التنشئة المسيحية، لغبطة ابينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي – بشارة الملاك لمريم – الأحد 25 تشرين الثاني 2012
(لو 1: 26-38)
تاريخ الخلاص يتحقّق ويتواصل عبر تاريخ البشر، حتى يندمج فيه تماماً. بعد البشارة لزكريا بمولد يوحنا لاختتام مسيرة الأجيال في العهد القديم، بانتظار المسيح المخلّص، أتت البشارة لمريم لافتتاح العهد الجديد بتجسّد ابن الله، مخلّصاً للعالم وفادياً للإنسان. فإذا بانجيل البشارة لمريم نقطة وصول وانطلاق. وهاتان محطّتان في حياة كلّ مؤمن ومؤمنة وفي حياة الكنيسة. نصل إلى لقاء بالمسيح الربّ، وننطلق في حياة جديدة للشهادة له، ولسرّ الله والإنسان والتاريخ.
أوّلاً، شرح نصّ الإنجيل
من إنجيل القديس لو 1: 26-38
قالَ لوقا البَشِير: في الشَهْرِ السَادِس (بعد بشارة زكريّا)، أُرْسِلَ المَلاكُ جِبْرَائِيلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِلى مَدِينَةٍ في الجَلِيلِ اسْمُهَا النَاصِرَة، إِلى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاودَ اسْمُهُ يُوسُف، واسْمُ العَذْرَاءِ مَرْيَم. ولَمَّا دَخَلَ المَلاكُ إِلَيْهَا قَال: «أَلسَلامُ عَلَيْكِ، يَا مَمْلُوءَةً نِعْمَة، الرَبُّ مَعَكِ!». فاضْطَربَتْ مَرْيَمُ لِكَلامِهِ، وأَخَذَتْ تُفَكِّرُ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هذا السَلام! فقَالَ لَهَا المَلاك: «لا تَخَافِي، يَا مَرْيَم، لأَنِّكِ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ الله. وهَا أَنْتِ تَحْمِلينَ، وتَلِدِينَ ابْنًا، وتُسَمِّينَهُ يَسُوع. وهُوَ يَكُونُ عَظِيمًا، وابْنَ العَليِّ يُدْعَى، ويُعْطِيهِ الرَبُّ الإِلهُ عَرْشَ دَاوُدَ أَبِيه، فَيَمْلِكُ عَلى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلى الأَبَد، ولا يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَة!».
فَقالَتْ مَرْيَمُ لِلمَلاك: «كَيْفَ يَكُونُ هذَا، وأَنَا لا أَعْرِفُ رَجُلاً؟». فأَجَابَ المَلاكُ وقالَ لَهَا: «أَلرُوحُ القُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وقُدْرَةُ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، ولذلِكَ فالقُدُّوسُ المَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ الله! وهَا إِنَّ إِلِيصَابَاتَ نَسِيبَتَكِ، قَدْ حَمَلَتْ هيَ أَيْضًا بابْنٍ في شَيْخُوخَتِها. وهذَا هُوَ الشَهْرُ السَادِسُ لِتِلْكَ الَّتي تُدْعَى عَاقِرًا، لأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اللهِ أَمْرٌ مُسْتَحِيل!». فقَالَتْ مَرْيَم: «هَا أَنا أَمَةُ الرَبّ، فَلْيَكُنْ لِي بِحَسَبِ قَوْلِكَ!». وانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِها المَلاك.
1. في الشهر السادس أُرسل جبرائل الملاك من عند الله (لو1: 26). هذا التحديد الزمني مرتبط بالبشارة لزكريا، ويعني مسيرة تاريخ الخلاص عبر تاريخ البشر. وهي مسيرة تتواصل. كتب بولس الرسول عنها: “ولمّا بلغ الزمن، أرسل الله ابنه مولوداً لامرأة، في حكم الشريعة، ليفتدينا فننال منزلة البنين” (غلا4:4). وكتب صاحب الرسالة إلى العبرانيّين: “إنّ الله كلّم الآباء قديماً في الأنبياء مرّات كثيرة، وبأنواع شتّى. وفي آخر هذه الأيّام، كلّمنا بابنه الذي جعله وارثاً لكلّ شيء وبه أنشأ العالمين. هو شعاع مجده وصورة جوهره، وضابط الكلّ بقدرته” (عبرا 1: 1-3).
الله الخالق هو نفسه سيّد التاريخ البشري وسيّد تاريخ الخلاص. ولذلك لم ينسَ أبداً تاريخ الجنس البشري، بل أحاطه بعناية مستمرّة ليقدّم له الخلاص، من آدم إلى ابراهيم وموسى فإلى الأنبياء والآباء وصولاً إلى التجسّد والفداء والتدبير. فأرسل ابنه الازلي الوحيد، كلمته الأبدية، التي تنير كلّ الناس، لكي يبقى مع بني البشر، ويشرح لهم أسرار الله، ويتمّم عمل الخلاص، الموكول إليه من الآب، بموته وقيامته، ويكشف وجه الله الآب، بحيث أنّ من يراه يرى الآب (يو 14: 9)، ويعطي الروح القدس روح الحقّ: نوراً يهدي، ونعمة تشفي وتبرّر، وحضوراً دائماً لله الذي يحرّرنا من ظلمة الخطيئة والموت، ويقيمنا للحياة الجديدة. هذا هو تصميم لله الخلاصي الذي أقامه بالمسيح عهداً جديداً ونهائيّاً لا ينتهي، ولا يُنتظر من بعده أي وحي عمومي آخر، قبل ظهور ربّنا يسوع المسيح، ظهوراً ممجّداً (القرار المجمعي في الوحي الإلهي، 3-4).
2. أُرسل الملاك…إلى عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف. هذا التحديد القانوني لواقع مريم أنّها مخطوبة ليوسف متطابق مع قول بولس الرسول: “أرسل الله ابنه مولوداً لامرأة في حكم الشريعة” (غلا 4:4). يوسف ومريم زوجان شرعيّان مع الفارق، حسب الشريعة اليهوديّة، إن الخطبة عقد زواج أُبرم شرعيّاً، على أن تنتقل العروس إلى بيت عريسها لعيش الحياة الزوجيّة، بعد بضعة أيّام.
المهمّ أنّ يسوع ابن الله وُلد من عذراء بقوّة الروح القدس في إطار زواج شرعي هو بحاجة قانونيّة واجتماعيّة إليه. فكان معروفاً أنّه ابن يوسف ومريم، وتسجّل كذلك في الإحصاء المسكوني الذي أجراه أغسطوس قيصر (لو2: 1). تبرز من هذا الواقع القانوني حقيقتان لاهوتيّتان روحيّتان.
الأولى، أنّ يسوع الإله، بميلاده في عائلة، قدّس العائلة ورفعها إلى رتبة سرّ، بحيث يكون الله الواحد والثالوث حاضراً في كلّ زواج شرعي، فيقدّس الزوجَين ويعضدهما ويوجّههما ويختمهما برباط دائم؛ ويجعل من العائلة كنيسة بيتيّة مصغّرة ينتقل فيها الإيمان من جيل إلى جيل، وتعلّم الصلاة، وتربّي على الفضائل الروحية والإنسانية والاجتماعية، فتصبح على المستوى الاجتماعي الخليّة الأساسية للمجتمع، والمدرسة الطبيعية للقيم.
الثانية، أنّ الله الذي يقود تاريخ الخلاص عبر تاريخ البشر، حتى التماهي، إنّما ينطلق من الواقع الحياتي العادي ويطوّره ويرفعه. هذا ما نسمّيه بالدعوة في الكنيسة. يوسف ومريم زوجان شرعيّان لم يتساكنا بعد في إلفة الحياة الزوجية، فدعاهما الله في حالة البتولية، لتكون مريم أمّاً عذراء بتولاً يولد منها القدّوس ابن الله بقوّة الروح القدس، وهي تتكرّس له ولتصميم الخلاص بكلّ واجب الامومة؛ وليكون يوسف أباً شرعيّاً بتولاً ليسوع بالتبنّي ويتكرّس له بكلّ حبّه وذاته وقواه في واجب الأبوّة. فكان تعليم الكنيسة العقائدي عن بتولية مريم الدائمة قبل الميلاد وفيه وبعده.
من هنا أساس الدعوة في الكنيسة إلى البتولية المكرّسة، سواء في الحياة الرهبانية في الأديار، أم في الحياة المكرّسة في العالم، أم في الكهنوت. يقدّم المكرَّس والمكرَّسة ذاتهما وحبّهما وقواهما ومواهبهما لخدمة سرّ المسيح في تصميم الله الخلاصي وفي حياة الكنيسة ورسالتها الشاهدة لمحبة الله، والمعلنة لإنجيل الخلاص، بروح التجرّد من الذات ومن خيرات الدنيا، المعروف بالفقر الإنجيلي، وبروح الطاعة لله وللرؤساء الكنسيّين. فكانت النذور الرهبانية أو الوعود الثلاثة: العفّة والفقر والطاعة، المسمّاة بالمشورات الإنجيلية.
3. القدّوس المولود من مريم ويُدعى يسوع ابن الله (لو 1: 31 و35). يسوع المولود من مريم بالجسد هو بالطبيعة ابن الله، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس. الله الآب أحبّ وأرسل، الله الابن أطاع وتجسّد، الله الروح القدس حلّ وحقّق. إله واحد بثلاثة أقانيم. لا ثلاثة آلهة. ولأنّ الذي أخذ جسداً بشريّاً هو إله بشخصه، فكانت التسمية – العقيدة “مريم والدة الإله” أو “أمّ الله”. وحمل يسوع اسمين “ابن الله” و”ابن الإنسان”، كامل في الألوهة، وكامل في الإنسانية. فكشف سرّ الله وسرّ الإنسان، وهذه كانت الغاية من سرَّي التجسّد والفداء.
يسوع المسيح يكشف لنا وجه الله. فقد قال لفيليبس: “من رآني راى الآب” (يو 14: 9). وعندما صلّى يسوع يوماً قال: “لا أحد يعرف الآب إلّا الابن، ومن يريد الإبن أن يكشفه له” (متى 11: 27). معرفة الابن للآب تعني المساواة له في الطبيعة. يقول الفيلسوف الألماني Goethe أنّ العين ما كانت لترى الشمس لو لم تكن لها طبيعة الشمس”. ولهذا نقول أن العين نور وسراج. وحدة المعرفة بين الابن والآب تعني وحدة الكيونة في الطبيعة الإلهية.
لمن يريد الإبن أن يكشف معرفة الآب؟ الجواب في بداية صلاته: “أعترف لك يا ابتِ، ربّ السماء والأرض، لأنّك أخفيت هذه الأمور عن الحكماء والفهماء، وأظهرتها للأطفال” (متى 11: 25). يعني بالأطفال الأشخاص ذوي القلوب النقية الذين يبحثون بشوق وتواضع وبساطة عن وجه الله ويتوقون إلى معرفته ويعجبون به ويندهشون. هذه هي إرادة الآب والإبن. نرجو أن نكون من هؤلاء الذين يتوقون إلى الغاية الأساسية في الوجود، أعني معرفة وجه الله، لكي ينكشف لنا وجه الإنسان المخلوق على صورة الله (تك 1: 27)
وحدة في المعرفة ووحدة في الإرادة، أساسها الوحدة في الكينونة أي الطبيعة. في بستان الزيتون سأل يسوع الآب اتحاد الإرادتين، إرادته البشرية الخائفة من الموت: “يا أبتِ أبعد عني هذه الكاس”. ثمّ استدرك وصلّى: “ولكن لا مشيئتي بل مشيئتك” (متى 26: 39 )، وإرادة الآب ببذله ابنه الوحيد فادياً للجنس البشري، من أجل الحياة الجديدة في العالم.
لذلك، علّمنا الربّ يسوع في صلاة الأبانا أن نلتمس مشئية الله في حياتنا اليومية، وأن نطابق إرادتنا لإرادته: “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض” (متى 6: 10). فضيلة الطاعة هي قبول إرادة الله وجعلها إرادتنا الشخصيّة، وبكلام آخر، بالطاعة لإرادة الله نطابق إرادتنا لإرادته، حتى التماهي. عندها نتمّ أكبر فعل حرية، لأنّنا نتبنّى إرادة الله السيّدة والحرّة، ونعيش ملء السعادة.
4. قالت مريم: أنا أمةُ الربّ فليكن لي حسب قولك (لو1: 38). بهذا الجواب، تكرّست مريم لتحقيق تصميم الله الخلاصي المعلن لها بلسان الملاك، وكان مخفيّا منذ الدهور: “أنا أمة الربّ”. ووافقت وأطاعت إرادة الله، بل تبنّتها بفعل إرادة واعٍ: “فليكن لي حسب قولك”. تماهت إرادتها البشرية مع الإرادة الإلهية. فأضحت مريم مثالاً لكلّ مؤمن ومؤمنة يقبل إرادة الله جاعلاً إيّاها إرادته الشخصيّة. وأضحت بالتالي مثالاً لكلّ مكرّس ومكرّسة. إنّ كلّ قيمة الحياة المكرّسة، في الرهبانية أو في العالم أو في الكهنوت، هي في الطاعة. لأن التكرّس هو في الأساس سعي إلى المحبة الكاملة لله وللكنيسة. ذروة المحبة الطاعة. الذي يطيع هو الذي يحبّ، وتبلغ درجة الطاعة درجة البطولة عندما يبلغ الحبّ أوّلاً إلى هذه الدرجة. “من يحبني يسمع كلمتي ويحفظ وصاياي، وانا أحبّه، وأبي يحبّه وإليه ناتي وعنده نجعل منزلاً” (يو14: 21 ).
مريم العذراء بحبّها وطاعتها البطوليين أصبحت سكنى الله الثالوث، وصارت ابنة الآب وأمّ الابن وعروس الروح القدس. ولهذا بلغت إلى أقدام الصليب ببطولة الحب والطاعة. وكما قالت “نعم” عند البشارة، قالت “نعم” أيضاً لإرادة الآب لما رأت ابنها معلّقاً على خشبة العار.
* * *
ثانياً، الإرشاد الرسولي: “الكنيسة في الشرق الأوسط، شركة وشهادة”
بالكنيسة يعني الإرشاد الكنائس الكاثوليكية أوّلاً حسب التراث الأنطاكي (موارنة وملكيّون روم كاثوليك وسريان) والاسكندري (الأقباط)، والبابلي (الكلدان)، والقيليقي (الأرمن)، والروماني – الأورشليمي (اللاتين)، فضلاً عن كنائس الملابارية والملانكارية والاثيوبية، ويعني بالتالي الكنائس الشرقية الارثوذكسية والإنجيلية – البروتستنتية (الفقرة 2).
هذه الكنائس، بإكليروسها ومؤمنيها ومؤسّساتها مدعوّة للشركة التي تعني عموديّاً الاتّحاد بالله، وأفقيّاً الوحدة فيما بينها؛ وهي قائمة على أربع ركائز مثل الكنيسة الناشئة بالموظبة على:
– تعليم الرسل (إعلان الكلمة)
– الصلاة
– كسر الخبز – ذبيحة القداس (عمل التقديس).
– الشركة الأخوية بتقاسم خيرات الدنيا – خدمة المحبة (أعمال 2: 42).
فكان منظر الشركة بالشهادة أن: “كانت جماعة المؤمنين قلباً واحداً، وروحاً واحدة” (أعمال 4: 32). هذه الشهادة هي تجسيد الشركة بالأفعال والمبادرات والعلاقات والمواقف. وتظهر على سبيل المثال، في الاعتراف بالآخر واحترامه، وبالانفتاح على الحوار في الحقيقة، ببساطة وتواضع، وبالقدرة على الإقرار بالخطأ والتماس الغفران وعلى المصالحة من كلّ القلب (الفقرة 12).
إنّ الغاية من الشركة والشهادة، وهما مبرّر وجود الكنيسة في بلدان الشرق الاوسط، إنّما هي إحلال سلام المسيح في هذه الأرض كرجاء لجميع الشعوب. والسلام يعني كلّ خيور الله للبشرية وللإنسان لكي يعيش سعيداً، ويبلغ إلى معرفة الحقيقة وإلى نيل الخلاص (الفقرتان 8 و 9).
* * *
صلاة
أيّها الربّ يسوع، أنت كرّسك الآب إلى العالم. وتكرّست مريم العذراء أمك لك ولتصميم الخلاص بكلمة “نعم”. هبنا النعمة لكي نكتشف إرادة الله علينا، فندرك إلى أيّ دعوة يدعونا في الكنيسة وتاريخ الخلاص. افتح قلوبنا وعيوننا، لكي نقبل معرفتك ومعرفة الآب ببساطة الاطفال وتوقهم واندهاشهم. جدّد المكرَّسين والمكرّسات في حرارة نذورهم ليعيشوها بفرح وببطولة. وأنت أيها الربّ يسوع، الإله الكامل والإنسان الكامل والشاهد لإرادة الآب ومحبته، شدّد فينا روابط الشركة في الاتّحاد بالله الثالوث القدّوس، وفي الوحدة مع جميع الناس، ولتكن رسالة الكنيسة في الشّرق الأوسط من أجل الشركة والشهادة. ولك ولأبيك وروحك القدّوس، نرفع نشيد المجد والتسبيح، الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *