التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي 30 آذار 2014
أحد شفاء المخلّع (مرقس 2: 1-12)
في هذا الأحد الخامس من زمن الصوم، ينكشف لنا وجه يسوع، طبيب الأرواح والأجساد، بشفائه المخلّع نفسًا بمغفرة خطاياه، وجسدًا بشفائه من شلله بكلمة منه، ولكن بقوة إيمان الجماعة التي كانت تسمع من فمه كلام الحياة. ويبيّن في ذلك أن سبب الشرور التي تلحق بالإنسان والمجتمع هو الخطيئة. فجاء الإله، متجسّدًا، وأصبح “ابن الانسان” لكي يشفي البشرية ويحرّرها من أصل الشر، من الخطيئة. امّا آية شفاء المخلّع، كما سواها، ما هي إلا البرهان الحسّي لهذه الحقيقة غير المنظورة.
شرح الإنجيل
من إنجيل القديس مرقس 2: 1-12
عَادَ يَسُوعُ إِلى كَفَرْنَاحُوم. وسَمِعَ النَّاسُ أَنَّهُ في البَيْت. فتَجَمَّعَ عَدَدٌ كَبيرٌ مِنْهُم حَتَّى غَصَّ بِهِمِ المَكَان، ولَمْ يَبْقَ مَوْضِعٌ لأَحَدٍ ولا عِنْدَ البَاب. وكانَ يُخَاطِبُهُم بِكَلِمَةِ الله. فأَتَوْهُ بِمُخَلَّعٍ يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةُ رِجَال. وبِسَبَبِ الجَمْعِ لَمْ يَسْتَطِيعُوا الوُصُولَ بِهِ إِلى يَسُوع، فكَشَفُوا السَّقْفَ فَوْقَ يَسُوع، ونَبَشُوه، ودَلَّوا الفِرَاشَ الَّذي كانَ المُخَلَّعُ مَطْرُوحًا عَلَيْه. ورَأَى يَسُوعُ إِيْمَانَهُم، فقَالَ لِلْمُخَلَّع: “يَا ٱبْني، مَغْفُورَةٌ لَكَ خطَايَاك!”. وكانَ بَعْضُ الكَتَبَةِ جَالِسِينَ هُنَاكَ يُفَكِّرُونَ في قُلُوبِهِم: لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هذَا الرَّجُلُ هكَذَا؟ إِنَّهُ يُجَدِّف! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ الخَطَايَا إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ؟. وفي الحَالِ عَرَفَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُم يُفَكِّرُونَ هكَذَا في أَنْفُسِهِم فَقَالَ لَهُم: “لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهذَا في قُلُوبِكُم؟ ما هُوَ الأَسْهَل؟ أَنْ يُقَالَ لِلْمُخَلَّع: مَغْفُورَةٌ لَكَ خطَايَاك؟ أَمْ أَنْ يُقَال: قُمْ وَٱحْمِلْ فِرَاشَكَ وَٱمْشِ؟ ولِكَي تَعْلَمُوا أَنَّ لٱبْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا أَنْ يَغْفِرَ الخَطَايَا عَلَى الأَرْض”، قالَ لِلْمُخَلَّع: لَكَ أَقُول: قُم، إِحْمِلْ فِرَاشَكَ، وٱذْهَبْ إِلى بَيْتِكَ!. فقَامَ في الحَالِ وحَمَلَ فِرَاشَهُ، وخَرَجَ أَمامَ الجَمِيع، حَتَّى دَهِشُوا كُلُّهُم ومَجَّدُوا اللهَ قَائِلين: “مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هذَا البَتَّة!”.
1. إطار آية شفاء المخلّع، نفسًا وجسدًا، هو إعلان كلمة الحياة على الجمع الغفير المحتشد في البيت، في كفرناحوم. هذا يذكّرنا بالجماعة المؤمنة التي تلتقي في بيت الله، في الكنيسة لسماع كلام الله، في قدّاس الأحد أو في مناسبة ليتورجيّة أخرى، ولو كان ذلك لأهداف متنوّعة. المهمّ في هذا الحدث الإنجيلي أنّ يسوع يجتذب الجميع بشخصه وكلامه ومعجزاته. إيمانًا به وحبًّا له نلتقي. كلّ لقاء مع يسوع يحمل دائمًا الجديد في حياة كل مؤمن ومؤمنة، وفي حياة الجماعة. المهم أن نلتقيَه، أن نلبّي صوت الكنيسة التي تدعو، أن نصغي لكلامه الذي يُتلى علينا أو نقرأه والذي تتبعه العظة التأملية. فالسماع يولّد الايمان، كما يقول بولس الرسول(راجع روم 10: 14)، والايمان يوحي الأعمال.
2. الرجال الأربعة هم من الذين سمعوا الكلمة، فآمنوا بيسوع وبقدرته على الشفاء من كلّ علّة، وألهمهم إيمانهم أن يحملوا المخلّع من البلدة إلى امامه لكي يشفيه. الايمان نور يلهم ويوحي ويعلّم أعمالنا ومواقفنا والمبادرات.
يمثّل الرجال الأربعة: الكنيسة التي تحمل بإيمانها وصلاتها جميع الناس إلى امام عرش الله. ويمثّلون الجماعة المصلّية في العائلة أو في الكنيسة، التي تتشفّع وتقيم صلاة التذكارات، كما في القداس الإلهي. ويمثّلون الكاهن الذي اختير من الناس وأقيم لدى الله من اجل الناس(عب5: 1) والذي بصلاته الشخصيّة، وبصلوات الساعات يحمل، كوسيط يجسّد الوسيط الوحيد بين الله والناس، يسوع المسيح، حاجات أبناء رعيته وبناتها وسواهم ألى امام عرش الله. ويمثّلون الرهبان والراهبات والنسّاك الواقفين نفوسهم على الصلاة باسم الكنيسة وأبنائها. ولهذا نقول، أنّه بفضل هذه الصلوات، يد عناية الله تحمينا وتقود مجرى حياتنا والتاريخ.
3. أساس آية الشفاء إيمان الرجال الأربعة الذي “رآه يسوع”(مر2: 5). في مبادرتهم الشجاعة وغير المتوقّعة رأى إيمانهم. الايمان الداخلي يظهر في الأعمال الخارجية. ما جعل القديس يعقوب الرسول يقول: “الايمان من دون الاعمال ميت”(يع2: 20). فإذ لم يستطيعوا الدخول بالمخلّع من الباب، بسبب كثرة الجمع، علّمهم إيمانهم وشجّعهم على نبش كوّة في السقف، دلّوا منها المخلّع مع فراشه إلى أمام يسوع. إيمان واضح وليس بحاجة إلى تعبير بالكلام. الافعال تنطق بما في قلب الانسان، كما يقول الرب يسوع: “إنه من فيض القلب يتكلّم الفم”(متى 12: 34)، وحسب القول المأثور: “الإناء ينضح بما فيه”. قلب الإنسان هو مستودع غناه بالقيم الروحية والاخلاقية والانسانية، ومنه تصدر أفكار الخير والاعمال الصالحة والمبادرات زنزعيّة التصرّف.
4. قيمة سماع كلام الله، والتأمّل فيه، وتثقيفه، هي أنّها تملأ العقل والقلب ثقافة روحية وأخلاقية وإنسانية، من شأنها أن تطبع أفعال الانسان ونشاطاته ومواقفه ومبادراته، وتعطيها لونًا ومعنى، وتشكّل حضارة شعب الله. الشعب المسيحي آخذٌ شيئًا فشيئًا بخسران هذه الثقافة والحضارة، بسبب جهله للإنجيل والكتب المقدّسة وتعليم الكنيسة. عدم الممارسة الدينية تؤدّي بمعظم شعبنا إلى هذا الجهل وإلى هذه الخسارة، وبالتالي إلى فقدان تأثيرهم في مجتمعاتهم وعلى شؤونهم الزمنية: السياسة والاقتصاد والاعلام والتجارة والإدارة وسواها.
5. يسوع أيضًا يفاجئنا بحبّه وعطاياه، كما فاجأه الرجال الأربعة بفعلتهم. جاؤوا يلتمسون شفاء المخلّع من شلله. أمّا هو فأعطاهم أكثر من اجل إيمانهم. إيمان الإنسان كافٍ لكي يُجري الله، بالمسيح، معجزاته وعظائمه. لنفكّر بالقديس شربل مثلاً، الذي قاده إيمانه الشديد بالله وحبه الفائق للمسيح إلى ترك كلّ شيء وكل الناس، وانصرف لصلاة التشفّع في محبسة عنايا، مجهولاً من الجميع، فأصبح اليوم وإلى الأبد ممتلكًا البشرية جمعاء، يقود أبناءها وبناتها إلى الله، وإلى الايمان، ويخاطب القلوب. ولنفكّر بالطوباوي أبونا يعقوب حداد الكبوشي الذي بإيمانه العظيم أنجز “جمهورية الألم” في مؤسّسات جمعية راهبات الصليب التي أسّسها. ولنفكّر بالطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني الذي عرفناه كلنا. سألتُ مرة أمين سرّه، وهو اليوم الكردينال Dziwisz، رئيس أساقفة كراكوفيا في بولونيا: كيف تختصر شخصية البابا يوحنا بولس online casino الثاني، بعد خمسٍ وعشرين سنة من حبرية ملأة بالانجازات والاسفار والرسائل والكتابات والمبادرات المذهلة؟ فأجاب على الفور ومن دون تردّد: “إنه رجل إيمان وصلاة”.
6. مفاجأة يسوع أنه أظهر سلطانه الإلهي، وهو في صورة إنسان، على مغفرة الخطايا. فبادر المخلّعَ والرجالَ الأربعة والجمعَ الحاضر بقوله أولاً للمخلّع: “يا ابني، مغفورة لك خطاياك”(مر2: 5). بهذه المبادرة كشف كل حنان الله ورحمته. ظهر حنان الله بكلمة “يا ابني” ورحمته “بمغفورة لك خطاياك”. شفاه من سبب شلله، وهو الخطيئة الموجودة في العالم، التي يقترفها الناس، وتترك أثرها في بؤس البشرية ولاسيما في الأبرياء الذين يكفّرون عن الخطايا بآلامهم وأوجاعهم الجسدية والمادية والمعنوية. مأساة البشرية بدأت مع خطيئة أبوينا الأولين، آدم وحواء، المعروفة بالخطيئة الأصلية التي جرحت طبيعة الانسان وجعلته مائلاً دائمًا إلى الوقوع فيها وإلى ارتكاب الشر.
7. هذه المفاجأة المعزّية شكّكت بعض الكتبة الجالسين في البيت، وهم من علماء الكتب المقدسة. لكن معرفتهم لم تولّد عندهم الايمان، لأن كلام الله ظل عالقًا في عقولهم ولم يقبلوه في قلوبهم. تشكّكوا وتذمّروا في داخلهم واعتبروا أن يسوع “يجدّف على الله الذي هو وحده يغفر الخطايا”(راجع مر2: 6-7) بحسب التوراة والانبياء. وهذا صحيح.
وكانت المفاجأة الثانية، أن “يسوع، ابن الانسان، هو الله” وصاحب السلطان لمغفرة الخطايا، فأعطى البرهان الحسّي الناطق، إذ قال للمخلّع: “قم احمل فراشك، واذهب إلى بيتك! فقام للحال، وحمل فراشه، وخرج أمام الجميع”(مر2: 10-12).
8. أمام عظمة الله لا يسعنا إلا اندهاش الايمان وتمجيد الله، كما جرى في كفرناحوم: “دَهِشَ الجميع، ومجّدوا الله قائلين: ما رأينا قط مثل هذا!”(مر2: 12).
لقد فَقَد معظم الناس إندهاشهم بالله وبالمسيح، وهو ظاهر في غيابهم عن قداس الأحد والاحتفالات الليتورجية التي تتجلّى فيها عظائم الله. ومن المؤسف أنهم يندهشون بحالهم، وببعضهم البعض، ولا يندهشون بالله وبأعماله: الخلق والفداء والتقديس.
وفَقَد معظم الناس أيضًا تمجيد الله وشكره على ما يفيض عليهم من خير في كل يوم، وهو أولاً حفظهم في الوجود، وما يحمل نهارهم من عطايا إلهية. بينما بالمقابل يمجّدون نفوسهم، وبعضهم بعضًا.
9. إنّ الرسالة الراعوية الثالثة التي أصدرتها في 25 أذار الجاري، في بداية السنة الرابعة من خدمتي البطريركية، بموضوع: “الليتورجيا المارونية، ليتورجيّة الكنز الحي”، تهدف إلى إحياء هذا الكنز الفائض من اللقاء بالله، الواحد والثالوث، في كل فعلٍ ليتورجي، وبخاصة في ليتورجيّا القداس الإلهي، وإلى عيش مفاجآت الله في حياتنا، وإلى إعادة الإندهاش بأعماله الخلاصيّة، وإلى جعل حياتنا وأعمالنا ومواقفنا والمبادرات نشيد تمجيد لله.
10. لقد حلّ يسوع فيما بعد محلّ الرجال الأربعة، “فحمل هو آلامنا واحتمل اوجاعنا”(أش53: 4)، وكحمل فصحي حَمَلَ خطايا البشر أجمعين وصُلب عنّا مكفّرًا عن خطايانا، وضمّ آلام البشر إلى آلامه فأعطاها قيمة فداء وخلاص وتكفير. وقام من الموت منتصرًا على الخطيئة والموت والشرّ، لكي نقوم نحن، بقوّة الغفران، مثل المخلّع، من شللنا الروحي والمعنوي، ومن موت الخطيئة التي تشلّ عقلنا المفطور على الحقيقة، وإرادتنا المفطورة على الخير، وقلبنا المفطور على المحبّة، وضميرنا الذي هو صوت الله في أعماقنا. فالخطيئة إذا تملّكت من قوانا هذه، شلّتها، فيميل العقل إلى الكذب، والإرادة إلى الشرّ، والقلب إلى البغض، والضمير إلى سماع الأميال الخسيسة.
11. وسلطان يسوع الإله على مغفرة الخطايا سلّمه لكهنة الكنيسة لكي يمنحوه باسم الله للتائبين المعترفين بخطاياهم. فيوم رسامتهم الكهنوتية، على يد الاسقف، منحهم هذا السلطان، تمامًا كما فعل مع الرسل، كهنة العهد الجديد يوم قيامته من بين الاموات، إذ نفخ فيهم وقال: “خذوا الروح القدس. مَن غفرتم خطاياهم غُفرت لهم، ومَن أمسكتم عليهم خطاياهم أمسكت”(يو20: 22-23).
* * *
صلاة
أيها الرب يسوع، بإيمان الرجال الأربعة نلجأ إليك ملتمسين شفاءنا وشفاء كل إنسان، من الشلل الروحي والحسّي والمعنوي، ومن شلل الحياة الزوجية والاجتماعية، ومن الشلل السياسي والاقتصادي والمؤسساتي الذي يضرب أوطاننا. ومثلهم نحمل إليك معاناة كل إنسان وشعب يتألّم ويُظلَم ويُهجَّر من بيته ويُقهَر في حياته، نحملهم بصلاتنا وتشفّعنا، بتوبتنا وصيامنا، وبأعمال المحبة والرحمة في هذا الصوم المبارك. بادرنا يا ربّ بمفاجآت محبتك ورحمتك، كما فعلت في كفرناحوم، واشفِ الجميع ببلسم حنانك. ومثل الجمع هناك نندهش بعظائمك، ونرفع نشيد المجد والتسبيح والشكر للآب والابن والروح القدسن الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *