التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي
الأحـد السادس عشر من زمن العنصرة – الأحد 9 أيلول 2012
(لو18: 9-14)
زمن العنصرة هو زمن الكنيسة، وينتهي مع هذا الأحد الذي يكشف آخر عنصر من حياة الكنيسة ورسالتها، وهو الصلاة. في مثل إنجيل يؤكّد الربّ يسوع أنّ أساس الصلاة التواضع، وأنّ مصدرها القلب، وأنّها وقفة توبة واستغفار أمام الله
أولاً، شرح نصّ الانجيل
من إنجيل القديس لوقا 18: 9-14
قالَ الرَبُّ يَسُوعُ هذَا الْمَثَلَ لأُنَاسٍ يَثِقُونَ في أَنْفُسِهِم أَنَّهُم أَبْرَار، وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرين: «رَجُلانِ صَعِدَا إِلى الْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا، أَحَدُهُما فَرِّيسيٌّ وَالآخَرُ عَشَّار. فَوَقَفَ الفَرِّيسِيُّ يُصَلِّي في نَفْسِهِ وَيَقُول: أَللّهُمَّ، أَشْكُرُكَ لأَنِّي لَسْتُ كَبَاقِي النَاسِ الطَمَّاعِينَ الظَالِمِينَ الزُنَاة، وَلا كَهذَا العَشَّار. إِنِّي أَصُومُ مَرَّتَينِ في الأُسْبُوع، وَأُؤَدِّي العُشْرَ عَنْ كُلِّ مَا أَقْتَنِي. أَمَّا العَشَّارُ فَوَقَفَ بَعِيدًا وَهُوَ لا يُرِيدُ حَتَّى أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ إِلى السَمَاء، بَلْ كانَ يَقْرَعُ صَدْرَهُ قَائِلاً: أَللّهُمَّ، إِصْفَحْ عَنِّي أَنَا الخَاطِئ! أَقُولُ لَكُم إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا، أَمَّا ذاكَ فَلا! لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يُوَاضَع، وَمَنْ يُواضِعُ نَفْسَهُ يُرْفَع.»
1 . يشجب الربّ يسوع موقف الذين يعتدّون أنّهم أبرار، ويحتقرون الآخرين. ويقول إنّهم غير مقبولين لدى الله، الذي يعرف مكنونات قلب الإنسان. إنّ الذين واللواتي رفعتهم الكنيسة قدّيسين وطوباويّين، كانوا يعدّون أنفسهم أكبر الخطأة، ويلتمسون رحمة الله بالصلاة والتقشّف والإماتة، وباللجوء المتواتر إلى سرّ التوبة. ولهذا السبب نهج بعضهم نهج النسك، كالحبيس القديس شربل. وكانوا يعتبرون الآخرين أفضل منهم. يُروى أنّ القديس نعمة الله الحرديني كان يعترف كلّ يوم. ذلك أنّ الأبرار مهما سموا بالفضيلة أمام الناس، كانوا بسبب وقوفهم الوجداني أمام قداسة الله، يجدون ذواتهم خطأة، قياساً بقداسة الله. إنّ النور المشعّ يكشف كلّ الشوائب.
نذكر ما جرى لأشعيا النبي عندما رأى مجد الله. فيخبر:
“رأيت السيد جالساً على عرشٍ عالٍ رفيع… ومن فوقه سرافون قائمون ستّة أجنحة لكلّ واحد… وكان هذا ينادي ذاك ويقول: قدّوس قدّوس قدّوس، ربّ القوّات، الأرض كلّها مملوءة من مجده. فتزعزعت أسس الأعتاب من صوت المنادين وامتلأ البيت دخاناً. فقلت: ويل لي، قد هلكت لأنّي رجل نجس الشفتَين، وأنا مقيم بين شعب نجس الشفاه، وقد رأت عيناي الملك ربّ القوّات. فطار إليّ أحد السرافين، وبيده جمرة أخذها بملقط من المذبح، ومسّ بها فمي وقال: “ها إنّ هذه قد مسّت شفتيك، فأُزيل إثمك، وكُفّرت خطيئتك”. ثم دعاه وأرسله (أشعيا 6: 1-9).
ونذكر أيضاً ما جرى لسمعان بطرس. لمّا رأى الصّيد العجيب الذي أصابه مع رفاقه عندما عادوا ورموا الشباك من جديد، “من أجل كلمة يسوع”، بعد ليلة صيد فاشلة، ارتمى عند قدمَي يسوع وقال: “تباعدْ عنّي يا ربّ إنّي رجل خاطئ. فقال له يسوع: “لا تخفْ! ستكون بعد اليوم صيّاداً للبشر. فتركوا كلّ شيء وتبعوه” (لو5: 8-11).
ونذكر أخيراً زكّا العشار الذي، لمّا دخل يسوع بيته، واستضافه مسروراً، انفتحت أمام عينَيه سيرة حياته الشاذّة، بمجرّد تواجده في حضرة الربّ. “فوقف زكّا وقال ليسوع: يا ربّ ها إنّي أعطي الفقراء نصف أموالي. وإذا كنت قد ظلمت أحداً شيئاً، أردّه عليه أربعة أضعاف. فقال يسوع فيه: اليوم دخل الخلاص إلى هذا البيت” (لو19: 8-9).
2. نستخلص من كلّ هذه الوجوه أنّ الصلاة هي أوّلاً وقفة وجدانيّة أمام الله، وقراءة شخصيّة لحياة كلّ واحد منّا في ضوء قداسة الله، وقياساً لكلامه ووصاياه. لكنّ هذه الوقفة وهذه القراءة تشترطان لدى كلّ إنسان فضيلة التواضع. لأنّ المتكبّر لا يرى إلّا ذاته. وإن وقف أمام الله، إنّما يقف للتّباهي أمام الناس ولامتداح نفسه.
المثل البليغ، الذي أعطاه يسوع عن الرجلَين اللّذَين دخلا الهيكل للصلاة، يكشف كلّ هذه الحقيقة. الفرّيسي، رجل الشريعة، المتديِّن، العارف المتعمِّق في الكتب المقدّسة، لم تكنْ صلاتُه وقفةً وجدانيّة أمام قداسة الله، بل كانت وقفة أمام ذاته، وطلب بصلاته المتباهية شهادة الله له ومديحه على ما هو وعلى أصوامه وإداء العشر، وأدان الناس الباقين ووصفهم بأنّهم طمّاعون، ظالمون وزناة، ومن بينهم العشّار الذي كان يصلّي في مؤخّرة الهيكل.
أمّا العشّار، فكان معتبَراً في محيطه أنّه خاطئ، بسبب وظيفته كجابٍ للمال التي كانت توقعه في تجربة سلب بعض الأموال، وبسبب جباية للمال للسلطة الرومانية الوثنية المحتلّة لأرض يهوه. هذا العشّار أقرّ بخطيئته فوقف بتواضع كلّي، “بعيداً في الهيكل من دون أن يجرؤ حتى أن يرفع عينَيه إلى السماء بل كان يقرع صدره ويقول: “اللهمّ، إغفر لي أنا الخاطئ”.
في ختام هذا المثل، قيّم الربّ يسوع صلاة الرجلَين فقال: “إنّ العشّار نزل إلى بيته مُبرَّراً، أمّا الفرّيسي فلا”. وأعطى الأمثولة لنا جميعاً: كلّ من يرفع نفسه يُواضَع. ومن يواضع نفسه يُرفع” (لو 18: 14).
2 . الصلاة علاقة شخصيّة حيّة مع الإله الحيّ والحقّ (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2558). وتصفها القديسة تريز الطفل يسوع بالقول: “الصلاة عندي هي دافع من القلب، ونظرة صافية إلى السماء، وصرخة حبّ تشمل معاً المحنة والفرح (المرجع نفسه). والصلاة هي ارتفاع العقل والقلب إلى الله، والتماس الخيرات من جودته، بعمق التواضع وتوبة قلب. لكنّ أساس الصلاة التواضع لأنّ “من يواضع نفسه يُرفع”. لا بدّ من التماس نعمة الصلاة لأنها عطيّة من الله. يقول القديس أغسطينوس: الإنسان هو شحّاذ يستعطي من الله. هي عطيّة لأنّ فيها خيرنا، وهي الوسيلة لالتماس عطايا الله واستحقاقها ونيلها. ويقول أيضاً القديس أغسطينوس: “الصلاة هي اللقاء بين عطش الله وعطشنا. فالله يعطش لكي نتمكّن من العطش إليه” (المرجع نفسه، 2560).
لقاء الربّ يسوع بالمراة السامرية على بئر يعقوب والحوار الذي دار بينهما، بيّن هذا العطش المتبادل. يسوع أخذ المبادرة وطلب منها أن يشرب. ولمّا رفضت، قال لها: “لو كنتِ تعرفين عطيّة الله، ومن هو الذي يقول لكِ: إسقني، لسألته أنتِ، فأعطاكِ ماءً حيّاً” (يو 4: 10). إنّ عظمة الصلاة تظهر قرب البئر حيث نذهب لنستقي ماءً، هناك يأتي يسوع ليلتقي كلّ كائن بشري. هو أولاً يبحث عنّا ويطلب منّا أن نسقيه. وطلبه ينبع من عمق شوق الله إلينا.
صلاة الطلب التي نرفعها هي جواب على كلام الله. جواب الإيمان على الوعد الحرّ بالخلاص، وجواب الحبّ على عطش ابن الله الوحيد ليعطينا ماء الحياة، الروح القدس: “إن عطش أحد، فليُقبلْ إليَّ. ومنْ آمن بي فليشربْ، لأنّه ستجري منه أنهار الماء الحيّ” (يو 7: 37-38). تنبّأ أشعيا عن هذه الحقيقة: “وتستقون المياه من ينابيع الخلاص مبتهجين” (أشعيا 12: 3) لكنّ الذين لا يرتوون بالصلاة من ينابيع الخلاص، يقول عنهم الله بلسان إرميا: “إنّ شعبي صنع شرَّين: تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة، وحفروا لأنفسهم آباراً مشقّقة لا تمسك الماء” (إرميا 2: 13).
* * *
ثانياً، جمعية سينودس الأساقفة العادية الثالثة عشرة: الإعلان الجديد للإنجيل من أجل نقل الإيمان المسيحي.
من الفصل الثاني من “أداة العمل”، وعنوانه: “زمن الأنجلة الجديدة”، نواصل عرض المشاهد التي تستدعي أنجلة جديدة (الفقرة 56).
1. المشهد الإقتصادي مسؤول بجزء كبير عن ظاهرة الهجرة، وأنواع التوترات وأشكال العنف، بنتيجة عدم المساواة داخل الدول وفيما بينها، واتّساع الهوّة بين الأغنياء والفقراء. تواصل الكنيسة دعوتها لتوزيع ثروات الارض توزيعاً عادلاً، والحدّ من إنزال الضّرر في الخلق، والإلتزام بحسن استعمال الثروات الطبيعية والبشرية، بروح الفقر الإنجيلي.
3 . المشهد السياسي يقتضي، في ضوء كلّ تحوّلاته، التزاماً من أجل السلام والإنماء وتحرير الشعوب، وبحثاً عن اشكال ممكنة للسماع والعيش معاً والحوار والتعاون بين مختلف الثقافات والأديان، والدفاع عن حقوق الإنسان والشعوب وبخاصّة حقوق الأقلّيات، وتعزيز الضعفاء، وحماية الخلق مع الإلتزام بمستقبل كوكبنا. يبقى على الكنائس الخاصّة أن تحفظ هذه المواضيع وتعزّزها في حياة جماعاتها اليومية.
3 . مشهد البحث العلمي والتكنولوجي توصّل إلى اكتشافات مذهلة لها نتائجها الإيجابية الكبيرة على كلّ المستويات. لكنّه ولّد الخطر بجعل العلم صنماً وديانة جديدة. الأنجلة الجديدة تقتضي ربط هذا المشهد بالإيمان والوحي الإلهي المكتوب والمطبوع في طبيعة الإنسان.
4 . مشهد وسائل الإعلام يقدّم إمكانات واسعة ويشكّل أحد أكبر التحدّيات أمام الكنيسة، له تأثيره في الدول النامية وتلك التي في طور النموّ، في حياتها الإجتماعية وثقافتها ونظرتها للأمور. لقد أصبح مكان الحياة العامّة والإختبار الإجتماعي. الكنيسة مدعوّة في عملها الراعوي إلى استخدام أوسع لوسائل الإتصال التقليديّة كالصحافة والراديو والتلفزيون، والوسائل الجديدة، لما توفّر من قدرات وإمكانيات.
صلاة
أيّها الربّ يسوع، أنت صلّيت إلى أبيك في كلّ محطات حياتك اليومية، وعلّمتنا كيف نصلّي بمَثَل حياتك وكلماتك وآياتك، وبخاصّة بتواضعك وطاعتك لمشيئة الآب. عزّزْ فينا فضيلة التواضع لنقرّ بضعفنا وخطايانا أمام قدرتك وقداستك. إفتحْ أذهاننا بأنوار روحك القدّوس، لكي نحفظ كلام الإنجيل في قلوبنا، ونعطي جوابنا بصلاة ترفع عقولنا وقلوبنا إلى الله ونلتمس منه كلّ ما نحتاج إليه، بدالّة البنين، لأنّ منه كلّ عطيّة صالحة. أعطنا أن ندرك حضورك الدائم معنا بكلمة الإنجيل ونعمة الأسرار وهبة الروح القدس، فنذهب إليك ونرتوي منك ماء الحياة والخلاص. ونسألك، أيّها الربّ يسوع، أن تحقّق على خير ونجاح زيارة نائبك على الأرض البابا بندكتوس السادس عشر إلى لبنان، حاملاً عطيّةَ السلام ونداءَه، والذي سينقل إلينا، في الإرشاد الرسولي الخاصّ بمسيحيي الشرق الأوسط، ما يقول الروح لكنائسنا المشرقيّة. ونرفع للآب والابن والروح القدس كلّ مجد وشكر الآن وإلى الأبد، آمين.