التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي – الاحد التاسع من زمن العنصرة – الاحد 22 تموز 2012
يســـوع فـي مـجـمـــع الـنــــاصـــــرة لوقا 4: 14-21
في هذا الأحد من زمن العنصرة، الذي هو زمن الكنيسة، ينكشف لنا وجه المسيحي والكاهن والأسقف من خلال وجه المسيح، الكاهن الأزلي، وراعي الرعاة العظيم، كما يسمّيه بطرس الرسول. وهو وجه المعلم والكاهن والراعي، المعروف في الكتاب المقدس بالنبي والكاهن والملك.
أولاً، شرح الانجيل
من انجيل القديس لوقا 4: 14- 21
عَادَ يَسُوعُ بِقُوَّةِ الرُّوحِ إِلى الجَلِيل، وذَاعَ خَبَرُهُ في كُلِّ الجِوَار. وكانَ يُعَلِّمُ في مَجَامِعِهِم، والجَمِيعُ يُمَجِّدُونَهُ. وجَاءَ يَسُوعُ إِلى النَّاصِرَة، حَيْثُ نَشَأ، ودَخَلَ إِلى المَجْمَعِ كَعَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْت، وقَامَ لِيَقْرَأ.
وَدُفِعَ إِلَيهِ كِتَابُ النَّبِيِّ آشَعْيا. وفَتَحَ يَسُوعُ الكِتَاب، فَوَجَدَ المَوْضِعَ المَكْتُوبَ فِيه:
“رُوحُ الرَّبِّ علَيَّ، ولِهذَا مَسَحَني لأُبَشِّرَ المَسَاكِين، وأَرْسَلَنِي لأُنَادِيَ بِإِطْلاقِ الأَسْرَى وعَوْدَةِ البَصَرِ إِلى العُمْيَان، وأُطْلِقَ المَقْهُورِينَ أَحرَارًا، وأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لَدَى الرَّبّ”. ثُمَّ طَوَى الكِتَاب، وأَعَادَهُ إِلى الخَادِم، وَجَلَس. وكَانَتْ عُيُونُ جَمِيعِ الَّذِينَ في المَجْمَعِ شَاخِصَةً إِلَيْه. فبَدَأَ يَقُولُ لَهُم: “أَليَوْمَ تَمَّتْ هذِهِ الكِتَابَةُ الَّتي تُلِيَتْ على مَسَامِعِكُم”.
1. نعرف من نبوءة أشعيا التي تحقّقت في يسوع المسيح، كما أعلن هو: “اليوم تمّت هذه الكتابة التي تُليَت على مسامعكم”، أنّ الروح القدس حلّ عليه كإنسان، وكرَّسه نبيّاً وكاهناً وملكاً بامتياز. هذه تُسمّى مسحة الروح.
يسوع الإله الكامل والإنسان الكامل هو بامتياز: نبيٌّ لأنه يتكلّم بكلمة الله وهو نفسه الكلمة التي صارت بشراً(يو 1: 14)؛ وكاهنٌ لأنه يقدِّم الذبيحة، والذبيحة هي جسده الذي يُبذل لفداء العالم، ودمه الذي يهرق لغفران الخطايا(لو 22: 19)؛ وملكٌ لأنه يملك ومملكته هي ذاته المعروفة بالكنيسة، جسده الجديد، التي هي زرع ملكوت المسيح وبدايته.
2. لكنّ مسحة الروح هذه انسكبت على الجسد الجديد الذي هو رأسه، فأشركته بحالة النبوءة والكهنوت والملوكية، وبخدمتها. إنها مسحة المعمودية والميرون، ومسحة الدرجة المقدسة. بفضلها يشارك كل مسيحي بهذه الحالة والخدمة من موقعه وحالته في العائلة والمجتمع والوطن، ويشارك الأسقف والكاهن بهذه الحالة والخدمة بالتكريس وبالسلطان الالهي.
هذه المهام الإلهية الثلاث نجدها في نص نبوءة أشعيا:
– النبوءة والتعليم: “أرسلني لأبشر المساكين”(لو 4: 17). لفظة مساكين لا تعني هنا الفقراء مادياً، بل كل الناس المحتاجين إلى نور كلمة الله تهديهم في الحق، وتغذّي عقولهم بالحقيقة؛ والمحتاجين إلى كلمة الله تحرّرهم وتجمعهم.
– الكهنوت والتقديس: “أرسلني لأطلاق الأسرى، وإنارة العميان، وتحرير المستعبدين”(لو 4: 18). إنها نعمة شفاء النفوس من كل عبودية للذات او للناس او للإيديولوجيات. وشفاء مَن أُعميَت بصائرهم وقلوبهم عن الخير، ومالوا إلى الشر والبغض والكذب.
– الملوكية والتدبير: “أرسلني لأعلن زمناً مرضيّاً عند الرب”(لو4: 19). إنها نشر ملكوت الله على أرض البشر، وهو ملكوت النعمة والحقيقة، المحبة والحرية، العدالة والسلام. هذا الملكوت يبدأ في كنيسة الأرض المجاهدة، ويكتمل في كنيسة السماء الممجَّدة.
3. وجود المسيحيين في لبنان وبلدان الشرق الاوسط مرتبط بمسحة الروح والإرسال الإلهي. مسحة الروح هي هويتهم، والمهام الثلاثة رسالتهم.
يتقبّل المسيحيون كلام الله من الكتب المقدسة والتقليد الرسولي الحي وتعليم الكنيسة، ليصبح عندهم ثقافة وحضارة حياة، يطبعون بها شؤونهم الزمنية: العمل والفنون والمهن، على مستوى العائلة والمجتمع؛ كما يطبعون بها الاقتصاد والتجارة والاعلام والسياسة. إن للكنيسة تعليماً واسعاً خاصّاً بكل هذه الحقول، استمدته من الكتب المقدسة والتقليد الحي(البُعد النبوي).
وينفتح المسيحيون على أسرار الخلاص والأفعال الليتورجية، لينالوا نعمة التقديس، التي تنقلهم من حالة الخطيئة والشر والضعف إلى حالة النعمة والصلاح والقوّة. ويعملون على تقديس العائلة والعمل والمجتمع. وكون الكهنوت قائماً على تقديم ذبيحة المسيح قرباناً مرضيّاً عند الله، يتفجَّر منه الغفران والمصالحة بين الله والناس، فإن المسيحيين يضمّون إلى ذبيحة المسيح قرابينهم الروحية، أعني أعمالهم الصالحة وجهودهم وتضحياتهم في سبيل الحقيقة والخير والجمال (البُعد الكهنوتي)
وينخرط المسيحيون، عبر الكنيسة، في مملكة المسيح، المعروفة بملكوت الله: فيعملون على نشر المحبة والعدالة والسلام، ويدافعون عن الحريات العامة وحقوق الانسان، ويحاربون الظلم والاستبداد والاستضعاف، ويعزِّزون الممارسة الديمقراطية للحكم التي تحترم رأي الشعوب وتطلعاتهم وآمالهم (البُعد الملوكي).
ثانياً، جمعية سينودس الاساقفة: الانجلة الجديدة لنقل الايمان المسيحي
نواصل عرض موضوع الجمعية العامة الثالثة عشر لسينودس الاساقفة، التي ستُعقد في روما (7-28 تشرين الاول 2012)، كما جاء مفصّلاً في وثيقة الخطوط العريضة. نتكلّم تحديداً عن نقل الايمان المسيحي وهدفه.
1. نقل الايمان يتم بواسطة إعلان الانجيل (الأنجلة)، وهو الإيمان بيسوع المسيح، ويعني خلق الشروط اللازمة والاوضاع لكي يكون الايمان على مستوى الفكر والاحتفال والعيش والصلاة. عندما نقول الإيمان، نعني اللقاء الشخصي بيسوع المسيح، وإقامة علاقة شخصية معه، وحفظ ذكراه، والتخلّق بأخلاقه. هذا الايمان – اللقاء بحدث المسيح وبشخصه يفتح أمام حياة الإنسان والشعوب آفاقاً جديدة، ويعطيها توجيهاً حاسماً. عملية نقل الايمان هي العمل على خلق الشروط والأوضاع لكي يحصل هذا اللقاء بين الناس ويسوع المسيح، في كل مكان وزمان.
أما لفظة انجيل فلا تعني فقط كتاباً أو عقيدة، بل هو كلمة الله الحيّة والفاعلة التي تحقِّق بالأفعال ما تقوله الكلمات. وبالطبع لا تعني موادّ إيمانية ورسوماً أخلاقية، بل الانجيل هو شخص يسوع المسيح، كلمة الله النهائية التي صارت بشراً. إنه انجيل يسوع المسيح، ويسوع المسيح هو مضمونه.
هدف نقل الايمان إذن، اللقاء والشركة مع المسيح. هذا هو مضمون الإرسال الإلهي: “إذهبوا إلى العالم كله، وأعلنوا البشارة الجديدة للخليقة كلها”(مر16: 15؛ الخطوط العريضة، 11).
2. عملية نقل الايمان هي دينامية تطلقها قوتان: إيمان المسيحيين وحياة الكنيسة. فلا يمكن نقل ما لا نؤمن به، ولا نعيشه؛ ودينامية مصدرها الحياة مع يسوع؛ فالمسيح دعا التلاميذ أولاً “ليكونوا معه” ثم “يرسلهم”(مر3: 13-14). عندما اختار التلاميذُ متيّا ليحلّ محلّ يهوذا الاسخريوطي، اشترطوا اختيار شخص “كان مع المسيح ومعهم منذ البداية”(أعمال1: 21-22)، شخصٍ عاش اختبار الحياة مع يسوع لكي يعلن ويتقاسم ما عاشه واكتشفه في الحياة معه.
مهمة إعلان انجيل المسيح لا تنحصر بأشخاص معنيين، بل هي هبة معطاة لكل إنسان يتجاوب بثقة مع النداء الى الإيمان. وهي اختبار كل مسيحي وكل الكنيسة لهويتها التي هي هوية شعب يجمعه الروح القدس، لكي نعيش حضور المسيح فيما بيننا.
3. للأنجلة مسار تتبعه الكنيسة لكي تتمكّن من إعلان الإنجيل ونشره:
تلج الكنيسة إلى عمق النظام الزمني والثقافات لكي تطبعها بقيَم الإنجيل وتُجري فيها تحوّلاً في قيَمها. تشهد أما الشعوب لنوعية الحياة الجديدة التي تعيشها وتُميّز المسيحيين. تعلن الإنجيل بصراحة داعية إلى التوبة وتغيير المسلك والتصرف والتعاطي. تربّي الذين يرتدّون إلى المسيح، ويباشرون السير معه من جديد على الإيمان، وتثقِّف الحياة المسيحية بالتعليم وبأسرار النشأة. تنمّي دونما انقطاع هبة الشركة بين المؤمنين بتربية الإيمان المستديمة وممارسة المحبة. تعمل على تعزيز الرسالة بأرسال المؤمنين بالمسيح إلى إعلان إنجيله بالكلمات والافعال، في العالم كله( الخطوط العريضة، 12).
صلاة
أيها الرب يسوع، لقد أشركتنا بمسحة الروح القدس، فصوَّرتنا على مثالك في خدمة التعليم والتقديس والتدبير، أنت النبي والكاهن والملك بامتياز. هبنا نعمتك لنحافظ على هذه المسحة والهوية التي تعطينا إياهما، ولنلتزم بالرسالة المسيحية والكهنوتية والرهبانية في مجتمعنا. فليساعدنا روحك القدوس على خدمة الكلمة والنعمة والمحبة، التي مُسحنا بالميرون من أجلها. وفيما الكنيسة تلتزم بالإعلان الجديد للإنجيل من أجل نقل الايمان المسيحي، هبنا نعمتك، أيها المسيح، لكي نلتزم نحن أيضاً في عملية نقل الإيمان، بغية تغيير وجه العالم وخلاص كل إنسان. ونرفع المجد للثالوث المجيد، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.