التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي
الاحد الثاني عشر من زمن العنصرة – الأحد 12 آب 2012
إيمــان المــرأة الكنعــانيــة متى 15: 21-28
وجهٌ آخر من حياة الكنيسة ورسالتها يظهر في إنجيل هذا الأحد من زمنها، زمن العنصرة، وهو قدرة الإيمان ومحنة الإيمان. قدرة إيمان المرأة الكنعانية، وامتحان الرب يسوع لإيمانها، ظاهران في رواية إنجيل القديس متى. نلتمس في هذا الأحد هبةَ الإيمان الثابت على الرجاء، والمندفع من المحبّة
أولاً، شرح نصّ الانجيل
من انجيل القديس متى 15: 21-28
إنْصَرَفَ يَسُوعُ إِلى نَواحِي صُورَ وصَيْدا، وإِذَا بِٱمْرَأَةٍ كَنْعَانِيَّةٍ مِنْ تِلْكَ النَّواحي خَرَجَتْ تَصْرُخُ وتَقُول: “إِرْحَمْني، يَا رَبّ، يَا ٱبْنَ دَاوُد! إِنَّ ٱبْنَتِي بِهَا شَيْطَانٌ يُعَذِّبُهَا جِدًّا”. فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَة. ودَنَا تَلامِيذُهُ فَأَخَذُوا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ قَائِلين: “إِصْرِفْهَا، فَإِنَّهَا تَصْرُخُ في إِثْرِنَا”. فَأَجَابَ وقَال: “لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلى الخِرَافِ الضَّالَّةِ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيل”. أَمَّا هِيَ فَأَتَتْ وسَجَدَتْ لَهُ وقَالَتْ: “سَاعِدْنِي، يَا رَبّ”. فَأَجَابَ وقَال: “لا يَحْسُنُ أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ البَنِين، ويُلْقَى إِلى جِرَاءِ الكِلاب!” فقَالَتْ: “نَعَم، يَا رَبّ! وجِرَاءُ الكِلابِ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الفُتَاتِ المُتَسَاقِطِ عَنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا”. حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهَا: “أيَّتُهَا ٱلمَرْأَة، عَظِيْمٌ إِيْمَانُكِ! فَلْيَكُنْ لَكِ كَمَا تُريدِين”. وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ شُفِيَتِ ٱبْنَتُهَا
يسوع في صور وصيدا، التي كان يسكنها وثنيون وكنعانيون، منفتحون على الآخَر المختلف، وعلى قيَمه وتراثه. كان يتردّد يسوع إليها، وكان يجد فيها الهدوء والسكينة. وفي قانا، من منطقتها، كشف ألوهيّته باجتراح أول معجزة، إذ دُعيَ إلى عرسٍ هناك، وحوّل ستة أجاجين من الماء إلى خمر فائق الجودة(يو2: 1-12).
ذاع صيتُ يسوع في تلك النواحي، وسمعت به المرأة الكنعانية، وآمنت بقدرته ورأت فيه الرحمة لبني البشر. وما إن رأته، حتى رفعت إليه صرخة إيمانٍ واعٍ ومدرك وقَعَ في صميم قلب يسوع، لأنّه حمل كلمات تكشف هويّته ورسالته، وهي بالتالي عزيزة على قلبه: سمَّتْهُ “ألرب” لاعتباره إنساناً غير عادي؛ وسمّتْه ابن داود لإدراكها أنّه مرسل من عند الله لتحرير الشعب من معاناته؛ طلبت رحمة وشفاء لأنها رسالته التي من أجلها هو ابن داود. هذا هو إيمان المرأة الكنعانية التي أعلنته بصرختها المستغيثة. إيمان واضح وصريح وثابت
أراد الرب يسوع أن يمتحن إيمانها، ربما لمعرفته المسبقة بنوعيّة هذا الايمان وصموده، وبغية إظهاره وامتداحه، وفي كل حال لامتحانه والتثبّت من صموده. إن الصعوبة والمحنة والتجربة إنّما تهدف إلى النضج في القرار، في الحب، في الالتزام، في الرجولة والانوثة. الذهب المصفّى يحتاج إلى النار، وكذلك الطعام الناضج، والبخور يحتاج الى الجمر ليعطي أريجه
لقد تحدّى يسوع إيمان الكنعانية، مع شيء من الإهانة، على ثلاث دفعات:
الأولى، إظهار عدم الاكتراث بها وبابنتها المريضة، إذ لم يُصغِ لندائها، وكأنه ما سمعه أو لا يريد أن يسمعه.
الثانية، إقصاء الرحمة عنها وعن ابنتها، لأنها ليست من بني إسرائيل، ولا من جماعة اليهود، كما قال الرسل
الثالثة، إهانتها الكبيرة باعتبارها وابنتها المريضة من جراء الكلاب
أمّا هي فظلّت صامدة في الحالات الثلاث: في الأولى استمرّت تنادي: “يا ابن داود ارحمني”(إلحاح الايمان)؛ في الثانية أتت وسجدت أمامه وقالت: “ساعدني يا رب”(ثبات الايمان)؛ وفي الثالثة أعطت جواب الايمان المتواضع المليء احتراماً: “نعم يا رب، وجراء الكلاب تأكل من الفتات المتساقط عن مائدة أربابها”. فأُعجب يسوع، وامتدح إيمانها، ولبّى طلبها: “أيتها المرأة، عظيم إيمانك! فليكن لك كما تريدين.”
نفهم من هذه الحادثة لماذا يدعونا الرب يسوع للصلاة بإلحاح ويقول: “إسألوا تُعطَوا، أطلبوا تجدوا، إقرعوا يُفتَح لكم. لأنَّ مَن يسأل ينل، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتَح له”(متى7: 7-8)، فلأن الإلحاح في الصلاة ينطوي على الثبات والتواضع من جهة المُصلّي. أمّا من جهة المسيح الرب، يقول القديس أغوسطينوس، “فلأنّه يُريد أن يُلبّي صلاتنا. فإنّه يُصلّي معنا كرأس، ومن أجلنا ككاهن، ويستجيب لنا كإله.”
* * *
ثانياً، جمعية سينودس الأساقفة العاديّة الثالثة عشرة: الإعلان الجديد للإنجيل من أجل نقل الإيمان المسيحي(7-28 تشرين الاول 2012)
يحمل الفصل الاول من وثيقة “أدة العمل” عنوان: يسوع المسيح، إنجيل الله للإنسان.
1. يبدأ هذا الفصل بتحديد مفهوم الإيمان المسيحي الذي هو لقاء شخصي وعلاقة مع يسوع المسيح، وتالياً يحتوي عقيدة ومعرفة وقواعد أخلاقيّة، وتقليداً. ويُحدِّد أيضاً مفهوم نقل الإيمان بأنه خلق الأوضاع التي تسمح بهذا اللقاء بين الناس ويسوع المسيح، في كل مكان وزمان. ويحدّد أخيراً مفهوم إعلان الانجيل(الأنجلة) بأنّه تحقيق لهذا اللقاء الحميم والشخصي، العمومي والجماعي. أمّا اللقاء فهو علاقة الحب بين الله والإنسان. بما أنَّ الله أحبّنا أولاً(1يو4: 10)، فقد أصبح الحب، لا وصيّة فقط، بل جواباً من الإنسان على هبة الحب التي يلاقينا الله بها(بندكتوس السادس عشر، الله محبة،1). وهكذا تأخذ الكنيسة شكلها إنطلاقاً من علاقة الحب بينها وبين الله بالمسيح وفعل الروح القدس(فقرة 18)
2. ثم يشرح النص أنَّ اللقاء مع يسوع بفعل الروح القدس هو الهبة الكبرى من الآب للناس. ويصف مضمون هذا اللقاء(الفقرة 19)
– إنه لقاء نتهيَّأ له بفعل النعمة المُعطاة لنا
– لقاء يجتذبنا ويحوّلنا بإدخالنا في أبعاد جديدة من هويتنا، وباشتراكنا في الحياة الالهية(2بط1: 4)
– لقاء لا يترك شيئاً على ما كان عليه قبلاً، بل يتّخذ شكل ثورة على الذات “Metanoia”، والتوبة، عملاً بقول يسوع: “لقد اقترب ملكوت الله: توبوا وآمنوا بالانجيل”(مر1: 15)
– لقاء يحمل شكل العلاقة مع المسيح والتذكار لا سيما في الافخارستيّا وكلام الله.
– لقاء يخلق فينا ذهنية المسيح، بنعمة الروح القدس، بحيث نعرف أننا أخوة، يجمعنا الروح القدس في الكنيسة، لنكون بدورنا شهوداً ومُعلنين لهذا الانجيل
– لقاء يعطينا القدرة على صنع أشياء جديدة، وعلى الشهادة لتحوّل حياتنا، بفضل أفعال الارتداد المعلنة من الانبياء(ار3: 6+؛ حز36: 24-36)
إنَّ نتيجة هذا اللقاء مع يسوع المسيح اثنتان: الانجلة والشهادة(الفقرة 20)
3. ويُؤكِّد الفصل الأول أن يسوع، الذي هو إنجيل الله، هو أوّل وأكبر مُعلن للإنجيل (Évangélisateur)، بمعنى أنّه مُرسَل من الله ليعلن إتمام إنجيل الله، المعلَن سابقاً في تاريخ شعب الله القديم، وبخاصة على لسان الأنبياء وفي الكتب المقدسة
انجيل متى يتميَّز باقتباسات من الأنبياء تحققت في شخص يسوع(متى1: 22؛ 2: 15 و 17 و 23؛ 4: 14؛ 8: 17؛ 12: 17؛ 13: 35؛ 21: 4). يسوع نفسه يؤكِّد عند اعتقاله: “هذا جرى لتتم كتابات الانبياء”(متى26: 56)
إنجيل لوقا ينقل أن يسوع في بداية حياته العلنيّة أعلن في مجمع الناصرة بعد قراءته نصّاً من نبوءة آشعيا: “اليوم تمّت هذه الكتابة التي تُليَت على مسامعكم”(لو4: 21). ويسوع يشرح سرّ موته وقيامته لتلميذَي عمّاوس وفقاً لأقوال موسى والأنبياء وسائر الكتب بشأنه(لو24: 27)، وكذلك فعل مع الأحد عشر قائلاً: “هذا ما قلته لكم وأنا معكم، أنّه ينبغي أن يتمّ كل ما كُتبَ عنّي في شريعة موسى والأنبياء وفي المزامير(لو24: 44). ثم ينهي لوقا بالقول: “ثمّ فتح يسوع أذهانهم ليفهموا الكتب”(لو24: 45) (الفقرتان 21 و 22)
4. الغاية من الانجلة بالنسبة إلى يسوع اجتذاب الناس إلى قلب اتّحاده بالآب والروح. هذا هو معنى كرازته وآياته: إعلان الخلاص الذي هو، من خلال أفعال الشفاء، الاختبار العميق المُعطى لكل إنسان، بحيث يشعر أنه محبوب من الله، ويرى فيه وجه أبٍ محبٍّ رحوم(لو15). وفي ضوء ذلك وبنتيجته، يتَّسع إعلان الخلاص إلى إجراء تحوّل إجتماعي وثقافي في المجتمع البشري. عندما أجرى يسوع آيات الشفاء أمام بعثة يوحنا المعمدان، وهي آيات كتب عنها الأنبياء على أنها تكشف هويّة المسيح الآتي، كتجلّيات لسرّ الله الغني بالرحمة، أكّد ليوحنّا أنه “هو الآتي”، حسب أقوال الانبياء(آشعيا29: 18؛ 35: 5-6؛ 42: 18؛ 26: 19؛ 61: 1)(الفقرة 23)
5. انجلة يسوع تتميز بفنّه في اجتذاب الناس إليه وطريقة استقبالهم من دون تمييز أو إقصاء: الفقراء عامّة ثم الأغنياء، مثل زكّا ويوسف الرامي، والغرباء مثل قائد المئة والمرأة الكنعانية، الصلاّح مثل نتنائيل، والخطأة العموميين مثل المرأة المأخوذة في زنى. عرف يسوع كيف يذهب إلى عمق الانسان، ويجعله يولد من جديد في الايمان بالله الذي أحبّه أولاً(1يو4: 10 و 19). وهكذا يُدرك الانسان أنَّ الايمان المسيحي في جوهره هو الايمان بالحب عبر وجهه وصوته، يسوع المسيح(الفقرة 23)
* * *
صلاة
أيها الربُّ يسوع، إنّك تدعونا إلى الإيمان بك عندما نسمع أقوالك ونقرأ آياتك وننظر إليك. وتعلّمنا أن للايمان قدرةً فائقة هي منك، وأنَّه يمرّ بمصاعب ومحن ورفض، فلا بدّ من الثباتِ فيه برجاء وتواضع. وقلتَ: “مَن يصبر حتى النهاية يخلص”. أعطنا أن نتمثَّل بإيمان المرأة الكنعانية الثابت على الرجاء، والصادر من تواضع القلب والثقة بشخصك. لقد علَّمَتْنا آيةُ الإنجيل أنَّ الإيمان هو لقاء شخصيٌّ بك وعلاقة حبٍّ واجتذابٍ إليك، لأنّك أنتَ المحبّة والرحمة المتجسّدتان. وهذا هو موضوع الانجيل، أعني أنتَ كلمته الذي تعلنه الكنيسة، وتحتفل به في الأسرار، وتعيشه ثقافةً وأخلاقيّةً. بارك الاستعداد لجمعية سينودس الاساقفة، لكي تستطيع الكنيسة أن تعلن للعالم بأسلوب جديد وحرارة جديدة إنجيلك الذي هو أنت “يسوع المسيح، إنجيل الله للإنسان”. فنرفع آيات المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين