التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي – زيارة مريم لأليصابات الأحد 2 كانون الاول 2012
(لو 1: 39-45)
في لقاء الأمّيَن مريم وأليصابات، كان لقاء الجنينَين يسوع ويوحنا، ولقاء العهدَين الجديد والقديم، بالروح القدس الذي يجمع ويعلّم. فكانت نبوءة أليصابات في تحيّتها لمريم المباركة بين النساء، وللجنين الرب الذي في حشاها، ولإيمانها الذي يستحق الطوبى. وكان نشيد التعظيم بقدرة الله الذي رفعته مريم.
أوّلاً، شرح الإنجيل
من إنجيل القديس لو 1: 26-38
وفي تِلْكَ الأَيَّام، قَامَتْ مَرْيَمُ وَذَهَبَتْ مُسْرِعَةً إِلى الجَبَل، إِلى مَدِينَةٍ في يَهُوذَا. ودَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا، وسَلَّمَتْ عَلَى إِليصَابَات. ولَمَّا سَمِعَتْ إِلِيصَابَاتُ سَلامَ مَرْيَم،ارْتَكَضَ الجَنِينُ في بَطْنِها، وَامْتَلأَتْ مِنَ الرُّوحِ القُدُس . فَهَتَفَتْ بِأَعْلَى صَوتِها وقَالَتْ: “مُبارَكَةٌ أَنْتِ في النِّسَاء، وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! مِنْ أَيْنَ لي هـذَا، أَنْ تَأْتِيَ إِليَّ أُمُّ ربِّي؟ فَهَا مُنْذُ وَقَعَ صَوْتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ، ارْتَكَضَ الجَنِينُ ابْتِهَاجًا في بَطْنِي! فَطُوبَى لِلَّتي آمَنَتْ أَنَّهُ سَيَتِمُّ ما قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبّ!”. فقالَتْ مَرْيَم: “تُعَظِّمُ نَفسِيَ الرَّبّ، وتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظرَ إِلى تَواضُعِ أَمَتِهِ. فَهَا مُنْذُ الآنَ تُطَوِّبُنِي جَمِيعُ الأَجْيَال، لأَنَّ القَدِيرَ صَنَعَ بي عَظَائِم، واسْمُهُ قُدُّوس، ورَحْمَتُهُ إِلى أَجْيَالٍ وأَجْيَالٍ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ. صَنَعَ عِزًّا بِسَاعِدِهِ، وشَتَّتَ المُتَكبِّرينَ بأَفْكَارِ قُلُوبِهِم. نْزَلَ المُقْتَدِرينَ عنِ العُرُوش، ورَفَعَ المُتَواضِعِين.أشْبَعَ الجِيَاعَ خَيْرَاتٍ، وصَرَفَ الأَغْنِياءَ فَارِغِين . عَضَدَ إِسْرائِيلَ فَتَاهُ ذَاكِرًا رَحْمَتَهُ، لإِبْراهِيمَ ونَسْلِهِ إِلى الأَبَد، كمَا كلَّمَ آبَاءَنا”. ومَكَثَتْ مَرْيَمُ عِندَ إِليصَابَاتَ نَحْوَ ثَلاثَةِ أَشْهُر، ثُمَّ عَادَتْ إِلى بَيتِهَا.
1. مفتاح هذا النص إيمان مريم الذي امتدحته أليصابات: “طوبى للّتي آمنت أنه سيتمّ ما قيل لها من قبل الرب”(لو1: 45). بهذا الإيمان قالت “نعم” لبشارة الملاك معلنة نفسها “خادمة للرب”، ومُكرّسة كل ذاتها لخدمة التصميم الإلهي. وترجمةً لهذا الإيمان بالأفعال أسرعت إلى عين كارم لخدمة نسيبتها أليصابات والمكوث عندها ثلاثة أشهر حتى مولد يوحنا. وبنتيجة الزيارة الايمانية ويسوع جنين في حشاها، حلَّ الروح القدس على الجنين يوحنّا بعلامة تحرّكه ابتهاجاً في بطن أليصابات، فتمّت نبوءة الملاك لزكريا أبيه: “ويمتلئ من الروح القدس وهو بعد في حشا أمّه”(لو1: 15). كما حلَّ على أليصابات أمّه فتنبّأت على ثلاثة: أن مريم مباركة بين النساء، وأن الجنين الذي في حشاها هو الرب، وأن إيمانها هو في أساس نعمة الله عليها. كلّ هذا دليل أن أليصابات مميّزة هي أيضاً بإيمانها، ولهذا نالت عطية الروح القدس، لانفتاحها على سرّ الله. وفي كلّ حال يقول عنها وعن رجلها زكريا إنجيلُ لوقا: “كانا كلاهما بارَّين أمام الله، سالِكَين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم” (لو1: 16).
2. في سنة الايمان التي افتتحها قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في 11 تشرين الاول الماضي، في الذكرى الخمسين لافتتاح المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، يجدر أن نتأمّل في مفهوم الايمان وجوهره.
الايمان، كما تجلّى في شخص مريم، ليس مجرّد قبول فكري لوحي أو لحقيقة من عند الله، بل هو ترجمةُ هذا الوحي وهذه الحقيقة الخدمة المتواضعة لكلّ إنسان في حاجته، ويرفع الشكر والتسبيح لله على عطاياه وعلى ثمار هذه الخدمة. لكنّ خدمتنا المتفانية والمُؤدّاة بإيمان يقابلها حضور الله بروحه القدوس الذي يخاطب قلوبنا وقلوب مَن خدمناهم. في عين كارم، خدمة مريم لأليصابات أدّت إلى حضور الروح القدس، وحلوله على أليصابات وعلى الجنين يوحنا. فكانت كلمات النبوءة من فم أليصابات، ومن فم مريم.
3. الايمان هو أن نؤمن بمحبة الله التي تجلّت في تجسُّد ابنه الوحيد يسوع المسيح، وموته على الصليب لفداء جميع البشر. ونؤمن بأنّ محبّة الله لا تتراجع ولا تنقص أمام شرور الانسان، والشر والموت، بل تعمل على تحويل هذا الواقع، وعلى التحرير من عبوديّاته، وعلى إعطاء إمكانية الخلاص لكلّ إنسان. هذا الإيمان أثمر بابنٍ للزوجَين الطّاعنَين زكريا وأليصابات بعطية ابنٍ هو يوحنّا المعمدان، الذي قال عنه يسوع أنه “لم يولد إنسان مثل يوحنا”(متى 11: 11).
نحن نؤمن عندما نلتقي الله كشخص، ونخاطبه بكلمة “أنتَ”، ونلجأ إليه مثل طفل يعرف تمامًا أن كلَّ صعوباته ومشاكله تتبدّد بحضور أمّه، وهي “أنتِ”.
4. الايمان المسيحي هو تسليم الذات لله مع الشعور واليقين بأنه يسندنا ويعضدنا. وهو يقين يُحرّرنا ويحملنا على إعلان الانجيل بالكلمة وشهادة الحياة، ولو وجدنا الرفض أو عدم الاكتراث أو الهزء. إنَّ كلام الربّ يسوع خطير في إنجيل مرقس: “مَن يؤمن ويعتمد يخلص، ومَن لم يؤمن بُدان” (مر16: 16). نتذكّر تشبيه إعلان الانجيل بالزارع الذي يرمي الحَبّ، وبالأرض الطيّبة التي إذا وقع فيها أعطى ثلاثين وستّين ومئة (متى 13: 1-9). نحن نؤمن بالكلمة وبوجود العديد من الناس المنفتحين بعقولهم وقلوبهم لسماع كلمة الله وقبولها، مثل الأرض الطيّبة، فتثمر الكلمة عندهم محبةً وعدالةً وسلامًا وإنسانيّةً جديدة وخلاصًا.
يسوع المسيح هو الكلمة والزارع، الروح القدس هو الذي يفتح عقولنا وقلوبنا نحو الله، لسماع الكلمة، بعطية الايمان الفائق الطبيعة. الايمان هبة من الله، أُعطَيتْ لنا بالمعمودية التي جعلتنا أبناء وبنات لله بالمسيح، وأُدخلنا في جماعة الايمان التي هي الكنيسة. لا يمكن لأحد أن يؤمن من دون نعمة الروح القدس؛ ولا يمكن أن يؤمن وحده، بل مع الأخوة والأخوات. على كلّ واحد منّا أن يُعلن ويعيش إيمانه مع الجماعة، في كلّ احتفال ليتورجي.
وفيما نقول أن الايمان عطيّة من الله، ندرك أيضاً أنه وبالعمق فعلٌ بشري وحرّ، نقول فيه، مثل مريم العذراء “نعم” لتصميم الله الخلاصي ولإرادته[1].
5. في حدث الزيارة تبيّنت حقيقتان أساسيّتان:
الأولى، حيث المسيح هناك الروح القدس. عندما دخلت مريم الحامل بيسوع بيت إليصابات، امتلأت هذه من الروح القدس هي والجنين الذي في بطنها. وأملى عليها الروح القدس بما أعلن بشأن مريم وإيمانها. فالروح القدس، عطيّة الآب والإبن القائم من الموت، يأتي ليحقّق فينا ثمار الفداء، ويفتح أذهاننا لفهم كلام الله، ويعلّمنا الحقيقة كلّها.
الثانية، الجنين في بطن الأمّ كائن بشري كامل الحقوق وأوّلها الحياة. الجنين في بطن مريم منذ اللّحظة الأولى هو يسوع المسيح العتيد أن يولد، والجنين الذي في بطن إليصابات منذ ستّة أشهر هو يوحنا السابق والمعمدان الذي سيولد. هذا يعني أنّ كلّ كائن بشري يتكوّن في حشا أمّ هو منذ اللّحظة الأولى للحبل به، معروف ومُراد من الله، وله مكانه ودوره في تاريخ الخلاص. الاعتداء على الجنين هو تماماً كالاعتداء على أيّ شخص. وبالتالي الإجهاض وإتلاف الأجنّة جريمة قتل.
ثانياً، الإرشاد الرسولي: الكنيسة في الشرق الأوسط، شركة وشهادة.
يتحدّث الإرشاد الرسولي عن مساحات الشركة. تبدأ الشركة أوّلاً في داخل كلّ كنيسة كاثوليكية حيث يشكّل المؤمنون والمؤمنات فيها قلباً واحداً وروحاً واحدة (أعمال 4: 32)، وتمتدّ إلى الشركة بين الكنائس بالتعاون والتضامن في العمل المشترك. ثمّ تصبح شركة مع الكنائس غير الكاثوليكية في ما يُسمّى بالنشاط المسكوني.
الشركة مع هذه الكنائس تقتضي تعزيز الوحدة معها في إطار احترام غنى كلّ جماعة مع المحافظة على وحدة الروح برباط السلام. فالوحدة بين الكنائس توطّد مصداقيّة إعلان الإنجيل والشهادة المسيحية. لكن هذه الوحدة تنبع من المثابرة على الصلاة، ومن التوبة التي تجعل كلّ شخص يعيش وفقاً للحقيقة وفي المحبة. هذه تسمّى المسكونية الروحية التي هي روح النشاط المسكوني الحقيقي(الفقرة 11).
من الضرورة التنشئة على المسكونيّة الروحيّة ولا سيّما في المدارس والجامعات، بحيث يتنشّأ الشباب على أن يكونوا شهوداً للشركة في جميع مجالات حياتهم؛ وعلى أن يحترموا بعضهم بعضاً، ويعترفوا بقيمة الآخر المختلف وينفتحوا على الحوار في الحقيقة، وعلى البساطة والصبر والتواضع والمغفرة والمصالحة؛ وعلى أن يعزّزوا الصداقة والأخوّة؛ وعلى أن يتكلّموا بصوت واحد بشأن القضايا الأخلاقيّة المتعلّقة بالحقيقة الإنسانيّة والعائلة والجنس والاخلاقيّات البيولوجيّة والحرية والعدالة والسلام (الفقرتان 12 و13).
ويدعو الإرشاد الرسولي إلى تعزيز مسكونيّة الخدمة، في كلّ من المجال الخيري والتربوي والاجتماعي والإنمائي(الفقرة 14).
ويوضح الإرشاد أنّ المسيرة المسكونية، لكي تكون فاعلة وتبلغ إلى أهدافها، يجب أن تتمّ بالصلاة ثمّ بسيرة الحياة، وبأمانة للتقاليد الشرقية القديمة، وبالتعارف المتبادل بشكل اعمق، وبالتعاون والتقدير المتبادل للأشخاص وللأشياء. ويبقى أنّ المسيح هو ضامن الوحدة ومبدأها، وهو الذي يوحّد المؤمنين به والذين يحبّونه بمنحهم روح أبيه، وبواسطة مريم أمّه (الفقرة 15).
أما الراعوية المسكونية فتقتضي الاشتراك في القدسيّات لأسرار التوبة والقربان ومسحة المرضى، ولكن حسب الظروف المؤاتية، وبقواعد محدّدة، بعد موافقة السلطات الكنسيّة المعنيّة. كما أنّ حالات الزواج المشترك تتطلّب اهتماماً مسكونيّاً خاصّاً، ووضع اتفاقات راعوية حول هذه الأمور(الفقرة 16).
إنّ الوحدة المسكونية لا تعني التطابق بين التقاليد والاحتفالات، بل تقتضي:
– ترجمة مشتركة للصلاة الربّانية والنؤمن.
– التعمّق المشترك في دراسة الآباء الشرقيّين واللاتين، والتقاليد الروحيّة الخاصّة بكلّ كنيسة.
– القراءة الجماعيّة للكتاب المقدّس ونشره.
– تعزيز مبادرات التعاون في النشاطات الروحيّة والراعوية والثقافيّة والاجتماعية (الفقرتان 17 و18).
* * *
صلاة
أيّها الربّ يسوع، أنعم علينا بهبة الإيمان، لكي على أمثال مريم أمّك، نفتح أذهاننا وقلوبنا لكلمة الإنجيل والكتب المقدّسة، فنقبلها ونجسّدها في الخدمة وفي ثقافة حياتنا اليومية. أفضْ علينا، يا ربّ، روحك القدّوس، كما أفضته على إليصابات، فنتعلّم منه الحقيقة ونعلنها بالقول والعمل، ونحترم كلّ حياة بشريّة من بداية تكوينها في حشا الأمّ حتى آخر لحظة من تاريخ وجودها. وأعطنا أن نلتزم شركة الوحدة في كنيستنا وبين سائر الكنائس، بالانخراط في الحركة المسكونيّة الروحية والراعوية، وفي حوار المحبة والحقيقة، فيعلم العالم أنّك أنت مبدأ وحدتنا وغايتها، وأنّ المحبة تفوق كلّ انقسام وخصام. ونرفع نشيد التسبيح للآب والابن والروح القدس الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *