/1891): احترام الانسان. في العلاقات بين أرباب العمل والعمّال. وفي سياق حديثه عن المبادئ التي يجب اعتمادها لحلّ المسألة العماليّة: “إنّ مسألة بهذه الخطورة تقتضي من فعاليّات أخرى حصتهم من النشاط والجهود” (13). وفي الشرائع والقوانين الاقتصاديّة، يطلب البابا احترام كرامة العامل وصيانة مكانته البشريّة:” أما الأغنياء وأرباب العمل، فعليهم أن لا يتعاطوا، قطعاً، مع العامل كأنه عبد. وعلى الدولة أن تتدخل لمنع جميع التجاوزات سواء من قبل العمّال أم من قبل أرباب العمل (29/2). ويطلب البابا أن تتدخل الدولة: أن “تكبح جماح قادة المشاغبات، وتصون أخلاق العمال من مظاهر الفساد” (30).
“وعلاوة على ذلك تقضي المسيحيّة بأن تؤخذ بالاعتبار مصالح العامل الروحيّة وخير نفسه. وعلى أرباب العمل أن يؤمِّنوا للعامل الوقت الكافي لممارسة إيمانه. وتتوسع الرسالة في ضرورة تأمين خير العامل الروحي:”إن للعامل مصالح عديدة تستوجب حماية الدولة وفي مقدمتها ما يتعلّق بخيره الروحيّ. ومن ثم يطالب البابا بمنح العمال عطلاً وفترات استراحة مناسبة:”من هنا ضرورة الراحة ووقت العمل في أيام الآحاد والأعياد”(32/1).
لذلك يجب أن تسهرالسلطة العامّة على “أن تنتشل العمال التعساء من أيدي أولئك الجشعين” (33/1).”ففرضُ مقدار من العمل يُزهِق طاقات النفس، فضلاً عن إنهاك الجسد، وسحق قواه حتى التلاشي، هو مسلك لا تقبل به العدالة الانسانيّة… إن فترات الراحة يجب أن تتناسب مع طبيعة العمل وصحة العامل” (33/1-2).
كان المفهوم الليبرالي السائد يعتبر العمل مجرَّد سلعة يتمّ شراؤها بثمن يتناسب مع الانتاجيّة التي يحدّدها ربّ العمل وحده. ومن ثمّ على العقود المبرمة بين ربّ العمل والعامل أن تحترم “قانون العدالة الطبيعيّة، القاضي بأن يكون الأجر كافياً لتأمين عيش العامل، القنوع والشريف. ولذلك شهد البابا، بكل سرور، قيام جمعيات مهنيّة، في كل مكان، منها ما يضم العمال فقط، ومنها ما هو مختلط يجمع العمال وأرباب العمل على حدّ سواء، ومن المرغوب فيه أن تزداد عدداً وفعاليّة” (36/2-3).
في الرسالة العامّة “أربعون سنة” (15أيار1931)، يرى البابا بيوس الحادي عشر أن علاج الرأسماليّة والنظام الليبرالي يكمن أولاً في تنظيم العلاقات بين رأس المال والعمل” (110).
“وحول العمل، يذكّر بيوس الثاني عشر، في الرسالة الإذاعيّة (عيد العنصرة 1941)، بأن العمل هو لكل إنسان، أياً كان، واجب وحق، مستعيداً تعليم “الشؤون الحديثة”.
وفي خطاب في 27نيسان 1941، قال بيوس الثاني عشر على الدولة أن توفّر المساعدة لنقابات العمال.
وفي خطاب 13حزيران1943، يؤكّد البابا بيوس الثاني عشر حقوق العامل: فالأجر المناسب يجب أن يتيح للوالد تلبية حاجات أسرته، والحصول على مسكن لائق، وتربية كريمة، والادخار لأوقات الضيق الاقتصادي والشيخوخة.
في الرسالة العامّة “أم ومعلمة” (15أيار1961)، يوجز البابا يوحنا الثالث والعشرون أهم تعاليم رسالة البابا لاون الثالث عشر في “الشؤون الحديثة” ومنها “يجب عدم اعتبار العمل سلعة، لكونه يعبّر عن الشخص البشري”(18). للعمال “الحق الطبيعي في الاتحاد ضمن رابطات للعمال وحدهم، أم للعمال وأرباب العمل معاً، وفي تنظيمها بالطريقة التي يرَونها بالفضلى للجواب على حاجات مهنتهم، وفي العمل فيها بحريّة وبمبادرتهم الخاصة، خدمة لمصالحهم، دون أن يتعرّض لهم أحد” (22). وعلى العمال والمستخدِمين في علاقاتهم المتبادلة، أن يستلهموا مبادئ التضامن الانساني والأخوّة المسيحيّة.
ثم يوجز تعاليم البابا بيوس الحادي عشر في رسالته العامة “اربعون سنة” ومنها: بالنسبة إلى عقد العمل، يعلّم البابا بيوس الحادي عشر “أنه من المناسب حالياً تطعيم عقد العمل ببعض العناصر من عقد الشراكة، من أجل إتاحة الفرص أمام العمّال والمستخدمين ليشتركوا، بطريقة ما، في ملكيّة المؤسسة وإدارتها، وفي الأرباح التي تحققها”(32).
ويتكلّم البابا يوحنا الثالث والعشرون على التفاوت الكبير في الأجور بين جموع لا تحصى من العمال الذين ” يتقاضَون أجراً زهيداً، لدرجة تفرض عليهم أن يعيشوا، هم وعائلاتُهم، في ظروف حياتيّة لا تليق بالانسان أبداً، وحفنة من المحظوظين الذين يعيشون في البذخ والإسراف” (68).
ويؤكّد البابا أن على المؤسسات الكبرى والمتوسطة “أن تقرّ للعمال نوعاً من الاعتماد انطلاقاً من التمثيل الذاتي، خاصة إذا لم يكن أجرهم يتخطى الحدّ الأدنى للأجور”، ولذلك “من المستحسن جداً أن يصل العمال تدريجياً إلى المشاركة في ملكيّة مؤسستهم”، أو على الأقل أن ينالوا من ارباحها “ما يكفي من البحبوحة”(77).
يعود البابا باستمرار إلى الناحية الانسانيّة في العمل (85). وتأكيداً لأوليّة القيم الانسانيّة في العمل، يطلب البابا “السعي إلى تحويل المؤسسات إلى جماعة إنسانيّة حقّة، تطبع بروحها العلاقات والوظائف وواجبات كلّ من أعضائها” (91).
ينوّه البابا بمدى اتساع النمو الذي حققته رابطات العمال، وبضرورة “أن يتمكن العمال من الإدلاء برأيهم، وبمدّ تأثيرهم إلى أبعد من مؤسستهم، وإلى جانب مجموعة اجتماعيّة أخرى” (97).
ويمتدح عمل الرابطات المشتركة بين المهن والنقابات العماليّة التي تطبق مبادئ العقيدة المسيحيّة،”بكون عملهم هذا لا يتوقف عند نتائج مباشرة ومنظورة، بل ويطاول عالم العمل بمجمله، حيث ينشر مبادئ صحيحة للفكر والعمل ويوصل تأثير المسيحيّة الخيِّر (101).
ويثني على الجهود التي تقوم بها منظمة العمل الدوليّة (103).
ومن توجيهات البابا الراعويّة ، أنسنة الحضارة الحديثة:كل إنسان يتثقّف ويكتمل بواسطة عمله اليوميّ (256).
يشدّد المجمع الفاتيكاني الثاني على أوليّة العمل الانساني بالنسبة إلى سائر عناصر الحياة الاقتصاديّة، وعلى قيمته بالنسبة إلى اكتمال الانسان ويذكّر بضرورة صيانة حقوق العمال (ك ع 67/2). والنشاط هو “ثمرة عمل الناس المشترك” (67/3). ومن حقوق الانسان الأساسيّة حق العمال في إنشاء جمعيات تمثلهم تمثيلاً حقيقياً.
ويشير البابا بولس السادس في الرسالة العامّة “ترقي الشعوب” (1967)، إلى أن “رقعة الصراع الاجتماعي قد اتسعت على مقاييس العالم كله”، لا بين العمال فسحب، بل أيضاً بين المزارعين (9). وكذلك في سياق حديثه عن العمل، يؤكّد البابا ضرورة ضمان كرامة الانسان وحريته (28).
في رسالة إلى الكاردينال موريس روا “الذكرى الثمانون“، (14أيار1971)، يذكِّر البابا بولس السادس بحقوق العمال ويؤكّد أن “الشخصيّة الانسانيّة هي، في أي مؤسسة، المبدأ والموضوع والغاية” (14).
يؤكد البابا من جهة حق الهجرة، ويطلب من الدول التي تستقبل العمال المهاجرين، أن”تتجاوز موقفاً قومياً ضيقاً”، وتساعد هؤلاء العمال، لكونهم يسهمون بالمجهود الاقتصادي في البلد الذي فتح لهم أبوابه، “فتعمل على دمجهم بالأسرة الوطنيّة وترقيتهم المهنيّة وتسمح لهم بالحصول على مسكن لائق حيث تتمكن أسرتهم من الانضمام اليهم إذا دعت الظروف إلى ذلك” (17).
ومن جهة أخرى فإن تزايد السكان سينتج عنه في المستقبل تقليصٌ في فرص العمل. فالحلّ لا يكمن في تحديد النسل، بل “بسياسة توظيف ماليّ فعالة، وتنظيم الانتاج والتبادل التجاري والتربية المهنيّة” (18).
يبيّن البابا أن الكنيسة تدخل في مجالات العمل لتنشر، في سعي واقعيّ إلى الخدمة وإلى الفعاليّة، طاقات الإنجيل” (48).
في 14أيلول 1981، صدرت الرسالة العامّة”مزاولة العمل“، للبابا يوحنا بولس الثاني. من موضوعات هذه الرسالة الصراع بين الرأسمال والعمل (3).
يميّز البابا بين “العمل الموضوعي” اي “العمل من حيث موضوعُه”، و”العمل الذاتي”، أي ” العمل من حيث الشخص الانساني الذي يقوم به”. موضوع العمل هو ما يعمل عليه الانسان وبواسطته (مثلاً:الخشب،وآلات النجارة) (4-5). وعلى أثر المجمع الفاتيكاني الثاني، يؤكّد البابا ما توصّل إليه الانسان من تطوّر في وسائل العمل. فكل عمل يصدر عن “ذات إنسانيّة: وهذا العنصر هو الأهم، وهو الذي يعطي العمل سمته الأخلاقيّة”(6). إن إغفال هذا البعد الذاتي للعمل هو الذي “ولّد في القرن التاسع عشر المسألة العماليّة، التي تتحدّد أحياناً على أنها مسألة البروليتاريا”. ينتقد البابا يوحنا بولس الثاني مراراً الليبراليّة الراسماليّة والماركسيّة انطلاقاً من رؤيته للعمل(8و13). ما يُعطي العمل قيمتَه أولاً هو أنه يصدر عن الانسان. إذا كان العمل يصدر عن الانسان، فلا بدّ من أن يُسهم في تنمية الشخص الانساني (9).
ان ماركسيّة البلدان الشرقيّة قد حوّلت الإشكاليّة الاقتصاديّة إلى أيديولوجيا ترتكز على صراع بين العمال والرأسماليين ، أمسى”صراعاً منهجياً بين طبقتين”، ومن هنا النقد الجذري للنظام الماركسي الذي عاش البابا في أجوائه في بولونيا، والذي من سماته “احتكارُ الإدارة” و”مركزيّة بيروقراطيّة” تنزع من العامل كلّ مبادرة، فيصير “مجرّد أداة إنتاج”، “وجزءاً من آلة كبيرة تدار من فوق” (11).
يتوسّع البابا يوحنا بولس الثاني في حقول العمال ووجباتهم كما فعل من قبله البابا يوحنا الثالث والعشرون.
ومن جديد الرسالة، التمييز بين “ربّ العمل المباشر” و”ربّ العمل غير المباشر”، الأول هو “الشخص أو المؤسسة”، والثاني هو مجموعة المؤسسات (16- 17) والدولة في بنياتها التشريعيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة ومؤسساتها المختصّة.
يرى البابا في معضلة البطالة “آفة إجتماعيّة” (18). وتطرح الرسالة في وضوح وجرأة موضوعات الأجور والتعويضات الاجتماعيّة (19) الّتي تهدف إلى ضمانة حياة العامل وصحته وحياة أسرته وصحتها، ولا سيما في حال طارئ عمل يتعرّض له.
ويؤكّد البابا حقّ العاطل عن العمل في أن يُقدّم له من التعويضات ما يمكّنه من العيش، انطلاقاً من حقه في الحياة وفي مقوّمات هذه الحياة.
يُشير البابا إلى أهمية العمل الزراعي وإلى الاختلاف في الأوضاع الاجتماعيّة لدى العاملين بين بلد وآخر. من هنا ضرورة اتخاذ خطوات جريئة وجذرية لإعادة تقويم العمل الزراعي بوصفه عنصراً أساسياً في هيكليّة اقتصاديّة متوازنة وصحيحة.
يفرض على المجتمع أن يوفّر للانسان المصاب بإعاقة، في طاقاته الجسديّة أو الروحيّة، حيث يعيش، إمكانات المشاركة في العمل.
ومعضلة هجرة اليد العاملة ليست وليدة الأمس، غير أنها تتخذ اليوم ابعاداً من شأنها أن تزيد أوضاع الحياة العصريّة تعقيداً.
إن العمل سواء كان يدوياً أم عقلياً، يتناول الانسان في كليّته جسداً وروحاً، أي إنه يتناول الشخصيّة الانسانيّة بجميع طاقاتها ووجوهها وأبعادها.
والعمل الانساني اشتراك في عمل الخالق. ان عمل الانسان، وهو يقتضي الراحة في اليوم السابع، يجب أن يتناول، إلى جانب العمل الجسدي والفكري في الخارج، عمل الإنماء الروحي في الداخل. روحيّة العمل المسيحية تنطلق من كونه إسهاماً في عمل الله الخالق.
العمل الانساني موّجه نحو المسيح (31). وإن واجب العمل على نموّ الشعوب لا يمكن أن يكون فردياً (32).
وفي الرسالة العامّة “السنة المئة” (1أيار1991)، يدعو البابا يوحنا بولس الثاني إلى “إلقاء نظرة إلى الوراء على نصّ رسالة البابا لاون الثالث عشر لاكتشاف ثروة المبادئ الأساسيّة المطروحة لحلّ المسألة العماليّة” (3). فمع ازدهار الصناعة ظهرت صيغة جديدة، هي طَبَقة أصحاب الرساميل، يقابلها العمال الذين لا يملكون سوى عملهم مقابل أجرٍ محدّد. “وهكذا أمسى العمل سلعةً عرضةً للشراء والبيع في السوق الحرّة بثمن لا يحكمه سوى قانون العرض والطلب، وبصرف النظر عما تتطلّبه حياة الفرد وأسرته في حدّها الأدنى. هذا ولم يكن العامل يضمن بيع سلعته” (4). في ذاك الوضع الجديد، أكّد لاون الثالث عشر، في استجلاء الصراع بين رأس المال والعمل، ما يعود إلى العمال من حقوق أساسيّة. ورأى البابا يوحنا بولس الثاني في رسالة سلفه أنَّ “مفتاح قراءة النصّ الحبري هو كرامة العامل في ذاته، ومن ثمّ كرامة العمل من حيث هو النشاط الانساني المعني بتلبيته حاجات الحياة والمحافظة عليها خصوصاً” (6)، كما جاء في “الشؤون الحديثة”. يرى البابا يوحنا بولس الثاني أن قد نتج من أحداث عام 1989 انهيار الشيوعيّة في أوروبا الوسطى والشرقيّة الّتي أدى إليها انتهاك حقوق العمال، وتلاقي الكنيسة والحركة العماليّة التي كانت في كثير من البلدان قد وقعت تحت سيطرة الماركسيّة، ولكن المظالم ما تزال قائمة (26). ويتكلم البابا على مشكلات الأنظمة المتطورة، ضرورة ملحّة لعمل تربوي وثقافي واسع النطاق (36)؛ إتلاف البيئة البشريّة و البيئة الاجتماعيّة التي يتمّ فيها العمل (39)؛ تغرّب الانسان باعتبار العامل مجرد أداة في يد رأس المال؛ على صعيد العمل إعطاء القيمة “لمنتوجاته ومكاسبه، دون اكتراث لمعرفة ما إذا كانَ العاملُ يُصيب في عمله ما يُنعشه في إنسانيّته (41). تعترف الكنيسة بنوع عام بإيجابيّة المؤسسة الحرّة والسوق الحرّ، مع تأكيد ضرورة إشراك العمّال في حياة المؤسسة (43). ثمّ يؤيّد البابا النظام الديموقراطي، ولكن”في احترام الحريّة قاعدة للعمل” (46). من أهم حقوق الإنسان: العمل (47). إن ما فعلته الكنيسة في سبيل العمال قصدت من خلاله ممارسة “حَدْبِها ومسؤوليتها تجاه الانسان”، وتجاه كل إنسان، لأن كل إنسان أدرج في سرّ الفداء (53). ثم إن الكنيسة، في عقيدتها الاجتماعيّة تؤكّد أن تعليم الانجيل في الشؤون الاجتماعيّة “يجب ألا يعدّ نظرية، بل قبل كل شيء أساساً وحافزاً للعمل” (57).
مراجع
يوحنّا بولس الثاني، مزاولة العمل، 14 أيلول 1981.
نصرالله بطرس صفير، “العمل والبطالة”، عظة الأحد، 30/11/2003.
نصرالله بطرس صفير، “الإيمان والعمل”، عظة الأحد، 21/9/2003.
في عظة الأحد، 4/12/2005 في بكركي، اعرب البطريرك صفير عن أمله في أن ينظر المسؤولون في موضوع مطالب الاتحاد العمالي العام بين العدالة مع المحافظة على المال العام.
في عظة في قدّاس تكريمي للعمّال في بازيليك القديس بطرس، في 19/3/2006، رأى البابا بنديكتوس السادس عشر، أن العمل مهم للإنسان والمجتمع، ولكن على المؤمن ألاّ يسمح لنفسه بأن يكون مستعبداً، مؤكّداً ضرورة احترام كلّ عمل كرامة الإنسان.
وقال أن “العمل له أهميّة مباشرة في تطوير الإنسان والمجتمع. وكنتيجة يجب دائماً أن ينظّم وينفّذ باحترام كامل لكرامة الإنسانيّة ولخدمة المصلحة العامّة”. وأضاف: “في الوقت ذاته لا مفرّ من أن الغنسان يجب ألا يسمح لنفسه بأن يكون مستعبداً من العمل، الذي ليس له معبوداً، متوهماً أنّه يجد فيه الاحساس التام والنهائي بالحياة”.
– VIIIالوطن
المقدمة
الوطن، “ارض الآباء”. مظهر من المظاهر الاساسية. فقد شغل الوطن مكانة هامة في ايمان شعب العهد القديم ورجائه. الوطن من طبيعة الانسان. فهو اولا أرض. ثم جماعة. ثم شعب. ثم سلطة.ثم دولة ودستور ومؤسسات.
في العهد القديم
كان لا بدّ لابراهيم من ان يهجر ليقصد الى بلد آخر لا يعرف عنه شيئاً (تك 12/1-8). وبعده اقام الشعب في مصر في العبودية وحرّره الله واعطاه وطناً. ولكن كارثة وطنية حلّت في النهاية بذاك الوطن. وانتقل الشعب بعيداً عن وطنه. ولم يكن السبي الا ليشحذ تعلق اليهود بالوطن (مز137/1-6). وبقدر ما تطول التجربة يشغل الوطن الذليل او البعيد مكانة مركزية في صلواتهم (مز “كما يشتاق الايل…”، نح9/36-37)، وفي همومهم (نح2/3)، وفي مواقع رجائهم (طو13/9-17؛ با 4/30-5/9). ولكنهم في الوقت نفسه يكتشفون في تصريحات الانبياء صورة مُتجلية للوطن المستقبل. انه الارض المقدسة الجديدة او اورشليم الجديدة. وهكذا فالوطن يمثل في نظر اليهود حقيقة شبيهة لكل وطن من الاوطان الانسانية الاخرى، مع اعتباره عطية من الله لشعبه.
في العهد الجديد
يسوع الانسان اختبر الوطن. فوطنه كان الارض التي وهبها الله ميراثاً لشعبه. فقد أحبّ يسوع وطنه. ولكن في الناصرة، قرية آبائه، يُنبذ يسوع: فلا يزدَرى نبيّ الا في وطنه (متى13/54-57؛ يو4/44). فاورشليم العاصمة الوطنية يعلم يسوع أنه لا يذهب اليها الا ليموت فيها (لو13/33).فوطن اليهود الارضي يذهب حتما الى خرابه، لانه لم يحقق ما كان الله ينتظره منه.
الوطن الجديد
بقي المسيحيون الذين هم من اصل يهودي متعلقين بوطن إسرئيل. وعلى صعيد آخر طالب بولس بحق المواطنية الرومانية الذي يتمتع به بالولادة (رسل22/27-28). ولكن وطننا الحق في السماوات (فل3/20). ويمكن جميع البشر ان يشتركوا في اختبار الوطن الجديد. فالوثنيون يشتركون مع اليهود في شرف مواطنية القديسين (1ف2/19). وهكذا فالسماء هي لنا الوطن الحقيقي (عب13/14).
القديس امبروسيوس أسقف ميلانو (339-397)
يطالب بحياد الدولة فعليها العمل على تطبيق الحق العام على جميع المواطنين، دون تمييز بين مسيحيين ووثنيين.
القديس اوغسطينوس (354- 430)
يقول بان “المدينة السماوية في كلّ الزمن الذي تحيا فيه منفية على هذه الارض، تدعو اليها من جميع الامم مواطنين”.
في الرسالة الى ديوجنس (حوالي القرن الرابع)
جاء في السرّ المسيحي ما يلي: “لا وطن، ولا لغة، ولا لباس، يميز المسيحيين عن سائر الناس. يقيم كل منهم في وطنه انما كغريب مضاف. يتممون واجباتهم كمواطنين ويتحملون جميع الاعباء كغرباء. كل ارض غريبة وطن لهم وكل وطن ارض غريبة” (في زمن القيامة المجيدة، الكسليك، 1997، ص 410-411).
في الشوؤن الحديثة (15/1/1891)
يقول البابا لاون الثالث عشر إنه على الدولة ان تضمن “الحقوق” “لجميع المواطنين وتحول دون خرقها وتقتصّ ممن ينتهكها” (29/3).
وفي المنشور في محبة الوطن (8/12/1930)
يقول البطريرك الياس بطرس الحويك: الوطن للانسان كابيه وأمه. يريد الله منا ان نحب وطننا الارضي منتظرين الوصول الى الوطن السماوي. “لم نغمض جفننا على مصاب الوطن، بل توخينا في كل ما قدرنا الله على عمله ما عاد بأمنه ونجاحه واستقلاله وإعلاء محله ودفع اذى من يعاديه”. عدول بعض ابناء الوطن عن محبته والمهاجرة الى غيره دفع غبطته للكلام عن بواعث محبة الوطن وكيفية اظهارها.حب الوطن طبيعي، من تعرى منه اصبح مسخا يمقته الجميع. للوطن وللمناخ باعتبار النظام العقلي تأثير كبير على العقل بحيث ينطبع بسمة البلاد التي استيقظ فيها. اللغة ايضاً من اركان الوطنية، واللغة التي تلفظنا بها على صدور امهاتنا هي احب لغة الينا. يقدم لنا الوطن باعتبار النظام الادبي امثلة اجدادنا وهي خير مساعد لنا على الرقي والصلاح. يترتب علينا محبة الهيئة الحاكمة في الوطن لانها تحميه بجنديتها وتنظمه بشرائعها، وتنمي فيه الحياة الاقتصادية بسعيها ومساعدتها. الوطن رابطة بين الاحياء والاموات فانه يذكرنا بعلمائنا وبطاركتنا وابطالنا وكل من أحب هذا الوطن من قبلنا. الوطن عند المسيحي هو الارض التي قسمها الله له فهو يحبها لانه يحب عطية الله. اذا تنزل المسيحي عن الارض التي اعطاه اياها الله ميراثا فقد ترك الله. كل ما في الوطن عزيز لدى المسيحي الحقيقي، لانه تطهّر بمائه، واكل جسد المسيح وشرب دمه بواسطة حنطته وخمره، وتثبت بزيته، واقام هياكله ومذابحه من حجارته ودفن رفات اجداده في مدافنه. يُكرّم المسيحي لغة وطنه لانه بواسطتها عرف الله واعترف بالايمان، وبها رفع اناشيد المحبة نحو السماء وقرأ بها الكتب المقدسة. يكرّم المسيحي الحقيقي تاريخ وطنه لانه يظهر له عناية الله مدى الاجيال. من يرفض مساعدة وطنه لا يأثم ضد معرفة الجميل فقط، بل وضد العدل ايضاً. الوطن مع الحكومة العادلة والوالدين هم مبدأ وجودنا والمحافظون علينا من بعد الله. العدل العام يقضي على جميع ابناء الوطن بواجب خدمته بقياس المنافع التي يجنونها من المجتمع. فقضاة الوطن ونوابه واولياء اموره حياتهم وقف على خدمة الوطن ومصالحه العامة. على كل انسان خدمة الوطن قدر مكنته على الوطني الحقيقي ان يحفظ شرائع الوطن الذي هو فردٌ منه. يتطلب العدل التوزيعي ألا تُسند الوظائف الا لمن هو أهل لها. واجبات الافراد المأمورين في جانب الوطن هي اولا واجب قبول الوظيفة اذا رأوا انفسهم كفؤاً لذلك.
في السنة الاربعون (15/5/1931)
يقول البابا بيوس الحادي عشر: على الدول المختلفة ان تضع “قواها وسلطتها السياسية في خدمة مصالح مواطنيها الاقتصادية” (108).
في خطاب في 27/4/1941 يقول البابا بيوس الثاني عشر: على الدولة ان توفر المساعدة لنشاطات الوالدين ونقابة العمال “بواسطة المؤسسات الاجتماعية كالضمان الاجتماعي والضمان الصحي، والتأمينات الاجتماعية”، ولكن يجب الا يقود ذلك الى سيطرة الدولة على المواطنين.
في الرسالة العامة “ام ومعلمة” Mater et Magistra (15 ايار 1961) يعدد البابا يوحنا الثالث والعشرون الوسائل الكفيلة بتأمين متطلبات الخير العام الوطني: ايجاد عمل لاكبر عدد من العمال؛ المحافظة على نسبة منصفة بين الاجور والاسعار؛ تسهيل الحصول على الخيور والخدمات بنمط حياة متطور لاكبر عدد ممكن من الناس؛ الغاء الفروقات بين مختلف القطاعات: الزراعة والصناعة والخدمات” (79).
وفي الرسالة العامة “السلام على الارض” (1963) يعدد البابا مهام السلطات العامة، ومنها: اشراك المواطنين في الحياة العامة (73). ويعود البابا فيطبّق مبدأ الاستطراد أو الإنابة، الذي تحدث عنه في رسالته “ام ومعلمة” (53)، فيقول: إن مبدأ الإنابة هو القاعدة والميزان في علاقات السلطات العامة بالمواطنين (140).
وجاء في المجمع الفاتيكاني الثاني (8/12/ 1965) خضع يسوع المسيح لشرائع وطنه (ك ع 32). فيجب تأدية الخدمات المادية والشخصية للدولة، تلك الخدمات التي يتطلبها الخير العام والتي تكوّن جزءاً من الواجبات المدنية. ويجب ان يحب المواطنون وطنهم محبة صادقة شهمة (ك ع 75). وهذا واجب المسيحي في (ن ر15). اندفاعُهم في سبيل الامة وتتميم واجباتهم المدنية تتميماً اميناً (ر ع 14) ان على الذين ينذرون انفسهم لخدمة الوطن في الحياة العسكرية ان يعتبروا انهم خدّام الامن وحرية الشعوب (ك ع 79). وعلى العلمانيين ان يعبّروا عن جدية الحياة في محيط وطنهم الاجتماعي والثقافي (ن ر 21). اذاً هنالك حقوق وواجبات وطنية (ك ع 73 و75). “ويجب الاهتمام الشديد بالتربية الوطنية والسياسية، ليتمكن المواطنون جميعهم من ان يلعبوا دورهم في حياة الجماعة السياسية. وهذه التربية هي اليوم جد ضرورية سواء للشعوب كافة او للشبان على الاخص” (ك ع 75/6).
في الرسالة العامة ترقي الشعوب (26/3/1976) يقول البابا بولس السادس: انه اذا لم تحقق الاصلاحات الضرورية فقد تُمسي الثورة السلاح الوحيد يلجأ اليه المواطنون للتخلّص من الظلم الذي يعانون (32). ويوضح البابا ان الاقرار بأن المسالة الاجتماعية قد اكتسبت بعداً عالميا لا يعني انها فقدت شيئا من وَقْعِها او من اهميتها على الصعيد الوطني او المحلي. ومن ثم فان المسؤولين عن الشأن العام، والمواطنين في البلاد المُوسِرة، كلاًّ بصفته الشخصية، ولا سيما المسيحيين منهم، ملتزمون اخلاقيا -على صعيد المسؤولية المنوطة بكل فرد- بان يحسبوا حساباً في قراراتهم الشخصية او الحكومية، لهذه النسبة من الشمولية ولهذا الترابط القائم بين مسلكهم وما يتردّى فيه ملايين البشر من بؤس وتخلّف.
وفي الرسالة الى الكردينال موريس روا “الذكرى الثمانون” (14/5/1971) يقول البابا بولس السادس: لا بدّ من ان يكون اعضاء الاسرة البشرية، “في نطاق الوطن الواحد، متساوين تجاه القانون ومتكافئي الفرص في المجالات الاقتصادية والثقافية والمدنية والاجتماعية، على ان ينالوا ايضا نصيبهم من توزيع عادل للثروة القومية” (16).
البطريرك بولس المعوشي 15/6/1955 – 11/1/1975، تخطّى حدود الوطن حاملاً قضيّته إلى المحافل الدوليّة ومراكز صناعة القرار في العالم، فالتقى الرئيسين الأميركيين جان كينيدي وجونسون، والرئيس الفرنسي شارل ديغول والرئيس الاسباني فرنكو وغيرهم.
وفي الرسالة العامة “فادي الانسان” (4/3/1979) يبيّن البابا يوحنا بولس الثاني ان “مفهوم الدولة الاساسي، بوصفها جماعة سياسية، يقوم على ان يكون المجتمع ومن يتألف منه، وهو الشعب، سيّد مصيره وصانعا له. ولا يتجسد مفهوم دولة من هذا النوع في الواقع، اذا قام نفرٌ من الناس مقامَ سلطة يشترك فيها المجتمع او الشعب معنويا ويمارسها، ويخضعون لسلطانهم وتسلّطهم باقي المواطنين في هذا المجتمع” (17/6).
وفي الرسالة العامة “مزاولة العمل”(14/9/1981) يميز يوحنا بولس الثاني بين “رب العمل المباشر (الشخص او المؤسّسة) “ورب العمل غير المباشر” اي مجموعة المؤسسات على الصعيدين الوطني والدولي، المسؤولة عن سياسة العمل في نظام اقتصادي واجتماعي معين، حيث تلتقي عناصر كثيرة ومختلفة (16).
في آب 1988 صاغت “حماس” رؤية تضمّنت العمل على استقطاب المسيحيين “في العمل والمؤسّسات الوطنيّة”، و”العمل على إقامة علاقات متينة مع قياداتهم الدينيّة والسياسيّة، وكسبها في المواقف الوطنيّة والعامّة”.
وفي الرسالة العامة “السنة المئة”(1/5/1991) يُعلن البابا يوحنا بولس الثاني ان الاقرار بحقوق الضمير البشري هو الاساس لكل نظام سياسي يتمتع بالحرية الحقة. وهذا المبدأ يجب اثباته تكراراً ازاء أخطار عدة منها: خطر ظهور اشكال جديدة من الاصولية الدينية، تنكر “على المواطنين الذين لا يدينون بدين الاكثرية الممارسةَ الكاملة لحقوقهم المدنية او الدينية” (29).
في عظة الأحد 13 آذار 1994 قال نصرالله بطرس صفير: “التوحيد في النظرة والرؤية والمعاملة هو المطلوب خاصّة في هذه المرحلة من حياة الوطن (بين إقامة الحواجز على مدخل مقرّ القوّات اللبنانيّة في غدريس واعتقال 24 شخصاً من عناصرها، وتظاهرة حزب الله في منطقة بعلبك). ولا يجوز التنكيل بهؤلاء (القوّات) وإلقاء الحبل على الغارب لأولئك” (عظة الأحد خواطر روحيّة ومواقف وطنيّة، الجزء السابع، ص 60؛ في المسيرة/النجوى، 21/11/2005، ص 5/1-2).
في الأوّل من نيسان 1994، في رسالة الفصح، بدأ الشق الوطني من الرسالة بالتساؤلات التالية: “لماذا ينكفئ معظم المسيحيين عن المشاركة في مسيرة الدولة؛ لماذا لا يعود من هاجر منهم ليُساهم بما لديه من طاقات من إعمار الوطن؟ لماذا لا يزالون يشكون فيما سواهم راضٍ عن وضعهم؟ لماذا يتصرفون وكأنّهم لم يبقَ لهم دورٌ في لبنان مثلما لغيرهم من أبنائه؟ لماذا يفكّر بعضهم بإعداد مستقبل لأولاده خارج لبنان؟ لماذا يشعرون بالخيبة والمرارة؟ وقد كانوا أوّل من أرسى خمير الأساس فيه؟”. واضاف البطريرك الماروني في رسالته الفصحيّة: “نقولها ببساطة: إنّ الدولة لم تشعر المسيحيين بأنّها تحتضنهم بالرعاية كسواهم من المواطنين، سواءٌ أكان في إعادة المهجرين أم في نزع السلاح من أيدي الجميع” (في المسيرة/النجوى، 1047، 21/11/2005، ص 9/3).
وفي عظة السابع عشر من نيسان 1994: “الوطن كالإنسان له روح وجسد. روحه تُراث وتاريخ وحضارة، وجسده، إذا صحّ التعبير، مؤسّسات ومرافق وأجهزة. وطننا لبنان يتعرّض في جنوبه بنزيفٍ بليغٍ مستمرّ” (خواطر روحيّة ومواقف وطنيّة، الجزء السابع، ص 73، المسيرة/النجوى؛ 1048، 28/11/2005، ص 7/3).
في الحادي والعشرين من أيلول 1994، قال صفير للحريري: الشكاوى كبيرة، من إهمال تطبيق وثيقة الوثاق الوطني في أكثر بنودها مثل المجلس الدستوري الذي لا يزال غير فاعل، اللامركزيّة الإداريّة، المجلس الاقتصادي الاجتماعي، وغيرها. ولفت الإنتباه إلى ما يجري من حجز لحريّة المواطنين دون أخذ الإجراءات القانونيّة كأن يوقف أحدهم ولا يعلم أحد من أوقفهُ ولا ما آل إليه أمره.
في القسم الثالث من الرسالة الراعوية “معا امام الله في سبيل الانسان والمجتمع” (ميلاد 1994) وعنوانه “من اجل مجتمع عربي متكافئ”، يعرض بطاركة الشرق الكاثوليك قضايا المشاركة في الحياة العامة ومن ثم لمفهوم المواطنية.
المواطنية
“تقوم المواطنية بالتأصل في الارض والشعب وبالولاء الحقيقي للوطن والالتزام بخدمة الخير العام. وتفترض المساواة الكاملة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، بعيداً عن اي تمييز ينشأ بسبب المعتقد الديني او السياسي او اللون والعرق والجنس، حيث إنّ لا أحد افضل من غيره الا بولائه لوطنه وخدمته له. ولهذا يجب ان يتمكن الجميع من المشاركة في المشروع الوطني، وعلى المجتمع والمسؤولين فيه ان يضمنوا تكافوء الفرص للجميع بعيداً عن اية اعتبارات لا تخدم مصلحة الوطن.
“وللايمان والقيم الدينية والروحية دور هام في السمو بالانسان الى مستوى رفيع من المواطنية. فالقيم التي تنادي بها الاديان بمعناها الصحيح، أضف إليها المجد الذي ترفعه الى الباري تعالى، تدخل في نسيج الحياة السياسية والاجتماعية، لتبعث في الانسان مفهوم مواطنية منزّهة عن كل هوى وانانية وانتهازية وفساد، بل تولّد انتماءً حقيقياً يسعى الى الخير العام والمصلحة الوطنية الحقيقية. ان مفاهيم التأصّل والولاء والإخلاص والمساواة والمشاركة التي تتأسّس عليها المواطنية الحقة تجد في الممارسة الايمانية الحياتية حافزاً لها وضماناً. وعلاوة على ذلك، يمكن ان يكون المؤمنون بالله، اذا ما أخلصوا الولاء لقيمهم الدينية، ضميرَ الأمّة، يرفعون صوتهم عالياً للتنديد بمظاهر الفساد السياسي والاجتماعي، بتعزيز القيم التي يتأسّس عليها كل مجتمع سليم” (ص 32).
وجاء في “رجاء جديد لبنان” للبابا يوحنا بولس الثاني(10/7/1997): “يجب ايضا تطوير التضامن الوطني في نطاق الصحة بحيث يستطيع كل انسان الافادة من العناية والمساعدة الطبية الضرورية بغض النظر عن امكاناته” (102).
وفي عظة الثلاثين من آب 1994، حدّد صفير المواصفات التي يقتضي أن تتوافر في رئيس الجمهوريّة: إنّا في حاجة إلى رئيس يجعل اللبنانيّين واحداً على محبّة الوطن عن طريق العمل على مصالحة شاملة لم تبدأ بعد، وتُعيد إليهم ثقتهم بنفوسهم، وبعضهم إلى بعض وإلى جميعهم بالوطن. وهذا لن يقوى عليه إلاّ رئيس قدوة في جميع مجالات الحياة العائليّة والاجتماعيّة والوطنيّة (في النهار، الجمعة 25/11/2005، ص 18/5).
وان التطلع الى سماوات جديدة وارض جديدة (رؤ21/1) لا يضعف “معنى مسؤوليتنا تجاه ارضنا”، بل ينشّطه. لذا يكرر قداسة البابا يوحنا بولس الثاني على المسيحيين “انهم ملتزمون بواجباتهم نحو مواطنيتهم الارضية”، لاحياء “الرجاء المسيحي”، بـ “الشركة والخدمة”، كي تصبح الحياة “افخارستية” (الافخارستيا حياة الكنيسة، 17/4/2003، 20).
ان ما يزيد في وطأة ما يعاني المجتمع اللبناني، “ما حلّ في احزابه وجماعاته من تشرذم وانقسام، مردّهما، على وجه الاجمال، الى عوامل خارجية، والى ضعف الانتماء الوطني، لدى بعض النفوس التي بهرها بريق الاغراءات، على انواعها” (نصرالله بطرس صفير، في الوطن والقيم، 9/2/2004، ص 18).
في مجال التربية والتنشئة الانسانية والروحية يقول نص مشروع الشرعة التربوية الواحدة للمدارس الكاثوليكية (ايلول 2004) اعارة التربية وبخاصه التربية على القيم الانسانية والروحية والمواطنية، اهمية قصوى، هادفة الى تحرير التنوع الثقافي من القيود العقائدية والايديولوجية الراديكالية التي تكبّله، وذلك من اجل بناء الانسانية والمواطنية، من خلال تكوين انساني وروحي شامل.
ان الموارنة “بنوا لبنان وطنا بالشراكة مع اخوانهم المسلمين ناشدين فيه الحرية والكرامة والحقوق الكاملة لجميع مواطنيه (البيان الختامي للدورة الثانية للمجمع البطريركي الماروني 27/10/2004،5).
“تدعو الكيسة على المستوى الوطني، الى خدمة الوطن والمواطنين بتحقيق الخير العام واحترام القيم الانسانية، وتطبيق مبادئ عامة، تقوم على حقوق الانسان وكرامته، وتدافع عن الحريات وتنادي بسيادة الوطن واستقلاله وقراره الحرّ… الكنيسة المارونية، عَبر البطاركة، خَلَفا عن سلف، تراقب وتوجه وترشد ويدوم اهتماها بالشأن الوطني وبممارسة السياسة النبيلة المترفعة… ان الكنيسة ولبنان توأمان، ومنها انطلقت الفكرة اللبنانية، وبفضلها كل الكيان الوطني. تدرَّج الموارنة تاريخيا كفئة حاكمة وتدربوا في المسؤولية فتحوّلت عصبيتهم الدينية الى ولاء لبنان كوطن، يجمع بينهم وبين سائر الطوائف، ضامنا مصالح كل طائفة ومؤمنا العيش المشترك الحر للجميع. ان الكنيسة ليست فريقا ولا هي متحيزة ولا تتبنّى نظرية سياسية حصراً، لكنها تحث ابناءها على الالتزام السياسي فيتمكنون بواسطته من التجسد الحقيقي في مجتمعهم، ومن المشاركة الحقيقية مع سائر المواطنين في تسيير حياة المجتمع نحو الافضل” (فارس الحاج، “الكنيسة والسياسية: لماذا”، في النهار، 21/11/2004).
“ان الاحتكام الى الشارع في القضايا الوطنية بدل الحوار…أمر ينطوي على أخطار كثيرة” (بيان المطارنة الموارنة، الاربعاء، 1/12/2004؛ في النهار الخميس 2/12/2004، ص 4/2).
وفي افتاح مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان، الاثنين 6/12/2004 قال البطريرك صفير: “افما آن الآوان لاماطة اللثام عن العيون لترى الامور في واقعها، ام هي الانانية الطاغية التي تستميت في سبيل التشبث بالمقعد الذي تشغله، وبما يدرّ على اصحابه من ارباح وفيرة ولو على حساب مصير الوطن وابنائه، الذين يشكون العوز والفقر، والجوع، فتفرّقوا تحت كل سماء. ويقولون ما شأن الكنيسة في هذه الامور وهي سياسية؟”. يجيب صفير: “لقد قلنا غير مرة ان الكنيسة وابناءها، ورؤساءهم، هم مواطنون كغيرهم من المواطنين، ومن حقهم ان يطالبوا بما طالب به سواهم عندما يشعرون غبناً وخيما، وظلما. واذا اصبح مواطن رجل دين فهل تُسقِط عنه صفتُه الدينية حقَّه في وطنه، ومطالبة دولته بتقويم ما تداخلها من اعوجاج؟ هذا اضافة الى ان من واجب الكنيسة الام والمعلمة ان تذكّر بالمبادئ الاخلاقية، والادبية، التي يجب ان تبني عليها الحياة الوطنية، وتهتدي بها سياسة الشأن العام” (في النهار، الثلاثاء 7/12/2004).
“يجب ان نذهب جميعاً الى منحى واحد وهو ما فيه خير الوطن وخير جميع ابنائه، ولكن من يسعى الى خيره الخاص فانه يكون قد أضرّ بخير الوطن بكامله، لذلك يجب ان لا يغيب الشخص انما يجب ان يتناسى مصلحته الخاصة ويعمل في سبيل مصلحة وطنه” (صفير، في النهار، 10/1/2005).
“ونستمرّ في الخدمة والتضحيات بإخلاصٍ كبير بحيث نؤمن أنّ لهذا الوطن حقاً على كلّ واحدٍ من أبنائه وأنّ عليه واجبات لكلٍّ من أبنائه فيحيا بهم ويحيون به ويحبونه لا لطبيعته الجميلة فقط ولكن لفضائل شعبٍ يطلب الكرامة” (جورج خضر، “الصبر”، في النهار، السبت 15 تشرين الأوّل 2005، ص 12).
“علينا أن نعرف كيف نُحافظ على وحدتنا الوطنيّة ليرضى عنّا شهداؤنا وهم أحياء ممجّدون في السماء” (الياس بدر، خوري رعيّة عين داره، في النهار، الأحد 16/10/2005).
لفت البطريرك مار نصرالله بطرس صفير إلى أنّ الوحدة الوطنيّة “تبقى الحصن الحصين الذي يقينا الشرذمة والتفكك والانحلال. ولا مجال، في الوضع الذي نحن فيه، إلى مكاسب شخصيّة، وحسابات فرديّة على حساب الوطن والمواطنين” (في النهار، 31/10/2005، ص 5).
“الحقيقة أنّنا نعيش في زمن يحكمه الفساد، يدّعي الفاسدون أن الحقّ معهم ويتقاسمونه فيما بينهم ويتنافسون على الحقيقة، أمّا المواطن فلم يعد معه حقّ ربطة خبز. الحقيقة أن المواطنين مقهورون والكثيرين يبكون بؤسَ مصيرهم وللهجرة يطلبون” (عبدو رعد، في “صدى الصداقة”، 25، تشرين الأوّل 2005، ص 1).
إنّ القضايا الوطنيّة (مثل حقوق الأقليّات، وحقوق الأفراد، وحريّة العبادة، وسواها) “تحوّلت إلى قضايا عالميّة تتجاوز الأطر الوطنيّة أو المجتمعيّة المحدودة. إنّ القرار الوطني في دولةٍ ما، لم يعد ملكاً لأصحابه فقط. ولكنّ عمليّة اتخاذه باتت جزءًا من عمليّة أوسع، تلعب فيها عناصر ما وراء الحدود الوطنيّة دوراً أساسياً”. وهكذا تآكلت المساحات الوطنيّة” (محمّد السمّاك، في النهار، الأحد 6/11/2005، ص 11).
يقول البطريرك صفير إنّ “المواطن يجب أن يكون في خدمة جميع اللبنانيّين وأن يأتي إلى الوظيفة لا ليملأ جيوبه إنّما ليملأ وظيفته ويرضي النّاس بحسب القوانين”. وأضاف: “إنّ أهل الفكر لهم دورٌ في بناء الوطن”. وأشار إلى “أنّ لبنان يتميّز بكونه وطن الطوائف وأن فيه مسلمين ومسيحيين بإمكانهم أن يعيشوا معاً في جوٍّ من التفاهم والإلفة والاعتدال والتعاون وهذا ما لا نرضى عنه بديلاً” (في النهار، الإثنين 14/11/2005، ص 4/4-5).
همّ البطريرك يُعادل خوفه على المسيحيين وأولاده الموارنة وهو الراعي له زعماء وقيادات وشعباً. قال: يجب “أن تتحد الطوائف اللبنانيّة بأجمعها ليكون هناك وطن واحد. وطننا صغير وفي حاجةٍ قسوى إلى تجميع الصفوف وتوحيدها لنتمكّن من المحافظة على مقوّمات البلد. لذلك يجب أن يعرف اللبنانيون أن لبنان وطنهم وليس لهم أن يذهبوا إلى سواه كي ينالوا ما يطمحون به من مناصب وسلطة وغيرها” (هيام القصيفي، في النهار، الخميس 24/11/2005، ص 4).
يرى ادمون صعب “أن لرأيي بكركي أهميّة كبيرة حاليّة في الرئاسة والمزارع وترسيم الحدود، إلخ.، من قضايا وطنيّة مصيريّة. وقد كان مجلس المطارنة الرقيب الحقيقي على مختلف السلطات في الدولة، يترقّب انعقادَه المسؤولون والمواطنون، مسيحيين ومسلمين، وكذلك سوريّا والدول العربيّة والأجنبيّة وينتظرون بيانه. ولقد بنى لنا هذا الرّاهب الزاهد، المتعبّد للعذراء، بفعل رؤية إنسانيّة معولمة، سقفاً وطنياً نلتزمه، ونستوحيه باستمرار غير عابئين بالسؤال المكرّر ألف مرّة: أنتم من يُسندكم؟”.
وقال الوزير السابق ميشال إدّه في البطريرك صفير: “صلابة روحيّة ووطنيّة قلّما عهدناها إلاّ لدى قلّة نادرةٍ من صانعي الزمن”. وأضاف ان القراءة في سيرة “السادس والسبعون” للصحافي أنطوان سعد “إنّما هي كشفٌ، في الآن معاً لحقائق من تاريخ وطن بأكمله، في فترةٍ من أدقّ وأخطر وأشدّ فتراة عمره ظلماً وعتمةً وأظلاماً، لن يجد غبطته من تسميةٍ أخرى لها سوى الزمن الرديء”. وأضاف: “في هذا الكتاب تتبدّى أيّام مار نصرالله بطرس صفير يوميّات في سيرةٍ هي أشبه بإعادة نحت وطن وصوغه من جديد بعدما أدخل في نفق السواد، على درب الجلجلة”. ورأى أن الجزء الثاني من الكتاب “أحسن تظهير الحقائق المتصلة بالمسألة الوطنيّة اللبنانيّة”.
وعن الكتاب قال السيّد هاني فحص: “قرأتُ، متّعتُ عقلي وقلبي واكتشفتُ معالم وطني في الحقل المعرفي التوحيدي الرحب والمدى الوحدوي اللبناني، الذي أسهم غبطته بامتياز في فلاحته وزرعه وصيانته وحراسته وسقايته، وترك لنا أمر حصاده وفصل قمحه عن زوانه، ليشبع براً الجوعى إلى البرّ من برّ لبنان” (المرجع نفسه، ص 26/5).
وفي عظته، الأربعاء 30/11/2005، وجّه البطريرك لحّام دعوة ملحّة إلى الملوك والرؤساء العرب “لكي يحقّقوا مزيداً من الوحدة بين هذه الدول، لتتمكّن معاً من جبه التحديّات الخطيرة التي تهدّد وحدة شعوب المنطقة التي… كلّها موطن المقدّسات الكبرى للمسيحيين والمسلمين واليهود”. وأضاف: “إنّنا نأبى على أنفسنا أن تُعتبر بلادُنا موطن الأصوليّة والعنف والإرهاب والقتل والعداء والتطرّف والحرب الدينيّة”.
وهل المطران يوسف بشارة راضٍ عمّا تحقّق على المستوى الوطني، أجاب: “حالنا كمن أدخل المستشفى وخرج بعد علاج ويحتاج إلى النقاها، فكيف والحال أمام وطن بكامله أفرغ من مؤسّساته الدستوريّة ولم تبقَ إلاّ مؤسّسات شكليّة. ولكي يستعيد هذا الوطن عافيته ونشاطه فإنّ الأمر يحتاج إلى وقت وإلى تضافر جميع قوى المجتمع وعلى كلّ المستويات ليقف الوطن على قدميه. المسألة ليست في المحاصصة، وهذا لا يبني وطناً بل شركة مغانم ومكاسب” (في النهار، الجمعة 2/12/2005).
وفي البيان الختامي لمجلس البطاركة الكاثوليك في الشرق لاحظ الأحبار أن الملايين في منطقتنا العربيّة “تخشى فقدان هويّتها الوطنيّة والحضاريّة أمام السطوة السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة الخارجيّة على عالمنا الخارجيّ”.
ويحثّ الأحبار أبناءهم “على التعاون مع كلّ الاتجاهات والقوى الخيّرة في مجتمعاتنا من أجل الارتقاء بالطاقات الروحيّة والمعنويّة والإنسانيّة للمواطنين، لمواجهة التيّارات الغارقة في ماديّتها وجشعها ولا أخلاقيّتها وفسادها والتي تعمل قوى عديدة هدّامة على نشرها في المجتمع”.
في عظة الميلاد، 26/12/2005، سأل متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة: “أليست الحريّة والسيادة والاستقلال ما يطلبه أي وطن؟ أليس هناء بنيه وأمنهم في ظلّحكمٍ يؤمنون به، في ظلّ وطن يحتمون به ويدافعون عنه؟ إذا كان هذا يجوز في أي وطن بل هو حقٌّ له، فلمَ لا يجوز في لبنان؟ إذا كان هذا حقاً لكلّ وطن فلم لا يكون حقاً لوطنٍ كلبنان فيه عشرات الجامعات وآلاف المدارس، وفيه المؤتمرات والندوات والعلماء والمفكرون والأساتذة؟
“هل يعي اللبنانيّون أنّهم ينتمون الواحد إلى الآخر ولا ينتمون إلى قبائل وفصائل وعائلات وطوائف ومذاهب وحسبُ، بل ينتمون إلى وطن واحد، مساحة أرضه من المساحات الصغيرة جدًّا على سطح الكرة الأرضيّة؟
“إن كان اللبنانيّون فعلاً صادقين في انتمائهم إلى هذا الوطن العزيز، ألا يجدون أنّ بداية الخلاص هي في جلوسهم إلى طاولة عائليّة يتفقون حولها على المبادئ البديهيّة لوجود وطن وبقائه ونموّه؟
“في محبّة الوطن والإخلاص له خلاص المواطنين جميعاً، العائلة المفكّكة تنهار وإذا توحّد أبناؤها جبهت الصعاب، هكذا الوطن، إذا تعال أبناؤه على خلافاتهم الصغيرة من أجل مصلحة وطنهم أنقذوه.
“الشهيد الذي يسقط لا يخصّ عائلته فحسب بل يخصّ الوطن بأجمعه، العائلة الكبرى بأسرها، لأنّه مات من أجل ما آمن به ودافع عنه مؤمنا أن ما كان يقوم به هو لمصلحة الوطن الذي أحب.
“في الأوقات المصيريّة لا يهم من يأخذ المبادرة. المهم أن تكون المبادرة لخير الوطن وبنيه، للخير العام. الاحتكار في التجارة مرفوض، فكيف إذا كان في ما يتعلق بالوطن، لا يحق لأحد أن يتكلّم باسم مجموعة ان لم يكن مخولاً منها فكيف إذا كان الأمر يخص الوطن بأجمعه؟ لذا الحوار ضرورة ملحّة، الحوار الذي يتخذ مصلحة وحدة الوطن والمواطنين وخيرهم لا مصالح الطوائف والزعماء والقبائل والدول على أشكالها. إذا كانت محبّة الوطن ووحدة بنيه واستقراره وازدهاره هي القاعدة التي يبنى عليها الحوار، الله المحبّة والحق يسهل أمور المعنيين ويوفقهم”.
“لا يستطيع الوطن أن يقوم على احترام عواطف وهي اليوم نار تحت رماد، هنالك تفاهات داخليّة بين أطراف الشعب اللبناني تؤسّس لإجماعٍ وطني” (جورج خضر، “قلبنا على لبنان”، في النهار، السبت 21/1/2006).
“بعد كلّ ما جرى من تقتيل وتدمير وتهديم، هل من يجمع الكلمة ويصون الكرامة الوطنيّة ويحمي الشعب المفجوع والوطن الجريح الدامي؟ لا قيامة للخير العام “الا في تضافر الجهود وسقوط الحدود التي باعدت بين المواطنين وفرّقتهم شيعاً وأحزاباً وتركتهم يتناتشون الوطن وخيراته” (يوحنّا الحلو، “وماذا بعد؟”، في النهار، 21/1/2006).
في عظته التأبينيّة لجبران التويني، الأحد 22/1/2006، قال متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده: “النفوس الطاهرة وحدها ترى الوطن مشرّعاً نوافذه للنور. بسبب حبّها ترى الوطن في عالم الروح. أين أصحاب الاختصاص الذين يحتلّون أمكنة ومراكز تساهم في بناء الوطن، سياسة النّاس واجب على من أعطي له أن يسوس ولكنّ الشرط الأساسيّ أن يكون محطّ الاهتمام، لا الطائفة ولا الكلتّة ولا الجماعة ولا الحزب ولا التصرّف تصرّفاً كيديًّا ولا أن تؤخذ المهمّة لإمرار ما لا يمرّر. أي أرض، أي بلد يستحق أن نموت من أجله؟ هل هو الغابة أم المزرعة أم الساحة أم الوطن؟ الوطن الذي يفيء أبناؤه، كلّ أبنائه، تحت ظلاله. الوطن الذي ينعم بعد لله كل أبنائه، الذي ينال فيه كل انسان حقه لكنّه يشعر أنه ملزم أن يؤدّي واجباته كلها تجاهه. الوطن الذي يشعر أبناؤه بأنّهم متساوون فيه حقوقا وواجبات. الوطن الذي يفخر أبناؤه بالانتماء إليه ولا ولاء لهم إلا له. الوطن الذي يرعى ابناءه بالعدل والانصاف ويرعاه ابناؤه من كل سوء. الوطن الذي لا يستبيح حقوق مواطنيه فلا يسترقون الفرص لاستباحته. الوطن الذي يحافظ على طاقاته وطاقات المواطنين فيبذلون كل غال من أجله. الوطن الذي شعاره الصدق والعدل والامانة فلا يهان فيه المواطن في كرامته وخصوصا في ذكائه إذ تُمرر الصفقات والاتفاقات والعقود بالتراضي وما شاكل من أمامه وكأنها تضحيات من أجله. هذا هو الوطن الذي يحلم به كل لبناني شريف ويكون مستعداً للتضحية بالنفس من أجله” (في النهار، الإثنين 23/1/2006، ص7/5-6).
بعد قداس الأحد 30/1/2006، قال صفير: “اننا نأمل أن يعمل اللبنانيون دائماً في سبيل وحدتهم ووحدة وطنهم” (في النهار، الاثنين 31/1/2006، ص 4/6).
“ان الوطن اللبنانيّ لكل أبنائه، ولا فضل لأحد على أحد الا بمقدار ما يقدم من مساهمات وطنيّة وإنسانيّة واخلاقيّة؛ وما يجيد من عمل متقن ونبيل وشفّاف يكون في خدمة الجميع”، فنمشي مع الآخرين يداً بيد إلى قيامة وطن تخرج فيه مجموعاته من الشرنقة إلى الطيران والتحليق من أجل قيامة وطنيّة وانسانيّة” (اسكندر الهاشم، “الموارنة إلى اين؟”، في النهار، 31/1/2006).
ميزة فريق مسيحيي 14 آذار 2005، انه “تمكن، في غياب قادة المجتمع المسيحي من انتاج قوة سياسيّة متعددة قادرة على صوغ خطاب سياسي مسيحي ووطني مرادف لخطاب بكركي ومتمسّك بالشراكة مع الفريق الآخر في وجه الوجود السوري وتداعياته” (هيام القصّيفي، في النهار، الخميس 2/2/2006، ص 5).
برنامج “حماس” للانتخابات التشريعيّة عام 2006 نصّ على “ضمان حقوق الاقليّات واحترامها في جميع المجالات على قاعدة المواطنيّة الكاملة”، و”تحقيق مبدأ مساواة المواطنين امام القانون، ومساواتهم في الحقوق والواجبات”.
الخاتمـة
“اننا عبيد لا نفع منّا، فقد فعلنا ما كان يجب علينا ان نفعل” (لو17/10) فـ “من هو الاعظم؟” (لو22/24). “ليكن الاعظم منكم كالأصغر والرئيس كالخادم” (لو22/26). “ليكن الاعظم بينكم خادماً لكم” (متى23/11). “ليس عبدٌ اعظم من سيده” (يو15/20). ليس تلميذ افضل من معلمه، ولا عبد من سيده” (متى10/25). “من أراد ان يكون الاول بينكم، فليكن عبداً للجميع” (مر10/44). “ان اراد احد ان يكون الاول، فليكن آخر الجميع وخادم الجميع” (مر9/35). لان السلطة “خادمة لله في سبيل الخير” (روم13/4). والا فـ “الله أحقّ بالطاعة من البشر” (رسل5/29). فعليكم انتم ايضا ان يغسل بعضكم اقدام بعض” (يو13/14). “انتم ملح الارض. انتم نور العالم” (متى5/13-14). فلتثبت فيكم محبة الاخوة” (عب13/1). “ولتكن محبتكم بلا رياء” (روم12/9). “لاتخافوا… انتم افضل من عصافير كثيرة” (لو12/4 و7). “فإنه من العدل عند الله… ان يجازيكم انتم المتضايقين بالراحة معنا عند ظهور الرب يسوع” (2تس1/7). “لأني جعت فأطعمتموني…” (متى25/35-36). فـ “من يسألك فأعطه” (متى5/42). فحياة الانسان “ليست من مقتنياته” (لو12/15). “بل اطلبوا ملكوت الله وهذا كله يزاد لكم” (لو12/31). فلا تملّوا من ان تعملوا حسناً” (لو12/33-40)، عالمين ان تعبكم ليس بباطل امام الرب” (1قور15/58). “وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس ايضا صورة السماوي” (1قور15/49). “فصلوا هكذا: ابانا” (متى6/9).واظب على الأعمال الصالحة فلا تعلم شمالك ما تصنع يمينك” (متى6/3) “اتبع البر والتقوى والايمان والمحبة والثبات والوداعة” (1طيم6/11).
“من الثمرة تعرف الشجرة” (متى12/33-37). فالايمان بالاعمال (يع2/14-26). “وبعد، ايها الاخوة، فكلّ ما هو حق، وكل ما هو شريف، وكل ما هو بار، وكل ما هو نقيّ، وكل ما هو محبب، وكل ما هو ممدوح، وكل ما فيه فضيلة، وكل ما فيه مديح، ففيه فكروا. وما تعلمتوه وتلقيتموه، وسمعتموه مني، ورأيتموه فيّ، فاياه اعملوا” (فل4/8-9). “ليكن فيكم من الافكار ما هو في المسيح يسوع” (فل2/5). “هل يفيض الينبوع بالعذب والمرّ من مجرى واحد؟” (يع3/11). “ليكن كلامكم: نعم، نعم! لا، لا! (متى5/37). “ولوكنتم تعرفون ما معنى: اريد رحمة لا ذبيحة” (متى12/7). “سلّموا بعضكم على بعض بقبلة مقدسة” (1كو16/20). “فأنت من تكون، يا من تدين خادم غيرك؟” (روم14/4). ميزوا ما هو مرضي للرب” (اف5/10). “فكونوا انتم ايضا مبنيين كحجارة حية” (1بط2/5)، “متأصلين ومبنيين فيه” (قول2/7). “وتكونوا في المحبة متأصلين ومؤسَّسين” (اف3/17). “ولننتبه بعضنا لبعض بالأخص على المحبة والاعمال الصالحة” (عب10/24). “فثمر النور هو في كل صلاح وبرّ وحق” (اف5/9). “عليكم ان تولدوا من جديد” (يو3/7)، “بالروح والحق” (يو4/23-24). “هذه هي وصيتي ان تحبوا بعضكم بعضا كما انا احببتكم” (يو15/12). “سيكون لكم في العالم ضيق، ولكن ثقوا انا غلبت العالم” (يو16/33). “تعالوا اليّ يا جميع المتعبين والمثقلين بالاحمال وانا اريحكم” (متى11/28). “ومن يصبر الى النهاية يخلص” (مر13/13). “ما اقوله لكم في الظلمة قولوه في النور” (متى10/27). “اذهب واصنع انت ايضا كذلك” (لو10/37). “من ليس معي فهو عليّ ومن لا يجمع معي فهو يبدد” (لو11/23). “فمن يعمل الخير هو من الله، ومن يعمل الشر لم يرَ الله” (3يو11). “ليكن الثبات حافزاً لكم على العمل الكامل” (يع1/4). “كونوا كاملين بالكلمة لا سامعين فحسب والا كنتم تغشون انفسكم” (يع1/22). “كذلك الايمان ايضا، ان لم يقترن بالاعمال، فهو ميت في ذاته” (يع2/17).
كان هذا بعضٌ من تعليم الكنيسة الاجتماعي. وطوبى للذين يسمعون ويقرأون ويقتبسون ويحفظون ويعلّمون وينشرون. لان في تعليم الكنيسة الاجتماعي مبادئ للتفكير ومقاييس للحكم وتوجيهات للعمل. فهلاّ سمع الاشخاص واستوعبت الامم واهتدى القيّمون على شؤون الناس فوعوا تكرّسهم المبدئي لخدمة الخير العام!.
[1] يوحنّا بولس الثاني، الاهتمام بالشأن الاجتماعي، 30/12/1987، 41؛ تألق الحقيقة، 6/9/1993، 99.
[2] كيارا لوبيك، كلمة الحياة، أيلول 2005.
[3] – في جريدة النهار، الاثنين18/10/2004، ص 3/4-6
[4] – بشاره الراعي، في زمن القيامة، جامعة سيّدة اللويزة، 2006، ص 76.
[5] – يوحنّا مخلوف، البطريرك يوحنّا مخلوف الاهدني، 2001، ص 103
[6] – تعلو ولا يُعلى عليها: حقوق الإنسان، معوّض – ناومان، بيروت، 1999
[7] – راجع كتاب السلام على الأرض، قدّم لها ونقلها إلى العربية د.يوسف كمال الحاج، سلسلة الدراسات، 1، منشورات حركة عدالة ومحبّة، لبنان، تموز 2004
[8] – يوسف كمال الحاج، “يوحنّا بولس الثاني وحقوق الإنسان”، في المنارة، 2-3، 2005، ص225 – 243
[9]– Congrégation pour l’Education catholique, “Orientation pour l’étude et l’enseignement de la doctrine sociale de l’Eglise dans la formation sacerdotale”, dans la Documentation Catholique,1990, septembre1983,p.784,
[10] – في النّهار، الخميس 24/11/2005، ص 17/6
[11] – يوحنا بولس الثاني، رسالة في توماس مور،31/10/2000،؛ في المسيرة،19/11/2001، ص18-19.
[12] – في النّهار، الجمعة 14/10/2005، ص 5.
[13]– بطرس مراياتي، القديس نرنسيس شنورهالي رائد الحركة المسكونيّة”، في مجموع أبحاث ومقالات مهداة إلى المطران ناوفيطس إدلبي، 1920 – 1995، نصوص ودراسات في الشرق المسيحي، 4، CEDRAC، جامعة القديس يوسف، بيروت، 2005، ص 316 – 319).
[14]– جوزف خريش، “الحوار المسيحي الإسلامي في زيارات البابا إلى العالم العربي”، في المنارة، 2-3، 2005، ص 275 – 296.
[15] – يوحنّا ابراهيم، “أمن الإنسان غير المسلم في بلد المسلمين”، في مجموع أبحاث ومقالات مهدات إلى المطران ناوفيطس إدلبي، 2005، ص 386 – 391).
[16] – كيرلّس سليم بسترس، مدخل إلى اللاهوت الأدبي، الجزء الثاني: تعليم الكنيسة الاجتماعي، الفكر الملسيحيّ بين الأمس واليوم، 30، منشورات المكتبة البولسيّة، جونيه، 2001،، ص 319 – 334.