التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي
الأحد الثالث من زمن القيامة 14 نيسان 2013
(لو 24: 13-35)
يروي إنجيل هذا الأحد ترائي الربّ لإثنيَن من التلاميذ، وهما في طريقهما إلى عمّاوس، بعد ظهر أحد القيامة حوالي المساء. في الصباح الباكر عند بزوغ الفجر جاءت النسوة إلى القبر حاملات الطيوب لتطييب جسد يسوع. فوجدن الحجر قد دُحرج عن بابه. دخلن فلم يجدْن جسد يسوع. وفيما هنّ متحيّرات وقف بهما رجلان في ثياب برّاقة، وأعلاماهنّ “بأنّ يسوع، الحيّ بين الأموات، ليس هنا، بل قام. رجعن من القبر، وأخبرن الأحد عشر والباقين بهذه الامور. فلم يصدّقوا واعتبروا كلامهنّ هذيان. لكن بطرس قام وركض إلى القبر، وانحنى فرأى رباطات الكتّان وحدها. فمضى متعجّباً في نفسه مّمّا حدث (لو 24: 1-12).
تلميذان منهم مصدومان من عمليّة الصلب وغير مصدّقَين خبر قيامة يسوع كانا راجعَين إلى عمّاوس، ولاستئناف حياتهما العادية. فكان ترائي الربّ لهما، كما يرويه لوقا في إنجيله.
أوّلاً، شرح الانجيل
من انجيل القديس لوقا 24: 13-35
قالَ لُوقَا البَشِير: في اليَوْمِ عَينِهِ، كانَ اثْنَانِ مِنَ التَلاميذِ ذَاهِبَيْنِ إِلَى قَرْيَةٍ تُدْعَى عِمَّاوُس، تَبْعُدُ نَحْوَ سَبْعَةِ أَمْيَالٍ عَنْ أُورَشَلِيم. وَكانَا يَتَحَادَثَانِ بِكُلِّ تِلْكَ الأُمُورِ الَّتِي حَدَثَتْ. وفيمَا هُمَا يَتَحَادَثَانِ وَيَتَسَاءَلان، إِذَا يَسُوعُ نَفْسُهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنْهُمَا، وَرَاحَ يَسِيرُ مَعَهُمَا. ولكِنَّ أَعْيُنَهُمَا أُمْسِكَتْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ. أَمَّا هُوَ فَقَالَ لَهُمَا: «مَا هذَا الكَلامُ الَّذي تَتَحَادَثَانِ بِهِ، وَأَنْتُمَا تَسِيرَان؟». فَوَقَفَا عَابِسَين. وَأَجَابَ أَحَدُهُمَا، واسْمُهُ كِلْيُوبَاس، فَقَالَ لَهُ: «هَلْ أَنْتَ وَحْدَكَ غَرِيبٌ عَنْ أُورَشَلِيم، فَلا تَعْلَمَ مَا حَدَثَ فِيهَا هذِهِ الأَيَّام؟». فَقَالَ لَهُمَا: «ومَا هِيَ؟». فَقَالا لَهُ: «مَا يَتَعَلَّقُ بِيَسُوعَ النَاصِرِيّ، الَّذي كَانَ رَجُلاً نَبِيًّا قَوِيًّا بِالقَوْلِ وَالفِعْل، قُدَّامَ اللهِ وَالشَعْبِ كُلِّهِ. وكَيْفَ أَسْلَمَهُ أَحْبَارُنا وَرُؤَسَاؤُنَا لِيُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالمَوْت، وَكَيْفَ صَلَبُوه! وكُنَّا نَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذي سَيَفْدِي إِسْرَائِيل. وَلكِنْ مَعَ هذَا كُلِّهِ، فَهذَا هُوَ اليَوْمُ الثَالِثُ بَعْدَ تِلْكَ الأَحْدَاث. لكِنَّ بَعْضَ النِسَاءِ مِنْ جَمَاعَتِنَا أَدْهَشْنَنَا، لأَنَّهُنَّ ذَهَبْنَ إِلَى القَبْرِ عِنْدَ الفَجْر، وَلَمْ يَجِدْنَ جَسَدَ يَسُوع، فَرَجَعْنَ وَقُلْنَ إِنَّهُنَّ شَاهَدْنَ مَلائِكَةً تَرَاءَوْا لَهُنَّ وَقَالُوا إِنَّهُ حَيّ! ومَضَى قَوْمٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَنَا إِلى القَبْر، فَوَجَدُوهُ هكذَا كَمَا قَالَتِ النِسَاء، وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمْ يَرَوْه». فقَالَ لَهُمَا يَسُوع: «يَا عَدِيمَيِ الفَهْم، وَبَطيئَيِ القَلْبِ في الإِيْمَانِ بِكُلِّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاء! أَمَا كَانَ يَجِبُ عَلَى المَسِيحِ أَنْ يُعَانِيَ تِلْكَ الآلام، ثُمَّ يَدْخُلَ في مَجْدِهِ؟». وَفَسَّرَ لَهُمَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ في كُلِّ الكُتُبِ المُقَدَّسَة، مُبْتَدِئًا بِمُوسَى وَجَمِيعِ الأَنْبِيَاء. واقْتَرَبَا مِنَ القَرْيَةِ الَّتي كَانَا ذَاهِبَيْنِ إِلَيْهَا، فتَظَاهَرَ يَسُوعُ بِأَنَّهُ ذَاهِبٌ إِلى مَكَانٍ أَبْعَد. فَتَمَسَّكَا بِهِ قَائِلَين: «أُمْكُثْ مَعَنَا، فَقَدْ حَانَ المَسَاء، وَمَالَ النَهَار». فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا. وفِيمَا كَانَ مُتَّكِئًا مَعَهُمَا، أَخَذَ الخُبْزَ، وبَارَكَ، وَكَسَرَ، ونَاوَلَهُمَا. فانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا، وَعَرَفَاهُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ تَوَارَى عَنْهُمَا. فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَر: «أَمَا كَانَ قَلْبُنَا مُضْطَرِمًا فِينَا، حِينَ كَانَ يُكَلِّمُنَا في الطَرِيق، وَيَشْرَحُ لَنَا الكُتُب؟». وقَامَا في تِلْكَ السَاعَةِ عَيْنِهَا، وَرَجَعَا إِلَى أُورَشَلِيم، فَوَجَدَا الأَحَدَ عَشَرَ وَالَّذِينَ مَعَهُم مُجْتَمِعِين، وَهُم يَقُولُون: «حَقًّا إِنَّ الرَبَّ قَام، وتَرَاءَى لِسِمْعَان!». أَمَّا هُمَا فَكانَا يُخْبِرانِ بِمَا حَدَثَ في الطَرِيق، وَكَيْفَ عَرَفَا يَسُوعَ عِنْدَ كَسْرِ الخُبْز.
1. يسوع يمشي مع التلميذَين كرجل عادي غريب، فلم يعرفاه. كما لم تعرفه مريم المجدلية (يو20: 14) ولا الرسل عند بحيرة طبريه (يو 21: 4). ما يعني أنّ يسوع الممجّد أصبح يسوع الإيمان. لا نراه بأعين الجسد، بل بأعين القلب المستنير بالإيمان. وهذا واضح أيضاً من كون الرسل بعد أن عادوا إلى شاطئ بحيرة طبرية ومعهم الصيد العجيب وجلسوا للطعام مع يسوع، “لم يجرؤ أحد منهم أن يسأله: من أنت؟ لأنّهم علموا أنّه يسوع” (يو21: 12). عرفوه من داخل قلبهم، لا بسبب منظره الخارجي، بل بفضل نظرتهم المستنيرة بالإيمان، علماً أن يوحنا عرفه عند حصول الصيد العجيب، وقال لبطرس: إنّه الربّ. فارتمى بطرس في الماء وأتى إلى يسوع سابحاً(يو 21: 7).
مشى مع تلميذَي عمّاوس بجسده إيّاه، ولكن من دون أن يكون مقيّداً بشرائع الجسد، ولا بشرائع المكان والزمان. في هويته هو هو، أمّا في جسده فهو آخر. جسده هو هو، أمّا مظهره فمحرّر من روابط الجسد. إنّه ذو جوهر خاصّ سرّي، غير مُدرَك، في حضوره الجديد كقائم من الموت. هو ذاته في الحالتَين: إنسان في لحم وعظم، وجسد جديد مُمجّد. هو الذي دخل في نوع مختلف من الوجود. لهذا السبب كان يسوع غريباً في عيون الجسد، وظلّ موضوع شكّ حتى آخر لحظة، قُبيل صعوده إلى السماء.
يروي متى في إنجيله آخر ظهور للأحد عشر الذين “ذهبوا إلى الجليل حيث أمرهم يسوع. ولمّا رأواه سجدوا له، برغم أنّهم شكّوا” (متى 28: 16-17). لقد سجدوا له بقناعة إيمانية، لكنّهم شكّوا بسبب نظرة عيونهم. أمّا تلميذا عمّاوس فعرفاه حقّاً ومن دون أي شكّ عند كسر الخبز أي في القربان.
ندرك من كلّ ذلك أن الإيمان لقاءٌ شخصي مع يسوع، لا مجرّد معرفة سطحيّة أو اختبار حسّي. الإيمان لقاءٌ مع الله الذي يوحي ذاته بكلامه، ويقدّم ذاته لنا نعمة في الأسرار المقدّسة، وطعاماً روحيّاً في القربان. هو لقاء لأنّه جواب على عمل الله المزدوج. فيكون الإيمان قبولاً في العقل لوحي الله ولعطاء ذاته، ويصبح رجاءً في الأعمال يتجلّى في الأعمال والمسلك بثبات وصمود، ويكتمل محبةً في القلب. فيتكوّن هكذا اللّقاء مع المسيح، وبالتالي مع الله الثالوث، لقاء شخصيّاً وجدانيّاً يُجري التغيير في حياة المؤمن ونظرته وتصرفاته.
2. سار يسوع مع التلميذَين، وحدّثهما عمّا يتعلّق بيسوع الناصري، شارحاً لهم الكتب المقدسة من موسى إلى جميع الأنبياء بشأن آلامه وقيامته. وهي آلام صدمتهم للغاية وأحزنتهم؛ وقيامة أذهلتهم، وهم بعد غير مصدِّقين. لكن كلامه زرع الفرح والطمأنينة في قلبيَهما، كما تصارحا فيما بعد: “أما كان قلبُنا مضطرماً فينا، حين كان يكلّمنا في الطريق، ويشرح لنا الكتب؟” (لو24: 32).
إنّ سرّ الفداء، الذي تمّ بموت المسيح وقيامته، قد شمل كلّ الناس. به اتّحد المسيح بكل إنسان في كلّ زمان[1]. يحضر بنوع خاصّ عندما يواجه أي إنسان صليباً في حياته، أكان فرحاً أو حزناً أو فقراً أو ضياعاً. يحضر إلى جنبه، يقطع معه الطريق حتى يخرج من حالة وجعه. هكذا فعل مع تلميذَي عمّاوس المكتئبَين الحائرَين المصدومَين.
هنا تندرج مهمّة الكنيسة الأساسيّة في كلّ عصر ومكان: أن توجّه عقل الإنسان، وتهدي البشر أجمعين وخبرتهم نحو سرّ المسيح، وتساعد الجميع ليشاركوا، في حياتهم اليومية، في سرّ الفداء، وتنفذ في الوقت عينه إلى عمق الإنسان، إلى قلوب البشر وضمائرهم ومشاكلهم، فتنتزع منهم الخوف وتزرع فيهم الطمأنينة والأمل والسلام[2].
3. شرح يسوع للتلميذَين سرّ موته وقيامته من الكتب المقدّسة. وهكذا ترك للكنيسة أسلوبًا أساسيًّا لفهم وجهه. فكل ما جرى بشأنه من أحداث هي تتميم لما جاء في الكتب المقدّسة. على أساسها وبخاصةٍ على أساس العهد القديم، نستطيع فهم سرّ يسوع المسيح. ليست صدفة مأساة موته على الصليب. بل تندرج في سياق تاريخ الله مع شعبه الذي تأخذ منه منطقها ومعناها. إنّه حدث يأتي من الكلمة ويلج فيها ويتمّمها. الرباط القائم بين موت المسيح والكلمة، هو أن الكلمة المتجسّد مات من اجل خطايانا، كما تنبّأ أشعيا وسمّاه “عبد يهوه”(الفصل 53).
كلّ متألّم جسديًّا أو روحيًّا أو معنويًّا، وكلّ حامل إعاقة إنّما يندرج هو أيضًا في سياق تاريخ الفداء الخلاصي. ومَن يخدمه، يخدم المسيح نفسه: “كنت جائعًا… مريضًا…، وساعدتموني”(متى 25: 35-36).
4. بالنسبة لقيامة يسوع ركّز التلميذان على القبر الفارغ وعدم رؤية يسوع(لو24: 22-24). ممّا لا شكّ فيه أن يسوع شرح لهما ما يؤكّد قيامته بالاستناد إلى القبر الفارغ. فالمزمور 16 القائل: “إنّ جسدي سيسكن على الرجاء، لأنّك لا تترك حياتي في الجحيم، ولا تدعْ عبدك يرى فسادًا”(مز16: 9-11). وهو المزمور الذي أعطاه، فيما بعد، بطرس في خطاب العنصرة، برهانًا لقيامة يسوع(أع2: 26 وما يليها). صلاة داود هذه لم تتحقّق عنه، كما يقول بطرس الرسول في خطبته عينها: “أنّه مات ودفن وما زال قبره حتى اليوم فيما بيننا”(أع2: 29). لكنّها تمّت في داود النهائي، يسوع المسيح. القبر مع الجسمان دليل على عدم القيامة، أمّا القبر من دون جسد يسوع فدليل على قيامته. “عدم فساد الجسد” هو التحديد للقيامة. وهذا دليل على أن يسوع لم يبقَ في حالة الموت، بل أنَّ الحياة فيه انتصرت على الموت. وهكذا، القبر الفارغ كجزء من إعلان القيامة هو أمر مُطابق تمامًا للكتب المقدّسة.
5. تأكّد التلميذان من حقيقة قيامة يسوع عندما جلس إلى المائدة “وأخذ الخبز وبارك وكسر وناولهما”(لو24: 30)، أي عندما استعاد ما فعل في عشائه الأخير: تأسيس سرّ القربان، أعني ذبيحة جسده ودمه التي قدّمها لهم طعامًا روحيًّا. في هذا السرّ يُعرَف يسوع، لأنّه حاضر فيه بألوهته وأنسانيته حضورًا حقيقيًّا فعليًّا تحت علامات الخبز والخمر المحوّلين، بفعل الروح القدس وكلام التقديس، إلى جسده ودمه.
كل نصّ ترائي يسوع للتلميذَين يتضمّن عناصر ليتورجية القداس بأقسامه الأربعة:
أ- الاستعداد بروح الانسحاق والتوبة للوقوف في حضرة الله بخشوع وتواضع ورجاء. هذا القسم معروف بقسم التوبة والغفران. وفي النص الإنجيلي هو ظاهر في كآبة التلميذَين، وتساؤلاتهما، وقلقهما بشأن يسوع(لو24: 14-24).
ب- ليتورجيّا الكلمة التي نسمع فيها القراءات من الكتب المقدّسة. هي في النصّ الانجيلي فسّر يسوع للتلميذَين من الكتب ضرورة موت المسيح وقيامته(لو24: 25-27).
ج- ذبيحة يسوع الخلاصيّة بتحويل الخبز إلى جسد يسوع والخمر إلى دمه. في النصّ الانجيلي يسوع بذاته حاضر مع التلميذَين، ككاهن وذبيحة عبر جسده الممجّد.
د- مناولة جسد الرب ودمه تحقّقت في النصّ الانجيلي عندما “أخذ الخبز وبارك وكسر وناولهما”.
أما خاتمة القدّاس بصلاة الشكر، فظاهرة في عودة التلميذَين على التوّ إلى أورشليم لنقل خبر القيامة وتمجيد الله وشكره(لو24: 33-35). كل قدّاس نشارك فيه هو إعادة لحادثة تلميذَي عمّاوس. ما أجمل هذا الموعد وهذا اللقاء مع المسيح المخلّص والفادي!
* * *
صلاة
أيّها الرّب يسوع، أنت الحيّ أبدًا، لتكون إلى جانب كلّ إنسان تقطع الطريق معه، مثلما فعلت مع تلميذَي عمّاوس. أعطنا أن نستحضرك في كلّ ظرف من حياتنا اليومية، ولا سيما عند الألم أو الوجع الحسّي والروحي والنفسي والمعنوي؛ وأن نصغي لكلام كتبك المقدّسة، حيث أنت نفسك تكلّمنا فيها. ضع في قلوبنا الوعيَ والرجاء لكي نطرح أمامك تساؤلاتنا، ونسمع أجوبتك ونقبلها، فتنشرح قلوبنا. ساعد الكنيسة في سعيها إلى إعادة أبنائها وبناتها إلى قداس كل أحد، لتعيش جمال اللقاء بالمسيح وتنال منه كلّ خيور السماء. آمين
* * *