التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي الأحد الرابع من زمن الصليب – الأحد 7 تشرين الأوّل 2012

التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي

الأحد الرابع من زمن الصليب – الأحد 7 تشرين الأوّل 2012

(متى 24: 23-31)

 لأنّ زمن الصليب هو زمن الالتزام في التاريخ، ويلقي الضوء على النهايات المعروفة “بالواقعات الجديدة”، ينقل إنجيل اليوم كلام الربّ يسوع أنّ الحياة، وما تحتوي عليه من مسؤوليات في العائلة والكنيسة والمجتمع والدولة، إنّما هي وكالة تقتضي الأمانة والحكمة؛ ويتكلّم عن تأدية الحساب عن واجب الوكالة بعد الموت. يشترك معنا اليوم في برنامج التنشئة المسيحية شبيبة حركة القدّيس بولس، الملتزمة بحفظ وديعة الإيمان المسيحي والالتزام بعيش مقتضياته في العمل والحياة العامّة.

 أوّلاً، تفسير النصّ الإنجيلي

من إنجيل القديس متى 24: 45-51

قالَ الرَبُّ يَسُوع: «مَنْ هُوَ العَبْدُ الأَمِينُ الحَكِيْمُ الَّذي أَقَامَهُ سَيِّدُهُ عَلى أَهْلِ بَيتِهِ، لِيُعْطِيَهُمُ الطَعَامَ في حِينِهِ؟ طُوبَى  لِذلِكَ العَبْدِ الَّذي يَجِيءُ سَيِّدُهُ فَيَجِدُهُ فَاعِلاً  هكَذَا! أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنَّهُ يُقِيْمُهُ عَلى جَمِيعِ مُمْتَلَكَاتِهِ. ولكِنْ إِنْ قَالَ ذلِكَ العَبْدُ الشِرِّيرُ في قَلْبِهِ: سَيَتَأَخَّرُ سَيِّدِي! وبَدَأَ يَضْرِبُ رِفَاقَهُ، ويَأْكُلُ ويَشْرَبُ مَعَ السِكِّيرِين، يَجِيءُ سَيِّدُ  ذلِكَ العَبْدِ في يَومٍ لا يَنْتَظِرُهُ، وفي سَاعَةٍ لا يَعْرِفُهَا، فَيَفْصِلُهُ، ويَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ المُرَائِين. هُنَاكَ يَكُونُ البُكَاءُ وصَرِيفُ الأَسْنَان».

    من تراه العبد الأمين الحكيم (متى 24-45)

   1. لفظة “عبد” في الكتاب المقدّس تشتقّ من العبادة، لا من العبودية. العبد هو عابد الله المخلص له، الذي يختاره الله، ويوكل إليه رسالة، هي بحدّ ذاتها مسؤولية وخدمة للجماعة. “من تراه الوكيل الذي اقامه سيّدُه لخدمة أهل بيته”. هذا التوكيل  ينطبق على كلّ واجب ومسؤوليّة، وفقاً لحالة كلّ شخص سواء في العائلة أم في الكنيسة، في المجتمع أم في الدولة.

   الحياة الشخصيّة نفسها وكالة، ولا تخصّ بالمطلق الإنسان صاحبها. فهي هبة من الله بواسطة الوالدين، وهبة في الأساس جميلة لأنها تحمل صورة الله. وبالتالي الهبة مسؤولية تقتضي المحافظة عليها بجمالها، لأنّها ستُعاد إلى الله معطيها في مساء الحياة.

   الإيمان الموروث في العائلة هبة ثمينة ومسؤولية تستوجب المحافظة عليه، وتثقيفه وإنماؤه والعيش بمقتضى حقائقه وأخلاقياته. المعمودية التي جعلتنا أبناء وبنات لله، مستنيرين بالإيمان، ومقدَّسين بالنعمة، وكوّنتنا هيكلاً للروح القدس، هي الهبة الأهمّ ومسؤولية تستدعي تحقيق ما أحدثت فينا من خلق جديد. لا يمكن الفصل بين الكينونة والصيرورة.

   2. أنتم في حركة القديس بولس تعملون على تنشئة شبيبة ملتزمة بإيمانها المسيحي، وقادرة على أن تكون نوراً للعالم وملحاً للأرض، فتنتصر قضيّة يسوع المسيح في عالمنا، وتساهم في إحلال حضارة المحبة، وخلاص الإنسان. وبذلك تعيشون مقتضيات معموديتكم والميرون كوكلاء أمناء وحكماء، فتعملون، من أجل هذه الغاية، على إحياء مخيّمات تنشئة روحيّة ولاهوتيّة وإنسانيّة لشبيبتنا، وعلى تقديم المساعدة لكهنة الرعايا ومعلِّمي التعليم المسيحي والقيام بنشاطات موجّهة في المياتم ودور المسنّين والسجون.

   إنّنا نشكر الله على هذه النعمة، ونشكر شفيعكم القديس بولس الرسول الذي يلقّب نفسه في رسائله “بعبد يسوع المسيح، الذي أُفرز لإعلان إنجيله”. نشكر على قيام هذه الحركة الرسوليّة العلمانيّة في كنيستنا. وقد انتشر أعضاؤها في كسروان والمتن وبيروت والبقاع، وخارج لبنان مثل نيجيريا والمانيا واوستراليا. تأسيس حركتكم سنة 2000 هو ثمرة يوبيل الألفين الكبير وهبته للكنيسة. وقد قارب عددكم إلى الآن الخمسماية.

   3. يطلب الربّ يسوع من العبد الوكيل أن يكون أميناً وحكيماً. الأمانة لله الواحد والثالوث، للآب الذي يغمرنا بمحبته، وللإبن الذي يدعونا لاتّباعه في حياتنا ومسؤوليّاتنا، وللروح القدس الذي يهدينا بأنواره ويعضدنا بمواهبه السبع. والأمانة للذات بالمحافظة على هويتها وكينونتها، والالتزام بصيرورتها. فالأمانة للّذين تربطنا بهم مسؤوليّة وواجب. الأمانة تعني الاستمرارية في قرار اليوم الأوّل، بالرغم من الرتابة والصعوبات والمحن و”صمت الله”.

   أمّا الحكمة، وهي أولى مواهب الروح القدس، التي تنير عقلنا وإيماننا، فهي النظر دائماً إلى الواجب والمسؤولية والحالة من منظار الله. ما يعني اتّخاذ القرار والموقف والمبادرة باستحضار الله، واستلهام كلامه ووصاياه، والحرص على السَّير امامه من دون لوم. الحكمة هي استحضار الله. يشجب الربّ يسوع في الإنجيل مسلك “العبد الشرير” الذي استغيب الله وقال في قلبه: “سيتأخر سيدي”، وبالتالي راح يسيء استعمال مسؤوليته وحالته، إذ “بدأ يضرب رفاقه، ويأكل وبشرب مع السكّيرين”.

   4. لقد اخترتم لهذه السنة الرسولية (2012-2013) موضوع “ملح الأرض” مع التركيز على تقديس العمل في الحياة اليومية، وتقديس الذات فيه، والشهادة للمسيح من خلاله. إنّ لاهوت العمل يعلّمنا أنّ الإنسان، المخلوق على صورة الله، تسلّم منه الأمر بإخضاع الأرض وما عليها، وإكمال عمل الخلق بحراستها وحراثتها، وليتولّى شؤونها بالعدل والقداسة (تك1: 26-27؛ 9: 2-3؛ حكمة 9: 2-3)، وليسير بنفسه وبها إلى الله في الأرض كلّها (مز 8: 7و10). هذا الكلام يسري على العمل اليومي. الرجال والنساء الذين يعملون لكسب خبزهم ووسائل العيش لهم ولعائلاتهم، ولخدمة المجتمع، فإنّهم يواصلون عمل الخالق، ويساهمون في تحقيق تصميم عناية الله في التاريخ. إنّ ما يحقّقون، هم وسواهم، من انتظارات واكتشافات وتقدّم، هو علامة لعظمة الله، وثمرة مخطّطه الفائق الوصف. وبقدر ما تنمو قدرة الناس، بقدر ذلك تتّسع مسؤولياتهم الفرديّة والجماعيّة. فلا يحلمنَّ أحدٌ من الناس أن يضع إنتاجات الفكر والعلم وقدرة الإنسان، بمقابل قدرة الله، وكأنّ الخليقة الناطقة تزاحم الخالق (الكنيسة في عالم اليوم، 34).

   إنّ موضوع التنشئة الرامي إلى تقديس العمل في الحياة اليومية، وتقديس الذات فيه، يؤكّد من باب الإيمان أنّه عندما يقدّم الإنسان عمله الشخصي لله، فهو ينضمّ إلى عمل الفداء الذي أتمّه المسيح، هو الذي أعطى العمل قيمة رفيعة، فيما كان يعمل بيدَيه في الناصرة. ولذا يعود لكلّ إنسان واجب العمل بأمانة، والحقّ في العمل (المرجع نفسه، 67).

   اخترتم شعار “ملح الأرض” بحيث تضعون الربّ يسوع في كلّ عمل تقومون به، شخصيّاً أو جماعيّاً، فيعطيه طعماً ومعنى، كما يُطيّب الملح نكهة الطعام، وبذلك “تمسحنون العمل”.

   5. “يجيء سيّد ذلك العبد في يوم لا ينتظره، وفي ساعة لا يعرفها” (متى 24: 5).

   مجيء السيّد يحصل عند موت الإنسان. يؤكّد الربّ يسوع حتميّة الموت الذي لا يعرف أحد وقته. المطلوب أن يكون كلّ واحد مستعدّاً لذلك الموعد الحاسم “بالأمانة والحكمة” في ممارسة الواجب – الوكالة. فلا يسْتَغيب سيّده ولا يستبطئ مجيئه، لئلّا يسقط في الرتابة وينسى أنّه موكّل، وأنّ الله الذي ائتمنه على الحياة والواجب والمسؤولية سيطالبه بثمار وكالته.

   هذه هي الدينونة الشخصية بعد الموت، وفيها ثواب وعقاب. إنجيل اليوم يتكلّم على العقاب: “يفصل العبد الشرير ويجعل نصيبه مع المرائين. هناك يكون البكاء وصريف الأسنان” (متى24: 51). واضح أنّ “العبد الشرير” هو الذي اختار هلاكه والعقاب، لأنّه لم يكن أميناً لسيّده الذي أوكله، وللجماعة التي ائتُمن على خدمتها، ولم يكن حكيماً في تحمّل مسؤولياته. الله لا يريد هلاك الإنسان، بل خلاصه. ولهذا أرسل ابنه الوحيد إلى العالم فادياً ومخلّصاً، لكي لا يهلك أحد من الذين في العالم، على ما أكّد باستمرار الربّ يسوع في الإنجيل.

*     *     *

  ثانياً، جمعية سينودس الأساقفة العادية الثالثة عشرة: الإعلان الجديد للإنجيل، من أجل نقل الإيمان المسيحي.

   تبدأ في هذا الأحد الأوّل من تشرين الأوّل، بقداس احتفالي في بازيليك القديس بطرس بروما، جمعيّة سينودس الأساقفة العادية حول موضوع: “الإعلان الجديد للإنجيل، من أجل نقل الإيمان المسيحي”. نواكب بالصلاة أعمال هذا السينودس التي تدوم حتى الأحد 28 تشرين الأوّل بقداس ختامي مع قداسة البابا. موضوع شائك وأساسي في حياة الكنيسة ورسالتها، وهو كيفيّة إعلان الإنجيل لإنسان وشعوب اليوم، وقد جاءت الإكتشافات العلميّة والتقنيّة المذهلة تُجري تحوّلات جذرية في التفكير والتصرّف. فاكتسب الناس ذهنيّة جديدة ونظرة جديدة لا تتلاءم في بعض الأحيان وشريعة الله، أكانت تلك المكتوبة في الكتب المقدّسة وتعليم الكنيسة، أم تلك المطبوعة في قلب الإنسان.

   ماذا يعني “الإعلان الجديد للإنجيل؟” يعني أنّ الإنجيل هو إيّاه لا يتغيّر، إنجيل سرّ المسيح، ابن الله الذي تجسّد ومات فدىً عن خطايا جميع الناس، وقام ليعطي الحياة الجديدة، حالة القيامة الروحية، لجميع الناس الذين يؤمنون؛ وإعلان سرّ محبة الله التي بلغت ذروتها بذبيحة المسيح الخلاصيّة.

   المطلوب إعلان جديد أي دفع جديد لرسالة الكنيسة الأساسيّة، بنوعيّة جديدة في هذا الإعلان، وأسلوب جديد، ونهج جديد، وتقنيّات جديدة. إعلان أو أنجلة يلتزم بها كلّ القوى الكنسيّة: الافراد والجماعات والأبرشيّات والرعايا والهيئات الأسقفيّة، والمنظّمات الرسوليّة وسائر الجماعات المنظَّمة والمكرّسون والمكرّسات. فيعمدون إلى التحقيق في حياتهم الكنسيّة وعملهم وفق الإنجيل.

   يقتضي هذا التحقيق ثلاثاً:

   – القدرة على تمييز التموضع في الحاضر، مع الإقتناع بإمكانيّة إعلان الإنجيل، وعيش الإيمان المسيحي في الزمن الراهن.

   – القدرة على عيش أشكال جديدة من الإنتماء الجذري والأصيل إلى الإيمان المسيحي، من شأنها أن تشهد بمجرّد الوجود لقوّة الله التي تحوّل في مجرى تاريخنا.

   – الرباط الواضح والصريح مع الكنيسة، بحيث يجعل صفتها الإرساليّة والرسوليّة منظورة.

   هذه الثلاث كفيلة بمساعدة أبناء الكنيسة وبناتها ومساعدتهم، بتمكينهم من السَّير في طريق التحوّل الراعوي والتجدّد اللّذَين تدعو إليهما الأنجلة اليوم (أداة العمل 77-88). هذان هما قلب الأنجلة الجديدة، وهي فعل تقبّل من قِبل الكنيسة للإرسال الذي خصّها به الربّ يسوع، وقد أرادها وأرسلها إلى العالم، على أن تُقاد بهدي الروح القدس في الشهادة للخلاص وفي إعلان وجه الله الآب الذي أتمّ عمل الفداء بابنه الوحيد (المرجع نفسه).

*     *     *

صلاة

   أيّها الربّ يسوع، تعلّمنا أنّ الحياة وكلّ ما تحتوي من واجبات ومسؤوليّات وفقاً لحالة كلّ إنسان وموقعه، هي بمثابة وكالة نؤتمن عليها. وأنت كنت لنا المثال بطاعتك لإرادة الآب في التجسّد والفداء. زينّا بفضيلة الأمانة وموهبة الحكمة، لكي يؤدّي كلّ واحد منّا واجبه تجاه الجماعة. أعطنا نعمة استحضارك في كلّ عمل وقرار وموقف، لكي نُتمّه كما تشاء أنت، ولكي تعطيه بواسطتنا معنى ونكهة مثل الملح في الطعام. ألهمْ بأنوار روحك القدّوس آباء جمعيّة سينودس الأساقفة المُلتئمين قرب ضريح القديس بطرس، لكي يهتدوا إلى الأساليب والأنماط الجديدة لإعلان إنجيلِك الخلاصي لشعوب الأرض، وسط التحوّلات الحاسمة، بعمل راعوي متحوّل ومتجدّد. فيرتفع من كلّ الأرض نشيد التسبيح والمجد للآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

*     *     *

شاهد أيضاً

رسالة قداسة البابا فرنسيس في مناسبة اليوم العالمي الأوّل للأطفال

25-26 أيّار/مايو 2024 رسالة قداسة البابا فرنسيس في مناسبة اليوم العالمي الأوّل للأطفال 25-26 أيّار/مايو …

رسالة قداسة البابا فرنسيس في مناسبة الزّمن الأربعيني 2024 مِن البرِّيَّة يقودنا الله إلى الحرّيّة

رسالة قداسة البابا فرنسيس في مناسبة الزّمن الأربعيني 2024 مِن البرِّيَّة يقودنا الله إلى الحرّيّة …