إرشاد رَسُولي
مُلحق بمجمع الأسَاقفة
أُعْطيكُم رُعَاة
PASTORES DABO VOBIS
للحبر الأعظَم
البابا يوحَنّا بولِس الثّاني
إلى
الأساقفة والاكليروس والعلمانيّين
في الكنيسة الكاثوليكية
في
التنشئة الكهنوتيّة في الأحوال الرّاهنة
أيها الأخوة الأجلاء،
والأبناء والبنات الأعزاء،
سلام وبركة رسولية!
مقدمة
1- “وأعطيكم رعاة على وفق قلبي” (را 3 / 15).
بهذه الكلمات من نبوءة إرميا، يَعِد الله شعبه ألاّ يدعه أبداً بلا راعٍ يجمع شمله ويهديه: “وأقيم على (غنمي) رعاة يرعونها، فلا تخاف من بعد ولا تفزع” (ار 23 / 4).
الكنيسة، شعب الله، تختبر دوماً حقيقة هذه البشرى النبوية ولا تني تؤدي الشكر للرب مبتهجة، وعالمة علم اليقين أن يسوع المسيح نفسه هو الذي يحقق وعد الله وينجزه بطريقة حيّة فائقة وحاسمة: “أنا الراعي الصالح” (يو 10 / 11). إنه هو راعي الخراف العظيم (عب 13 / 20) الذي وكل إلى الرسل وخلفائهم أن يرعوا خراف الله (1 يو 21 / 15 – 17، ا بط 5 / 2).
وعلى كلٍ، ليس بإمكان الكنيسة، بدون كهنة، أن تحقّق تلك الطاعة الأساسية الناشبة في صميم كيانها ورسالتها عبر التاريخ، الطاعة لأمر يسوع: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم” (متى 28 / 19)، وأيضاً “اصنعوا هذا لذكري” (لو 22 / 19، 1 قو 11 / 24)، أي الأمر بأن تُعلِن الإنجيل وتجدّد كل يوم ذبيحة جسده المبذول ودمه المسفوك لأجل حياة العالم.
يعلّمنا الإيمان أن الرب لا يمكن أن يُخلف بوعده. هذا الوعد هو، بالضبط سبب فرح الكنيسة وقوتها بإزاء ما تلحظه اليوم، في بعض أنحاء العالم، من ازدهار الدعوات الكهنوتية وازديادها. هذا الوعد هو أيضاً المرتكز والحافز لإيمان أعظم ورجاء أرهف في مواجهة التقلص الخطير لعدد الكهنة في أجزاء أخرى من العالم.
نحن كلنا مدعوّون إلى أن نتقاسم الثقة الكاملة في أن الله سوف ينجز وعده بلا انقطاع، وقد أراد الآباء السينودسيون أن يشهدوا لهذا بطريقة صريحة وقوية بقولهم: “أن هذا السينودس يملك الثقة التامة بوعد المسيح القائل “هاءنذا معكم طوال الأيام إلى نهاية العالم” (متى 28 / 20) ويعي ما يحققه الروح القدس في الكنيسة من عمل مستمر، ويؤمن إيماناً راسخاً بصمود الكنيسة وبكل ما يؤول إلى هذا الصمود… ويؤمن من ثم بأنها لن تخلو أبداً من كهنة، وبأن الله لن ينقطع أبداً عن توجيه الدعوة إلى اعتناق الكهنوت، وبالتالي، علينا أن نؤمن بأن عمل الآب الذي منه تنبعث الدعوات، لن يتوقف أبداً، بالرغم مما يُلاحظ في مناطق مختلفة من تقلّص عدد الكهنة” (1).
في مواجهة أزمة الدعوات الكهنوتية، أردّد ما تقدّمت به في خاتمة السينودس، من “أن أول جواب للكنيسة هو إيمانها المطلق بالروح القدس. فنحن على قناعة عميقة بأن هذه الثقة البنوية لن تخيب ما دمنا أوفياء للنعمة المعطاة (2).
2- الوفاء للنعمة المعطاة! ولا غرو، فالهبة الإلهية لا تدمّر حريّة الإنسان، بل تبعثها وتنميها وتقتضيها.
من هنا أن الكنيسة، إلى جانب ثقتها الكاملة بأن الله وفيّ لوعده وفاءٌ مطلقاً، تشعر بمسؤولياتها الخطيرة في معاونة عمل الله الذي يدعو، والمشاركة في خلق الظروف وصونها فيتمكّن البذار الصالح من أن يضرب عروقه في الأرض ويؤتي ثماراً وفيرةً. ولن تملّ الكنيسة أبداً من أن تسأل رب الحصاد أن يرسل عملة إلى حصاده (را متى 9 / 38). وعليها أن تقترح على الأجيال الصاعدة خطة واضحة جريئة لتلبية الدعوة، وتساعدها في استيضاح نداء الله وتمحيص حقيقته، وتلبيته تلبية سخية، وعليها أن تتوفّر، بوجه خاص، على تنشئة المرشحين للكهنوت.
ولا شك أن الكنيسة، في مواجهة ما يترتب عليها من حمل الإنجيل إلى البشرية، تعتبر تنشئة كهنة المستقبل، الأبرشيين منهم والرهبان، مهمة على كثير من الخطورة والدقة، تستمر على مدى حياتهم، دعماً لقداستهم الشخصية في الخدمة الكنسيّة، وتجدّدهم الدائم في التزامهم الرعوي.
بفضل هذا العمل التربوي تتابع الكنيسة، في الزمن، عمل المسيح، على حدّ ما وصفه الإنجيلي مرقص: “صعد يسوع الجبل ودعا الذين أرادهم فأقبلوا إليه. فأقام منهم اثني عشر يصحبونه فيرسلهم بيشرون، ولهم سلطان يطردون به الشياطين” (مر 3 / 13 – 15).
ويمكن القول إن الكنيسة، عبر تاريخها، قد جسّدت دوماً هذه الصفحة من الإنجيل، على تفاوت في الوتيرة والأساليب، من خلال ما قامت به من تنشئة المرشحين للكهنوت أو تنشئة الكهنة أنفسهم. ولكن الكنيسة تشعر اليوم أنها مدعوة إلى أن تُجسد ثانيةً ما فعله المعلم مع تلاميذه، عبر أسلوب جديد في الالتزام. وإنما يحدوها في ذلك ما طرأ على المجتمع والمدنيات المعاصرة، من تحوّلات عميقة وسريعة، ناهيك عما هنالك من تعدّد وتنوع في القرائن التي يتم فيها إعلان الإنجيل والشهادة له. ويدفع الكنيسة إلى ذلك أيضاً، التطور الإيجابي لعدد الدعوات الكهنوتية في عدد من أبرشيات العالم، وضرورة إعادة النظر في مقوّمات التنشئة الكهنوتية وأساليبها، وجزع الأساقفة وجماعاتهم بإزاء ما يشهدون من استمرار تقلّص الاكليروس، وأخيراً كون البشارة الجديدة بأمسّ الحاجة إلى كهنة ينادون بالبشارة الجديدة.
في هذه القرائن التاريخية والحضارية انعقدت، سنة 1990، الجمعية العمومية العادية لسينودس الأساقفة، وموضوعها “تنشئة الكهنة في الظروف الراهنة”، وذلك خمساً وعشرين سنة بعد ختام المجمع، وبنيّة إكمال التعليم المجمعي في هذا الشأن، وتكييفه بوجه أوثق، يلائم الظروف الراهنة (3).
3- في امتداد نصوص المجمع الفاتيكاني الثاني في شأن الرتبة الكهنوتية وتنشئة الكهنة (4) وبنيّة تطبيق ما تحتويه من تعليم ثريّ وراجح تطبيقاً عملياً على مختلف الأحوال، عالجت الكنيسة مراراً المعضلات المتصلة بحياة الكهنة وخدمتهم وتنشئته.
وقد كانت سينودسات الأساقفة أهم تلك المناسبات. فمنذ انعقاد الجمعية العمومية الأولى، في تشرين الأول 1967، خصّ السينودس موضوع تجديد الأكليريكيات بخمس من اجتماعاته العامة. وقد ساهم هذا العمل مساهمة حاسمة في تكوين الوثيقة التي اصدرها مجمع التربية الكاثوليكية، بعنوان: “توجيهات أساسية للتنشئة الكهنوتية” (5).
بيد أن الجمعية العمومية العادية الثانية، سنة 1971، هي التي وقفت نصف أعمالها لمعالجة موضوع كهنوت الخدمة. وكانت ثمار هذه المعالجة الطويلة التي لُخصت بشكل “توصيات” ورُفعت إلى سلفي البابا بولس السادس، وتليت في مطلع سينودس 1974، معنية خصوصاً بقضية الكهنوت وبعض وجوه الروحانية والخدمة الكهنوتية.
وقد ظلّت السلطة التعليمية في الكنيسة، في مناسبات أخرى كثيرة، تبدي اهتمامها لحياة الكهنة وخدمتهم. ويمكن القول إن هذه السلطة، في السنين التي عقبت المجمع الفاتيكاني، لم تصدر أيّ تعليم إلاّ وله بشكل أو بآخر، بطريقة صريحة أو مضمرة، علاقة بوجود الكهنة في الجماعة ودورهم وضرورة حضورهم للكنيسة ولحياة العالم. وقد ساد شعور، في هذه السنين الأخيرة، وفي غير موضع من العالم، بضرورة العودة إلى قضية الكهنوت ومعالجته من ملحظ جديد، نوعاً ما، وأكثر انطباقاً على الظروف الكنسية والثقافية الراهنة. فمن معضلة هويّة الكاهن، انتقلت الأنظار إلى البحث في المعضلات المتصلة بمسار التنشئة الكهنوتيّة ونوعية حياة الكهنة. والحقيقة أن الأجيال الجديدة المدعوّة إلى الكهنوت تتميّز بملامح مختللفة إلى حدّ ملحوظ، عمّا ألفه اسلافهم الأقربون، وتعيش في عالم جديد من نواح كثيرة، يتطوّر تطوّراً سريعاً ومستمراً. هذا كلّه، لا بدّ من التحسّب له في صياغة المناهج وتحديد الطرائق المتصلة بالتنشئة الكهنوتية.
وأما الكهنة الذين يمارسون خدمتهم منذ أمد قريب أو بعيد، فيبدو أنهم يعانون اليوم من تشتت مفرط في نشاطات رعوية متزايدة. ويشعرون، في مواجهة معضلات المجتمع الراهن والحضارة المعاصرة، بضرورة إعادة النظر في نمط حياتهم وأولويات التزاماتهم الرعوية، كما يلمسون، كل يوم أكثر، حاجتهم الماسة إلى تنشئة متواصلة.
لقد توخّى سينودس الأساقفة لسنة 1990، باهتماماته واعتباراته، زيادة الدعوات الكهنوتية وتنشئة المرشحين للكهنوت بحيث يعرفون المسيح ويتبعونه ويستعدّون للاحتفال برسامتهم الكهنوتية، والتقيّد بمستلزمات هذه الرتبة التي تصورّهم بصورة المسيح الرأس والراعي والخادم وعريس الكنيسة. وقد أهتم السينودس أيضاً بتحديد طرائق التنشئة المتواصلة بحيث تضمن للكهنة دعماً واقعياً وفعّالاً لخدمتهم وحياتهم الروحية.
وقد أراد هذا السينودس عينه أن يستجيب لطلب من السينودس السابق في شأن دعوة العلمانيين ورسالتهم في الكنيسة وفي العالم. وقد تمنى العلمانيون أنفسهم أن يعنى الكهنة بتنشئتهم ليعاونوهم، بطريقة سديدة، في الاضطلاع بالرسالة الكنسية الشاملة. والحقيقة أنه، مع نموّ رسالة العلمانيين، تزداد الحاجة إلى كهنة قديسين ينعمون بتنشئة متينة؛ وهكذا فإن شعب الله يترجم، من خلال حياته، تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني في العلاقة بين الكهنوت العام والكهنوت الخدمي الإيررخي. ففي سرّ الكنيسة تتميّز الإيررخية بطابع الخدمة (را نور الأمم، بند 10) وبمقدار ما نغوص في معنى الدعوة العلمانية الخاصة، يتّضح لنا بنتوءٍ أكثر ما يميّز الكاهن (6).
4- من خلال الخبرة الكنسية التي يتميّز بها السينودس، أي “الخبرة الخاصة للشركة الاسقفية الشاملة، التي ترسّخ معنى الكنيسة الجامعة ومسؤولية الأساقفة، تجاه الكنيسة الجامعة وتجاه رسالتها، في الشركة القلبية والفعلية حول بطرس” (7)، تعالت أصوات صريحة من مختلف الكنائس الخاصة، ولأول مرة في السينودس، أصوات بعض الكنائس في أوروبا الشرقية. لقد أعلنت إيمانها بإنجاز وعد الله: “وأعطيكم رعاة على وفق قلبي” (ار 3 / 15)، وجدّدت تصميمها الراعوي على الاهتمام بالدعوات والتنشئة الكهنوتية، يقينا منها أن مستقبل الكنيسة ونموّها ورسالتها الخلاصية الشاملة منوطة بذلك.
والآن أود أن أضمّن هذا الارشاد الرسولي الذي نختتم به السينودس، مجموع الاعتبارات والتوجيهات والملاحظات التي مهّدت لأعمال الآباء السينودسيين وواكبتها. وأضمّ إليها صوتي، صوت أسقف رومة وخليفة بطرس. وأتوجّه إلى قلب جميع المؤمنين وكل منهم، وبخاصة إلى الكهنة وكل المعنيين بمهمة تنشئتهم الدقيقة. نعم، أود أن أجعل من هذا الإرشاد سبيلاً إلى جميع الكهنة الأبرشيين والرهبان.
إني أتبنّى مشاعر الآباء السينودسيين وكلماتهم في “البلاغ السينودسي الختامي الموجّه إلى شعب الله”: “إننا بملء الشكر والاعجاب، نلتفت إليكم “الكهنة” أنتم طليعة معاونينا في الخدمة الرسولية. مهمتّكم في الكنيسة مهمة لازمة حقاً، ولا استعاضة عنها. فإنكم أنتم تحملون عبء الخدمة الكهنوتية، ولكم مع المؤمنين صلة مباشرة. أنتم خدمة الإفخارستيا وموزعو الرحمة الإلهية في سرّ التوبة، ومعزّو النفوس ودليلو المؤمنين كلهم في دوّامة المصاعب الحياتية المعاصرة.
“نحييّكم من صميم القلب ونعرب لكم عن امتناننا، ونحضّكم على المثابرة في هذا الطريق بفرح ونشاط، ولا تستسلموا لليأس، فرسالتنا ليست منّا بل من الله”.
“إن الذي دعانا ويرسلنا باق معنا كل أيام حياتنا. ولا شك، فنحن إنما نسعى بتفويض من المسيح” (8).
الفصل الأول
“مأخوذون من بين الناس”
التنشئة الكهنوتية
في مواجهة التحديات في نهاية الألف الثاني
الكاهن وعصره
5- كل حبر يؤخذ من بين الناس ويقام لدى الله من أجل الناس” (عب 5 / 1).
الرسالة إلى العبرانيين تؤكد بصراحة “بشرية” خادم الله، فهو من الناس ولخدمة الناس، على مثال يسوع المسيح ” الذي امتُحِن في كل شيء مثلنا ما عدا الخطيئة” (عب 4 / 15).
فالله يدعو كهنته من أوساط بشرية وكنسية معيّنة، تمهرهم بطابع لا مفرّ منه، وإليها يبعثون لخدمة إنجيل المسيح.
ومن ثمّ فقد أعاد السينودس مسألة الكهنة إلى القرائن الراهنة التي يعيش فيها المجتمع والكنيسة، ولكنه أحالها أيضاً إلى مشارف الألف الثالث، كما يتبيّن ذلك من صيغة الموضوع نفسه: “تنشئة الكهنة في الأوضاع الراهنة”.
هناك، ولا شك، “للكاهن ملامح جوهرية لا تتبدل: كاهن الغد، عليه أن يتشبّه بالمسيح، مثله مثل كاهن اليوم فيسوع قد قدّم لنا، من ذاته، في غضون حياته الأرضية، الننموذج النهائي للكاهن، راسماً ملامح كهنوت كان الرسل أول من تولوه. هذا الكهنوت مدعوٌ إلى أن يدوم ويستمرّ بلا انقطاع على مدى التاريخ ومراحله. بهذا المعنى، كاهن الألف الثالث مدعوٌ إلى أن يتابع خطى الكهنة الذين انعشوا حياة الكنيسة في الألفين الماضيين. ففي السنة الألفين سوف تظلّ الدعوة الكهنوتية نداء إلى عيش كهنوت المسيح الواحد الدائم” (9). ولكن في المقابل “يجب أن تتكيف حياة الكاهن وخدمته وفقاً لجميع الأوساط الحياتية… وبالتالي علينا أن نسعى إلى الانفتاح، قدر المستطاع، للروح القدس وأنواره السامية، لنكتشف توجهات المجتمع المعاصر، ونلمّ بأعمق ما لديه من حاجات روحية، ونستوضح أهم ما يجب أن يلتزم به من واجبات محدّدة، والأساليب الرعوية التي يجب اعتمادها لكي نلبّي بطريقة ملائمة، ترقّباته الإنسانية” (10).
ولما كان على الآباء السينودسيين أن يوفقّوا ما بين الخدمة الكهنوتية في فحواها الصحيح الدائم، ومقتضيات العصر الراهن وميزّاته، فقد عكفوا على الإجابة على بعض المسائل التي لا محيد عنها: ما هي المشاكل، وإلى جانبها الحوافز الإيجابية التي يبعثها المحيط الاجتماعي – الحضاري والكنسي الراهن في نفوس الأحداث والفتيان والشبّان المدعوّين إلى أن يُنضجوا، مدى حياتهم كلها، مشروع حياة كهنوتية؟ أي مصاعب وأي امكانات جديدة يوفّرها عصرنا لممارسة خدمة كهنوتية تتناغم مع نعمة الكهنوت ومع مقتضيات حياة روحية تلائمه؟
وأتناول الآن بعضاً من العناصر التي توسّع فيها الآباء السينودسيون لتحليل هذا الوضع. وإن ما هنالك من تنوّع في الأوضاع الاجتماعية – الحضارية والكنسية الراهنة في مختلف البلاد، يحملنا على ألاّ نورد إلا المظاهر الأكثر عمقاً وانتشاراً وبخاصة تلك التي لها علاقة بالمعضلات التربوية، والتنشئة الكهنوتية.
إنجيل اليوم: آمال وعقبات
6- ثمة عوامل كثيرة تساعد، على ما يبدو، في بعث وعي أدقٌ، لدى الإنسان المعاصر، للكرامة الإنسانية، وتقبّلاً جديداً للقيم الدينية والإنجيل والخدمة الكهنوتية. وعلى ما هنالك من تناقضات كثيرة، نجد في المجتمع توقاً إلى العدالة والسلام أكثر شيوعاً وعمقاً، وشعوراً أرهف بواجب العناية بشؤون الخليقة واحترام الطبيعة، وسعياً أرحب إلى الحقيقة وصون الكرامة البشرية. ونلمس لدى جماعات كثيرة من سكان العالم مزيداً من الالتزام الوقعي لقضايا التضامن الدولي ولنظام كوني جديد يراعي الحرية والعدالة.
وفيما يتنامى مخزون الطاقة الذي توفّره العلوم والتقنيات، وتمتد رقعة الإعلام والثقافة، نلحظ إلى جانب ذلك تعاظماً في التماس مناقبية جديدة، والبحث عن معنى وسلّم موضوعي للقيم يمكّن الإنسان من تنظيم امكانات الرقيّ وحدوده.
وأما في المجال الديني والمسيحي بالتحديد، فقد بدأت تنهار أوهام إيديولوجية وتصدّيات عنيفة للقيم الروحية والدينية، وأخذت تُطل على غير موقع من العالم إمكانات جديدة وغير متوقعة لنشر البشرى الإنجيلية واستعادة مجرى الحياة الكنسية. ونلاحظ انتشاراً أوسع لمعرفة الكتب المقدسة، وحيوية وزخماً قوياً لدى الكنائس الفتية مع التزام متزايد لما يؤول إلى تعزيز القيم الإنسانية والحياة البشرية والدفاع عنها. ونلاحظ أيضاً نموذجاً ساطعاً للشهادة لدى بعض الكنائس في أوروبا الوسطى والشرقية، وللأمانة والشجاعة لدى بعض الكنائس الأخرى التي لا تزال تكابد حتى اليوم ألوان الاضطهاد والتنكيل بسبب الإيمان (11).
هناك أيضاً توق إلى الله وإلى علاقة حيّة ومميّزة معه. وهذا التوق هو اليوم من الوضوح بحيث يعزّز انتشار أشكال من التديّن البعيد عن الله، وتفاقم الشيع، في الأماكن المفتقرة إلى كرازة صحيحة وكاملة بإنجيل يسوع. انتشار هذه البدع، حتى في أوساط عريقة في مسيحيتها، يبعث عند جميع أبناء الكنيسة، وبخاصة الكهنة، سبباً لمحاسبة الضمير عن مصداقية شهادتهم الإنجيلية. بيد أن هذه الظاهرة هي أيضاً دليل على أن شوق الله لا يزال عميق الجذور، واسع الانتشار.
7- إلى هذه المعطيات وإلى معطيات أخرى إيجابية، تنضاف عناصر أخرى كثيرة معضلة أو سلبية. هناك العقلانية التي لا تزال حتى اليوم فسيحة الانتشار، وتستند إلى رؤية خافضة “للعلم” تصد العقل البشري عن تقبل الوحي والسمو الإلهي.
ونلحظ أيضاً دفاعاً مفرطاً عن الذاتية، ينزع إلى حجر الفرد ضمن فرديته وجعله عاجزاً عن إقامة علاقات إنسانية صحيحة. وينجم عن ذلك أن كثيراً من الناس ولا سيما المراهقين والشبان يسعون إلى مداواة هذه العزلة باستعاضات متنوعة وأنماط متفاوته التمادي في المُتعيّة والهروب من المسؤوليات. فإذا بهم مساجين الهباء يبحثون عن ممارسة الخبرات الشخصية الأقوى والأمتع، على صعيد المشاعر والاحساسات الفوريّة، ولكنهم يجدون بذلك أنفسهم، لا محالة، في حالة من اللامبالاة بل من الشلل في مواجهة الدعوة إلى مشروع حياة يفترض بعداً روحياً أو دينياً أو التزاماً لعملٍ تضامني.
هذا ونجد اليوم في العالم، حتى من بعد انهيار الايديولوجيات التي نادت بالمادية معتقداً، وجعلت من نعي الدين برنامجاً، انتشار نوع من الإلحاد العملي والوجودي يوازي رؤية معلمنة للحياة ولمصير الإنسان، هذا الإنسان “الذي لا يشغله إلا ذاته، الذي لا يكتفي بأن يجعل من ذاته قطب جميع المصالح، بل يجرؤ على اعتبار ذاته مبدأ كل الأشياء وعلتها” (12). هذا الإنسان يجد ذاته كل يوم أكثر افتقاراً إلى ذاك “النصيب من الروح” الذي أمسى لزومه ماسّاً بمقدار توفّر الخيور المادية والموارد التي توهمه الوصول إلى الاكتفاء الذاتي. وهكذا فالإنسان لم يعد بحاجة إلى أن يحارب الله، بل أمسى، بكل بساطة، بلا حاجة إليه.
في هذا السياق، يجب أن نلحظ، بوجه خاص، تفسّخ الوضع العيلي وانخفاض معنى العلاقة الجنسية وانحرافها: وكلها ظاهرات لها انعكاس سلبي ذريع على تربية الشُبّان وانفتاحهم للدعوة الدينية؛ ونلحظ أيضاً تفاقم المظالم الاجتماعية وتراكم الثروات لدى قلّة من الناس، نتيجة لنمط من الرأسمالية اللا إنسانية (13)، يوسّع يوماً بعد يوم الهوة بين الشعوب الثرية والشعوب الفقيرة، فتطرأ على المجتمع البشري توترات ومخاوف تعكّر حياة الأفراد والجماعات بطريقة ذريعة.
في المحيط الكنسي، ندوّن أيضاً ظاهرات مقلقة وسلبية، لها وقعها على حياة الكهنة وخدمتهم. منها الجهل الديني الذي لا يزال مطبقاً على عدد كبير من المؤمنين، وضعف أثر التعليم الديني، يطغى عليه ما تحمله وسائل الإعلام إلى الناس من بلاغات أكثر ذيوعاً وأشدّ وقعاً، وما هنالك من تعددية لاهوتية وثقافية وراعوية، قد تنطلق أحياناً من نوايا حسنة ولكنها تستطيع – إذا أسيء فهمها – أن تعسرّ الحوار المسكوني وتهدد وحدة الإيمان الضرورية؛ وهناك أيضاً استمرار نوع من الريبة والنفور من السلطة التعليمية في الكنيسة، ناهيك عن التيارات المنحازة، الساعية إلى تخفيض ثروة البلاغ الإنجيلي، وتحويل هذا البلاغ وشهادة الإيمان إلى مجرّد عامل من عوامل التحرير البشري والاجتماعي أو مجرد ملاذ للخرافة والسطحية الدينية (14).
وجود جماعات كثيفة من أعراق وأديان مختلفة في ذات الرقعة من الأرض، ظاهرة مهمّة جداً وأن حديثة، نسبياً، في غير بلد من البلدان المسيحية العريقة؛ وينشأ عن ذلك مجتمع بشري متعدد الأعراق والأديان، يتنامى يوماً بعد يوم. هذه الظاهرة يمكن أن تكون، من جهة، سانحة لممارسة الحوار بوجه أكثر وأفعل، والانفتاح الذهني المتبادل، ولخبرات على صعيد التلاقي والتسامح المنصف، ولكنها قد تصبح أيضاً مبعث التباس وشبهة، وخصوصاً لدى الأفراد والجماعات الرقيقة الإيمان.
إلى هذه العوامل، وبصلة وثيقة مع نموّ الفردوية، يمكن أن نضيف ظاهرة الذاتية في الإيمان. فنحن نلاحظ، لدى عدد متزايد من المسيحيين، تعلقاً أقل بمجموع المحتوى العقائدي الموضوعي للإيمان: فيعتنقون من الإيمان، بطريقة ذاتية، ما يرضيهم ويتوافق مع خبرتهم ولا يزعج أنماطهم الشخصية. وأما المناداة بحرمة الضمير الفردي، وإن شرعية، فهي لا تخلو في مثل هذه القرائن، من التباسات خطيرة.
من هنا أن واقع الانتماء إلى الكنيسة يمسي مجزوءاً ومشروطاً كل يوم أكثر، وهذا يؤثّر سلباً في تفتح دعوات كهنوتية جديدة وفي وعي الكاهن لمعنى هوّيته وخدمته في الجماعة.
أخيراً، لا تزال الكنيسة تعاني، حتى اليوم، في غير منطقة من العالم، معضلات خطيرة بسبب قلة عدد الكهنة وما ينجم عن ذلك من نقص في الخدمات الكهنوتية. فالمؤمنون هناك مهملون غالبا لفترات طويلة، محرومون كل سند رعوي، وهذا يؤثر في نموّ حياتهم المسيحية في مجملها، ويضعف، خصوصاً أهبتهم لأن يصبحوا هم أنفسهم من دعاة الإنجيل.
الشُبّان في مواجهة الدعوة والتنشئة الكهنوتية
8- التناقضات والطاقات الكثيرة التي تتميّز بها مجتمعاتنا وثقافاتنا وفي الوقت نفسه جماعاتنا الكنسية لها في عالم الشبّان وقع خاص ينعكس انعكاساً حاداً في رؤيتهم وحياتهم، مع ما ينجم عن ذلك من آثار مباشرة وقوية جداً في مسارهم التربوي. من هنا أن تفتّح الدعوات الكهنوتية ونموّها لدى الأولاد والفتيان والشبان يجابهان دوماً عقبات واغراءات.
من جملة تلك الاغراءات العنيفة ما نسميّه بمجتمع الاستهلاك الذي يسيطر على الشُبّان، ويجعلهم ضحايا بل سجناء رؤية فردوية ومادية ومُتْعَويّة للحياة البشرية. “فالبحبوحة” بمعناها المادي، بدأت تفرض ذاتها هدفاً وحيداً للحياة لا بد من نيله بأي شرط وبأي ثمن. وينجم عن ذلك رفض كل تضحية والإعراض عن كل جهد للبحث عن القيم الروحية والدينية والتزامها، فأمسى الانشغال “بذات اليد” لا غير، يزاحم أولوية “الذات”، وبالتالي أمست القيم الشخصية والعلاقية مفهومة وممارسة لا انطلاقاً من منطق العطاء المجاني بل من منطق الاستحواذ الأناني واستغلال الغير.
هذا كله نلقاه خصوصا في تصوّر الناس للحياة الجنسية وقد تبدلّت وهوت من مقامها وأمست اليوم مجرد سلعة للاستهلاك، بدلاً من أن تكون وسيلة لخدمة الجماعة والعطاء المتبادل. وهكذا لم تعد الخبرة العاطفية، في حياة الكثيرين من الشُبان، طريقاً إلى نموّ شخصيتهم نمواً متناغماً جذلاً ومطلاً على الغير اطلالة عطاء وبذل بل إلى تقهقر نفساني وأخلاقي خطير لا يخلو من مغبات باهظة تنال من مستقبلهم.
هذه النزعات، لدى الكثيرين من الشُبّان، تنبع من خبرة مزيّفة للحرية: فالحرية بدلاً من أن تكون طاعة للحقيقة الموضوعية الشاملة، أمست في حياتهم انسياقاً أعمى لنوازع الغريزة وإرادة التسلّط. وهكذا يصبح من الطبيعي، نوعاً ما، على صعيد الذهنيات والتصرفات، أن يتفتت الاعتناق الباطن للمبادئ الأخلاقية. وأما في المجال الديني، إن لم يكن في كل مجالات الحياة، فهناك رفض صريح لله، أو أقلّه لا مبالاة تنجم عنها حياة يعيشها الإنسان بصرف النظر عن وجود الله، حتى في أهمّ الظروف وأخطر الخيارات. في هذا السياق، يمسي من الصعب على الشاب أن يحقّق، لا بل أن يفهم كنه الدعوة الكهنوتية، لأن الدعوة دليل نوعي على تفوق الذات على المال، واعتراف بأن الحياة معناها بذل الذات للأخرين بذلاً حرّاً ومسؤولاً وأهبة للتجنّد كلياً لخدمة الإنجيل وملكوت الله في الكهنوت.
عالم الشبّان، حتى ضمن الجماعة الكنسية، هو في الغالب مشكلة. فالشبّان، أكثر من البالغين جنوحاً إلى اعتبار الإيمان المسيحي حالة ذاتية، والاكتفاء، من ثمّ، بانتماء مجزوء ومشروط إلى حياة الكنيسة ورسالتها. وينضاف إلى ذلك أن ثمة أسباباً متنوعة تُعسّر على القيّمين على الجماعة المسيحية تنظيم نمط رعوي متماسك يتلاءم وحاجات الشبّان: فإذا بهم عرضة لأن يُتركوا لمصيرهم ولهشاشة نفسيتهم الحافلة بمشاعر التنغّص والتململ من البالغين الذين لا يعيشون إيمانهم دائماً بطريقة متماسكة وناضجة ولا يظهرون بمظهر مثالي مقنع.
فمن الصعب إذن أن نعرض على الشبّان نموذج حياة مسيحية وكنسية متكاملة وحافزة يُدرّبون عليه، ومن ثم يظلّ أفق الدعوة إلى الكهنوت بعيداً عما يألفه الشبّان من مراكز اهتماماتهم اليومية.
9- ومع ذلك، لا نُعدم اليوم أوضاعاً حافزة وإيجابية بإمكانها أن تبعث وتعزّز في قلوب الفتيان والشبان أهمية جدية وتوقاً حقيقياً وخالصاً إلى قيم مسلكية وروحية توفّر، من ذاتها، تربة صالحة لتفتح الدعوة على بذل الذات في الكهنوت بذلاً كاملاً للمسيح والكنيسة.
ونلحظ أولاً انخفاض بعض الظاهرات الحديثة وما نجم عنها، في السنين الأخيرة، من مشكلات غير قليلة، كالرفض المطلق والتيارات التحرّرية والمطالبات الوهمية وأشكال من الاشتراكية الضيّقة والعنف.
هذا ولا بدّ أن نقرّ أن شبَّان اليوم بما يتّصفون به من عزمٍ ونضارة، يحملون مثالياات تتغلغل شيئاً فشيئاً في صلب التاريخ: العطش إلى الحرية، الاقرار بما يتمته به الإنسان من قيمة لا تحد، الحاجة إلى الخلوص والشفوف، تصوّر جديد ونمط جديد في التبادل والتعامل بين الرجال والنساء، السعي الصريح والحثيث إلى عالم أكثر عدالة وتضامناً وترابطاً، الاقبال على الحوار مع الجميع والتزام قضايا السلام.
ونلحظ لدى الكثير من شبَّان عصرنا تعاظماً ثرّياً وحيّاً لأشكال كثيرة ومتنوعة من التطوّع لخدمة المنقطعين والمهملين في مجتمعنا. هذه الأهبة تمثّل اليوم حافزاً تربوياً شديد الأهمية، لما توفّره من حثّ ودعم للشبَّان لاعتناق نمط حياة أكثر تجرداً وانفتاحاً وتضامناً مع الفقراء. أسلوب الحياة هذا بإمكانه أن يسهّل على الشبَّان أن يتفهمّوا ويتشوّقوا ويتقبلوا دعوة لخدمة دائمة وكاملة للآخرين، وبالتحديد في طريق التكرّس التام لله في حياة كهنوتية.
إن ما حدث أخيراً من انهيار الايديولوجيات، والنظرة المفنّدة الشديدة التي يواجه بها الشبَّان عالم البالغين الذين لا يؤدون لهم دائماً شهادة حياة مستوحاة من القيم الأخلاقية والعلوية، وحتى خبرة أترابهم الذين يلتمسون في المخدرات والعنف ملاذاً لهم، كل هذا يساهم إلى حدّ بعيد في إحالتهم إلى ذات السؤال الجوهري الذي لا مفرّ منه: ما هي القيم التي تستطيع حقاًَ أن تفرغ على الحياة والعذاب والموت معناها الأكمل؟ من هنا ما يتجلّى عند كثير من الشبَّان من توق ديني وحاجة روحية أوضح. من هنا أيضاً العطش الباطن إلى اختبار حياة العزلة والصلاة والاقبال على كلام الله في قراءة شخصية ومتواترة، ودرس اللاهوت.
وكما في مجال التطوع للعمل الاجتماعي، كذلك في إطار الجماعة الكنسية، نجد الشبَّان في طليعة المشاركين الناشطين في مختلف المنظمات، التليدة المتجددة والحديثة: فاختيار كنيسة مدعوّة إلى “المناداة الجديدة بالإنجيل” في الأمانة للروح التي يحييها، ووفقاً لتطلعات العالم المتنائي عن المسيح والمفتقر إليه، وكذلك اختبار كنيسة أكثر تضامناً، كل يوم، مع الإنسان ومع الشعوب في الذود عن كرامة الشخص البشري، وتعزيز حقوق الإنسان جماعة وأفراداً، كل هذا يشرع قلب الشبَّان وحياتهم على مُثُل أخّاذة وملزمة يمكن أن تتحقّق واقعياً في اتباع خطى المسيح واعتناق الكهنوت.
من الطبيعي أن هذا الوضع البشري والكنسي الشديد الالتباس، لا يمكن أن يغيب عن بالنا، ليس فقط في تنشئة المرشحين للكهنوت بل حتى في إطار حياة الكهنة وخدمتهم وتنشئتهم المتواصلة. وهكذا، إلى جانب تفهمنا “للأزمات” المتنوعة التي يكابدها كهنة اليوم في ممارسة خدمتهم، وحياتهم الروحية، وحتى في طريقة فهمهم لطبيعة الكهنوت وكنهه، علينا أن نسجل أيضاً، بفرح ورجاء، الإمكانات الإيجابية الجديدة التي يوفّرها للكهنة المنعطف التاريخي الراهن للاضطلاع بمهمتهم.
التمييز الإنجيلي
10- الوضع المعقّد الراهن، وأن أتينا على وصفه بطريقة سريعة ومقتضبة وبأمثال، يجب ألا نكتفي بالوقوف عليه، بل أن نركّز على تأويله. هكذا فقط يصبح بالإمكان الإجابة بطريقة ملائمة على السؤال الأساسي: “كيف ننشئ كهنة يكونون حقاً في مستوى الأحوال الراهنة، ومؤهبين لحمل الإنجيل إلى العالم المعاصر (15)؟ من الأهمية بمكان وقوفنا على الوضع الراهن. ولا يكفي، في ذلك، مجرّد بيان بالمعطيات بل لا بد من استقصاء علمي يمكّننا من أن نرسم، برصانة ووضوح، الإطار الواقعي في معالمه الاجتماعية – الثقافية والكنسية.
بيد أن تفسير الوضع أهمّ، ويفرضه ما تتميّز به الحالة الراهنة من لَبسٍ بل من تناقض أحياناً؛ فهي، على صورة الحقل الذي ينبت فيه الزرع الطيب والزؤان، تكشف لنا مصاعب وامكانات، سلبيات وحوافز رجاء، عقبات وانفراجات، في تشابك عميق، على حدّ ما ورد في الإنجيل (متى 13 / 24 – 30).
وليس من السهل دائماً أن نُفلح في تفسير يميّز الخير من الشر، ومعالم الرجاء من المحاذير. ففي التنشئة الكهنوتية، لا يكفي أن نرحّب بالإيجابيات ونعارضها بالسلبيات. بل علينا أان نخضع الإيجابيات نفسها لتمحيص دقيق لئلا نعزلها عن بعض ولا نناقضها بعضها ببعض، كما لو كانت مطلقيات متناقضة: وكذلك السلبيات يجب ألا ننبذها جملة وبلا تمييز، ففي كل منها قد تكمن تبرة تنتظر من يحررها ويعيد إليها نصاعتها الكاملة.
في نظر المؤمن تأويل القرائن التاريخية يتم انطلاقاً من مفاهيم وضوابط اختيار عملية يجدها في طريقة جديدة وأصيلة، هي التمييز الإنجيلي. هذه الطريقة في التأويل تتم في نور الإنجيل وقدرته، أي في يسوع المسيح، الإنجيل الحيّ الشخصي، وبفضل موهبة الروح القدس. بهذا النوع من التمييز الإنجيلي للقرائن التاريخية الراهنة وحدثانها، لا نجني مجرّد مؤشّر ندوّنه بدقّة، ثم نظل حياله في موقف اللامبالاة والتواني، بل نجني “مهمة” وتحدياً للحرية الواعية، عند الفرد كما عند الجماعة. هذا التحدّي يرتبط “بنداء” يطلقه الله في تضاعيف الحالة التاريخية نفسها: ففيها وعبرها يدعو الله الكنيسة أولاً، ثم المؤمن إلى أن يعملا، بحيث يصبح إنجيل الدعوة والكهنوت تعبيراً عن أزلية حقيقته، وسط ظروف الحياة المتقلبة. ويجب أن نطبق أيضاً على التنشئة الكهنوتية أقوال المجمع الفاتيكاني الثاني: لا بد للكنيسة أبداً من استشفاف علامات الأزمنة ومن تفسيرها في ضوء الإنجيل بحيث تستطيع الإجابة، بطريقة توافق كل جيل، عن الأسئلة المزمنة التي يطرحها الناس في معنى الحياة الحاضرة والآتية وفي العلاقات القائمة فيما بينهم. من هنا ضرورة الإحاطة بهذا العالم الذي نعيش فيه معرفةً وفهماً له ولما يحمله من تطلعات ورغبات، ولما له في أكثر الأحيان من طابع مأسوي” (16).
هذا التفسير الإنجيلي يرتكز على الثقة بمحبة يسوع المسيح الذي يُعنى بكنيسته دوماً وبلا ملل (را أف 5 / 29). هو الرب والمعلم، وحجر زاوية التاريخ البشري كله ومركزه وغايته (17)؛ ويستمد هذا التفسير نوره ودعامته من الروح القدس الذي يبعث في كل زمان ومكان طاعة الإيمان واتّباع يسوع بفرح وجرأة، وموهبة الحكمة التي تحكم في كل شيء ولا يحكم فيها أحد (را قور 2 / 15): ويرسو هذا التفسير أخيراً على وفاء الآب بوعوده. هكذا توجس الكنيسة ذاتها قادرة على مجابهة الصعاب والتحدّيات الكامنة في هذه المرحلة من التاريخ. وبإمكانها أيضاً أن تضمن للحاضر والمستقبل تنشئة كهنة يخدمون بغيرة ويقين في حقل “البشارة الجديدة” وفي الأمانة السخية ليسوع المسيح والناس.
نحن لا نخفي المصاعب: إنها ليست بنادرة ولا بيسيرة، وإنما نملك للتغلّب عليها رجاءنا وإيماننا بمحبة يسوع الراسخة ويقيننا بأن الخدمة الكهنوتية لا يمكن الاستعاضة عنها لحياة الكنيسة والعالم.
الفصل الثاني
“مسحني وأرسلني لأبشّر”
طبيعة الكهنوت ورسالته
النظرة إلى الكهنوت
11- “كانت عيون أهل المجمع كلهم شاخصة إليه” (لو 4 / 20). كل ما يقوله الإنجيلي لوقا عمّن كانوا في مجمع الناصرة يوم ذاك السبت، وسمعوا يسوع يفسّر ما قرأه من سفر أشعيا النبي، يمكن أن ينطبق على جميع المسيحيين المدعوّين دوماً إلى أن يجدوا في يسوع الناصري تمام البشرى النبوية: “فأخذ يقول لهم: اليوم تمّت هذه الآية بمسمع منكم” (لو 4 / 21). وقد ورد في هذا النص من الكتاب: “روح الرب نازل عليَّ لأنه مسحني لأبشر الفقراء، وأرسلني لأعلن للمأسورين تخلية سبيلهم، وللعميان عودة البصر إليهم، وأفرّج عن المظلومين وأعلن سنة قبول عند الرب” (لو 4 / 18 – 19؛ را اش 61 / 1 -2).
فيسوع يعلن ذاته مملوءاً من الروح القدس، “ومكرساً بالمسحة”، ليبشر الفقراء: إنه المسيح، المسيح الكاهن والنبي والملك.
على المسيحيين أن يظلّوا شاخصين، بأعين الإيمان والمحبة، إلى وجه المسيح هذا. ففي ضوء هذه “المشاهدة” تأمّل الآباء السينودسيون في مسألة التنشئة الكهنوتية في الظروف الراهنة. هذه المسألة لا يمكن الإجابة عنها قبل أن ننظر في الغاية التي تتوخّاها هذه الطريقة التربوية: والغاية إنما هي الكهنوت الرعوي، وبتعبير أدق: الكهنوت الرعوي من حيث هو اشتراك في كهنوت يسوع المسيح ذاته، ضمن الكنيسة. معرفة الكهنوت الرعوي، طبيعةً ورسالةً، هي المفترض اللازم، وفي الوقت نفسه، الدليل الأوثق والحافز الأقوى لتطوير العمل الرعوي في الكنيسة، الهادف إلى تعزيز الدعوات الكهنوتية وتمحيصها، وتنشئة المدعوين إلى الخدمة المكرّسة.
السعي إلى معرفة دقيقة وعميقة للكهنوت الرعوي، طبيعةً ورسالةً، هو إذن الطريق الذي يجب اتباعه – وهو الطريق الذي اتبعه السينودس فعلاً – للخروج من أزمة هوية الكاهن: “هذه الأزمة – كما جاء في الخطاب الذي اختتمت به السينودس – قد ظهرت في السنين التي عقبت المجمع مباشرة. وقد نشأت من تفسير خاطئ، بل منحاز أحياناً بطريقة متعمدة، للتعليم المجمعي الرسمي. وهنا يكمن، بلا شك، أحد أسباب ما كابدته الكنيسة آنذاك، من انسحابات كهنوتية كثيرة، بات لها أثر خطير على الخدمة الرعوية والدعوات الكهنوتية، وبخاصة الدعوات الرسولية. ويخيّل إلينا أن سينودس 1990 أعاد اكتشاف الهوية الكهنوتية بكل عمقها، عبر المداخلات الكثيرة التي سمعناها في هذه الندوة، فحمل إلينا الرجاء بعد كل تلك الانسحابات المؤلمة. هذه المداخلات قد كشفت وعينا للرباط الكياني الخاص القائم بين الكاهن والمسيح، الكاهن الأعلى والراعي الصالح. هذه الهوية هي المرتكز الذي تقوم عليه طبيعة التنشئة الاعدادية للكهنوت، ومن بعدها، طوال الحياة الكهنوتية. وكأن ذلك غاية هذا السينودس” (18).
لهذا، يرى السينودس لزاماً عليه أن يذكّر، بطريقة جامعة، بما له صلة بأسس الكهنوت الرعوي، هويةً ورسالةً، وقد أقرّها إيمان الكنيسة بلا انقطاع عبر تاريخها العريق، ونادى بها المجمع الفاتيكاني الثاني لأهل زماننا (19).
في الكنيسة من حيث هي سرّ وشركة ورسالة
12- “الهوية الكهنوتية – كما عبّر عنها آباء السينودس – ككل هوية مسيحية، تنبع من سرّ الثالوث الأقدس” (20) الذي يتجلّى وينتقل إلى الناس في المسيح، وبواسطته وبفضل عمل الروح، يكوّن الكنيسة “منبت الملكوت وبدءه” (21). رسالتنا: “العلمانيون المؤمنون بالمسيح” تلخّص تعليم المجمع، فتصوّر الكنيسة من حيث هي سرّ وشركة ورسالة: “فهي سرّ لأن المحبة والحياة النابعتين من الآب والابن والروح القدس هما الموهبة المجانية المطلقة المهداة لجميع المولودين من الماء والروح (را يو 3 / 5)، والمدعوين إلى أن يعيشوا الشركة مع الله ذاته، ويعلنوها ويحملوها طيّ التاريخ” (الرسالة) (22).
كل هوية مسيحية، وبالتالي الهوية المميزة للكاهن وخدمته، إنما تتجلّى ضمن الكنيسة من حيث هي سرّ شركة ثالوثية في اتجاه رسولي. فالكاهن، بقوة المسحة التي نالها بسرّ الكهنوت، يرسله الآب، بواسطة يسوع المسيح من حيث هو رأس شعبه وراعيه، ليعيش ويعمل بقوة الروح القدس لخدمة الكنيسة وخلاص العالم (23).
هكذا نستطيع أن نفهم هوية الكاهن، في طابعها “العلاقي” الجوهري: فالبكهنوت النابع من صميم سرّ الله المعجز، أي من محب الآب ونعمة يسوع المسيح وموهبة الوحدة في الروح القدس، يندمج الكاهن سرّيا في الشركة مع الأسقف وسائر الكهنة (24) ليخدم شعب الله أي الكنيسة ويقود جميع الناس إلى المسيح، طبقاً لصلاة الرب: “يا ابت القدوس، احفظهم باسمك الذي وهبته لي، ليكونوا واحداً كما نحن واحد… كما أنك فيّ يا ابت، وأنا فيك، فليكونوا هم أيضاً فينا ليؤمن العالم بأنك أنت أرسلتني” (يو 17 / 11، 12).
لا يمكننا إذن أن نحدّد هوية الكهنوت الرعوي ورسالته بمعزل عن هذه الحبكة المتعددة والثرية للعلاقات النابعة من الثالوث الأقدس، والمسترسلة في شركة الكنيسة من حيث هي، في المسيح، آية ووسيلة لاتحاد الناس بالله، ووحدة الجنس البشري برمتّه (25). وهكذا تصبح الشركة، في مفهومها الكنسي، عاملاً حاسماً لفهم هوية الكاهن وكرامته ودعوته ورسالته في خدمة شعب الله والعالم. ومن ثمّ فالإشارة إلى الكنيسة شأن هام، إن لم تكن أوليّة في تحديد هوية الكاهن. فالكنيسة، من حيث هي سرّ، لها صلة جوهرية بيسوع المسيح، لأنها ملكه وجسده وعروسه. وهي “الآية” و”التذكار” الحيّ لحضوره الدائم وعمله بيننا ولأجلنا. ويجد الكاهن كنه هويته وملء حقيقته في أنه شريك مميّز وامتداد للمسيح نفسه الكاهن الأعظم والأوحد للعهد الجديد: إنه صورة حيّة شفّافة للمسيح الكاهن. كهنوت المسيح هو عبارة “الجدّة” المطلقة في تاريخ الخلاص، وهو بالتالي المصدر الأوحد والنموذج الذي لا بديل منه، لكهنوت المسيحي بعامة، ولكهنوت الكاهن بخاصة. الإشارة إذاً إلى المسيح وسيلة لا بد منها لفهم حقيقة الكهنوت.
العلاقة الأساسية بالمسيح الرأس والراعي
13- لقد أظهر يسوع المسيح في ذاته الصورة الكاملة والحاسمة لكهنوت العهد الجديد (26): لقد أظهرها من خلال حياته الأرضية كلها، ولكن خصوصاً في تلك الواقعة القمة، واقعة آلامه وموته وقيامته.
ولما كان يسوع، على حدّ ما ورد في الرسالة إلى العبرانيين، إنساناً مثلنا وفي الوقت نفسه ابن الله الوحيد، فهو، في ذات كيانه، وسيط كامل بين الآب والبشرية (را عب 8 / 9) يفتح لنا سبيلاً لندنو من الله قريباً بفضل موهبة الروح القدس: “لقد أرسل الله روح ابنه إلى قلوبنا، الروح الذي ينادي: “يا ابتا!” (غل 4 / 6، را روم 8 / 15). ويُتم يسوع مهمته الوساطية بتقدمة ذاته على الصليب وبها يفتح لنا، مرة واحدة لا غير، سبيلاً لدخول القدس السماوي وبيت الآب (را عب 9 / 24 – 28). وأما موسى وجميع وسطاء العهد القديم بين الله وشعبه – الملوك والكهنة والأنبياء – فما هم سوى “صورة” و”ظل الخيرات المستقبلة”، لا جوهر الحقائق” (را عب 10 / 1). يسوع هو الراعي الصالح الذي بشّر به الأنبياء (را حز 34)، الذي يعرف خرافه واحداً واحداً ويبذل حياته لأجلها ويريد أن يجمعها كلها رعية واحدة “عليها راع واحد (را يو 10 / 11 – 16). هو الراعي الذي جاء “لا ليُخدم بل ليَخدُم” (متى 20 / 28)، وترك لأتباعه، لما غسل أرجل تلاميذه ليلة العشاء الفصحي، نموذج الخدمة التي يجب أن يؤدّوها بعضهم لبعض، وقدّم ذاته حرّاً حملاً بريئاً يُذبح لفدائنا (را يو 1 / 26؛ رؤ 5 / 6 – 12).
ويوفّر يسوع لجميع تلاميذه، في ذبيحة الصليب التي ارتضاها مرة واحدة وحاسمة، الكرامة والرسالة التي يتميّز بهما كهنة العهد الجديد. وهكذا يتحقق وعد الله الذي قطعه لإسرائيل: “نكونون لي مملكة أحبار وشعباً مقدساً” (خر 19 / 6). إن شعب العهد الجديد كله – على حد ما جاء في رسالة بطرس – قد أقيم “بيتاً روحياً”، كهنوتاً مقدساً “لتقريب ذبائح روحية يقبلها الله إكراماً ليسوع المسيح” (ب بط 2 / 5). المُعَمّدون هم الحجارة الحيّة لبناء البيت الروحي، المتحدة بالمسيح، “الحجر الحيّ… الذي اختاره الله وكان عنده كريماً” (ا بط 2 / 4). والشعب الكهنوتي الجديد، أي الكنيسة، ليس له فقط في المسيح صورته الخاصة الحقيقية، بل ينال منه اشتراكاً فعلياً وجوهرياً في كهنوته الأبدي الأوحد الذي يجب أن يطابق عليه حياته.
14- لقد دعا يسوع إليه، في غضون رسالته الأرضية، عدداً من تلاميذه وأقامهم لخدمة هذا الكهنوت العام: كهنوت العهد الجديد. وفوّض إلى الانثي عشر سلطة خاصة ليصحبوه ويرسلهم يبشرون ولهم سلطان يطردون به الشياطين” (مر 3 / 14 – 15).
هكذا فوّض يسوع إلى بطرس والاثني عشر، مدة رسالته العلنية أولاً (را متى 16 / 18) ثم بعد موته وقيامته بطريقة أوسع (را متى 18 / 16 – 20، يو 20 – 21) سلطات مميّزة جداً لخدمة الجماعة العتيدة ولنقل البشرى إلى الشعوب أجمعين. فمن بعد أن دعاهم إلى اتّباعه، أقامهم بقربه وعاش وإياهم، ناقلاً إليهم، بالمثل والكلام، بلاغه الخلاصي، ثم أرسلهم أخيراً إلى الناس أجمعين. ولتنفيذ هذه الرسالة، خوّل يسوع الرسل، مع قوّة حلول الروح القدس، نفس السلطة المسيانية التي نالها من الآب نفسه والتي تجلّت، في أوجها، بالقيامة: “لقد دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض. فإذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وهاءنذا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر” (متى 28 / 18 – 20).
هكذا أقام يسوع علاقة وثيقة بين الرسالة الموكولة إلى الرسل ورسالته هو: “من قَبِلكم فقد قبلني فقد قبل الذي أرسلني” (متى 10 / 40)، “من سمع منكم فقد سمع مني، ومن نبذكم فقد نبذني، ومن نبذني نبذ الذي أرسلني…” (لو 10 / 16). علاوة على ذلك فقد أكد المسيح يسوع، بكثير من القوة والبيان، على حدّ ما ورد في الإنجيل الرابع، وفي ضوء الحدث الفصحي لموته وقيامته: “كما أرسلني الآب كذلك أنا أرسلكم” (يو 20 / 21، را 13 / 20، 17 / 18). فكما أن ليسوع رسالة أتته توّاً من الله، وفيها تتجسّم سلطة الله ذاتها (را متى 7 / 29، 21 / 23، مر 1 / 27، لو 20 / 2، 24 / 19)، بحيث أن تعليمه ليس منه بل ممن أرسله، (را يو 7 / 16)، كذلك أوعز يسوع إلى تلاميذه: “بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً” (يو 15 / 5): رسالتهم ليست إذن رسالتهم بل رسالة يسوع نفسه؛ وتحقيقها ليس منوطاً بقوى بشرية، بل “بموهبة” المسيح وروحه، وبالنعمة المعطاة عبر الأسرار: “خذوا الروح القدس: من غفرتم خطاياهم غفرت لهم، ومن أمسكتم خطاياهم أمسكت” (يو 20 / 22 – 23). وهكذا يواصل الرسل في التاريخ، حتى منتهى الزمن، لا بفضل منهم، بل بفضل ما يستمدّونه مجاناً من نعمة المسيح، الرسالة الخلاصية التي حقّقها المسيح للعالم.
خلوص هذه الرسالة وخصبها، يُظهرهما ويفترضهما اتحاد الرسل بيسوع من جهة، واتحادهم فيه، وبعضهم ببعض وبالآب، كما تشهد بذلك صلاة الرب الكهنوتية وهي خلاصة رسالته (را يو 17 / 20 – 23).
15- ثم أن الرسل الذين أقامهم الرب سوف يضطلعون هم أيضاً برسالتهم شيئاً فشيئاً، موجّهين الدعوة، بطرق مختلفة، وفي النهاية متواردة، إلى أناس آخرين ليكونوا أساقفة أو كهنة أو شمامسة، وليكملوا الرسالة التي أكرمهم بها المسيح القائم من بين الأموات والذي أرسلهم إلى الناس أجمعين وفي جميع الأزمان.
وينيّن العهد الجديد بإجماع أن روح المسيح نفسه هو الذي انتدب للخدمة الرعوية هؤلاء المختارين من بين الأخوة، فأصبحوا، بوضع الأيدي (را رسل 6/6، 1 طيم 4 / 14، 5 / 22، 2 طيم 1 / 6) ونيل موهبة الروح، مدعوين ومؤهلين لمواصلة خدمة المصالحة والرعاية والتعليم (را رسل 29 / 28، 1 بط 5 / 2).
الكهنة مدعوون إذاً إلى أن يكونوا امتداد حضور المسيح، الراعي الأوحد والأعظم، متشبهين بنمط حياته وعاكسين، نوعاً ما، صورته شفافةً وسط القطيع الموكول إليهم. وقد ورد في رسالة بطرس الأولى، بوضوح ودقة، قوله: “أما الكهنة الذين فيكم فأحرّضهم، أنا الكاهن مثلهم والشاهد لآلام المسيح، والشريك أيضاً في المجد المزمع أن يتجلى، أن أراعوا رعية الله التي أقمتم عليها، لا قسراً بل عن رضى، بحسب مشيئة الله، لا طمعاً في مكسب خسيس بل عن بذل ذات، لا كمتسلطين على نصيب خاص بل كمن يكون مثلاً للرعية… ومتى ظهر رئيس الرعاة تنالون اكليل المجد الذي لا يذوي” (ا بط 5 / 1 -4).
في الكنيسة وللكنيسة يمثّل الكهنة إذن سرياً يسوع المسيح الرأس والراعي، وينادون بالكلمة مناداة صحيحة، ويكررون ما أتى به من أعمال الصفح والخلاص، وخصوصاً المعمودية وسر التوبة والإفخارستيا، ويمارسون عنايته ومحبته إلى حد بذل الذات في سبيل الرعية التي يجمعونها في الوحدة ويقودونها إلى الآب بالمسيح وفي الروح. وقصارى القول أن الغاية من وجود الكهنة وعملهم نقل الإنجيل إلى العالم وبنيان الكنيسة باسم المسيح نفسه الرأس والراعي (27).
تلك هي الطريقة المميّزة والخاصة التي بها يشترك المرسومون كهنة، في كهنوت المسيح. بواسطة هذه المسحة الكهنوتية، يجعلهم الروح القدس شبيهين، بوجه جديد ومميز، بيسوع المسيح الرأس والراعي، ويصوّرهم باطنياً بصورة محبته الراعوية ويحرّكهم، ويقيمهم في الكنيسة خدمةًَ أهلاً لإعلان الإنجيل لكلّ الخليقة ولنفح حياة مسيحية زاخرة لجميع المعمدين.
حقيقة الكاهن، كما ترشح من كلمة الله، أي من يسوع المسيح نفسه ومن نصده إقامة الكنيسة، نجدها في مقدمة قداس الرسامة، نشيداً ليتورجياً مفعماً بالشكر والحبور: “لقد أقمت ابنك الوحيد، بمسحة الروح القدس، كاهناً للعهد الجديد الأبدي، وأردت أن يستمّر كهنوته الأوحد حيّاً في الكنيسة. فالمسيح هو الذي يجود على كل شعبه المفتدى بكرامة الملكي، وهو الذي ينتخب، في محبته لإخوته، المدعوّين لتقبل البركة الكهنوتية والاشتراك في رسالته، فيقرّبون باسمه الذبيحة الخلاصية الوحيدة على مائدة الوليمة الفصحية، ويبذلون ذواتهم في خدمة شعبك، يغذّونه بكلمتك ويحيونه بأسرارك، ويكونون شهوداً خُلصّاً للإيمان والمحبة، مستعدين لأن يقدموا حياتهم كالمسيح لإخوتهم ولك”.
في خدمة الكنيسة والعالم
16- العلاقة الأساسية التي تميّز الكاهن هي العلاقة التي تشدّه إلى يسوع المسيح الرأس والراعي: إنه يشترك بطريقة مميّزة وأصيلة، في “الرسامة” أو “المسحة” وفي “الرسالة” التي اضطلع بها المسيح (را لو 4 / 18 – 20). ولكن هذه العلاقة، ترتبط بها ارتباطاً وثيقاً علاقة الكاهن بالكنيسة. وليس ثمة علاقتان متوازيتان، بل هما مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً في تبادل صميم. فالمرجعية إلى الكنيسة متضمنة في ذات العلاقة الوحيدة القائمة بين الكاهن والمسيح، بمعنى أن “التمثيل السرّي” الذي يميّز علاقة الكاهن بالمسيح هو الذي يدعم وينعش علاقته بالكنيسة. بهذا المعنى كتب الآباء السينودسيون: “إن الكاهن، من حيث هو ممثل للمسيح رأس الكنيسة وراعيها وعريسها، له رسالة ليس فقط في الكنيسة بل تجاهها أيضاً. فالكهنوت الذي يضطلع به الكاهن إلى جانب خدمة الكلمة والأسرار، هو جزء جوهري من مقومات الكنيسة. المهمة الكهنوتية كلها هي في خدمة الكنيسة لدعم ممارسة الكهنوت العام الذي يتحلّى به شعب الله كله. وهدفها ليس فقط الكنيسة الخاصة، بل الكنيسة الجامعة (را حياة الكهنة وخدمتهم الراعوية، فقرة 10) بالاشتراك مع الأسقف ومع بطرس وتحت سلطة بطرس. من خلال كهنوت الأسقف، يندمج كهنوت الرتبة الثانية في البنية الرسولية الكنسية. وهكذا فالكاهن، كالرسل، يقوم بمهمة سفير المسيح (را 2 قور 5 / 20). وهذا هو الأساس الذي يرتكز عليه الطابع الرسولي في الكهنوت” (28).
هكذا ينشأ الكهنوت الرعوي مع الكنيسة، وسواء كهنوت الأساقفة أم كهنوت الكهنة في علاقته بهم واشتراكه معهم، إنما له صلة خاصة بكهنوت الرسل البكر، الذي يستمد منه حقاً الخلافة، وإن بدت بينهما مباينات في نواح عملية.
يجب إذن ألا نعتبر الكهنوت الرسامي سابقاً للكنيسة: إنه كلياً في خدمة الكنيسة نفسها، ولكن يجب ألا نعتبره أيضاً لاحقاً للجماعة الكنسية، كما لو كان بالإمكان أن نتصورها قد تكونت من دون الكهنوت.
علاقة الكاهن بيسوع المسيح وبه بالكنيسة، نجدها متضمنة في ذاتية الكاهن، بفعل تكرّسه ومسحته الكهنوتية، كما في عمله، أي في رسالته وخدمته. “والكاهن – بوجه خاص – إنما هو خادم المسيح الحاضر في الكنيسة من حيث هي سرّ وشركة ورسالة. ومن حيث اشتراكه في “مسحة” المسيح و”رسالته” بإمكانه أن يواصل في الكنيسة صلاته وكلامه وذبيحته وعمله الخلاصي. إنه إذن خادم الكنيسة – السرّ، لأنه يحقق حضور المسيح القائم، في علاماته الكنسية والسّرّانية. إنه خادم الكنيسة – الشركة، لأنه باتحاده بالأسقف وارتباطه الوثيق بالمصف الكهنوتي، يبني وحدة الجماعة الكنسية، في تناغم الدعوات المتنوعة، ومختلف المواهب والخدم. وهو أخيراً خادم الكنيسة الرسالة لأنه يجعل من الجماعة جماعة تبشر بالإنجيل وتشهد له”(29).
وهكذا يبدو الكاهن في صميم ذاته وفي رسالته السّرّانية، وفي إطار البنية الكنسيّة، رمز الأولوية المطلقة والطابع المجاني للنعمة التي جاد بها على الكنيسة يسوع القائم من بين الأموات. بفضل الكهنوت الرعوي، تعي الكنيسة في الإيمان أنها لا تقوم بذاتها بل على نعمة المسيح في الروح القدس. ويرى الرسل وخلفاؤهم أنهم، بصفتهم أصحاب سلطة نابعة من المسيح الرأس والراعي، وقد وضعوا، عبر خدمتهم، تجاه الكنيسة، بمثابة امتداد منظور وعلامة سرّانية للمسيح، وفي ذات موقعه من الكنيسة ومن العالم، من حيث هو النبع الدائم للخلاص والمتجدّد يوماً بعد يوم، ومن حيث هو “مخلّص الجسد” (اف 5 / 23).
17- الخدمة الكهنوتية، من ذات طبيعتها، لا تستطيع أن تتحقق إلا بمقدار ما يكون الكاهن متحداً بالمسيح، عبر اندماجه السّراني في النظام الكهنوتي، ومقيماً، من ثمّ، مع أسقفه، في شركة إيررخيه. الوظيفة الكهنوتية تتميّز، جوهرياً، بطابع جماعي، ولا يمكن الاضطلاع بها، إلاّ “كعمل جماعي” (30). ولقد أعرب المجمع المسكوني ملياً عن هذا الطابع التشاركي في الكهنوت، مستعرضاً، بالتتالي، علاقات الكاهن بأسقفه وبالكهنة الآخرين وبالعلمانيين (31).
خدمة الكهنة هي، في الطليعة، مشاركة وتعاون مسؤول والزامي مع خدمة الأسقف في حدبه على الكنيسة الجامعة والكنيسة الخاصة التي يؤلفون مع الأسقف، في خدمتها، جسماً كهنوتياً واحداً. وكل كاهن، سواء أكان أبرشياً أم راهباً، يتّحد بسائر أعضاء الجسم الكهنوتي، من خلال سرّ الكهنوت، بعلائق خاصة، من محبة رسولية وخدمة وأخوّة. فالكهنة كلهم، الأبرشيون منهم والرهبان، يشاركون في الكهنوت الواحد، كهنوت المسيح الرأس والراعي، “ويتوخون ذات الهدف: بناء جسد المسيح. هذه المهمة تستلزم، في زمننا خاصة، وظائف متنوعة، وتكيّفات جديدة “تولي الكهنوت، عبر الأجيال، ثروة من المواهب دائمة التجدد (32).
ولأن الكهنة، أخيراً، لا يحلّون، بوجودهم والتزامهم الكنسي، محل الكهنوت العمادي الذي يتحلّى به شعب الله كله، بل يعزّزونه ويسوقونه إلى كماله وتمامه الكهنوتي، فإنهم يجدون أنفسهم في علاقة مع العلمانيين، إيجابية وبنّاءة. إنهم في خدمة إيمانهم ورجائهم ومحبتهم. ومن حيث إنهم إخوة للعلمانيين وأصدقاء، فهم يثبّتون ويدعمون ما يتمتعون به من كرامة أبناء الله، ويعاونونهم في الاضطلاع بملء مهمتهم المميّزة في إطار الرسالة الكنسية (33).
الكهنوت الرعوي النابع من سر الرسامة، والكهنوت العام أو “الملكي” الذي يتمتّع به المؤمنون، بينهما فرق جوهري وليس فقط درجي (34). ومع ذلك فلكلٍ منهما توجّه إلى الآخر، ويتفرّعان كلاهما، بأشكال مختلفة، من كهنوت المسيح الأوحد. فالكهنوت الرعوي لا يعني، في ذاته، درجةً أعلى من القداسة بالنسبة إلى الكهنوت العام الذي ينعم به المؤمنون، وذلك بأن الكهنة قد نالوا من المسيح، بالروح القدس، بواسطة الكهنوت الرعوي، موهبة مميّزة تمكّنهم من مساعدة شعب الله في ممارسة كهنوته العام ممارسة وفيّة وكاملة (35).
18- “الموهبة الروحية التي نالها الكهنة برسامتهم تؤهّبهم – على حدّ ما نوّه به المجمع – لا لرسالة محدودة ضيّقة، بل لرسالة خلاص شاملة تمتد إلى “أقاصي الأرض”. ومن ثمّ فكل خدمة كهنوتية، أياً كانت، لها أبعاد شاملة مستمدة من الرسالة التي عهد بها المسيح إلى رسله” (36). على الكهنة إذن، بدافع من طبيعة خدمتهم ذاتها، أن يتشبّعوا ويتحرّكوا بروح رسالي عميق، ذاك الروح الجامع حقاً الذي يعوّدهم تخطيّ حدود أبرشيتهم وأمتّهم وطقسهم لتلبية حاجات الكنيسة كلها، مستعدين في صميم قلبهم، أن ينادوا بالإنجيل إلى أقاصي الأرض” (37) وينضاف إلى ذلك خصوصاً أن الكاهن، وهو ضمن الكنيسة رجل الوحدة والشركة، عليه أن يكون تجاه جميع الناس، رجل الرسالة والحوار. إنه متجذّر عميقاً في حقيقة المسيح ومحبته، تحدوه الرغبة الملحة في إعلان بشارة الخلاص للجميع؛ ومن ثم فهو مدعوّ إلى أن يعقد مع جميع الناس علاقات أخوّة وخدمة، في سعي مشترك إلى الحقيقة، وعمل دؤوب في سبيل العدالة والسلام. هذه العلاقات الأخوية يجب أن يقيمها أولاً مع إخوته في الكنائس والمذاهب المسيحية الآخرى، ولكن أيضاً مع المؤمنين من مختلف الأديان، ومع ذوي النوايا الحسنة، وبخاصة مع الفقراء والمستضعفين، ومع جميع الذين يتوقون، وإن عن غير وعي أو إفصاح، إلى الحقيقة والخلاص الذي جاء به المسيح، ونادى به قولاً وعملاً: “ليس الأصحاء محتاجين إلى طبيب بل المرضى. ما جئت لأدعو الأبرار بل الخاطئين”. (مر 2 / 17).
اليوم خصوصاً تقع على الشعب كله مسؤولية المهمة الرعوية الأولوية، مسؤولية البشارة الجديدة، وتستلزم همة جديدة وأساليب جديدة ولغة جديدة لإعلان الإنجيل بشارةً وشهادةً. ويقتضي ذلك من الكهنة أن يغوصوا غوصاً كاملاً في سرّ المسيح، ويحققوا نمطاً جديداً في الحياة الرعوية يميّزه ارتباط وثيق بالبابا والأساقفة وبعضهم ببعض، وتعاون مثمر مع العلمانيين يحترم ويعزّز مختلف الأدوار والمواهب والخدم ضمن الجماعة الكنسية (38).
“اليوم تمّت هذه الآية بمسمع منكم” (لو 4. 21). فلنستمع مرة أخرى إلى أقوال يسوع هذه في ضوء الكهنوت الرعوي الذي أتينا على وصف طبيعته ورسالته. “اليوم” الذي يتكلم عنه يسوع، يشير إلى زمن الكنيسة، لأنه يدخل في “ملء الأزمنة”، ويحدّده زمن خلاص محقّق ونهائي: “روح الرب مسحني… لأبشّر الفقراء”: هذه الكلمات التي يعبّر بها المسيح عن مسحته ورسالته هي الجذر الحيّ الذي منه تنبت مسحة الكنيسة ورسالتها، من حيث هي “ملء المسيح” (را اف 1 / 23). بفضل التجدّد بالمعمودية، كل المسيحيين نالوا فيضا من روح الرب يقدّسهم ويحوّلهم هيكلاً روحانياً وكهنوتياً مقدساً. ويرسلهم الروح ليعلنوا الآيات التي آتاها من دعاهم من الظلمات إلى نوره العجيب (را 1 بط 2 / -10). ويشترك الكاهن اشتراكاً مميّزاً أصيلاً في مسحة المسيح ورسالته، وذلك عن طريق سرّ الكهنوت الذي جعله في صميم ذاته، صورة يسوع المسيح الرأس والراعي. ويشترك في رسالة “إعلان البشرى للفقراء” باسم يسوع وعبر شخصه.
لقد كثّف الآباء السينودسيون، في بلاغهم الختامي، بعبارة مقتضبة وثريّة، “فحوى” الكهنوت الرعوي، بل “سرّه” و”عطيته”. قالوا: “هويتنا الكهنوتية، نبعها الأخير هو حبّ الآب. ونحن متّحدون سرّانيا بالابن الذي أرسله كاهناً أعظم وراعياً صالحاً، عبر الكهنوت الرعوي وبقدرة الروح القدس. حياة الكاهن وخدمته هما استمرار حياة المسيح نفسه ومواصلة عمله. تلك هي هويتنا، وحقيقة كرامتنا وينبوع بهجتنا ويقين حياتنا” (39).
الفصل الثالث
“روح الرب عليّ”
حياة الكاهن الروحية
دعوة مميّزة إلى القداسة
19- “روح الرب عليّ” (لو 4 / 18). الروح لا يكتفي بأن يرفرف على الماسيّا، بل يملأه ويداخله ويمازجه في صميم كيانه وعمله. فالروح هو مبدأ مسحة “الماسيّا” ورسالته، “لأنه مسحني وأرسلني لأبشر الفقراء…” (لو 4 / 18). بقدرة الروح ينتسب يسوع إلى الله انتساباً كلياً وحصريّاً، ويشارك الله قداسته اللامتناهية، الله الذي يدعوه ويرسله. هكذا يكشف روح الرب ذاته ينبوع قداسة ودعوة إلى التقدس.
“روح الرب” هذا عينه، يرفرف على شعب الله برمته، وقد أقيم شعباً “مكرساً” لله، يرسله الله ليبشر بإنجيل الخلاص. هذا الروح به “ينتشي” أعضاء شعب الله، و”بختمه يُمهرون” (را 1 قور 12 / 13، 2 قور 1 / 21 – 22، أف 1 / 13، 4 / 30) وبصوته يُدعون إلى القداسة.
ويكشف لنا الروح، خصوصاً، ويبلّغنا الدعوة الأساسية التي يوجهها الآب إلى الجميع منذ الأزل: وهي الدعوة إلى أن “نكون عنده قديسين وبلا عيب في المحبة”، بما أنه ارتضى أن يختارنا، قبل إنشاء العالم، وقدّر لنا أن يتبنانا بيسوع المسيح” (أف 1 / 4 -5). ولا يكتفي الروح بأن يكشف لنا ويبلّغنا هذه الدعوة، بل يصير فينا مبدأ تحقيقها وينبوعها: إنه روح الابن (را غل 4 / 6) الذي يشبّهنا بالمسيح يسوع ويقيمنا شركاء حياته البنوية، أي شركاء محبته للآب ولإخوته. “إذا كنا نحيا بالروح، علينا أن نقتفي آثار الروح” (غل 5 / 25): بهذه الكلمات بذكّرنا الرسول بولس أن الوجود المسيحي هو حياة روحية، حياة يحييها الروح ويقودها إلى القداسة وكمال المحبة.
يقول المجمع: “إن الدعوة إلى ملء الحياة المسيحية وكمال المحبة موجهة إلى جميع المؤمنين بالمسيح أياً كانت حالهم ونهج حياتهم” (40). هذا القول ينطبق خصوصاً على الكهنة: فهم مدعوون، ليس فقط بصفتهم معمّدين، بل أيضاً وخصوصاً بصفتهم كهنة، أي من ملحظ جديد وطبقاً لأحوال خاصة ناجمة من سرّ الكهنوت.
20- وأما في شأن “الحياة الروحية” عند الكهنة، وموهبة المجمعي في حياة الكهنة يقدّم لنا خلاصة ثرية وحافزة: “الكهنة هم منتدبو المسيح الرأس ليبنوا ويشيّدوا جسده كله، أي الكنيسة، كمعاونين للدرجة الأسقفية: فعلى هذا الأساس يجعلهم سرّ الكهنوت على شبه المسيح الكاهن. فلا جرم أنهم بتكرّسهم بالمعمودية قد نالوا كسائر المسيحيين سمة دعوة وهبة نعمة تخوّلانهم قدرة والزاماً لأن يسعوا، رغم الضعف البشري، إلى الكمال الذي قال فيه الرب: “كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل” (متى 5 / 48). بيد أن هذا الكمال مفروض على الكهنة أن يُحرزوه بداع خاص: فإنهم، بقبولهم الكهنوت، كرّسوا لله بطريقة جديدة ليكونوا أدوات حيّة بيد المسيح الكاهن الأبدي، أهلاً لأن يواصلوا، على مدى الزمن، العمل العجيب الذي به رمّم الأسرة البشرية برمتها، بقدرته السامية. كل كاهن يقوم على طريقته، مقام المسيح نفسه، ومن ثمّ فهو مجهز بنعمة خاصة. هذه النعمة تخوّله السعي عن طريق خدمة الناس الموكولين إليه وشعب الله بأسره، إلى كمال من يمثّله. وإنه، بفضل هذه النعمة أيضاً، يجد البرء لضعفه البشري – هو الإنسان الجسدي – بقداسة من صار لأجلنا الكاهن الأعظم، “القدوس البريء الذي لا عيب فيه، المفصول عن الخطأة” (عب 7 / 26) (41).
يؤكد المجمع قبل كل شيء، دعوة الجميع إلى القداسة، هذه الدعوة جذورها في المعمودية التي تُصيّر الكاهن مجرّد “مؤمن”، و”أخ بين أخوة”، مندمج ومتّحد بشعب الله، جذلٍ بنصيبه من نِعَم الخلاص (را أف 4/ 4 – 7) وواع لواجبه بأن يسير مع الآخرين “حسب الروح”، في خطى المعلم والرب الأوحد. لنتذكر قول القديس أوغسطينوس المأثور: “إني لكم أسقف، ومعكم مسيحي. الاسم الأول هو اسم المهمّة الملقاة عليّ، والآخر هو اسم النعمة. الاسم الأول هو اسم الخطر، والاسم الثاني هو اسم الخلاص” (42).
ولكن النص المجمعي يتكلّم، بنفس الوضوح، عن دعوة “مميّزة” إلى القداسة، وبتعبير أدق، عن دعوة ترتكز على سرّ الكهنوت، سرّ الكاهن بنوع خاص، وتنطلق، بالتالي، من واقع تكرّس جديد لله، بواسطة الرسامة الكهنوتية. هذه الدعوة المميّزة يومئ إليها القديس أوغسطينوس أيضاً، مضيفاً إلى قوله: “إني لكم أسقف ومعكم مسيحي”. هذه العبارة الأخرى: “إذا كان وضعي معكم كإنسان مفتدى يوليني فرحاً أعظم من أن أكون على رأسكم، فسأحاول، بمقتضى وصية الرب، أن أتوفّر على خدمتكم لئلا أكفر بنعمة من افتداني بثمن انتدابي خادماً لكم” (43).
ويتابع المجمع كلامه لاحظاً بعض العناصر الضرورية، لتحديد ماهية الحياة الروحية لدى الكهنة. هذه العناصر، لها ارتباط بالتكرس الذي يميّز الكهنة ويصيّرهم على صورة يسوع المسيح رأس الكنيسة وراعيها. ولها ارتباط أيضاً، “بالرسالة” أو الخدمة الخاصة التي يضطلع بها الكهنة أنفسهم فتؤهلهم وتلزمهم أن يكونوا “أدوات حيّة بيد المسيح الكاهن الأبدي، ويعملوا باسم المسيح نفسه وبشخصه، ولها ارتباط أخير “بحياتهم” كلها وما يترتب عليها من واجب إعلان “المطلقيّة الإنجيلية” والشهادة لها شهادة أصلية” (44).
التشبه بيسوع المسيح الرأس والراعي والمحبة الراعوية
21- بالتكرس الكهنوتي يضحي الكاهن شبيهاً بيسوع المسيح بصفته رأس الكنيسة وراعيها، ويتلقى موهبة “تشركه في السلطة التي بها يسوس يسوع المسيح الكنيسة بروحه (45).
بفضل هذا التكريس الذي يفيضه الروح القدس على الكاهن في سرّ الكهنوت، تصبح حياة الكاهن الروحية، “موسومة ومجسمة وممهورة بالأحوال والأفعال التي يتميّز بها المسيح رأس الكنيسة وراعيها والتي تتلخّص بالمحبة الراعوية.
يسوع المسيح هو رأس الكنيسة أي جسده. هو “رأس” بالمعنى الجديد والفريد المتجسّم في “الخدمة”، على حد قوله: “إن ابن الإنسان لم يأت ليُخدم بل ليَخدم ويفدي بنفسه جماعة الناس” (مر 10 / 45) هذه الخدمة بلغت ذروتها بموت يسوع على الصليب، أي ببذل ذاته بذلاً كاملاً في التواضع والمحبة: “لقد تجرّد من ذاته متخذاً صورة العبد وصار على مثال البشر وظهر بمظهر الإنسان فوضع نفسه وأطاع حتى الموت، الموت على الصليب، (فيل 2 / 7 – 8). سلطة يسوع المسيح الرأس هي إذن خدمة وبذل ذات بذلاً كاملاً متواضعاً ومفعماً بالمحبة، في سبيل الكنيسة، وذلك في الطاعة للأب: إنه خادم الرب المتألم، الخادم الحقيقي الأوحد، وهو كاهن وضحية معاً.
الحياة الروحية لدى كل كاهن، يجب أن يحدوها ويحييها هذا النمط من السلطة أي الخدمة المبذولة للكنيسة، وذلك، بالتحديد، “كشرط” لتشبه الكاهن بيسوع المسيح، رأس الكنيسة وخادمها (46). وهذا ما قاله القديس أوغسطينوس لأسقف يوم سيامته: “من يتولى قيادة الشعب عليه أن يعرف أولاً أنه خادم الجماعة. وعليه ألاّ يأنف ذلك ولا يستنكف من أن يكون خادماً لأن رب الأرباب لم يستهجن أن يكون خادماً لنا (47).
خدام العهد الجديد، يجب أن تتميز حياتهم بهذا الطابع الأساسي، طابع الخدمة يُؤدونها لشعب الله (را متى 20 / 24 – 28، مر 10 / 43 – 44)، بمعزل عن كل أدّعاء وكل رغبة في “التسلط” على القطيع الموكول إليهم (را بط 5 / 2 -3). ولتكن خدمتهم حرّة شهمة وصادرة عن أريحية، في سبيل الله. وهكذا يستطيع الكهنة – أي شيوخ الجماعة – أن يكونوا “مثالاً” للرعية المدعوّة، هي أيضاً، إلى أن تضطلع، تجاه العالم بأسره، بهذه المهمة الكهنوتية، مهمة الخدمة لازدهار حياة الإنسان ولتحريره الكامل.
22- صورة المسيح راعي الكنيسة – قطيعه – تتضمن، مع بعض الملامح الجديدة البليغة، نفس المعاني المتصلة بصورة يسوع المسيح الرأس والخادم. فالمسيح يعرّف ذاته “راعياً صالحاً” (يو 10 / 11 – 14)، ليس فقط لإسرائيل بل للناس أجمعين (يو 10 / 16)، محققاً بذلك البشرى النبوية بالمسيح المخلص، التي صدح بها صاحب المزامير مصلياً والنبي حزقيال متنبئاً (را مز 23 / 22، حظ 34 / 11 – 16). ولم تكن حياته إلا تجلّياً متواصلاً بل تحقيقاً يومياً “لمحبته الراعوية”: فهو يتحنن الجموع لأنهم كانوا تعبين رازحين كخراف لا راعي لها (را متى 9 / 35 – 36)، ويبحث عن الخراف الضائعة المشتّتة (را متى 18 / 12 – 14)، ويطير فرحاً إذا وجدها، ويجمعها ويذود عنها، ويعرفها ويدعوها كل واحد منها باسمه (را يو 10 / 3)، وإلى مراع نضيرة يقودها ومياه الراحة يوردها (را مز 23)، ويُعِد لها المائدة ومن حياته يغذيها. الراعي الصالح يبذل حياته، بموته وقيامته، كما تترنّم بذلك الكنيسة الرومانية: لقد قام يسوع الراعي الحق الذي بذل حياته للقطيع وآثر الموت ليخلصنا. هليلوئيا” (48).
بطرس يدعو يسوع “رئيس الرعاة” (1 بط 5 / 4)، لأن عمله ورسالته يستمران في الكنيسة عبر الرسل (را يو 21 / 15 – 17) وخلفائهم (را 1 بط 5 / 1 – 4) وعبر الكهنة. فهؤلاء قد أوضحوا، بتكرّسهم، على صورة يسوع الراعي الصالح، مدعوين إلى الاقتداء بمحبته الراعوية ، وتطبيقها في حياتهم.
إن المسيح يبذل للكنيسة ذاته حباً بها، تماماً كما يبذل الرجل حياته لامرأته، كما تلمّح إلى ذلك مراراً النصوص المقدسة. فيسوع هو العريس الحقيقي الذي يقدّم للكنيسة خمر الخلاص (را يو 2 / 11). إنه “رأس الكنيسة ومخلّص الجسد” (اف 5 / 23)، وقد أحبّ الكنيسة وبذل ذاته من أجلها ليقدّسها ويطهرّها… ويزفها إلى نفسه كنيسة شنيّة لا شائبة فيها ولا تغضّن ولا ما أشبه ذلك (اف 5 / 25 – 27). فالكنيسة هي ولا شك الجسد الذي فيه المسيح الرأس حاضر وفاعل، ولكنها هي العروس أيضاً الخارجة خروج حواء جديدة من الجنب المفتوح، جنب الفادي المعلق على الصليب، ولذا يقف المسيح “أمام” الكنيسة ويغذيها ويعنى بها” (را اف 5 / 29) بتقدمة ذاته لأجلها. الكاهن مدعو هو أيضاً إلى أن يكون ليسوع المسيح صورة حيّة وللكنيسة عريساً (49). لا جرم أنه يظلّ دائماً عضواً في الجماعة التي ينتمي إليها بصفته مؤمناً متحداً بجميع أخوته وأخواته المجموعين في الروح. ولكنه، بداعي تشبّهه بالمسيح الرأس والراعي، يجد نفسه في وضع العريس تجاه الجماعة. “فالكاهن، بصفته ممثلاً للمسيح رأس الكنيسة وراعيها وعريسها، له محله ليس فقط في الكنيسة، ولكن تجاه الكنيسة أيضاً” (50). ومن ثمّ فهو مدعوّ إلى أن يعيش، طيّ حياته الروحية، حبّ المسيح العريس للكنيسة عروسه. ويجب أن تكون حياته مستنيرة وممهورة بهذا الطابع الروحي، فيشهد لحب المسيح العريس، ويتمكن من أن يحب الناس بقلب جديد كبير ونقي، وبتجرّد خالص وبذل ذات كامل ودائم ووفي، ويغار عليهم غيرة حبّ إلهية، (إني أغار عليكم غيرة الله” (2 قور 11 / 2)، يمازجها لمسات من حنان الأمهات تمكّنه من تحمل “أوجاع المخاض” إلى أن يتصوّر المسيح في المؤمنين (غل 4 / 19).
23- المحبة الراعوية هي المبدأ الباطن والحافز الذي يحرك الكاهن ويوجه حياته في محبته الراعوية، وهبة مجانية من الروح القدس، وهي في الوقت نفسه، التزام ودعوة إلى جواب حرّ ومسؤول من قبل الكاهن. قوام المحبة الراعوية، إنما هو بذل الذات بذلاً كاملاً للكنيسة، على مثال المسيح وتشبّهاً بتضحية ذاته: “المحبة الراعوية هي الفضيلة التي بها نتشبّه بالمسيح في تقدمة ذاته وخدمته. حبّ المسيح لقطيعه لا يتجلّى فقط في ما نعمله بل في بذل ذواتنا. المحبة الراعوية تحدّد أسلوب فكرنا وفعلنا ونمط علاقتنا بالغير. وهذا يتطلّب منا تجرّداً شاقّاً…” (51).
بذل الذات الذي يجد في المحبة الراعوية جذوره وخلاصته، يتوجه إلى الكنيسة. هكذا علّمنا المسيح الذي “أحب الكنيسة وبذل ذاته لأجلها” (اف 5 / 25)، وهكذا على الكاهن أن يتصرّف. المحبة الراعوية تصيّر الممارسة الكهنوتية “مهمة حب” (52)، تمكّن الكاهن الذي اعتنق طريق الخدمة من أن يجعل من كهنوته موضوع شغفه ومن الكنيسة والنفوس هدف ايثاره وعنايته. فإذا عاش الكاهن هذه الروحانية عيشاً واقعيا، أضحى بإمكانه أن يحب الكنيسة الجامعة والجزء الذي وُكِلَ إليه منها، حب الرجل لامرأته (53). التضحية بالذات ليس لها حدود لأنها تتسم بنفس ما اتسمت به رسالة المسيح من انطلاقة رسولية ورسالية، وهو القائل: “ولي خراف أخرى ليست من هذه الحظيرة. فتلك أيضاً لا بد لي أن أقودها. وستصغي إلى صوتي فيكون هناك رعية واحدة وراع واحد” (يو 10 / 16).
من مقتضيات المحبة الراعوية ومستلزماتها، ضمن الأسرة الكنسية، أن يظلّ الكاهن، بطريقة خاصة ومميزة، على اتصال شخصي مع الجسم الكهنوتي، وتحت اشراف الأسقف ومعه، كما نصّ المجمع على ذلك صراحة: “المحبة الراعوية تفرض إذن على الكهنة، لئلا يسعوا عبثاً، عملاً يعيشونه في الشركة مع الأساقفة وسائر أخوتهم في الكهنوت” (54).
التضحية بالذات للكنيسة، تتوخّاها الكنيسة من حيث هي جسد يسوع المسيح وعروسه. ومن ثمّ فمحبة الكاهن تنتسب أولاً إلى محبة يسوع المسيح، ولا تستطيع أن تصبح نبعاً ودليلاً ومقياساً وحافزاً لمحبة الكاهن وخدمته للكنيسة إلا بمقدار ما تتجرّد لمحبة المسيح الرأس والعريس ولخدمته. وهذا ما ادركه الرسول بولس ادراكاً صافياً وقوياً عندما كتب إلى المسيحيين في كنيسة قورنش: “ما نحن إلا خدام لكم من أجل المسيح” (2 قور 4 / 5). وهذا خصوصاً ما نستلخصه من كلام يسوع الصريح إلى بطرس وقد أبى أن يكل إليه رعاية قطيعه إلا من بعد أن شهد له ثلاثاً أنه يحبّه بل أنه يؤثره بالمحبة: “قال له ثالثة: “يا سمعان بن يونا، أتحبّني حبّاً شديداً؟ فحزن بطرس لأنه قال له مرة ثالثة: أتحبني؟ فقال: “يا رب، أنت تعلم كل شيء، أنت تعلم إني أحبك حباً شديداً. قال له: “أرع خرافي” (يو 21 / 17).
المحبة الراعوية ينبوعها الأصيل سرّ الكهنوت، ولكنها تجد في الإفخارستيا عبارتها الكاملة وغذاءها الأول. ونقرأ في الوثائق المجمعية: “هذه المحبة الراعوية تنبع، قبل كل شيء، من الذبيحة الإفخارستية. هذه الذبيحة هي إذن، في حياة الكاهن كلها، في موقع المركز والجذر: ويعمل الروح الكهنوتي على أن يدخل عليها ما يصنع على مذبح الذبيحة” (55). ففي الإفخارستيا تتمثل ثانية – أو، بطريقة أدق، تتحقّق ثانية – ذبيحة الصليب وتقدمة المسيح ذاته للكنيسة، تقدمة جسده المبذول، ودمه المهراق، شهادة قصوى لصفته رأساً وراعياً، خادماً وعريساً للكنيسة. ولذا فالمحبة الراعوية، لدى الكاهن، تنبع من الإفخارستيا، لا بل تجد في الاحتفال بها قمة معناها، ومنها ينال الكاهن النعمة والمسؤولية ليفرغ على حياته كلها معنى “قربانياً”.
هذه المحبة الراعوية عينها هي المحور الباطن والحافز الذي بإستطاعته أن يوحّد النشاطات المتنوعة والكثيرة التي يقوم بها الكاهن. بفضلها يتحقق ما لا بد منه من ترابط جوهري دائم بين الحياة الباطنة والأعمال الكثيرة والمهام المتنوعة التي تفرضها الخدمة الكهنوتية. هذا المقتضى أضحى اليوم الزامياً أكثر من أي يوم مضى، في القرائن الاجتماعية – الحضارية والكنسية الممهورة إلى حدّ بعيد بطابع التعقّد والتصدّع والتشتت. ولا يستطيع الكاهن أن يضمن هذه الوحدة الحياتية التي لا بد منها لتناغم وتوازن حياته الروحية إلا بمقدار ما يحيل كل لحظة وكل عمل، في حياته، إلى ذاك الهدف الأساسي: “بذل حياته في سبيل القطيع”. “وحدة الحياة هذه يحققها الكهنة، في ممارسة خدمتهم، بالاقتداء بالمسيح الرب الذي كان طعامه أن يعمل بمشيئة الذي أرسله ويتم عمله (يو 4 / 34) فإذا ساروا هكذا سيرة الراعي الصالح، فسيجدون في ممارسة المحبة الراعوية، رباط الكمال الكهنوتي الذي يجبي إلى الوحدة حياتهم وعملهم” (56).
الحياة الروحية في ممارسة الخدمة الكهنوتية
24- إن روح الرب مسح يسوع وأرسله ليبشّر (را لو 4 / 18).الرسالة ليست إذن عنصراً خارجاً عن الرسامة الكهنوتية وموازياً لها، بل هي غايتها الذاتية والجوهرية. فالرسامة هدفها الرسالة وهكذا لا الرسامة فقط بل الرسامة والرسالة تستظلان ظلّ الروح وقوته المقدّسة. هكذا كان يسوع، وهكذا الرسل وأتباعهم. وهكذا على الكنيسة كلها أن تكون، ومن ضمنها الكهنة: كلهم يتلقّون الروح نداء وموهبة تقديس ضمن رسالتهم وبواسطتها (57).
هناك إذن بين حياة الكاهن الروحية وممارسة رسالته صلة وثيقة (58)، عبّر عنها المجمع المسكوني بقوله: “بممارسة خدمة الروح والبرّ (را 2 قور 3 / 8 – 9). يتأصل الكهنة في الحياة الروحية. شرط أن يستقبلوا روح المسيح الذي يؤتيهم الحياة ويقودهم. وإن ما يوجه حياتهم صوب الكمال، إنما هو عملهم الليترجي كل يوم، وخدمتهم بأسرها يضطلعون بها بالشركة مع الأسقف والكهنة. وإلى ذلك، فإن قداسة الكهنة رفد جوهري يُخصب الخدمة التي يقومون بها” (59).
“إعرِفْ ما تعمل، وتشبّه بما تمارس”: أمر ونصح تتقدم بهما الكنيسة إلى الكهنة لحظة رسامتهم، عندما تسِلّم إليهم تقادم الشعب المقدس للذبيحة الإفخارسيتة. “السر الذي أقيم الكاهن وكيلاً عليه” (را 1 قور 4 / 1) إنما هو، في النهاية، يسوع المسيح نفسه، نبع كل قداسة ودعوة، في الروح، إلى التقديس. هذا “السرّ” يجب أن يكمن في قلب الكاهن، وصميم حياته اليومية، ويفرض عليه سهراً كثيراً ويقظة واعية. الكلمات التي أوردناها آنفاً يسبقها أيضاً، في حفلة الرسامة، التوصية التالية: “أيقن ما تقرأ، وعلّم ما توقن، وأعمل بما تُعلّم”. هذا وقد أصاب بولس الهدف بإسداء النصيحة إلى الأسقف طيموتاوس: “لا تهمل الهبة الروحية التي فيك” (1 طيم 4 / 13، 2 طيم 1 / 6).
الصلة بين الحياة الروحية، وممارسة الخدمة الكهنوتية، يمكن تفسيرها أيضاً انطلاقاً من المحبة الراعوية التي تؤتيها الرسامة الكهنوتية. فخدمة الكاهن، بإعتبارها مشاركة في الخدمة الخلاصية ليسوع المسيح الرأس والراعي، لا يمكن إلا أن تُجنّد محبته الراعوية التي هي منبع خدمته وروحها، وحافز تضحيته بذاته. ولا غرو فالخدمة الكهنوتية، في حقيقتها الموضوعية، إنما هي “واجب محبة” حسب قول القديس أوغسطينوس. هذه الحقيقة الواقعية تبدو لنا شبه أساس ونداء إلى اعتناق دستور خلقي يناسبها، هو بلا محالة، دستور الحب كما وصفه القديس أوغسطينوس: “واجب المحبة أن ترعى قطيع الله” (60). هذه المناقبية وبالتالي حياة الكاهن الروحية قوامها إذن أن نتقبّل “حقيقة” الخدمة الكهنوتية باعتبارها “واجب محبة”، تقبلاً حرّاً واعياً، أي في العقل والقلب والنوايا والأعمال.
25- إنه من الأهمية بمكان، إذا رام الكاهن أن ينمّي حياته الروحية في إطار الخدمة الكهنوتية، أن يجدد بلا ملل ويعمّق دوماً يقينه بأنه خادم يسوع المسيح، نتيجة تكرّسه الكهنوتي وتشبهه بالمسيح رأس الكنيسة وراعيها. هذا اليقين يدعم، ولا شك، طبيعة الرسالة التي يضطلع بها الكاهن في سبيل الكنيسة والبشرية. ولكن حياة الكاهن الروحية، هي أيضاً، لها أثر بليغ في الرسالة التي يقوم بها. ولا غرو، فالمسيح يختار الكاهن لا “كجماد” بل “كشخص” فليس الكاهن مجرّد آلة مسيّرة، بل هو “أداة حية”، على حدّ تعبير المجمع، عندما يتكلم عن واجب السعي إلى الكمال (61). والمجمع يصوّر الكهنة أيضاً “كمعاونين وخدام متواضعين” لإله قدوس ومقدّس” (62).
بهذا المفهوم، على الكاهن أن يكون إنساناً واعياً حراً مسؤولاً، وملتزماً التزاماً عميقاً ممارسة خدمته. ارتباطه بيسوع المسيح، بفعل التكرس والتشبه الناجمين عن سرّ الكهنوت، يفرض على الكاهن رباطاً آخر، رباط “النية” أي التصميم الواعي والحر على أن يتمم من خلال خدمته الراعوية ما تنويه الكنيسة. هذا الرباط ينزع، من طبيعته، إلى أن يتّسع ويتعمّق إلى أبعد قدر ممكن، مجنّداً الذهن والمشاعر والحياة، وبالإيجاز: مجموعةً من المؤهلات الأدبية والروحية، التي لا يمكن ألا أن تلازم وتواكب الخدم التي يقوم بها الكاهن.
وليس من شك في أن الخدمة الكهنوتية، وبخاصة إقامة الأسرار، تستمد فعاليتها الخلاصية من قدرة يسوع المسيح نفسها الماثلة في الأسرار. بيد أن هذه الفعالية في ممارسة الخدمة الكهنوتية منوطة أيضاً بدرجة التقبل والمساهمة البشرية (63). ونشير خصوصاً إلى أن درجة القداسة في حياة الكاهن لها أثر راهن في طريقة مناداته بالإنجيل وإقامة الأسرار ورعاية الجماعة في المحبة. وهذا ما يؤكده المجمع بوضوح: “قداسة الكهنة عنصر جوهري لإخصاب الخدمة التي يقومون بها. لا ريب أن نعمة الله تستطيع أن تحقق عمل الخلاص بواسطة خدام غير أهل، ولكن الله يؤثر عادة إظهار عجائبه عبر أناس طيّعين لحفز الروح القدس وهدايته، يؤهلهم اتحادهم بالمسيح وقداسة سيرتهم لأن يقولوا مع الرسول: “لئن كنت أحياً فسلت أنا وإنما هو المسيح حيّ فيّ” (غل 2 / 20) (64).
من يعرف ذاته منتدباً ليسوع المسيح الرأس والراعي يوجس أيضاً في ذاته فرحاً غامراً بأن المسيح قد أكرمه بنعمة خاصة، نعمة اختياره مجّاناً “أداة حيّة” لعمل الخلاص. هذا الاختيار هو دليل حبّ يسوع المسيح للكاهن. ولكن هذا الحب، الأعظم من أي حبّ آخر، يستلزم جواباً. لقد طرح يسوع على بطرس، بعد قيامته، السؤال الجوهري في شأن الحب: “يا سمعان بن يونا أتحبنّي أكثر من هؤلاء؟” وما إن أجاب بطرس بالإيجاب حتى ألقيت إليه المهمة: “أرع خرافي!” (يو 21 / 15). قبل أن يكل يسوع القطيع إلى بطرس، سأله أولاً: هل يحبّه! ولكنّ ما دفع يسوع إلى أن يطرح على الرسول هذا السؤال قبل أن يكلّفه برعاية القطيع، إنما هو حبّه الحرّ الصريح. وهكذا فكل عمل راعوي، إذ يهيب بصاحبه إلى محبّة الكنيسة وخدمتها، يدفعه في الوقت نفسه إلى أن ينضُج وينمو في المسيح رأس الكنيسة وراعيها وعريسها محبّةً وخدمةً. ويأتي هذا الحب دائما جواباً على ما يخصّنا به الله في المسيح من حب حرّ ومجّاني. وبالمقابل كلما ازداد حبّنا ليسوع المسيح، ازداد أيضاً حبّنا للكنيسة: “نحن رعاتكم. ومعكم نلتمس الرعاية. ألا فليعضدنا الرب لنتمكن من أن نموت في سبيلكم إما بالجسد وإما بالقلب (65).
26- بإمكاننا أن نستنتج من نصوص المجمع الفاتيكاني الثاني الثريّة (66)، الشروط والمقتضيات والثمار الناجمة من العلاقة الوثيقة القائمة بين حياة الكاهن الروحية وممارسة خدمته المثلثة: خدمة الكلمة والأسرار وخدمة المحبة. فالكاهن هو، قبل كل شيء، خادم كلمة الله، المكرّس والمبعوث ليبشّر الجميع بإنجيل الملكوت، ويدعو كل إنسان إلى طاعة الإيمان ويقود المؤمنين إلى مزيد من التعمق في معرفة سرّ الله والاشتراك فيه، كما كشفه لنا المسيح ونقله إلينا. على الكاهن إذن أن يُحرز قبل كل شيء أُلفةً شخصية عميقة مع كلمة الله، ليس فقط على صعيد اللغة والتفسير، مع ما في ذلك من ضرورة، بل عليه أن يتقبل الكلمة بقلب طيّع مفعم بالصلاة، فتتغلغل إلى صميم أفكاره ومشاعره وتخلق فيه روحاً جديداً أي “فكر الرب” (1 قور 2 / 16). هكذا تغدو أقواله بل خياراته ومواقفه شهادة ساطعة للإنجيل ومناداة به. ولن يكون الكاهن تلميذاً كاملاً للرب إلاّ إذا “مكث” في الكلمة، فيعرف الحقيقة، ويصير حرّاً حقاً، ويتخطّى كل ما يناقض الإنجيل أو يخالفه ( را يو 8 / 31 – 32). على الكاهن أن يكون أول من يؤمن بكلام الله، متيقّناً أن الكلمة التي ينادي بها ليست “منه” بل من الذي أرسله، وأنه خادمها لا سيدها، ووكيلها لدى الشعب لا مالكها الأوحد. ولأن الكاهن كالكنيسة مسؤول عن البشرى، ولكي يتمكن من أدائها، عليه أن يدرك ادراكاً عميقاً حاجته الدائمة إلى أن “يُبَشّر” هو أيضاً (67). الكاهن إنما ينادي بالكلمة، بصفته منتدباً وله نصيب في السلطة النبوية، سلطة المسيح والكنيسة. ومن ثم، فهو مدعوّ إلى أن ينميّ في ذاته، تجاه التقليد الحيّ في الكنيسة وتجاه السلطة التعليمية فيها، حسّاً رهيفاً وقدراً كبيراً من الطواعية والمحبة، فيطمئن المؤمنون إلى أن الكاهن ينقل إليهم الإنجيل كاملاً صحيحاً. هذا كله ليس غريباً عن كلام الله بل يساهم في تفسيره تفسيراً سليماً وتأدية معناه الصحيح (68).
ولكن الكاهن مدعو خصوصاً إلى أن يعيش ويظهر الوحدة العميقة بين ممارسة خدمته وحياته الروحية، عندما يحتفل بالأسرار وليترجية الساعات: فموهبة النعمة المعطاة للكنيسة في الإفخارستيا إنما هي مبدأ حياة وقداسة ودعوة إلى التقديس، ولها في خدمة الكاهن كما في حياته الروحية مكانة رفيعة، “لأن الإفخارستيا المقدسة تحوي كل كنز الكنيسة الروحي، أي المسيح نفسه فصحنا والخبز الحيّ الذي يهب الناس الحياة، بواسطة جسده الحيّ والمحيي بالروح القدس، داعياً الجميع ومهيباً بهم إلى أن يقدموا معه حياتهم وعملهم والخليقة بأسرها” (69).
ويتلقى الكاهن من الأسرار الأخرى وخصوصاً من النعمة الفريدة المرتبطة بكل منهما ملامح خاصة تتسم بها حياته الروحية فتنتظم وتتكيّف وتتكيّف طبقاً لمختلف الخصائص والمقتضيات التي تتميّز بها الأسرار التي يحتفل بها ويعيشها.
وأود أن أخصّ بالذكر سرّ التوبة الذي يجب على الكهنة لا أن يمنحوه فقط بل أن يستفيدوا منه أيضاً، فيصيروا بذلك لا فقط وسطاء بل شهوداً لرحمة الله وشفقته على الخطأة. وأكرر هنا ما ذكرته في رسالتي “المصالحة والتوبة”: “حياة الكاهن الروحية والراعوية مثلها مثل حياة العلمانيين والرهبان، منوطة بممارسته سرّ التوبة ممارسة شخصية والإقبال عليه بمواظبة واهتمام. فالاحتفال بالإفخارستيا والأسرار الأخرى والغيرة الراعوية والعلاقات مع المؤمنين والشركة مع الأخوة الكهنة، والتعاون مع الأسقف وحياة الصلاة بل حياة الكاهن كلها تنهار انهياراً محتماً إذا أخلّ بممارسة سرّ التوبة، عن تهاون أو لأي سبب آخر، ولم يقبل عليه إقبالاً نظيماً مفعماً بالإيمان والتقوى الراهنة. الكاهن الذي يهمل الاعتراف أو يسيء الاقرار بخطاياه، سرعان ما ينعطب جوهره الكهنوتي وعمله الراعوي، وحتى الجماعة التي يرعاها لن تبطئ في أن تلحظ عليه ذلك” (70).
والكهنة مدعوون أخيراً إلى ممارسة السلطة والخدمة اللتين اضطلع بهما يسوع المسيح رأس الكنيسة وراعيها، وذلك بإحياء الجماعة الكنسية وقيادتها، “فيجمعون أسرة الله جماعة أخوية بنفس واحدة، ويقودونها بالمسيح، في الروح القدس، إلى الله الآب” (71). “وظيفة القيادة هذه مهمة دقيقة ومعقّدة جداً تفترض، إلى جانب التنبه لكل من الأفراد والدعوات المتنوعة، القدرة على تنسيق كل العطايا والمواهب التي يبعثها الروح في الجماعة، والتحقق منها وتجنيدها لبناء الكنيسة بالاتحاد دوماً مع الأساقفة. تلك مهمة تتطلّب من الكاهن حياة روحية ناشطة ثرية بالصفات والفضائل التي يتميّز بها كل “قائد” جماعة وكل “دليل” لها، وكل “شيخ” بما لهذه اللفظة من معاني القوة والنبل، وهي صفات الأمانة والتمالك والثبات والفطنة ورحابة الصدر للجميع والدماثة ولين الجانب والحزم في الشؤون الجوهرية والتنزّه عن الاعتبارات الذاتية والترفع عن المصالح الشخصية وطول الأناة، والكلف بالمهامّ اليومية، والثقة أخيراً بعمل النعمة الخفية التي تتجلى عند البسطاء والفقراء (را طي 1 / 7 – 8).
السيرة الكهنوتية والمطلقية الإنجيلية
27- “روح الرب عليّ” (لو 4 / 18)؛ الروح القدس الفائض على الكاهن في سرّ الكهنوت هو ينبوع قداسة ودعوة إلى التقديس. فهو أولاً يصوّر الكاهن بصورة المسيح رأس الكنيسة وراعيها ويكل إليه الرسالة النبوية والكهنوتية والملكية يحققها باسم المسيح وبشخصه. ثم إنه يروحن الكاهن وينعش حياته اليومية ويزينها بمواهب سنية وواجبات وفضائل وعزائم تتجسّم كلها وتتلخّص في المحبة الراعوية؛ هذه المحبة هي خلاصة القيم والفضائل الإنجيلية وهي القوة التي يواكب نموها ومسيرتها نحو الكمال المسيحي (72).
المطلقية الإنجيلية هي إذن، لجميع المسيحيين بلا استثناء، مقتضى أساسي لا بديل منه، ينجم من دعوة المسيح إلى اتّباعه والاقتداء به، بداعي ما يحققه الروح القدس فينا من شركة حياة وثيقة معه. (را متى 8 / 18 – 20، 10 / 37 – 39، 10 / 17 – 21، لو 9 / 57 – 62). هذا المقتضى ذاته يُلزم الكهنة أيضاً لا لأنهم “في الكنيسة، فقط، بل لأنهم ماثلون “أمام الكنيسة” أيضاً، وذلك بأنهم قد صُوروا بصورة المسيح الرأس والراعي، وكرسّوا وانتُدبوا للخدمة الكهنوتية، محفوزين بالمحبة الراعوية. والواقع أن هذه المطلقية الإنجيلية من مقوّماتها ومظاهرها باقة زاهرة من فضائل كثيرة ومقتضيات خلقية حاسمة في حياة الكاهن الروحية والراعوية، من جملتها الإيمان والتواضع أمام السرّ الإلهي والرحمة والفطنة. بيد أن التعبير الأقوى عن هذه المطلقية إنما نجده في معرض “المشورات الإنجيلية” التي بينّها يسوع في خطبة الجبل (را متى 5 / 1 – 12). من هذه المشورات المترابطة والمتناسقة نذكر الطاعة والعفة والفقر (73)، والكاهن مدعو إلى اعتناقها وممارستها في حياته، طبقاً للطرائق بل للأهداف والمعاني الأصلية التي تنجم عن هويّة الكاهن وتعبّر عنها.
28- من بين الصفات التي لا بد منها، في خدمة الكهنة الراعوية، يجب أن نذكر الاستعداد الباطن الذي يجعلهم يطلبون لا مشيئتهم الذاتية بل مشيئة الذي أرسلهم (را يو 4 / 34، 5 / 30، 6 / 38)” (74). الكلام هنا يتناول الطاعة التي تتميّز، في حياة الكاهن الروحية، ببعض الملامح الخاصة.
هذه الطاعة هي، قبل كل شيء، طاعة “رسولية”، بمعنى أنها تحترم الكنيسة وتحبها في نظامها الإيررخي، وتسعى لخدمتها. ولا شك أن ليس هناك من خدمة كهنوتية خارج الشركة مع الحبر الأعظم والمصف الأسقفي وبخاصة مع أسقف الأبرشية الذي يجب على الكاهن أن يؤدي له ما وعد به عند رسامته من واجب الاحترام البنوي والطاعة. هذه الطاعة لمن ألقيت إليهم مقاليد السلطة الكنسية ليس فيها ما يُذل بل هي تنجم عن حرية الكاهن ومسؤوليته الواعية، وتقبّله لمستلزمات الحياة الكنسية في بنيتها الراهنة ونظامها القائم. وهو يتقبل أيضاً نعمة التمييز ومعنى المسؤولية تجاه القرارات الكنسية وقد أنعم بهما يسوع على الرسل وأتباعهم حفاظاً على سرّ الكنيسة وصوناً للتضامن والتماسك ضمن الأسرة المسيحية، فتسير مسيرة واحدة في الدروب المؤديّة إلى الخلاص.
الطاعة المسيحية الحقة المرتكزة على أسس صحيحة والبعيدة عن روح العبودية تساعد الكاهن في أن يمارس هو أيضاً ممارسة إنجيلية شفّافة السلطة التي انتُدب لها في رعاية شعب الله، بمنأى عن كل تسلّط وكل غوغائية: وحده المطيع في المسيح يعرف كيف يطلب الطاعة من الغير في روح الإنجيل.
طاعة الكاهن تتسم أيضاً بالطابع “الجماعي”: فهي ليست طاعة فرد معزول في علاقته مع السلطة بل هي طاعة مندمجة اندماجاً عميقاً في وحدة الجسم الكهنوتي المدعوّ إلى أن يعمل ويعيش في التضامن القلبي مع الأسقف، ومن خلاله، مع خليفة بطرس (75).
هذا الملمح في الطاعة الكهنوتية يتطلب جهداً كبيراً، فيه يتعود الكاهن، من جهة، ألا يتشبّث كثيراً بأفضلياته ونظرياته الخاصة، وأن يدع لإخوته، من جهة أخرى، مجالاً كافياً لتثمير طاقاتهم وكفاءاتهم، بعيداً عن كل تحاسد وتنافس وتخاصم. الطاعة الكهنوتية طاعة متضامنة ترتكز على الانتماء إلى الأسرة الكهنوتية الواحدة، ومن ضمنها ومعها تصدر التوجيهات والخيارات المتكافلة.
وتتسم الطاعة الكهنوتية أخيراً بطابع “راعوي” خاص. ومفاد ذلك أن الكاهن يعيش في جو من الأهبة الدائمة لأن يُبذل “طعاماً” للآخرين، كما قيل، لخدمة القطيع وتلبية حاجاته ولوازمه المعقولة. ولئن كان لا بدّ أحياناً من تمحيصها والتحقق منها، فإنه مما لا يرقى الشك إليه أن حياة الكاهن يسودها ويحدوها جوع إلى الإنجيل والإيمان والرجاء ومحبة الله وسرّه، يلمسه الكاهن لدى شعب الله الموكول إليه.
29- “بين المشورات الإنجيلية – يقول المجمع – تحتل المحل الأول تلك الهبة الكريمة التي يمن بها الآب على البعض (متى 19 / 11، 1 قور 7/7) ليقفوا ذواتهم لله وحده بمزيد من اليسر وبدون ما تجزؤ في القلب (1 قور 7 / 32 – 34)، في التبتل أو الامساك عن الزواج. هذه العفة الكاملة من أجل ملكوت الله كانت على الدوام، في الكنيسة، موضوع كرامة خاصة، باعتبارها آية المحبة وحافزها، ومعيناً خاصاً للخصب الروحي في العالم” (76). في التبتّل والعزوف عن الزواج، تجد العفة معناها الأصيل بأن تكون الحياة الجنسية، لدى الإنسان، تجلياً وخدمة نفيسةً للحب البشري من حيث هي شركة وعطاء متبادل. هذا المعنى يظل قائماً في العفة قياماً كاملاً، لأن العفة، حتى في حال الصدوف عن الزواج، تحقق “معنى الزواج” في الجسد، وذلك بالاتحاد بيسوع المسيح وبذل الذات له وللكنيسة. وما هذا سوى صورة مسبقة، نوعاً ما، وتمهيد لما ينتظرنا في الحياة الآتية، من نعمة المشاركة والعطاء الكامل والدائم: “في النعمة، يعيش الإنسان، حتى في جسده، في ترقب العرس الأبدي، عرس يسوع والكنيسة، ويهب ذاته كاملة للكنيسة، راجيا من المسيح أن يهب له ذاته، يوم ينبلج الحق في الديار الخالدة” (77).
في ضوء ما سبق، يمكن أن نفهم ونقدّر الدواعي التي حملت الكنيسة في الغرب، منذ قرون كثيرة، على أن تتمسّك بقرارها، بالرغم من كل الصعاب والاعتراضات التي أقيمت في وجهها على مدى العصور، ألاّ تمنح الرسامة الكهنوتية إلاّ رجالاً مشهوداً لهم بأن الله دعاهم إلى اعتناق العفة في الإمساك عن الزواج إمساكاً مطلقاً ودائماً.
ولقد عبّر الآباء السينودسيون بكلمات صريحة وبليغة، عن رأيهم في هذا الشأن، في مقترح يستحق أن ننقله كاملاً وحرفياً: “مع احترام النظام القائم في الكنيسة الشرقية، ومع اليقين أن العفة الكاملة عند الكاهن العازب موهبة خاصة، يذّكر السينودس الكهنة بأنها عطية من الله للكنيسة لا تُقدّر بثمن، تحمل لعالم اليوم قيمة نبوية. ويؤكد هذا السينودس ثانية وبقوة، ما تطالب به الكنيسة اللاتينية وبعض الكنائس الشرقية، وهو ألاّ يوهب سرّ الكهنوت إلاّ لمن نالوا من الله نعمة الدعوة إلى العفة العازبة (هذا بدون مساس بالتقليد الجاري عند بعض الكنائس الشرقية، وببعض حالات خاصة لرجال دين متزوجين مرتدّين إلى الكثلكة من كنائس أخرى يستثنيهم بولس السادس في رسالته في العزوبة الكهنوتية) (فقرة 42). ويود السينودس ألاّ يبقى أي ريب في خلد الجميع، في تصميم الكنيسة الراسخ على المحافظة على القانون القاضي بالعزوبة الحرّة والدائمة على الذين رُشّحوا وسيُرشّحون للرسامة الكهنوتية في الكنيسة اللاتينية. ويطلب السينودس أن تُشرح العزوبة وتفسر في كل ثروتها الكتابية واللاهوتية والروحية من حيث هي عطية نفيسة من الله لكنيسته، وآية للملكوت الذي ليس من هذا العالم، ودليل حبّ الله لهذا العالم أيضاً، وحبّ الكاهن غير المجزء لله ولشعب الله، فتغدو العزوبة، في اعتبار الناس، ثروةً إيجابية من ثروات الكهنوت” (78).
من الأهمية بمكان أن يفهم الكاهن الدواعي اللاهوتية لهذا القانون الكنسي في التبتل الكهنوتي. فهو بصفته قانوناً، يعكس إرادة الكنيسة حتى من قبل أن يعرب الفرد عن رغبته في اعتناقه. ولكن إرادة الكنيسة تجد مستندها الأخير في الصلة القائمة بين التبتل والرسامة الكهنوتية المقدسة التي تُصور الكاهن بصورة يسوع المسيح رأس الكنيسة وعريسها. فالكنيسة، عروس يسوع المسيح، تريد من الكاهن أن يحبّها حبّاً كاملاً غير منازع، كما أحبها يسوع المسيح رأسُها وعريسها. إذ ذاك يصبح التبتل الكهنوتي هبة ذاتٍ للكنيسة في المسيح ومعه ويجسد الخدمة التي يؤديها الكاهن للكنيسة في الرب ومعه.
لكي يحيا الكاهن حياة روحية، عليه أن يفهم التبتل ويعيشه لا كحالة معزولة وقرينة سلبية، بل كوجهة إيجابية وملمح مميّز من الملامح التي تتسم بها شخصيته. فالكاهن قد ترك أباه وأمه وتبع يسوع الراعي الصالح في شركة رسولية وفي خدمة شعب الله. عليه إذن أن يتقبل البتولية بقرار حرّ ودود، يجدده دائماً كعطية من الله لا تُقدّر بثمن، “وكحافز للمحبة الراعوية” (79) وكمشاركة خاصة في أبوّة الله وخصب الكنيسة، وأخيراً كشهادة للملكوت الأخروي الذي أعطي للعالم. ولكي يتمكن الكاهن من أن يضطلع بالعزوبة الكهنوتية بجميع مقتضياتها الخلقية الراعوية والروحية عليه أن يلجأ حتماً إلى الصلاة المتواضعى الواثقة، كما ينبّهنا المجمع إلى ذلك: “لا جرم أن في العالم اليوم أناساً كثيرين يصرّحون بأن العفة الكاملة أمر مستحيل: وما هذا سوى حافز جديد يدفع الكهنة إلى أن يلتمسوا بتواضع ومثابرة، بالاتحاد معا الكنيسة، نعمة الأمانة التي لا تُرفض أبداً للذين يطلبونها. وليعمدوا أيضاً إلى الوسائل الطبيعية والفائقة الطبيعة وهي في متناول الجميع” (80). هذا، ولا بدّ من أن يجد الكاهن في الصلاة المقرونة بأسرار الكنيسة والجهاد الروحي معتصم رجائه في المحن ومغفرة خطاياه والثقة والشجاعة لمتابعة السير قدماً.
30- وأما الفقر الإنجيلي، فقد أتى الآباء السينودسيون على وصفه وصفاً مقتضباً وعميقاً، بأنه “اخضاع جميع الخيرات للخير الأسمى – أي الله – وملكوته” (81). والحقيقة أن من يتأمل سرّ الله ويعيشه ويتوسمّ فيه الخير الأوحد والأسمى، والثروة الحقيقية الراهنة، يستطيع وحده أن يفهم الفقر ويمارسه. وليس الفقر احتقاراً ونبذاً للخيرات الماديّة، بل هو استعمال حرّ لهذه الخيرات، وهو في الوقت نفسه زهد بها يغمره فرح وطواعية باطنة لله ولمقاصده.
ويتسم الفقر الكهنوتي، بسبب تشبه الكاهن بالمسيح الرأس والراعي، بملامح راعوية دقيقة، توقّف الآباء السينودسيون عليها، مستعيدين في ذلك التعليم المجمعي مع شيء من الاستفاضة والتوسع (82). وقد جاء في جملة ما كتبوه: “يجب على الكهنة، تشّبهاً بالمسيح الذي افتقر وهو الغني، حباً بنا، أن يعتبروا الفقراء والمستضعفين وديعة وكلت إليهم بطريقة خاصة، ويؤدوا شهادة الفقر بحياة بسيطة وقشفة، بفضل ما تعوّدوه من السخاء في الإعراض عن الفوائض (التنشئة الكهنوتية فقرة 9؛ الحق القانوني بند 282) (83).
صحيح أن العامل “مستحق اجرته” (لو 10 / 7)، وإن الرب قضى للذين يعلنون البشارة أن ينالوا رزقهم من البشارة” (1 قور 9 / 14)، ولكنه صحيح أيضاً أن حق الرسول هذا لا يمكن أن نخلط بينه وبين أي مطالبة بإخضاع خدمة الإنجيل والكنيسة للفوائد والمصالح الناجمة عنها. الفقر وحده يضمن للكاهن الأهبة اللازمة ليُرسل إلى حيث يكون عمله أكثر فائدة وأشدّ ضرورة، حتى وأن اقتضاه ذلك تضحية شخصية. طواعية الرسول للروح شرط مسبق يمكّنه من الذهاب بدون متاع ولا قيد، إلى حيث تدعوه إرادة الرب (را لو 57 – 62، مر 10 / 17 – 22).
الكاهن المندمج في حياة الجماعة التي يسوسها عليه أن يؤدّي الشهادة الناصعة في إدارة شؤونها المادية، فلا يحسبها إرثاً شخصياً، بل وديعة يؤدي حسابها لله ولإخوته ولا سيما الفقراء، ويحدوه ضميره وشعوره بالانتماء إلى جسمٍ كهنوتي واحد إلى العمل على توزيع الأرزاق بين إخوته الكهنة توزيعاً عادلاً أو إلى المشاركة في استعمال هذه الأرزاق (را رسل 2 / 42 – 45).
الحرية الباطنة التي يغذّيها ويحصنّها الفقر الإنجيلي تمكّن الكاهن من أن يقف إلى جانب الضعفاء ويدعم جهودهم لإقامة مجتمع أكثر عدالة، ويزداد احساساً وتفهماً وتمييزاً للأحوال المتصلة بالحياة الاقتصادية والاجتماعية، ويعزّز كل ما من شأنه إيثار الفقراء. وعلى الكاهن أن يظل نظره على الأصغرين والخطأة وجميع الهامشيين – من غير أن يستثني أحداً من بشارة الخلاص وعطيته – وذلك تبعاً للخطة التي انتهجها يسوع في مسار رسالته النبوية والكهنوتية (را لو 4 / 18).
وعلينا ألاّ ننسى المعنى النبوي للفقر الكهنوتي وقد أمست المجتمعات المُترفة والاستهلاكية بأمسّ الحاجة إليه: “الكاهن الفقير حقاً هو، بلا شك، آية محسوسة للتنزّه والتجرّد لا للانقياد لطواغيت العالم المعاصر الذي يضع كل ثقته في المال والضمانات المادية” (84).
لقد بلغ يسوع المسيح، وهو على الصليب، قمة المحبة الراعوية في تجرّد ظاهر وباطن من كل شيء، فأضحى ينبوعاً ومثالاً لكل الفضائل، وبخاصة فضائل الطاعة والعفة والفقر التي على الكاهن أن يمارسها ويحققها ويجسّد بها محبته الراعوية لإخوته. على الكاهن، على حدّ ما جاء في رسالة بولس إلى أهل فيليبي، أن “يتخلّق بخلق المسيح” فيتجرّد من ذاته، ويجد في المحبة المزدانة بالطاعة والعفة والفقر الطريق السلطانية، طريق الاتحاد بالله والوحدة مع أخوته (را فيل 2 / 5).
الانتماء إلى الكنيسة الخاصة والبذل في سبيلها
31- حياة الكاهن، ككل حياة روحية مسيحية حقة، لها خواصٌ كنسية جوهرية لا بديل منها: فهي مشاركة في قداسة الكنيسة ذاتها، الكنيسة التي نعلن في قانون الإيمان أنها “شركة القديسين”. قداسة المسيحي تنجم من قداسة الكنيسة، وفي الوقت نفسه، تجسّمها وتثريها. بيد أن هذه الخواص الكنسية تكتسب أنماطاً وأهدافاً وأبعاداً خاصة في حياة الكاهن الروحية، بسبب علاقته المميّزة بالكنيسة، وانطلاقاً دوماً من تشبّهه بالمسيح الرأس والراعي، ومن خدمته الكهنوتية ومحبته الراعوية.
من هذا الملحظ، يجب أن نعتبر انتماء الكاهن إلى الكنيسة المحلّية، وبذله في سبيلها، من مقومات حياته الروحية. هذه المقوّمات يجب ألاّ ننيطها بمجرّد أسباب تنظيمي وانضباطية. هناك، بالعكس، عناصر لا يمكن اغفالها عندما نرسم صورة الكاهن وحياته الروحية: وهي علاقته بالأسقف في وحدة الجسم الكهنوتي، ومشاركته رعاية الكنيسة وبذله الراعوي في خدمة شعب الله في الأحوال التاريخية والاجتماعية المحدّدة التي تعيش فيها الكنيسة المحلية: وما نسميه، في هذا المجال، “بالإنتماء القانوني”، لا ينحصر في مجرّد رباط شرعي، بل يفترض أيضاً جملة استعدادات وخيارات روحية وراعوية تساعد في تحديد الدعوة الكهنوتية ورسم ملامحها الخاصة.
من الضروري أن يدرك الكاهن أن انتماءه إلى كنيسة محلية يشكّل في ذاته عنصراً حاسماً يميّز روحانيته المسيحية. فالكاهن إنما يجد في انتمائه إلى كنيسة محلية وبذله لها نبعاً ثراً يؤتيه من المعاني وضوابط التمييز والعمل ما يرسم له خطوط رسالته الراعوية وحياته الروحية. ويعاون الكاهن أيضاً، في سيره نحو الكمال، ما يجده من إيحاءات وامدادات في تقاليد روحانية أخرى بإمكانها أن تثري الحياة الكهنوتية عند الأفراد أو التجمعات الكهنوتية، وترفدها بهبات روحية ثمينة. من قبيل ذلك جماعاتٌ كنسيةٌ كثيرة، قديمة وحديثة، تستقبل كهنة أيضاً في صفوفها: هناك مثلاً جمعيات رسولية، وجمعيات كهنة أبرشّيين، وأشكال متنوعة من الشركة والأخوّة الروحية، ومن الحركات والمنظمات الكنسية. وأما الكهنة المنتمون إلى جماعات وجمعيات رهبانية، فهم ثروة روحية لكل الجسم الكهنوتي الأبرشي، يمدّونه بما لديهم من مواهب خاصة وما يقومون به من خدمات مميزة، وبفضل وجودهم ورسالتهم يحفزون الكنيسة المحلية إلى أن تعيش رسالتها على صعيد الكنيسة الجامعة (85).
انتماء الكاهن إلى الكنيسة المحلية وبذل حياته في سبيلها، إذا اقتضى الأمر، لبناء الكنيسة في “شخص” المسيح الرأس والراعي، في خدمة الجماعة المسيحية كلها، وبالارتباط القلبي والبنوي بالأسقف، كل هذا يجب أن يلقى دعماً ورفداً من كل موهبة لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بحياة الكاهن (86).
ولكي يتقبّل الكهنة، في الفرح، عطايا الروح الوافرة ويثمّروها لمجد الله وخير الكنيسة بأسرها، عليهم أن يعرفوا جميعاً ويميزوا مواهبهم ومواهب الآخرين. ثم أن ممارسة هذه المواهب يجب أن يرافقها دائماً تواضع مسيحي، وجرأة في النقد الذاتي، والنيّة قبل أي همّ آخر، في بناء الجماعة كلها التي لأجلها، وفي خدمتها، يجب أن توضع كل موهبة خاصة. وإلى ذلك، يجب على الجميع أن يبذلوا جهداً خالصاً ليقيموا فيما بينهم علاقة من التقدير والاحترام المتبادل، وتنسيق جميع الطاقات وتثمير القدرات المتنوعة التي يتمتّع بها الجسم الكهنوتي. كل هذا جزء لا يتجزأ من حياة الكاهن الروحية وجهده الدؤوب.
32- انتماء الكاهن إلى الكنيسة المحلية وبذله في سبيلها لا يقصران نشاط الكاهن وحياته عليها، وذلك نظراً إلى طبيعة الكنيسة المحلية نفسها (87)، ونظراً إلى طبيعة الخدمة الكهنوتية. وقد ورد في الوثائق المجمعية، في ذلك، ما يلي: “إن الموهبة الروحية التي نالها الكهنة بالرسامة تهيئم لا لرسالة محدودة وضيقة، بل لرسالة خلاص جامعة تمتد “حتى أقاصي الأرض” (رسل 1 / 8)، ذلك بأن أي خدمة كهنوتية تشترك في المقاييس الجامعة التي تمتد إليها الرسالة التي أناطها المسيح بالرسل” (88).
ويتأتى عن ذلك أن حياة الكهنة الروحية يجب أن تتسم بالزخم والدينامية الرسالية. وأنه ليعود لهم، في ممارسة خدمتهم وشهادة سيرتهم، أن يجعلوا من الجماعة الموكولة إليهم، جماعة رسالية بالمعنى الصحيح. وقد كتبت في “رسالة الفادي”: “على جميع الكهنة أن يملكوا قلباً وذهنية رسالية، ويفسحوا نظرهم إلى حاجات الكنيسة كلها والعالم، ويُعنوا بالأباعد ولا سيما المجوعات اللامسيحية في بيئتهم، وعليهم أن يحملوا في صلاتهم، ولا سيما في الذبيحة الإفخارستية، اهتمام كل الكنيسة بالبشرية كلها” (89).
إذا كان هذا الروح الرسالي ينعش ويحرّك بسخاء حياة الكهنة، بات من الأيسر على الكنيسة أن تواجه اليوم وضعاً يزداد خطورة مع الأيام: وهو التفاوت في توزيع الكهنة. وقد أعرب المجمع المسكوني عن اهتمامه لهذه المعضلة بكلام شديد الوضوح والقوة: “على الكهنة أن يتذكرّوا أن من واجبهم أن يحملوا همّ جميع الكنائس. وهكذا فليكن كهنة الأبرشيات الغنية بالدعوات على أهبة الذهاب، بطيّب القلب، بإذن أسقفهم أو بدعوة منه، لمزاولة خدمتهم في بلدان أو رسالات أو نشاطات تعاني نقصاً في عدد الكهنة” (90).
“جدّد فيهم فيضاً من روحك القدوس”
33- “روح الرب عليّ لأنه مسحني وأرسلني لأبشّر المساكين” (لو 4 / 18). هذه الكلمات التي نطق بها يسوع في مجمع الناصرة، لا يزال حتى اليوم يُطلق صداها في قلوبنا الكهنوتية. إيماننا يكشف لنا حضور روح المسيح العامل في كياننا وعملنا وحياتنا، كما كوّنها سرّ الكهنوت وأهّلها وكيّفها.
نعم أن روح الرب هو المصدر الأول لحياتنا الروحية: يخلق “القلب الجديد” ويحييه ويهديه بنور “الشريعة الجديدة”، شريعة المحبة والمحبة الراعوية. إنه من الأهمية بمكان، لنمو هذه الحياة الروحية، أن يدرك الكاهن أنه لن يُحرم أبداً نعمة الروح القدس، عطية مجّانية وحافزاً لتحمّل المسؤولية. وعي الكاهن لهذه العطيّة دعامة لحياته، وضمانة لثقته الراسخة وسط المصاعب والتجارب والأخطاء التي تتخلّل مسيرته الروحية. وأني أعيد على جميع الكهنة ما وجّهته إلى كثير منهم في مناسبة أخرى: “إن الدعوة الكهنوتية، في جوهرها، نداء إلى القداسة في الشكل الناجم من سرّ الكهنوت. القداسة ألفةٌ مع الله واقتداء بالمسيح في فقره وعفّته وتواضعه. وهي حبّ للنفوس بلا حدود وبذل ذات لخيرها الحقيقي. وهي حبّ للكنيسة المقدسة والتي تريدنا قدديسين، طبقاً للرسالة التي وكلها إليها المسيح. وكل واحد منكم يجب أن يكون قديساً ليساعد أخوته في تحقيق دعوتهم إلى القداسة.
“وكيف يمكننا أن لا نتأمل في الدور الجوهري، دور الروح القدس في الدعوة المميزة إلى القداسة التي يجب أن تتسم بها الخدمة الكهنوتية؟ لنذكّر بكلمات الرسامة الكهنوتية التي تُعتبر أساسيةٌ في صيغة الرسامة: “ندعوك أيها الآب القدير أن تهب خدامك هؤلاء أن يرقدوا درجة الكهنوت. أفض ثانية روح القداسة في أعماقهم، فيتلقوا منك، أيها الربّ، مهمة المساهمة في الرسالة الأسقفية ويحملوا الناس على التخلّق بالأخلاق النقيّة، على مثال سيرتهم”.
“لقد نلتم بالرسامة، أيها الأصدقاء، روح المسيح نفسه الذي يجعلكم شبيهين به، فتعملون باسمه وتتخلّقون بأخلاقه. هذا الاشتراك الحميم في روح المسيح الذي يضمن فعالية العمل السرّاني الذي تقومون به” “في شخص المسيح” يلزمكم أيضاً بأن تجسّدوه في حرارة الصلاة وانتظام الحياة والمحبة الراعوية في خدمةٍ تتوخى، بلا كلل، خلاص الإخوة. وقصارى القول أنه يلزمكم بقداسة السيرة الشخصية” (91).
الفصل الرابع
“تعالوا وانظروا”
الدعوة الكهنوتية
في إطار المهمة الراعوية في الكنيسة
ابحث واتبع وامكث
34- “تعاليا وانظرا” (يو 1 / 19). هكذا أجاب يسوع تلميذي يوحنا المعمدان عندما سألاه أين يسكن. وفي هذه الكلمات نجد معنى الدعوة. لقد أورد الإنجيلي قصّة الدعوة الموجة إلى اندراوس وبطرس، على الوجه التالي: “وكان يوحنا في الغد أيضاً قائماً هناك ومعه اثنان من تلاميذه، فنظر إلى يسوع وهو سائر وقال: “هوذا حمل الله!”. فسمع التلميذان كلامه فتبعا يسوع. فالتفت يسوع فرآهما يتبعانه فقال لهما: “ماذا تريدان؟” قالا له: “رابي (أي يا معلم) أين تقيم؟. فقال لهما: هلما فانظرا!” فذهبا ونظرا أين يقيم، فأقاما عنده ذلك اليوم، وكانت الساعة نحو الرابعة بعد الظهر. وكان اندراوس أخو سمعان أحد اللذين سمعا كلام يوحنا فتبعا يسوع. ولقي أولاً أخاه سمعان فقال له: “وجدنا المشيح” ومعناه المسيح. وجاء به إلى يسوع فنظر إليه يسوع وقال: “أنت سمعان بن يونا، وستدعى كيفا” أي صخراً (يو 1 / 35 – 42).
هذه الصفحة من الإنجيل واحدة من الصفحات الكثيرة التي يصف فيها الكتاب المقدس “سرّ” الدعوة. وما نحن فيه الآن هو سرّ دعوة رسل يسوع. نفس هذه الصفحة من إنجيل يوحنا التي تتضمّن صورة “للدعوة المسيحية” إجمالاً، تقدم لنا أيضاً صورة نموذجية للدعوة الكهنوتية. فالكنيسة بوصفها جماعة أتباع يسوع، مدعوة إلى أن تثبّت نظرها على هذا المشهد الذي يتجدّد باستمرار، نوعاً ما، في التاريخ. إنها مدعوة إلى التعمّق في الدعوة إلى اتباع يسوع في الخدمة الكهنوتية واستقصاء ما تنطوي عليه من معنى شخصاني أصيل، والتأمل في الصلة القائمة بين النعمة الإلهية والمسؤولية البشرية، والتي نجدها ونستشفّها في كلمتين نقع عليهما غير مرة في الإنجيل: تعال اتبعني! (را متى 19 / 21). والكنيسة مدعوة أخيراً، إلى أن تفسّر وتصف دينامية الدعوة وتطورها المتدرج عبر المراحل التالية: البحث عن يسوع واتباعه والمكوث معه.
وتجد الكنيسة في “إنجيل الدعوة” هذا، نموذجاً وقوّة وعزماً لا بدّ منها في رعاية الدعوات، وهي الرسالة الهادفة إلى الاهتمام بنشوء الدعوات وتمييزها ومواكبتها، وبخاصة الدعوات الكهنوتية. ولأن “مشكلة نقص الكهنة هي، بلا شك، مأساة الكنيسة كلها” (92)، فلا بد من أن ينبري لها، اليوم خصوصاً، جميع أبناء الكنيسة، بنشاط متجدّد وعزم مصمّم. ويجب ألا نعتبر العمل لأجل الدعوات عنصراً ثانوياً أو عرضياً أو مهمة معزولة وحدودة، أو محض جزء – أياً كانت أهميته – في مجموع الاهتمامات الراعوية في الكنيسة، بل هو، كما ردّد ذلك الآباء السينودسيون، عمل وثيق الصلة بالعمل الراعوي الشامل في كل كنيسة (93)، ومهمة مدغومة دغماً عميقاً في ما نسميه عادة “مسؤولية النفوس” (94)، وعنصراً طبيعياً ومقوّما جوهرياً من مقومات العمل الراعوي في الكنيسة، وجزءاً لا يتجزأ من حياتها ورسالتها (95).
أجل، الدعوة شأن طبيعي وجوهري في إطار المهمّة الراعوية في الكنيسة. وذلك بأن الدعوة هي، نوعاً ما، من مقوّمات الكنيسة في عمق كيانها، قبل أن تكون عنصراً من عناصر عملها. فاسم الكنيسة في ذاته يشير إلى أن طبيعتها مرتبطة، في الصميم، بالدعوة، لأن الكنيسة هي في الحقيقة “دعوة”، وجماعة المدعوين: “إن الله قد دعا جماعة الذين في الإيمان ينظرون إلى يسوع، صانع الخلاص ومبدأ الوحدة والسلام، وأنشأ منهم الكنيسة لكي تكون للجميع ولكل واحد منهم السرّ المنظور لهذه الوحدة الخلاصية” (96).
وبالتالي فكل قراءة لاهوتية للدعوة الكهنوتية وللمهمة الراعوية التي ترافقها لا يمكن أن تنطلق إلاّ من سرّ الكنيسة، من حيث هو سرّ دعوة.
الكنيسة وموهبة الدعوة
35- كل دعوة مسيحية أساسها الاختيار المجاني الأزلي من قبل الآب “الذي باركنا في المسيح كلّ بركة روحية في السماوات. ذلك بأنه اختارنا قبل إنشاء العالم لنكون عنده قديسين بلا عيب في المحبة، وقدّر لنا أن يتبنّانا بيسوع المسيح على ما ارتضته مشيئته” (اف 1 / 3 – 5).
كل دعوة مسيحية تصدر من الله وهي عطية الله، ولكنها لا تُعطى أبداً خارج الكنيسة وبمعزل عنها، بل تمرّ في الكنيسة وعبر الكنيسة، لأنه قد حسن لدى الله – على حدّ ما ذكّر به المجمع المسكوني – أن يقدّس الناس ويخلّصهم، لا متفرّقين بدون روابط في ما بينهم، بل أراد أن يجعلهم شعباً يعرفه في الحقيقة ويخدمه في القداسة” (97) وليس على الكنيسة فقط أن تتقبل لديها كل الدعوات التي يرسلها الله إليها وهي في طريق الخلاص، بل عليها أيضاً أن تتخذ هي نفسها ملامح سرّ دعوة، يكون انعكاساً نيّراً وحيّاً لسرّ الثالوث القدس. والحقيقة أن الكنيسة، وهي “الشعب الملتئم في وحدة الآب والابن والروح القدس” (98) تحمل في ذاتها سرّ الآب الذي لم يدعه ولم يرسله أحد، (را روح 11 / 33 – 35) بل يدعو جميع الناس إلى تقديس اسمه وتحقيق مشيئته. وتحافظ الكنيسة أيضاً على سرّ الابن الذي دعاه الآب وأرسله ليعلن للجميع ملكوت الله ويدعوهم جميعاً إلى اتباعه؛ وقد أودعت الكنيسة أخيراً سرّ الروح القدس الذي يكرّس للرسالة جميع الذين واللوااتي يدعوهم الآب بابنه يسوع المسيح.
الكنيسة التي هي دعوة، من طبيعتها، هي أم الدعوات ومربّيتها. وإنها لكذلك في صميم هويتها “السّرّانية” بصفتها “علامة” و”وسيلة”، وفيها تدوّي وتتحقق دعوة كل مسيحي. وهي كذلك أيضاً في عملها أي في ممارسة رسالتهأ، رسالة بشرى الكلمة وإقامة الأسرار، وخدمة المحبة والشهادة لها.
من هنا يمكننا أن ندرك إلى أيّ حدّ تتسم الدعوة المسيحية مسبقاً بوسم كنسي. فليست الدعوة فقط نابعة من الكنيسة وتأمّلاتها، ولا هي تتثبّت وتتحقق في الكنيسة وحسب، بل هي أيضاً وحتماً خدمة للكنيسة، في نطاق الخدمة الأساسية التي تؤديها إلى الله. الدعوة المسيحية، في كل أشكالها، هي عطية غايتها بناء الكنيسة ونمو ملكوت الله في العالم (99).
ما نقوله في كل دعوة مسيحية يتحقق، بوجه خاص، في الدعوة الكهنوتية. هذه الدعوة هي انتداب، بواسطة سرّ الكهنوت الذي تمنحه الكنيسة، لجعل الذات في خدمة شعب الله، مع انتماء خاص إلى يسوع المسيح وتشبّه خاص به، يوليان الكاهن سلطة العمل “باسم يسوع وفي شخص” من هو رأس الكنيسة وراعيها.
من هذا الملحظ يمكننا أن نفهم ما دونّه الآباء السينودسيون: “دعوة كل كاهن هي في الكنيسة وللكنيسة، فيها تتحقق الدعوة. وينجم عن ذلك أن كل كاهن يتقبل الدعوة من الرب، بواسطة الكنيسة، عطيّة مجّانية وموهبةً بلا مقابل. ويعود للأسقف أو للرئيس المسؤول، لا أن يمحّص الدعوة وأهلية المرشح لها وحسب، بل أن يعلنها أيضاً. هذه المهمة الكنسية تدخل في صميم الدعوة إلى الخدمة الكهنوتية في حدّ ذاتها. فالمرشّح للكهنوت يجب أن يتقبل الدعوة من غير أن يفرض شروطه الشخصية، بل بالخضوع للضوابط والشروط التي تضعها الكنيسة نفسها انطلاقاً من مسؤوليتها (100).
حوار الدعوة: بادرة الله وجواب الإنسان
36- قصة كل دعوة كهنوتية، بل كل دعوة مسيحية، هي قصة حوار لا يوصف بين الله والإنسان، بين محبة الله الداعية وحريّة الإنسان الذي يلبّي الله في المحبة. هذان الوجهان المترابطان للدعوة، أي عطية الله المجّانية وحرية الإنسان المسؤولة يظهر أن بكثير من الوضوح، وبقوة خارقة، في العبارات المقتضبة التي يروي بها مرقص الإنجيلي دعوة الاثني عشر: “صعد يسوع الجبل ودعا الذين أرادهم فأقبلوا إليه” (مر 3 / 13). فمن جهةٍ قرارٌ من يسوع مطلق الحرية، ومن جهةٍ أخرى، إقبال الاثني عشر أو، بتعبير آخر، “اتّباع يسوع”.
ذاك هو النموذج الثابت والعنصر الملازم لكل دعوة: دعوة الأنبياء والرسل والكهنة والرهبان والمؤمنين العلمانيين، وكل إنسان. وإنما هناك عنصر رئس، بل أوّل وجوهري، وهو تدخل الله الذي يدعو الإنسان بطريقة حرّة مجانية وببادرة من عنده. هناك مثلاً ما جرى مع النبي إرميا: “كانت كلمة الرب إليّ قائلاً: قبل أن أصوّرك في البطن دعوتك، وقبل أن تخرج من الرحم قدّستك وجعلتك نبيّاً للأمم” (را 1 / 4 – 5). هذه الحقيقة ذاتها يؤكدها الرسول بولس الذي يرسي كل دعوة على دعوة المسيح الأبدية، “هو الذي اختارنا قبل إنشاء العالم، على ما ارتضته مشيئته” (اف 1 / 5). هذه الأولويّة المطلقة للنعمة في الدعوة، يؤكدها يسوع بأقصى وضوح في قوله: “ما أنتم أخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتنطلقوا فتثمروا ويبقى ثمركم” (يو 15 / 16).
إذا كانت الدعوة الكهنوتية تشهد، بما لا يرقى إليه الشك، لأولوية النعمة، فعلى الإنسان أن يقابل بالاحترام المطلق نداء الله له، وارادته الحرّة السامية: هذه الإرادة لا يمكن، ولا بوجه من الوجوه، أن نضغط عليها بأي شكل من أشكال الإدّعاء البشري أو نستبدل بها قراراً بشرياً. الدعوة عطيّة من النعمة الإلهية، ولا يمكن على الاطلاق أن تُعتبر حقاً بشرياً. وبالتالي “لا يمكن البتة أن نحسب الحياة الكهنوتية لوناً من ألوان الترقّي المجتمعي، ولا الرسالة الراعوية مجرد مشروع شخصي” (101). من هنا واجب الاقلاع كلّياً عن كل ادّعاء وكل غرور من قبل المدعوّين (را عب 5 / 4)، وليكن قلبهم مفعماً بالشكر والاعجاب والتأثر، طافحاً بالثقة وبرجاء راسخ لا يتزعزع، عالمين أنهم لا يعوّلون على قواهم الشخصية، بل على الله الذي دعاهم وعلى وعده الناجز الأمين.
“ودعا الذين أرادهم فأقبلوا إليه” (مر 3 / 13). هذا الاقبال – (أي إتباع يسوع)، هو الجواب الحرّ، جواب الاثني عشر لدعوة يسوع. وهذا ما تمّ أيضاً مع بطرس واندراوس: “قال لهما: اتبعاني أجعلكما صيادي بشر”، فتركا الشباك من ذلك الحين وتبعاه” (متى 4 / 19 – 20): وكذلك مع يعقوب ويوحنا (را 19 / 21 – 22). هكذا يسطع دائماً، في الدعوة، حبّ الله المجاني من جهة، ومن جهة أخرى التنويه إلى أقصى حدود التنويه، بالحرية البشرية، حرية الإستجابة لنداء الله والثقة به.
والواقع أن النعمة والحرية لا يتناقضان، بل بالعكس: فالنعمة تنشّط الحرية البشرية، وتدعمها وتنقذها من رقّ الخطيئة (را يو 8 / 34 – 36) وتشفيها من علاّتها، وتسمو بها وتجعلها أهلاً لطاعة الله وتقبل عطاياه. وكما لا نستطيع أن نشكك في مجانية الدعوة الإلهية، لا نستطيع أيضاً أن ننكر على الإنسان حريته المطلقة في تلبية نداء الرب. والدليل على ذلك أن الشاب الغني، عندما قال له يسوع: “تعال اتبعني!”، واجهه بالرفض، فكان رفضه، على سلبيته، دليل حرّيته: “فاغتمّ لهذا الكلام وانصرف حزيناً” (مر 10 / 22).
الحرية إذن عنصر جوهري في الدعوة. وتكتسب في حال ردّ إيجابي، معنى الاعتناق الشخصي العميق لنداء الرب، والمحبة المعطاء وردّ الجميل إلى الله المعطي، ومبادلة العطيّة الإلهية بالتقدمة البشرية: “الدعوة – على حدّ قول بولس السادس – هي بقياس التلبية. وليس ثمة من دعوات ألاّ حرّة، نابعة من إرادة عفوية، واعية، سخية، كاملة… إننا نسميّها تقادم، وتلك هي المسألة في عمقها. فالمسيح ينادينا اليوم كالأمس وأكثر من الأمس، بصوته المتواضع الخارق: “تعالوا!” فتلفي الحرية نفسها في مواجهة اسمى امتحان لها! امتحان العطاء والسخاء والذبيحة” (102).
هذا العطاء الحر، وهو النواة الأعمق والأصلب لكل تلبية بشرية لنداء الله، يجد نموذجه الأروع وجذره الحيّ في يسوع المسيح، أول المدعوين، الذي قدّم ذاته قرباناً لإرادة الآب: “لذلك قال المسيح عند دخوله العالم: “لم تشأ ذبيحة ولا قرباناً ولكنك أعددتَّ لي جسداً… فقلت حينئذٍ: هاءنذا آتٍ، اللهمّ، لأعمل بمشيئتك!” (عب 10 / 5 – 7).
وأما مريم، البتول الأم، فقد عاشت بعمق اتحادها بالمسيح، وأكثر من أي خليقة أخرى، حقيقة الدعوة بكل وهجها؛ لأن ليس ثمة إنسان لبّى مثلها وبمثل عظمة حبّها، حبّ الله الذي لا حدود له (103).
37- “فاغتمّ الشاب لهذا الكلام وانصرف حزيناً، لأنه كان ذا مال كثير” (مر 10 / 22) هذا الشاب الغني الذي يروي لنا الإنجيل قصته، والذي لم يلبّ نداء يسوع، يذكرّنا بالعوائق الكبيرة التي يمكن أان تخنق جواب الإنسان الحر! وليس متاع الدنيا فقط بوسعه أن يُغلق قلب الإنسان دون قيم الروح ومقتضيات الملكوت، بل هناك ظروف اجتماعية وحضارية بإمكانها، في عصرنا هذا، أن تشكل، هي أيضاً، أخطاراً محدقة وتفرض تصورات مشوّهة وزائفة عن الدعوة وطبيعتها الحقة، وتجعل فهمها وقبولها أمراً شائكاً إن لم يكن مستحيلاً.
كثير من الناس لديهم عن الله فكرة سطحية غامضة هي شكل من أشكال التدّين الوثني، تمسي فيه الإرادة الإلهية شبه قدرٍ محتوم لا مفرّ منه، على الإنسان أن يخضع له خضوعاً ذليلاً مستسلماً. ولكن ليس هذا هو الوجه الإلهي الذي جاء يسوع المسيح ليكشفه لنا. والحقيقة هي أن الله هو الآب الذي يدعو الإنسان بدافع حبّ أبدي سابق للزمن، ويعقد معه حواراً رائعاً ودائماً ويدعوه ليشارك حياته الإلهية مشاركة الأبناء. ولا ريب أن الإنسان إذا اتخذ عن الله فكرة خاطئة لن يكون بوسعه أن يعرف ذاته من هو حقيقة، ولا أن يعيش دعوته ويفهمها فهماً صحيحاً، بل تكون في نظره عبئاً مفروضاً وحملاً لا يطاق. هنالك أيضاً أفكار عن الإنسان زائفة مدعومة غالباً ببراهين تدّعي الفلسفة والعلم، وتقود الإنسان أحياناً إلى أن يحسب وجوده وحرّيته محكومين ومشروطين بعوامل خارجية تربوية ونفسية وحضارية واجتماعية. وهناك، بالعكس، من يعتبر الحرية سيدة نفسها على الاطلاق، والمصدر الأوحد والأخير لكل خيار شخصي. ولكن الأخذ بمثل هذا التصور يجعل مستحيلاً علينا أن نفهم الدعوة ونعيشها حوار حبّ طليق ينطلق من موهبة الله للإنسان وينتهي، عند الإنسان، بتقدمة ذاته لله تقدمة خالصة. ونجد في القرائن الراهنة أيضاً نزعة إلى تصور العلاقة بين الله والإنسان بطريقة تنتسب إلى الفردانية والحميمية، كما لو كان نداء الله موجهاً إلى كل فرد بمفرده بطريقة مباشرة ومن دون وساطة الجماعة، أو كما لو كان عدف هذا النداء مصلحة المدعو أو حتى خلاصه الفردي، لا العطية التي يقدمها لله كاملة لخدمة الجماعة. ونجد أيضاً، في هذا النمط من التفكير، محاذير أخرى أشدّ خطراً ودهاء تحول دون الاقرار والترحيب بهذا البعد الكنسي الملحوظ في كل دعوة مسيحية ولا سيما الدعوة الكهنوتية. ولا غرو، فالكهنوت الراعوي – على حدّ ما يذكر به الجميع – يكتسب معناه الأصيل ويحقق غرضه الكامل في خدمة الجماعة المسيحية ونموّها، وخدمة كهنوت المؤمنين (104).
هذه القرائن الحضارية التي أتينا على ذكرها والتي لا تخلو من أثر على المسيحيين وبخاصة على الأجيال الطالعة، تساعد في فهم الأزمة التي تعانيها الدعوات الكهنوتية نفسها والتي ترتبط بإشكالات أعمق ناجمة عن أزمة الإيمان. وقد صرّح الآباء السينودسيون بذلك بلا مواربة، معترفين بأن أزمة الدعوات إلى الكهنوت تمتد بجذورها العميقة إلى البيئة الحياتية والإيمانية التي يعيش فيها المسيحيون (105).
ومن ثم فلا بد للكنيسة، في رعايتها شؤون الدعوة الكهنوتية، من أن تكبّ أولاً وبحزم على ترميم “الذهنية المسيحية”، التي نجد في الإيمان نبعها ومرتكزها. من هنا يتضح ثانية أن قوام البشرى المسيحية أن تُظهر بلا ملل ملامح وجه الله الحقيقية، وجه الآب الذي يدعو كل واحد من بيسوع المسيح، وتكشف أيضاً معنى الحرية البشرية الأصيل، كأساس ونواة للمسؤولية البشرية وحافز لبذل الذات. تلك هي الشروط التي لا بد منها لإرساء الأسس اللازمة لكل دعوة، ومنها الدعوة الكهنوتية، فتدرك على حقيقتها وتُحَبُ لأجل جمالها وتعاش في ذروة العطاء وعمق السعادة.
رعاية الدعوات الكهنوتية ووسائلها
38- الدعوة سرّ لا يسبر يوحي بالعلاقة التي يقيمها الله نفسه مع الإنسان، وهي، ولا شك، علاقة فريدة لا تتكرّر، يدركها الإنسان ويحسّها نداءً من الله يترقب جواباً صادراً من عمق الضمير، وهو “الركن الأشد عمقاً في الإنسان والهيكل الذي يخلو فيه إلى الله، ويسمع فيه صوته” (106).
ولكنّ هذا لا يُلغي الطابع الجماعي وخصوصاً الكنسي “الذي تتميّز به الدعوة، لأن الكنيسة حاضرة حقاً وفاعله دوماً في كل دعوة كهنوتية. في ما يتعلق بالدعوة الكهنوتية وطريقة رعايتها، وتمييزها ومواكبتها في مختلف مراحلها، بإمكان الكنيسة أن تتخذ نموذجاً من اندراوس أحد التلميذين الأولين اللذين تبعا يسوع: فهو الذي بدأ يقص على أخيه ما جرى له: “وجدنا الماسيّا أي المسيح” (يو 1 / 41) وقصة هذا “الاكتشاف” هي التي مهّدت الطريق للّقاء: “وجاء به إلى يسوع” (يو 1 / 42). وليس من ريب في أن يسوع هو الذي اتخذ القرار ببادرة حرّة مطلقة، فدعا بطرس وأعطاه اسماً جديداً: “فنظر إليه يسوع وقال له: “أنت سمعان بن يونا، وستدعى كيفا أي صخراً” (يو 1 / 42). بيد أن اندراوس قد اشترك هو أيضاً في إيقاظ هذه الدعوة لأنه هو الذي دفع أخاه إلى لقاء يسوع.
“وجاء به إلى يسوع”. هنا نجد، نوعاً ما، نواة كل رعاية كنسية للدعوات في نشأتها ونموّها، وفي استعمال الطاقات والمسؤوليات والمواهب والخدم الروحية الصادرة من المسيح وروحه. فالكنيسة، بصفتها شعباً كهنوتياً نبوياً وملكياً، هي المسؤولة عن الدعوات الكهنوتية وتعزيز كل ما يؤول إلى إيقاظها وإنضاجها بالصلاة والأسرار والمناداة بالكلمة وتربية الإيمان، في ظلّ المحبة وبشهادتها.
الكنيسة بما لها من كرامة ومسؤولية بصفتها شعباً كهنوتياً، تعتبر الصلاة والليترجية وسيلة جوهرية أولى من وسائل رعايتها لشؤون الدعوات الكهنوتية؛ ولا غرو، فالصلاة المسيحية، المغذّاة بالكلمة الإلهية، تفسح المجال الأمثل لكل إنسان ليكتشف حقيقة جوهره وماهية القصد الذي يريده الله له في تكاوينه الشخصية الفريدة. لا بدّ إذن من أن نربّي الأحداث والشبّان في الأمانة للصلاة وتأمل كلام الله، فيتمكنوا، في الصمت والإصغاء، من أن يوجسوا نداء الرب إلى الكهنوت، ويتّبعوه بهمة وسخاء. على الكنيسة أن تلبّي كل يوم نداء يسوع الملح ودعوته الحاثة إلى أن “نسأل” ربّ الحصاد أن يرسل عملة إلى حصاده” (متى 9 / 38). ونرى الكنيسة، في طاعتها لأمر المسيح، تعلن بتواضع، وقبل كل شيء، إيمانها بالصلاة: إنها تصلي لأجل الدعوات التي تشعر بضرورتها الماسة لحياتها ورسالتها، وتقرّ بأن الدعوات هي عطية من الله يجب أن نطلبها من الله بلا ملل في صلاة ضارعة واثقة. هذه الصلاة هي محور كل رعاية كنسية للدعوات، ويجب أن تمارس لا على صعيد فردي فقط، بل على صعيد الجماعات الكنسية كلها. أجل، لا أحد يشك في أهمية الصلوات الخاصة والأوقات الملحوظة لها، ابتداء من اليوم العالمي السنوي للصلاة من أجل الدعوات، وانتهاءً بما يقوم به بعض الأفراد والجماعات، من المعنيين بطريقة خاصة بالدعوات الكهنوتية. ولكنّ ما نترقبه اليوم في الصلاة لإيقاظ دعوات جديدة، يجب أن يصبح، كل يوم أكثر، عادة راسخة وشائعة في تضاعيف الجماعة المسيحية كلها وماثلة في كل مظهر من مظاهر الحياة الكنسية. هكذا يصبح بالإمكان أن نجدّد فينا خبرة الرسل في العلية، متحدين بمريم ومنتظرين في الصلاة فيض الروح (را رسل 1 / 14) الذي لن يني عن أن يبعث في شعب الله “الكهنة الذين يفتقر إليهم العالم لإقامة الصلاة والإفخارستيا ولإعلان إنجيل المسيح” (107).
الليترجية هي، ولا شك، ذروة حياة الكنيسة ومَعينُها (108)، ولكن لها أيضاً، في رعاية الدعوات، مهمة ضرورية وأثراً مميزاً: فيها نكتسب خبرة خاصة لعطايا الله، وفيها نجد مدرسة حياة تعلمنا كيف نلبّي نداء الله. كل احتفال ليترجي، بحدّ ذاته، وبخاصة الاحتفال الإفخارستي، يكشف لنا وجه الله على حقيقته، ويشركنا في السر الفصحي، أي في تلك “الساعة” التي لأجلها جاء المسيح إلى العالم وإليها اتجه بحريته وإرادته، طاعة لأبيه ولفداء العالم (را يو 13 / 1). وهو يظهر لنا أخيراً وجه الكنيسة، شعب كهنةٍ وجماعةً متماسكة في تعددية المواهب وتكامل الوظائف. الذبيحة التي ارتضاها المسيح لفدائنا والتي تحتفل بها الكنيسة سريا تضفي على عذابات المؤمنين وأسقامهم قيمة خاصة، إذا تحمّلوها متحدين بالرب يسوع. ولذا أضاف الآباء السينودسيون، بعد أن أوعزوا إلى المؤمنين أن يصلوا لأجل الدعوات، قولهم: “إن المسيحي السقيم، بتقدمة الأوجاع الكثيرة الملمّة بحياة الناس، يقرّب ذاته لله محرقة على مثال المسيح الذي كرّس نفسه من أجلنا كلنا، (را يو 17 / 19)؛ وإن تقدمة هذه العذابات بهذه النية تعود على الدعوات بالنفع الكثير” (109).
تشعر الكنيسة، في ممارسة رسالتها النبوية، أن عليها واجباً لا محيد عنه، يلزمها بأن تعلن “إنجيل الدعوة” وتفسر للناس معناه. وهي توجس أيضاً، في هذا السياق، ملحاحية قول الرسول: “الويل لي إن لم أبشر!” (1 قور 9 / 16). هذا الانذار يتوجه إلينا أولاً، نحن الرعاة، وإلى كل المعنيين معنا بالتربية المسيحية في الكنيسة.علينا أن ننوّه دائماً، في كرازاتنا وتعاليمنا الدينية، بهذا الملمح “الندائي”، لأن كلام الله يفيض على المؤمنين نوراً يريهم الحياة تلبية لنداء الله، ويعدّهم لأن يقبلوا، في الإيمان، عطية الدعوة الشخصية.
ولكن هذا كله، على خطورته وأهميته، لا يكفي: ولا بد من “كرازة تستهدف توّاً سرّ الدعوة في الكنيسة، ومكانة الكهنوت الراعوي وضرورته الملحة لشعب الله (110). لا بد إذن من تعليم متماسك يوزّع بطريقة ملائمة على جميع أبناء الكنيسة، فيبدّد شكوكهم ويتصدّى للأفكار المنحازة والمنحرفة في شأن الخدمة الكهنوتية، لا بل يفتح أيضاً قلوب المؤمنين لترقب هذه “العطية” ويتيح ظروفاً مؤاتية لتفتح دعوات جديدة. لقد آن الأوان للتكلم بجرأة عن الحياة الكهنوتية وإعلانها قيمةً نفيسة وشكلاً رائعاً ومميزاً من أشكال الحياة المسيحية. على المربيّن ولا سيما الكهنة ألاّ يهابوا الإشادة بالدعوة إلى الكهنوت واقتراحها، بطريقة صريحة وحازمة، سبيلاً ممكناًَ للشباب الذين ينعمون بالصفات والمواهب المقتضاة لهذه الدعوة. وليس في هذا ما يحدّ حريتهم أو يحرجها، بل يتضح ، بالعكس، أن يبعث عند الشباب جواباً حرّاً وتلبية صريحة. هذا ويشهد تاريخ الكنيسة، وتاريخ الكثير من الدعوات الكهنوتية، حتى التي تفتحت في عهد الحداثة، كم كان كفيداً وحاسماً كلام كاهن ومثال سيرته وشهادة حياته الصامتة والمغمورة بالفرح، لإبعاد التساؤلات والترددات واتخاذ القرارات الحاسمة.
39- وتوجس الكنيسة ذاتها، بصفتها شعباً ملكياً، متجذرةً في “شريعة الروح الذي يهب الحياة” (روم 8 / 2) وحيّة بها. والواقع أن هذه الشريعة هي، في الجوهر، شريعة المحبة السامية (را يع 2 / 8) أو شريعة الحرية الكاملة (را يع 1 / 25). ومن ثم، فالكنيسة تقوم برسالتها كل مرّة تقود مؤمناً إلى أن يكتشف دعوته ويعيشها في الحرية ويسمو بها إلى تمامها في المحبة.
وتهدف الكنيسة، في مهمتها التربوية، بكثير من الاهتمام، إلى أن تبعث عند الأولاد والفتيان والشبَّان الرغبة والإرادة في اتباع يسوع المسيح في كل شيء وعن كثب. هذا العمل التربوي يشمل، ولا شك، الجماعة المسيحية كلها، ولكنه يتوجه إلى كل شخص بمفرده: فالله يبلغ بندائه قلب كل إنسان، والروح الذي يقيم في كل تلميذ (را يو 3 / 24) يهب ذاته لكل مسيحي مع مواهبه المتنوعة وتجلياته الخاصة. علينا إذن أن نساعد كل مؤمن لينال العطية الموكولة إليه شخصياً بصفته كائناً فرداً لا بديل منه، وليسمع الكلام الذي يوجّهه إليه روح الرب.
من هذا الملحظ، يجب على المعنيين بالدعوات الكهنوتية أن يهتموا اهتماماً حازماً ومقنعاً لما نسمّيه بالإرشاد الروحي. ولا بد ههنا من أن نستعيد ما جرت عليه الكنيسة في هذا المجال من اعتماد ما نسميه اليوم بالمرافقة الروحية الشخصية، التي انتجت ولا تزال تنتج ثماراً وفيرة ونفيسة في حياة الكنيسة. هذه المرافقة الروحية يمكن استكمالها – لا الاستعاضة عنها – في حالات معينة وظروف محددة، بأشكال من التحليل النفساني والمساعدة الطبية (111). وعلينا أن نحثّ الأحداث والفتيان والشبان على اكتشاف نعمة الإرشاد الروحي وتقديرها وطلبها واختبارها والتماسها بثقة ملحة من المعنيين بتربيتهم في الإيمان. وعلى الكهنة، من جهة أخرى، أن يكونوا في طليعة الذين يبذلون من وقتهم ونشاطهم لهذه المهمة التربوية ولهذا النمط من الدعم الروحي الشخصي. ولن يضيرهم أن يُسقطوا أو ينزلوا في منزلة ثانية مهمات أخرى كثيرة وإن حسنة ومفيدة، إذا كان لا بدّ من ذلك ليستمروا في الاعتقاد بأنهم معاونو الروح في إنارة أذهان المدعوين وتسديد خطاهم.
الهدف من التربية المسيحية هو البلوغ بالمؤمن بنعمة الروح، إلى “كمال النضج في المسيح” (اف 4 / 13). ويتم له ذلك إذا جنّد حياته كلها لخدمة المحبة تشبهاً بمحبة المسيح واشتراكاً فيها” (را يو 13 / 14 – 15)، مقرّباً لله عبادة روحية يرضاها (را روم 12 / 1) وباذلاً ذاته في سبيل الأخوة. خدمة المحبة هي لب كل دعوة وجوهرها، وتتحقق خصوصاً في دعوة الكاهن، وهو المدعوّ إلى أن يعيش، إلى أقصى حدّ ممكن، محبة يسوع الراعوية، أي محبة الراعي الصالح الذي يبذل حياته في سبيل الخراف (يو 10 / 11).
وبالتالي، فكل رعاية حقّة لشؤون الدعوة يجب ألاّ تني أبداً عن تنشئة الأحداث والفتيان والشبان على حبّ الالتزام ومعنى الخدمة المجانية وقيمة التضحية وبذل الذات بلا حساب. ولا شك أن خبرة التطوع التي باتت تجتذب الكثير من الشبان، تعود عليهم بالنفع الجزيل، بشرط أن يكون التطوع بهدف إنجيلي، وقادراً على تنمية فضيلة التمييز للحاجات المطروحة، وممارساً بروح التضحية والثبات، ومنفتحاً على فكرة الالتزام الدائم المرفود بالصلاة في الحياة المكرّسة. مثل هذا التطوع يمكّن صاحبه من اعتناق حياة ملتزمة، في التجرد والمجانية، ويصيّره أكثر طواعية لصوت الله إذا دعاه إلى الكهنوت. بإمكان المتطوع، على نقيض الشاب الغني، أن يلبّي ليسوع دعوته المفعمة حباً (را مر 10 / 21)، وذلك بأن كل ما يملك من ثروة إنما هو بذل ذاته و”التضحية” بحياته.
كلنا مسؤولون عن الدعوات الكهنوتية
40- الدعوة الكهنوتية عطية من الله تعود بالنفع الروحي الجزيل أولاً على من تتوجه إليه. ولكنها عطية للكنيسة بأسرها أيضاً تثري حياتها ورسالتها. فالكنيسة مدعوة إلى أن تحرص على هذه العطية، وتقدّرها وتحبّها، بصفتها مسؤولة عن إيقاظ الدعوات الكهنوتية وانضاجها. وبالتالي، فرعاية الدعوات محرّكها الأول بل بطلها الأول إنما هو الجماعة الكنسية في مختلف وجوهها، من الكنيسة الجامعة إلى الكنيسة المحلية، ومن الرعية إلى جميع أعضاء شعب الله.
وإنه لمن المُلحّ اليوم، واليوم خصوصاً، أن يعمّ اليقين ويترسخ، بأن جميع أعضاء الكنيسة بلا استثناء هم المعنيون بالدعوات، يحملون عبئها وينالون نعمة الانصراف لها. وقد صرّح المجمع الفاتيكاني الثاني بوضوح ما بعده وضوح، أن واجب تشجيع الدعوات يقع على الجماعة المسيحية كلها، وهي تقوم به، قبل كل شيء، إذا سلكت سلوكاً مسيحياً كاملاً (112). هذا اليقين هو المبدأ الذي من منطلقه يكتسب العمل الراعوي لأجل الدعوات الكهنوتية وجهه الكنسي الحق، ويضطلع بنشاط متناغم، مستعيناً أيضاً بما هنالك من أجهزة مختصة، ووسائل التعاون والمشاركة في المسؤولية.
ولا شك أن المسؤولية الأولى في رعاية الدعوات الكهنوتية تقع على الأسقف (113)، وعليه أن يتحملها شخصياً حتى وإن اضطّر إلى الاستعانة بعدد من المعاونين. إنه الأب والصديق لأبنائه الكهنة وعليه أن “يحافظ على استمرارية” الموهبة والخدمة الكهنوتية، بما يجبيه من طاقات جديدة، بوضع اليد. ومن واجباته السهر على أن يظل همّ الدعوات ماثلاً دوما في إطار الجهود الراعوية العادية، بل مندمجاً فيها ومتماهياً وإياها. وعليه تقع أيضاً مسؤولية التشجيع والتنسيق لجميع المساعي المعنية بالدعوات الكهنوتية (114).
ويعرف الأسقف أنه يستطيع التعويل، أولاً على معاونة الجسم الكهنوتي. فالكهنة كلهم معه، متضامنون ومشاركون في البحث عن الدعوات الكهنوتية وتعزيزها. ويؤكد المجمع في هذا السياق، أن “على الكهنة، بصفتهم مسؤولين عن تربية الإيمان، أن يسهروا على أن يحقق كلّ مسيحي، في الروح القدس، انتعاش دعوته الشخصية” (115)، وذلك “واجب ينبثق من ذات الرسالة الكهنوتية التي بها يشترك الكاهن في اهتمام الكنيسة كلها بأن تحترس دوماً، في هذه الدنيا، من نقص العملة في شعب الله” (116). ولا شك أن حياة الكهنة وبذلهم المطلق في خدمة شعب الله وشهادة محبتهم الخاصة للرب ولكنيسته – شهادة موسومة بوسم الصليب ومرضيّة في الرجاء والفرح الفصحي – ووفاقهم الأخوي، ونشاطهم في حمل البشرى إلى العالم، هي أولى العوامل وأفعلها لإخصاب الدعوات الكهنوتية (117).
وتتحمل الأسرة المسيحية، في هذا المجال، مسؤولية خاصة جداً؛ فهي بداعي سرّ الزواج، تشترك بطريقة مميّزة وأصيلة في الرسالة التربوية التي تضطلع بها الكنيسة بصفتها أمّاً ومعلمة. وقد جاء في مقترحات الآباء السينودسيين أن الأسرة المسيحية، وهي بلا مراء، “الكنيسة البيتية” (نور الأمم، فقرة 11) وقد وفّرت ولا تزال توفّر الشروط المؤاتية لتفتح الدعوات؛ ولأن صورة الأسرة المسيحية هي اليوم في خطر، لا بد للكنيسة من أن تولي الأسرة اهتماماً كبيراً في رعايتها لشؤونها. وبما أن الأسرة المسيحية هي التي تتقبّل بسخاء عطيّة الحياة البشرية فهي “المدرسة الاكليريكية الأولى” (التنشئة الكهنوتية، فقرة 2) حيث يكسب الأولاد، منذ البداية، معنى التقوى والصلاة ومحبة الكنيسة” (118). ولا بدّ من أن نعتبر المدرسة، في خط الأسرة وبالتنسيق معها، مدعوة إلى أن تعيش هويتها ورسالتها التربوية بصفتها خدمة ثقافية من مقوّماتها التنويه بالدعوة كقيمة طبيعية وأساسية من قيم الإنسان. فإذا تشرّبت المدرسة روحاً مسيحياً (بفضل حضور ديني صريح في معاهد الدولة وفقاً للأنظمة المرعية في كل بلد، أو خصوصاً بفضل المعاهد التربوية الكاثوليكية) أصبح بإمكانها أن تُدخل في قلوب الأحداث والشبّان، الرغبة في تحقيق مشيئة الله في اختيار الحالة المناسبة لكل فرد، من غير أن تُستبعد البتة الدعوة إلى الخدمة الكهنوتية” (119).
وإن للمؤمنين العلمانيين، وبخاصة المسؤولين عن التعليم الديني، والمعلمين والمربيّن والمهتمين لرعاية الشباب، ولكلٍ بحسب طاقاته وكفاءاته، مهمةً كبيرةً في رعاية الدعوات الكهنوتية. فبمقدار ما يستقصون معنى دعوتهم ورسالتهم في الكنيسة، يتمكنون من أن يستوعبوا قيمة الدعوة والرسالة الكهنوتية وطابعها الالزامي.
في إطار الجماعات الأبرشية والرعوية، يجب أن نشجّع ونقدر حق قدرها الفئات المعنية بالتداول في شؤون الدعوات وما تقدمه من مساهمة، بالصلاة والآلام والدعم المعنوي والمادي، في سبيل الدعوات الكهنوتية والرهبانية.
ولا بدّ من التذكير هنا أيضاً بالجماعات والحركات والجمعيات العلمانية التي يبعثها الروح القدس وينميها في الكنيسة، لتكون شاهدة للحضور المسيحي ولا سيما الرسالي في العالم. هذه المنظمات العلمانية المتنوعة تبدو لنا اليوم، وكل يوم أكثر، تربة خصبة جداً بالدعوات، وأمكنة مؤاتية لبعثها وانضاجها. ولكم من شبّان تناهى إليهم، في هذا الإطار بالذات، وبفضل هذه الجمعيات، نداء الرب يدعوهم إلى اتّباعه في طريق الخدمة الكهنوتية، فلبّوا النداء تلبية حرّة سخية (120). هذه المنظمات يجب إذن تعزيزها وتشجيعها لتتمكن، بالاتحاد مع الكنيسة جمعاء، من أن تنمو وتؤدي قسطها في تنشيط الدعوات الكهنوتية ورعايتها.
هذه المراجع المختلفة وسائر الأعضاء المعنيين في الكنيسة برعاية الدعوات، يكون عملهم أفعل بمقدار ما يفهّمون الجماعة الكنسية، ابتداء من الرعية، أن معضلة الدعوات الكهنوتية لا يمكن أن تفوّض إلى بعض ذوي الاختصاص (من الكهنة اجمالاً وبخاصةً كهنة الاكليريكيات)، فيتحملون كل أعبائها، بل هي معضلة حيوية تقع في صميم قلب الكنيسة” (121) ويجب، من ثم، أن تقع في صميم محبة كل مسيحي للكنيسة.
الفصل الخامس
“أقام منهم اثني عشر يصحبونه”
تنشئة المرشحين للكهنوت
العيش كالرسل في صحبة المسيح
41- “صعد الجبل ودعا الذين أرادهم فأقبلوا إليه، فأقام منهم اثني عشر يصحبونه فيرسلهم يبشرون، ولهم سلطان يطردون به الشياطين” (مر 3 / 13 – 15).
“يصحبونه”: لفظة من السهل أن نفسّرها بمعنى “المواكبة لدعوات الرسل” من قبل يسوع. فمن بعد أن دعاهم يسوع وقبل أن يرسلهم، بل لكي يرسلهم يبشّرون، فرض عليهم زمن تنشئة، الغرض منه أن يمتّن بينهم وبينه أواصر شركة وصداقة عميقة، ويخصّهم بتثقيف ديني ملائم (را متى 13 / 11)، ويجعلهم شهود صلاته الصامته إلى الله أبيه (را يو 17 / 1 – 26، لوقا 22 / 39 – 45).
لقد استوحت الكنيسة دائماً، في عنايتها بالدعوات الكهنوتية، مثال يسوع. لقد قام ولا يزال يقوم اليوم، في الكنيسة، أساليب معيّنة كثيرة التنوّع في رعاية الدعوات، علماً بأن هذه الرعاية لا تتوخى فقط تمييز الدعوات الكهنوتية بل “مواكبتها” أيضاً. بيد أن الروح الذي يجب أن يحرّكها ويساندها، هو نفسه لا يتغيّر: وهو أن نقود إلى الكهنوت المدعوين إليه دون سواهم، بعد تنشئتهم تنشئة ملائمة، وتأهيبهم لأن يؤدوّا جواباً واعياً حرّاً يلزمهم إلزاماً كاملاً بيسوع المسيح الذي يدعوهم إلى العيش في أُلفته والاشتراك في رسالته الخلاصية. في هذا السياق، تُعتبر “الإكليريكية” في مختلف أشكالها، وكذلك “دار التنشئة” للكهنة الرهبان، ليس فقط مكاناً أو حيّزاً مادياً بل متّسعاً روحياً ونهج حياة وجواً يعزّز ويؤمّن مساراً تربوياً يُمكّن من دعاه الله إلى الكهنوت من أن يصير، بنعمة هذا السر، صورة حيّة ليسوع المسيح رأس الكنيسة وراعيها.
لقد عبّر الآباء السينودسيون، في بلاغهم الختامي، تعبيراً صريحاً عن رأيهم في تنشئة المرشحين للكهنوت بمعناها الأصيل: “العيش في الاكليريكية، مدرسة الإنجيل، معناه العيش كالرسل في صحبة يسوع، والتربّي على يده لخدمة الآب والناس، وبهدي الروح القدس، بل هو التصوّر بصورة المسيح الراعي الصالح لخدمةٍ كهنوتيةٍ أنجع وسط الكنيسة وفي العالم.
“التنشئة الكهنوتية معناها التدرب على تأدية جوابٍ شخصيٍ على سؤال المسيح: “أتحبّني؟”. وما الجواب، في نظر كاهن الغد، إلى تقدمة ذاته كاملة” (122).
هذا الروح الذي لن تفتقده الكنيسة، يجب أن يُترجم تبعاً للظروف الاجتماعية والنفسية والسياسية والثقافية السائدة في عالم اليوم. هذه الظروف تبدو لنا على جانب من التنوّع والتعقّد، كما شهد بذلك الآباء السينودسيون، نظراً إلى اختلاف الأوضاع في الكنائس المحلية. وقد استطاع الآباء أن يتباحثوا مليّاً، بكثير من القلق ولكن برجاء كبير، في المساعي المبذولة لتطوير أساليب التنشئة الكهنوتية وتكييفها في مختلف الكنائس المحلية. هذه الرسالة لا تتوخى إلاّ أن تجمع، نوعاً ما، ثمار الأعمال السينودسية، موضّحة بعض النقاط المكتسبة، ومحدّدة الأهداف التي لا يمكن التخلي عنها، وواضعةً في تصرف الجيمع ثروة المناهج التربوية التي تمّ اختبارها إلى الآن بطريقة إيجابية. ونميّز، في هذه الرسالة، بين التنشئة “الأولى” والتنشئة “المستمرة”، ولكن من غير أن نغفل الصلة الوثيقة القائمة بينهما والتي تجعل من الاثنين نهجاً واحداً ومسيرة حياة مسيحية وكهنوتية واحدة. وتعالج هذه الرسالة مختلف نواحي التنشئة في أبعادها الإنسانية والروحية والفكرية والراعوية، كما تعرض أيضا للبحث في الأوساط التي تتم فيها تنشئة المرشّحين للكهنوت والأشخاص المسؤولين عنها.
1- مقاييس التنشئة الكهنوتية
التنشئة الإنسانية أساس كل تنشئة كهنوتية
42- “بدون تنشئة إنسانية ملائمة، تمسي التنشئة الكهنوتية كلها معزولة عن مرتكزها الضروري” (123). هذا ما أكده الآباء السينودسيون، وهو لا يعبّر فقط عن حقيقة يلهمها العقل وتثبتها الخبرة، بل هو مقتضى تمتدّ أسبابه العميقة والأصلية إلى طبيعة الكاهن من جهة، ونوعيّة خدمته من جهة أخرى. فالكاهن المدعوّ إلى أن يكون صورة حية ليسوع المسيح، رأس الكنيسة وراعيها، عليه أن يسعى ليعكس في ذاته، قدر المستطاع، الكمال البشري الذي تلألأ في ابن الله المتأنّس، وتجلّى بأبهى بيان في سيرته مع الآخرين، كما وصفها الإنجيليون. لا شك أن مهمة الكاهن أن ينادي بالكلمة، ويحتفل بالأسرار ويهدي الجماعة المسيحية “باسم المسيح وفي شخصه” ، ولكن بالتعامل دائماً مع أناس من لحم ودم: “كل حبر يؤخذ من بين الناس ويقام لدى الله من أجل الناس في علاقاتهم بالله “(عب 5 / 1)؛ ومن ثم فتنشئة الكاهن الإنسانية تكتسب أهمية خاصة بسبب علاقتها بمن يُرسل إليهم. فإذا أراد الكاهن أن تكون خدمته الكهنوتية مُقنعةً ومقبولة بشرياً، عليه أن يكيّف شخصيته الإنسانية بحيث تصبح “جسراً” لا عائقاً يحول بين الناس وبين يسوع المسيح فادي الإنسان. ولا بد للكاهن، على غرار يسوع الذي “كان يعلم ما في الإنسان” (يو 2 / 25، را 8 / 3 – 11)، من أن يقف على أعماق النفس البشرية ويدرك بالحدس مصاعب الناس ومعضلاتهم ويسهّل أمر اللقاء والحوار ويكسب الثقة والمعاونة، ويُسدي أحكاماً هادئة وموضوعية.
على كهنة الغد إذن أن لا يكتفوا بتحصيل ما هو ضروري لتفتّح مواهبهم وتحقّق شخصيّتهم، بل عليهم أن ينظروا إلى نوعية خدمتهم المستقبلة، فيُقبلوا على اقتناء مجموعة صفات بشرية لا بدّ منها لبناء شخصيات متوازنة قويّة وحرّة، قادرة على الاضطلاع بأعباء المسؤوليات الراعوية. من هنا ضرورة التربية على حبّ الحقيقة والنزاهة واحترام كل إنسان، وعلى العدالة والوفاء بالوعد والشفقة على الغير، وامتلاك النفس، وخصوصاً على اتزان الرأي والتصرف (124). هذه التنشئة الإنسانية يقترح لها الرسول بولس، في رسالته إلى أهل فيليبي، برنامجاً بسيطاً وحازماً: “ليكن شغلكم الشاغل كل ما هو حق وشريف وعادل وخالص ومستحب وطيّب الذكر وما كان فضيلة وأهلاً للمدح” (فيل 4 / 8). وتجدر الملاحظة أن بولس، في هذه الصفات الإنسانية بالتحديد، يقدم نفسه للمؤمنين مثالاً: “واعملوا بما تعلمتوه مني وأخذتموه عني وسمعتموه مني وعاينتموه فيّ” (فيل 4 / 9).
العلاقة بالغير لها أهمية كبرى. إنها عنصر جوهري لمن دُعي إلى أن يكون مسؤولاً عن جماعة “ورجل علاقات”. ويقتضي ذلك ألا يكون الكاهن متعجرفاً مماحكاً، بل أن يكون دمثاً رحب الصدر مُخلصاً في كلامه وقلبه (125)، فطناً رزيناً سخياً مستعداً للخدمة، أهلاً لأن يقيم مع الغير ويبعث لدى الجميع أواصر صادقة وأخوية، سريعاً إلى التفهم والمسامحة والتعزية (را أيضا طيم 3 / 1 – 5)، طي 1 / 7 – 9). ولا ننسى أن البشرية المعاصرة تخضع اليوم، وبخاصة في التجمعات المدنية الكبيرة، لأوضاع من التكتّل من جهة، والعزلة من جهة أخرى، تجعلها أشدّ تحسّساً لمعنى المشاركة، وهي اليوم من أنصع شواهد الإنجيل وأفعل وسائله.
ويندرج أيضاً في هذا السياق تنشئة المرشح للكهنوت لجهة نضجه العاطفي، وهو عنصر هام وحاسم في التنشئة على الحب الحقيقي المسؤول.
43- هذا النضج العاطفي يفترض الوعي والتنبه لأهمية الحب ومكانته الأساسية في حياة الإنسان. والواقع أن الإنسان – على حدّ ما ذكرت في رسالتي “فادي الإنسان”، لا يقوى على العيش بدون حبّ. ويظل في نظر ذاته لغزاً مستعصياً، وتبقى حياته مجرّدة من كل معنى، إذا لم يهتد إلى الحب ولم يحظ بخبرته ولم يجعله جزءاً من حياته ولم يدخل في رحابه” (126).
وإنما نتكلم هنا عن حبّ يشمل الإنسان كله بجميع أبعاده ومقوّماته الجسدية والنفسية والروحية، ويتترجم في “المفهوم الزوجي” للجسد البشري الذي به يتمّ تبادل العطاء بين شخصين. هذه “الحقيقة”، حقيقة الحب الإنساني، تسعى التربية الجنسية في مفهومها الصحيح، إلى جعلها قريبة المنال وداخلة في صلب الحياة. ونلاحظ اليوم وضعاً اجتماعياً وثقافياً مرجرجاً “يُبذل” الجنس إلى حدّ ذريع، ويفسّره تفسيراً مُسفّاً ومدقعاً ويقصره على الجسد والمتعة الأنانية” (127). وحتى المحيط العيلي الذي فيه تنبت الدعوات الكهنوتية، يتخلله اليوم، في هذا المجال، ثغرات فادحة وصدوع خطيرة.
في هذا السياق، يمسي من الصعب ولكن من الملحّ أيضاً أن نوفّر للمجتمع تربية جنسيةً سليمة تمهّد الطريق لحب العفة وتقديرها، وهي الفضيلة التي تساعد في إنضاج الإنسان وجعله أهلاً لأن يحترم ويعزّز قيمة الجسد “ومفهومه الزوجي” (128).
التربية على الحب المسؤول والنضج العاطفي لا بد منهما لكل مدعوّ، كالكاهن، إلى العزوبة أي إلى أن يهب كل حبّه وعنايته ليسوع المسيح وللكنيسة، بجواب حر وإرادة محضة. ولا بدّ لمن يعتنق العزوبة من أن ينعم بنضج عاطفي يداخله، إلى جانب علاقاته البشرية الموسومة بصداقة خالصة وأخوّة عميقة، حبٌّ مضطرم حيّ وشخصي ليسوع المسيح. وهذا ما أعرب عنه الآباء السينودسيون بقولهم: “حب المسيح وما ينجم عنه من تضحية بالذات شاملة، هو من أهم عوامل النضج العاطفي. هكذا يجد المدعوّ إلى العزوبة في النضج العاطفي، رفداً متيناً للممارسة العفة في الأمانة والفرح” (129).
موهبة العزوبة، وإن صافية ومختبرة، لا تلغي الميول العاطفية، ونزوات الغريزة. ومن ثمّ فالمرشحون للكهنوت بحاجة إلى نضج عاطفي يجعلهم أهل فطنة وإمساك عن كل ما يمكن أن يهدّده، وإلى يقظة جسدية وروحية ورزانة ورصانة في العلاقات بين الرجال والنساء. وبالإمكان أن يجد المرء عوناً نفيساً في التربية على الصداقة الحقة، على غرار المحبة الأخوية التي خبرها المسيح نفسه مدة حياته على الأرض (را يو 11 / 5).
النضج الإنساني، وبخاصة النضج العاطفي، يوجبان تنشئة صافية ومتينة على الحرية، وهي الوجه الآخر للطاعة الخالصة “لحقيقة” الذات “ومعنى” الوجود و”بذل الذات” بذلاً صادقاً لتحقيقها كاملاً (130). بهذا المفهوم تفرض الحرية على الكاهن أن يملك حقاً زمام نفسه، ويجدّ في مكافحة كل ما يهدد حياة الناس من أشكال الأنانية والتفرّدية، ويسارع في الانفتاح على الآخرين والتفاني المخلص في خدمة الغير. كل هذا له أهميته في تلبية الدعوة، ولا سيما الدعوة إلى الكهنوت والأمانة لها وللتعهدات المرتبطة بها وبخاصة في الظروف الصعبة. ولا شك أن الحياة الجماعية ضمن الاكليريكية تساعد، إلى حدّ بعيد، في تطوير هذه المسيرة التربوية لبلوغ حرّية ناضجة ومسؤولة (131).
تثقيف الضمير الخلقي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتنشئة على الحرّية المسؤولة. ومن مقتضيات هذا الضمير الخلقي الطاعة، من عمق أعماق “الأنا”، للفروض الخلقية، ومن ميّزاته أن يكشف معنى هذه الطاعة بصفتها استجابة واعية وحرّة ومحفوزة إذن بالحب لمطالب الله ومشيئة حبّه. وقد جاء في وثيقة الآباء السينودسيين أن “النضج الإنساني عند الكاهن يجب أن يشمل خصوصاً تثقيف ضميره. فلكي يتمكّن المرشح للكهنوت من أن يفي بواجباته تجاه الله والكنيسة، ويوّجه ضمير المؤمنين توجيهاً حكيماً، عليه أن يألف الاصغاء إلى صوت الله الهامس في قلبه ويتعتنق إرادته بحب وثبات (132).
التنشئة الروحية: في الاتحاد بالله والبحث عن المسيح
44- هذه التنشئة الإنسانية إذا تمّت في إطار أنتروبولوجيةٍ تحترم حقيقة الإنسان بكاملها، تفضي إلى التنشئة الروحية وتكتمل بها. كل إنسان خلقه الله وافتداه المسيح بدمه، مدعوّ إلى أن يولد ثانية “بالماء والروح” (يو 3 / 5)، ويصير “ابناً في الابن”. هذا القصد الإلهي الفعال هو مرتكز الطبيعة البشرية كلها المفطورة على الدين، كما يعرف ذلك ويعتقد به أبسط الآخذين ببرهان العقل. فالإنسان نزّاع إلى العلى، مفطور على المطلق، ولا يهدأ له قلب إلى أن يستريح في الرب (133).
من هنا، من هذه السجية الدينية، وهذه الفطرة الراسخة الصامدة، ينطلق النهج التربوي لبناء حياة روحية بما هي وصال مع الله واتحاد به. هذه التنشئة الروحية تملك، بحسب الوحي والخبرة المسيحية، أصالةً فريدة تأتيها من جدّة الإنجيل. “إنها عمل الروح: تجنّد الإنسان بكل طاقاته وتدخله في شركة حميمة مع يسوع المسيح الراعي الصالح، وتقوده إلى تطويع كل حياته للروح، في خضوع بنوي للآب، وصلة وثيقة بالكنيسة. وتتّخذ في خبرة الصليب طريقاً، عبر الاتحاد الكامل، إلى كمال السرّ الفصحي” (134).
هذه التنشئة الروحية تشمل، كما نرى، جميع المؤمنين، ولكنّ لها لمحاتٍ وملامح يجب أن تنطبق على هوية الكاهن وخدمته. والواقع أن التنشئة الروحية يجب أن تحتلّ، في حياة كل مؤمن، محلاً مركزياً وتوحّد كيانه وحياته بوصفه مسيحياً، أي خليقةً جديدةً في المسيح، تتقدم في الروح. كذلك يجب أن تكون التنشئة الروحية، في حياة كل كاهن، “القلب” الذي يوحّد ويحيي “كيانه” و”سيرته” الكهنوتية. ويؤكد الآباء السينودسيون، في هذا السياق، “أن التنشئة الراعوية، بدون التنشئة الروحية، تبقى بلا أساس” (135) وإن التنشئة الروحية هي “العنصر الأهم في التربية الكهنوتية” (136).
المضمون الأساس للتنشئة الروحية في مسيرة بيّنة شطر الكهنوت، يعبّر عنه المجمع الفاتيكاني الثاني في قراره “التنشئة الكهنوتية”: “يجب أن تتمّ التنشئة الروحية بطريقة يتعلم فيها الطلاب أن يحيوا حياة اتحاد دائم وبنوي مع الآب بابنه يسوع المسيح في الروح القدس. وبما أفهم مُعدّون لاتخاذ صورة المسيح الكاهن بالرسامة المقدسة، عليهم أيضاً أن يألفوا الارتباط به ارتباط صداقة، بصهر حياتهم كلها في حياته. وعليهم أن يجعلوا سرّه الفصحيّ قوام حياتهم، بحيث يصبح بوسعهم أن يُشركوا فيه الشعب الموكول إليهم. ولا بدّ من تنشئتهم على التماس المسيح بالمثابرة على التأمل في كلمة الله، وبالاشتراك الفعلي في أسرار الكنيسة المقدسة، وعلى الأخص في الإفخارستيا وفي الفرض الإلهي. ويلتمسون المسيح في الأسقف الذي يرسلهم، وفي الناس الذين يُرسلون إليهم، ولا سيما البؤساء والأولاد والمرضى والخطأة وغير المؤمنين. وليحبّوا الطوباوية مريم العذراء ويكرّموها بثقة بنوية، هي التي جعلها يسوع المسيح وهو يموت على الصليب، أمّاً “لتلاميذه” (137).
45- هذا النص المجمعي جدير بأن ننعم فيه النظر فنصيب فيه، بلا عناء، بعضاً من قيم ومقتضيات أساسية للمسيرة الروحية المقترحة على كل مرشح للكهنوت. في طليعة هذه القيم والمقتضيات أن نعيش في اتحاد حميم بيسوع المسيح. الاتحاد بالرب يسوع، مرتكزه المعمودية، وغذاؤه الإفخارستيا، ويتترجم بتجدد جذري في حياتنا اليومية. الاتحاد الحميم بالثالوث الأقدس، أي حياتنا الجديدة في النعمة التي تصيّرنا أبناء الله، تلك هي الجدّة التي ينعم بها المؤمن والتي تتغلغل في صميم الكيان والسيرة. وهي سرّ الوجود المسيحي في مهبّ الروح، ويجب من ثم أن تكون هي قوام “المناقبية” في حياة المسيحي. هذه الصورة الرائعة للحياة المسيحية، والتي هي محور الحياة الروحية، قد علّمناها يسوع في مثل الكرمة والأغصان: أنا الكرمة الحق وأبي هو الكرام… أثبتوا فيّ كما أثبت فيكم. وكما أن الغصن إن لم يثبت في الكرمة لا يستطيع أن يثمر من نفسه، فكذلك أنتم لا تستطيعون أن تثمروا إن لم تثبتوا فيّ. أنا الكرمة وأنتم الأغصان. فمن ثبت فيّ وثبتّ فيه فذاك الذي يثمر ثمراً كثيراً، لأنكم بمعزل عني، لا تستطيعون أن تعملوا شيئاً” (يو 15 / 1، 4 – 5).
الثقافة المعاصرة لا تخلو من قيم روحية ودينية، ولا يزال الإنسان، رغم المظاهر، دائم الجوع والعطش إلى الله. ولكن كثيراً ما تعتبر المسيحية ديناً من بين الأديان ومجرّد مناقبية اجتماعية في خدمة الإنسان، فلا تظهر للعيان جدّتها الثوروية: فالمسيحية هي “سر” ابن الله الذي تجسّد لأجلنا والذي يهب الذين يقبلونه “أن يصيروا أبناء الله” (يو 1 / 12)؛ وهي بشرى عهد شخصيّ جديد وعطيّته، عهد حبّ وحياة مبرمٌ بين الله والإنسان. ولن يكون بوسع الكهنة أن يعلنوا للآخرين هذه البشرى العجيبة البهيجة (1 يو 1 / 4) إلا إذا توفّرت لهم معرفة عميقة وخبرة متقدمة لهذا السرّ، بفضل تنشئة روحية ملائمة.
هذا السرّ المسيحي، يصف المجمع عظمته وسموّه المطلق، ولكنه، في الوقت نفسه، لا يُغفل الكلام عن العلاقة الحميمة بل الصداقة التي يجب أن تقوم بين كاهن الغد ويسوع. وليس في هذا أي ادّعاء محال من قبل الإنسان، بل هو عطيّة لا تثمّن من المسيح الذي قال لتلاميذه: “لا أدعوكم عبيداً بعد اليوم، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيّده. لقد دعوتكم أحبائي لأني أطلعتكم على كل ما سمعته من أبي (يو 15/15).
ويتابع المجمع حديثه مشيراً إلى قيمة أخرى من القيم الروحية العظمى، وهي البحث عن يسوع: “يعلّمون البحث عن يسوع”. هذا البحث، إلى جانب البحث عن الله، هو من القضايا المألوفة في الروحانية المسيحية التي نجد لها صورة نموذجية في دعوة الرسل. فعندما يروي يوحنا كيف تبع يسوع تلميذاه الأولاّن، ينوّه بأهمية هذا “البحث”. يسوع نفسه طرح السؤال: “ماذا تريدان؟ فقالا له: “يا معلم، أين تقيم؟ فقال لهما: “هلمّا وانظرا”، فذهبا ونظرا أين يقيم، فأقاما عنده ذلك اليوم” 0يو 1 / 37 – 39). المرشح للكهنوت، يجب أن تكون حياته الروحية كلها، نوعاً ما، مجنّدةً لهذا البحث: البحث عن المعلم و”العثور عليه” واتّباعه والإقامة معه. ولا بدّ للكاهن، طوال حياته وخدمته الكهنوتية، أن يواصل هذا “البحث”، لأن سرّ التشبه بالمسيح والاشتراك في حياته ينبوعٌ لا ينضب. وعليه أيضاً أن يستمر في “العثور على” المعلم ليعلنه للآخرين، لا بل ليبعث فيهم الرغبة في البحث عن المعلم. ولكنّ هذا كله يظل مستحيلاً ما لم نقدم للآخرين “خبرة” حياة، “خبرةً” جديرةً بالمقاسمة. تلك هي الطريقة التي اتّبعها أندراوس ليقود أخاه سمعان إلى يسوع: “ولقي اندراوس أولاً أخاه سمعان، فقال له: وجدنا الماسيا، ومعناه المسيح وجاء به إلى يسوع”. وهكذا دعي سمعان ليكون رسولاً في خطى المسيح. “فنظر إليه يسوع وقال: أنت سمعان بن يونا، وستدعى كيفا أي صخراً (يو 1 / 41 – 42).
ولكن ماذا يعني، في الحياة الروحية، أن نبحث عن المسيح؟ أين نجده؟ “رابي أين تقيم؟”. القرار المجمعي “في التنشئة الكهنوتية” يرشدنا إلى طرق ثلاث يجب اتباعها: المثابرة في تأمل كلام الله، الاشتراك الفعّال في أسرار الكنيسة المقدسة، وخدمة المحبة تجاه “الأصاغر”. تلك هي القيم العظمى والمقتضيات الثلاثة التي تحدد مقوّمات التنشئة الروحية للمدعوين إلى الكهنوت.
46- من المقومات الجوهرية في التنشئة الروحية مطالعة كلام الله بتأمل وصلاة، وإصغاء في التواضع والمحبة، لله المتكلم. ولا شك أن ليس من أحد يستطيع أن يكتشف دعوته ويفهمها ويحبها ويتبعها، ويحقق بذلك رسالته، إلاّ في ضوء كلام الله وبقوته. وهكذا يجد كل إنسان معنى حياته الأكمل والأعمق في أن يكون هو نفسه من ينتهي إليه كلام الله في دعوته للإنسان، ومنه ينطلق كلام الإنسان في تلبية لنداء الله. ولا بد لمن يؤالف كلام الله من أن يتسهّل عليه طريق التوبة في معناها المزدوج: التوبة بمعنى العدول عن الشر واعتناق الخير، والتوبة بمعنى السعي إلى إنماء أفكار الله في القلب. وهكذا يصبح الإيمان، بصفته تلبية لكلام الله، هو المقياس الجديد في الحكم على الناس والأشياء وتقييم الأحداث والمعضلات.
كل هذا بشرط أن نسمع كلام الله ونستوعبه في حقيقة جوهره، من حيث هو وسيلة لقاء مع الله الذي يخاطب الإنسان، ومع المسيح كلمة الله، الحق والطريق والحياة (را يو 14 / 6). علينا أن نقرأ “الكتب” ونسمع “أقوال” الله، بل “قوله” و”كلمته”، كما يذّكر بذلك المجمع: “إن الأسفار المقدسة، تحتوي على كلام الله، ولأنها ملهمة تصبح هي كلام الله في الحقيقة” (138). ويقول المجمع أيضاً: “في هذه المكاشفة، يخاطب الله – وهو الذي لا يُرى – (را قول 1 / 15، 1 طيم 1 / 17)، جماعة البشر، من فيض حنانه، كما يخاطب أحبةً له (را خر 33 / 11، يو 15 / 14 – 15)، ويتحدث إليهم (را با 3 / 38) ليدعوهم ويقبلهم شركاء في حياته” (139).
هذه المعرفة المكتسبة بالحب وهذه الألفة لكلام الله في الصلاة لها أهميّة رفيعة لما يقوم به الكاهن من مهمّة نبوية. إنهما شرط لا محيد عنه لممارسة هذه المهمة بوجه لائق، وبخاصة في قرائن “البشرى الجديدة” التي تدعى الكنيسة إلى مواجهتها اليوم. وقد جاء في وثائق المجمع: “إن كل رجال الاكليروس ملتزمون بأن يكبّوا على قراءة الكتب المقدسة قراءة روحية متواترة، وعلى دراستها دراسة عميقة. ويأتي في طليعة هذا الاكليروس كهنة المسيح، ويتبعهم كل من اضطلع، بداعي رسالته، بمسؤولية التبشير، من شمامسة إنجيليين ومن مدرّسين نظاميين للتعليم المسيحي. إنهم جميعاً ملتزمون بذلك لئلا تتحوّل كرازتهم بكلام الله في الخارج إلى عبث، لأنهم لم يعرفوا أن يصغوا إليه في ذواتهم (القديس أوغسطينوس، العظة 179، 1: الآباء اللاتين 38، 966)” (140).
الصلاة هي أول جواب وأهم جواب نلبي به كلام الله، وهي من أهمّ مقومات الحياة الروحية ومقتضياتها. هذه الحياة الروحية، يجب أن تهيب بالمرشحين للكهنوت إلى أن يدركوا ويختبروا في العمق معنى الصلاة المسيحية بصفتها لقاءً حياً وشخصياً مع الآب بابنه الوحيد وبهدي الروح، وحواراً يندمج في المناجاة البنوية القائمة أبداً بين يسوع وأبيه. وإنه لمن أبرز وجوه رسالة الكاهن أن يكون “معلم صلاة”. ولكن الكاهن لن يفلح أبداً في تنشئة الآخرين في مدرسة يسوع المصلي، إلا إذا كان هو نفسه قد تثقّف ولا يزال يتثقّف في هذه المدرسة. وهذا بالضبط ما يطلبه الناس من الكاهن: “الكاهن هو رجل الله الذي يخصّ الله والذي يبعث على التفكير في الله. عندما تتحدث الرسالة إلى العبرانيين عن المسيح، تصوّره بصوره حبرٍ رحيم أمين في ما هو لله” (عب 2 / 17). ويأمل المسيحيون أن يجدوا في الكاهن لا مجرّد إنسان يهش لهم ويستمع إليهم بانبساط ويبدي لهم بعض الحفاوة، بل إنسانا يهديهم إلى الله ويرفع أبصارهم إليه. لا بد إذن للكاهن من أن يترعرع في ألفةٍ عميقة مع الله. وعلى الذين يتأهبون للكهنوت أن يفقهوا أن قيمة حياتهم الكهنوتية كلها رهن بتقدمة ذواتهم للمسيح وبه إلى الله” (141).
إذا أردنا أن نُعدّ الناس للصلاة، في البيئة المضطربة والصاخبة التي يتميز بها مجتمعنا المعاصر، لا بدّ من أن نربيّ الناس على الصمت وما يوقره للإنسان من معنى بشري عميق وقيمة دينية وجوّ روحي لا بد منه لتحسّس وجود الله والاستسلام له (1 مل 19 / 11 – 12).
47- قمة الصلاة المسيحية هي الإفخارستيا، وهي بدورها قمة الأسرار وسائر الفروض الليترجية ومعينها. ومن ثمّ فالتنشئة الليترجية، بمعناها الأكمل، أي بصفتها اندماجاً حيوياً في سرّ يسوع المسيح الذي مات وقام، والذي لا يزال حاضراً وعاملاً في الكنيسة بواسطة الأسرار، ضرورة لا بدّ منها لكل مسيحي، ولكل كاهن على الأخص، لتنشئته الروحية. الاتحاد بالله، محور الحياة الروحية كلها، هو عطيّة الأسرار وثمرتها. وهو، في الوقت نفسه، واجب ومسؤولية تنبعان من الأسرار، وتفيضان على حريّة المؤمن ليتّخذ القرارات والخيارات والمواقف والأعمال التي تمليها الحياة اليومية. في هذا المعنى، يتّضح أن “النعمة” التي “تُجدّد” الحياة المسيحية هي نعمة يسوع المسيح الذي مات وقام والذي لا يزال يفيض علينا، بالأسرار، روحه القدوس والمقدّس، كما يتّضح لنا أيضاً أن “الشريعة الجديدة” التي يجب أن تهدي حياة المسيحي وتنظّمها، محفورة في “القلب الجديد” بواسطة الأسرار. إنها شريعة المحبة، محبّة الله ومحبّة الأخوة، باعتبارها جواباً وامتدادا للمحبة التي يفيضها الله على الإنسان بواسطة الأسرار. هكذا يستطيع الكاهن أن يدرك قيمة اشتراكه في الأسرار “اشتراكاً كاملاً واعياً وفعّالاً” (142) ليتقبّل ويضع موضع التنفيذ موهبة “المحبة الراعوية” التي هي جوهر الخدمة الكهنوتية ولبّها.
هذا يصحّ خصوصاً في الإفخارستيا، ذكرى تضحية المسيح وموته وقيامته المجيدة، “سرّ التقوى وعلامة الوحدة ورباط المحبة، (143)، الوليمة الفصحية “حيثي يعطى المسيح طعاماً، وتمتلئ النفس نعمة، ويوهب المجد الآتي (144). ومن الثابت أن الكهنة، باعتبارهم خدمة القدسيّات، هم أولاً خدمة ذبيحة القداس (145). لهم فيها دور علا غناء عنه: لأنه، بدون كاهن، ليس من ذبيحة إفخارستية.
وفي هذا دليل أهمية الإفخارستيا ودورها الجوهري في حياة الكاهن وخدمته، وبالتالي في حياة المرشّحين للكهنوت وتنشئتهم الروحية. وإني، بكل بساطة، وتوخيّاً للوضوح، أكرر القول: “يجدر بالاكليريكيين أن يشتركوا يومياً في الذبيحة الليترجية لكي يتّخذوا من هذا الاحتفال اليوميّ قاعدةً لحياتهم الكهنوتية. وليعلّموا أن يحسبوا الاحتفال بالإفخارستيا قمّة نهارهم، فيشتركوا فيه اشتراكاً فاعلاً ولا يكتفوا بأن يحضروه حضوراً “آلياً”. وعلى المرشحين للكهنوت أخيراً أن يكتسبوا الفضائل المستوحاة من الإفخارستيا: الشكر: فيشكروا لله أولاً أفضاله عليهم، لأن الإفخارستيا هي، قبل كل شيء، فعل امتنان لما يفيضه الله عليهم من فوق؛ ثم الاستعداد لأن يقدّموا ذواتهم بالاتحاد مع قربان يسوع الإفخارستيّ؛ ثم المحبّة المستمدّة من سرّ القربان علامة الوحدة حقاً في القربان” (146).
هذه التنشئة الروحية تفترض الدعوة الملحّة إلى التنويه بروعة سرّ التوبة وما يوليه من فرح عميق. فثقافتنا اليوم، بما تحمله من أشكال حديثة ومريبة لتبرير الذات، باتت تهدد، لدى الناس، “شعورهم بالخطيئة، وبالتالي، فرحهم وتعزيتهم بطلب الغفران (را مز 50 / 14)، والمثول أمام الله الغنيّ بالرحمات (اف 2 / 4). ومن ثمّ، فلا بد لكهنة الغد من أن يتربّوا على فضيلة التوبة التي تسعى الكنيسة، بوحي حكمتها، إلى المناداة بها في مختلف حفلات السنة الليترجية، والتي تبلغ ذروتها في سرّ المصالحة. من هنا ينبع معنى التروّض والجهاد الروحي وروح التضحية والتجرّد، وقبول الألم والصليب. مقومات الحياة الروحية هذه يصحبها غالباً مصاعب جمّة لكثير من المرشحين للكهنوت، ممن ترعرعوا في ظروف حياتية رغيدة، وأمسوا، من جراء ذلك، أقلّ ارتياحاً لهذه القيم وأكثر انسياقاً للأحلام والأوهام التي تدعو إليها الوسائل الإعلامية، حتى في البلاد التي تشكو من ظروف حياتية هشّة وأوضاع قشفة حتى للشباب أنفسهم.. من هنا نداء الآباء السينودسيين إلى التمثّل بالمسيح الراعي الصالح في تحقيق ما يترتب على الكاهن من واجب بذل الذات بذلاً مطلقاً: “لا بدّ من تلقين معنى الصليب الناشب في صميم السرّ الفصحي. فإذا تمّ هذا التماهي مع المسيح المصلوب، مع المسيح الخادم، أصبح بإمكان العالم أن يستعيد قيمة التقشّف والألم وحتى الاستشهاد، وسط حضارة معاصرة مشبعة بروح الالحاد والجشع والمُتعيَّة” (147).
48- التنشئة الروحية تعلّمنا أيضاً أن نجد المسيح في الآخرين. الحياة الروحية حياة، ولا شك، باطنة، حياة أُلفة مع الله، حياة صلاة ومشاهدة. بيد أن لقاءنا الله ومحبته الأبوية لجميع الناس يجرّ علينا مقتضى آخر لا محيد عنه، وهو لقاءنا القريب وبذل ذاتنا في سبيله، في خدمة متواضعة نزيهة، وضعها يسوع للجميع برنامج حياة، لمّا غسل أرجل تلاميذه: “لقد جعلت لكم من نفسي قدوة لتصنعوا أنتم أيضاً ما صنعت إليكم” (يو 13 / 15).
التنشئة على بذل الذات بذلاً سخياً ومجانياً، تعزّزها الحياة الجماعية المفروضة عادة في فترة الإعداد للكهنوت، هي شرط أساسي على كل من دعي إلى أن تنعكس وتتجلّى فيه صورة الراعي الصالح معطي الحياة (را يو 10 / 11 – 15). من هذا الملحظ، يجب أن تساهم التنشئة الروحية في إنماء ما تنطوي عليه من مقتضى باطن، على صعيد الرعاية والمحبة الخادمة. ويساعد في ذلك، على حدّ ما أكّده الآباء السينودسيون، توجّه تقوي. إلى قلب المسيح، يتوازن عمقاً وحناناً: “تنشئة كهنة الغد في روحانية التوجّه التقوي إلى قلب الرب، يمكن أن تقودهم إلى أن يعيشوا عيشة يمليها حبّ المسيح وحنانه، حبّ الكاهن والراعي الصالح، حبّ المسيح لأبيه في الروح القدس، وحبّه للبشر إلى حدّ بذل ذاته ضحية لهم” (148).
الكاهن هو إذن رجل المحبة: وهو مدعوّ إلى أن يعلّم الآخرين أن يقتدوا بالمسيح، ويعيشوا الوصية الجديدة، وصية المحبة الأخوية (را يو 15 / 12). وهذا يُلزمه الاستسلام دوماً لعمل الروح القدس، يثقفّه ويربيّه على محبة المسيح. من هنا أن التأهب للكهنوت يستدعي بالضرورة تنشئة متينة على المحبة، ولا سيما محبة “الفقراء” الذين يكشف لنا الإيمان حضور المسيح فيهم وحبّه الشفوق للخطأة (را متى 25 / 40).
في ضوء هذه المحبة، القائمة على بذل الذات حبّاً، يجب أن نفسح مجالاً، في إطار التنشئة الروحية لكاهن الغد، لتثقيفه على الطاعة والبتولية والفقر (149). في هذا الاتجاه نفسه يتّجه نداء المجمع أيضاً: “ليعلم الطلاب بوضوح أنهم غير معدّين للسلطة ولا للمجد، بل ليكونوا بمجمل كيانهم في خدمة الله والعمل الراعوي. ويجب الاهتمام الخاص لتنمية روح الطاعة الكهنوتية فيهم، وتذوّق حياة الفقر، وروح الكفران بالذات، بحيث يتعودون الاعتزال السريع للأمور المباحة إذا كانت غير ضرورية، ويُجرون حياتهم على نموذج يسوع المصلوب” (150).
49- في التنشئة الروحية للمدعو إلى حياة العزوبة تجب العناية، بوجه خاص، بإعداد كاهن الغد لأن يعرف البتولية ويقدرّها ويحبّها ويعيشها بحسب طبيعتها الحقيقية وأهدافها الحقيقية، وإذن بحسب أهدافها الإنجيلية والروحية والراعوية. هذا الإعداد يفترض شرطاً “ومحتوى”، وهو فضيلة العفّة التي تحدّد كل العلاقات البشرية، وتقود الإنسان إلى أن “يختبر ويبدي… حبّاً خالصاً، بشرياً، أخوياً، شخصياً وقادراً على التضحية، على غرار المسيح، في سبيل الكل وكل فرد (151).
بتولية الكهنة تضفي على العفة ميّزات تمكّنهم من “الصدوف عن الحياة الزوجية لأجل ملكوت السماوات” (را متى 19 / 12)، والالتصاق بالرب بحبٍ غير منازع، يلائم العهد الجديد ملاءمة وثيقة، ويشهد للقيامة في الحياة الآتية (را لو 20 / 36)، ويساعدهم مساعدة وجيهة ودائمة في ممارسة تلك المحبة الكاملة التي تتيح لهم أن يكونوا كلاً للكلّ في الخدمة الكهنوتية” (152). ومن ثم، يجب ألاّ نحسب العزوبة الكهنوتية مجرّد قاعدةٍ قانونية أو شرطٍ خارجي لقبول الرسامة الكهنوتية. بل هي قيمة وثيقة الصلة بالكهنوت. فهي تصوّر الإنسان بصورة يسوع المسيح الراعي الصالح وعريس الكنيسة، وتمكّنه من اختيار حبّ أعظم وغير منازع للمسيح ولكنيسته، والتفرّغ الكامل، في الفرح، للخدمة الراعوية. ويجب أن نعدّ البتولية نعمةً خاصةً وعطيةً لا يستطيع الناس كلهم أن يفهموها بل الذين أُنعم عليهم بذلك فقط (را متى 19 / 11). هذه النعمة تفرض فرضاً جازماً على من ينالها جواباً واعياً وحراً. ولكنَّ هذه الموهبة من الروح القدس تولي أيضاً صاحبها نعمة الأمانة مدى الحياة والتفرغ بسخاء وفرح للواجبات المنوطة بها. في التنشئة على العزوبة الكهنوتية، يجب أن يرسخ في الذهن رسوخاً عميقاً وعي هذه “النعمة السنية” التي يجود بها الله (153) فيفضي ذلك إلى الصلاة والسهر لتظلّ هذه العطية بمنجاة من كل ما يمكن أن يهددها.
الكاهن البتول بإمكانه أن ينقطع كليّاً لخدمة شعب الله، ويستطيع، بوجه خاص، إذا أدّى الشهادة لقيمة العفّة الإنجيلية، أن يساعد الأزواج المسيحيين في أن يعيشوا، على وجه أكمل، “السر العظيم”، سرّ حبّ المسيح العريس لعروسه الكنيسة؛ وبأمانته لبتوليته، يصير قادراً على أن يساند الأزواج في صون أمانتهم الزوجية (154).
أهمية هذا الإعداد للبتولية الكهنوتية ودقّته، وبخاصّة في الأحوال الاجتماعية والثقافية المعاصرة، أهابا بالآباء السينودسيين إلى الإعراب عن بعض المطالب التي ما برحت أمّنا الكنيسة، في حكمتها، تنادي بها وتؤيد قيمتها الثابتة. وإني بدوري أعرضها باسم السلطة، لتكون قواعد متّبعة في إطار التنشئة على العفّة في التبتّل: “على الأساقفة وعلى رؤساء الاكليريكيات والمرشدين الوحيين فيها أن يعملوا على إرساء مبادئ وإقامة ضوابط وتوفير مساعدات للتمييز في هذا المجال. عناية الأسقف والحياة الأخوية بين الكهنة هما من أهم عوامل التنشئة على العفّة في التبتل. ففي الاكليريكية، أي في غضون فترة التنشئة، يجب أن تُبيَّن العزوبة بصورة واضحة، بدون أي التباس وبطريقة إيجابية. ويجب على الإكليريكي أن يملك قدراً كافياً من النضج النفسي والجنسي، وحياةً مكبّة على الصلاة، وأن يخضع لتوجيهات أب روحي. وعلى الموجّه الروحي أن يساعد الإكليريكي في التوصل إلى قرار ناضج وحرّ يرتكز على استثمار قيمة الصداقة الكهنوتية والانضباط الذاتي، من جهة، ومن جهة أخرى، على التسليم بواقع العزلة، وعلى وضع شخصي سليم، على صعيد البنية الجسدية والحالة النفسية. وينبغي للإكليريكيين، في هذا المجال، أن يقفوا على تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني والرسالة العامة في البتولية الكهنوتية، والرسالة التوجيهية التي أصدرها مجمع التربية الكاثوليكية، سنة 1974، في التنشئة على البتولية الكهنوتية. فلكي يتمكّن الإكليريكي من أن يعتنق، بقرار شخصي حرّ، البتولية الكهنوتية، لأجل ملكوت السماوات، عليه أن يحيط بشؤون الجنس في مفهومه المسيحي والإنساني الحق، سواء في الزواج أم في التبتّل، وأن يدرك غايته. ومن الضروري أيضاً أن نحيط العلمانيين علماً وتثقيفاً بالدواعي الإنجيلية والروحية والراعوية التي تبرّر البتولية الكهنوتية، فيتسنّى لهم مساعدة الكهنة بصداقتهم وتفهّمهم وتعاونهم” (155).
التنشئة الفكرية: فهم الإيمان
50- التنشئة الفكرية، مع ما يميّزها من ملامح خاصة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتنشئة الإنسانية والروحية، وتشكّل فيها عنصراً لا يمكن الاستغناء عنه. فهي، في الحقيقة من متطلبات العقل الذي به يشترك الإنسان في “نور العقل الإلهي” ويسعى إلى اكتساب حكمة تشدّه، بدورها، إلى معرفة الله والتعلق به (156).
وتجد التنشئة الفكرية المطلوبة للمرشحين للكهنوت ما يبررها ويعلّلها، بوجهٍ منيف، في طبيعة الخدمة الكهنوتية نفسها، كما في الدعوة الملحّة التي يوجّهها الرب إلى الكنيسة اليوم، عند عتبة الألف الثالث، لتضطلع “بالبشارة الجديدة” الملقاة على عاتقها. وقد كتب الآباء السينودسيون: “إذا كان على كل مسيحي أن يكون مستعدّاً للذود عن الإيمان وإقامة الدليل على ما نحمله من الرجاء (را 1 بط 3 / 15)، فكم يجب على المرشحين للكهنوت وعلى الكهنة أن يقيموا وزناً للتنشئة الفكرية في مجالات التربية والممارسة الراعوية. ولا غرو، فخلاص إخوتهم وأخواتهم يلزمهم تحصيل معرفة أعمق للأسرار الإلهية” (157). الأوضاع الراهنة ممهورة بطابع عميق من اللامبالاة الدينية، وبشيء م الريبة والشكّ في قدرة العقل على بلوغ الحقيقة الراهنة والشاملة، وبالمعضلات والأسئلة الجديدة الناجمة عن الكشوف العلمية والتكنولوجية. كل هذا يستدعي مستوىً عالياً من التنشئة الفكرية يتيح للكهنة، في مثل هذه القرائن، أن يبشّروا بإنجيل المسيح الذي لا يتغيّر، ويبيّنوا مصداقيته تجاه العقل البشري ومتطلباته المشروعة. هذا، ولا يخفى أن التعددّية أضحت اليوم ظاهرة ناتئة، ليس فقط في المجتمع البشري بل في الأسرة الكنسية أيضاً: كل هذا يفرض أهلية خاصة للتمحيص والتمييز، ويُظهر بكل وضوح ضرورة تنشئة فكرية جادة ورصينة.
هذا الملمح “الراعوي” في التنشئة الفكرية، يعزّز ما سبق لنا قوله في وحدة النهج التربوي بمختلف أبعاده. فضرورة الدرس الذي يشغل حيّزاً كبيراً في حياة المرشّح للكهنوت، ليس عنصراً خارجياً وثانوياً في نمو دعوته، بشرياً ومسيحياً وروحيا. والحقيقة أن الدرس، وبخاصة درس اللاهوت، يساعد كاهن الغد في اعتناق كلام الله ونمو حياته الروحية وتأهيله لتحقيق خدمته الراعوية. وإليك الهدف الواحد والمتشعب لدرس اللاهوت، كما بيّنه المجمع (158) وكرّره السينودس في صفحات الملف: “لكي تصبح التنشئة الفكرية أشدّ ارتباطاً بالمقتضى الراعوي، يجب أن تندرج في مسارٍ روحي ممهور بخبرة لله شخصية، تمكّن الطالب من أن يتخطّى العلم النظري البحت، ويبلغ ذاك الفهم القلبي الذي به “يرى” أولاً سرّ الله ثم ينقله إلى أخوته (159).
51- درس الفلسفة الذي يقود إلى فهم أعمق وتأويل أصحّ للشخص والحرية وعلاقتهما بالعالم وبالله، هو عنصر جوهري في التنشئة الفكرية ومن مستلزماتها الملحّة، بالنظر أولاً إلى الرباط القائم بين المسائل الفلسفية والأسرار الخلاصية المدروسة في اللاهوت في ضوء الإيمان (160)، وبالنظر أيضاً إلى اتساع رقعة الثقافة التي تسودها اليوم “ذاتانية” تعتبر مقياساً للحقيقة وقاعدة. فلسفة سليمة بإمكانها وحدها أن تساعد المرشحين للكهنوت في وعي العلاقة الجوهرية القائمة بين العقل البشري والحقيقة، الحقيقة التي لا تتجلّى كاملة لنا إلاّ في يسوع المسيح. ويجب أن لا نقلّل من أهمية الفلسفة بحجة الحرص على تلك “الحقيقة اليقينية” التي تستطيع وحدها أن تبرّر بذل الذات كاملة ليسوع وللكنيسة. وليس من الصعب أن نفهم أن ثمة مسائل دقيقة جداً كهوية الكاهن والتزامه الرسولي والرسالي، وثيقة الارتباط بقضية الحقيقة في مؤداها الواقعي البعيد جداً عن المجرّدات. فإذا لم يكن المرء على بيّنة من الحقيقة، فكيف يقوى على أن يجنّد حياته كلّها ويدعو الآخرين إلى أنفاقها في هدف جدّي؟
ويجد الطالب في الفلسفة عوناً كبيراً ليضيف إلى تنشئته الفكرية ما يسمّى “بعشق الحقيقة”، أي ذاك الإجلال وذاك الكلف بالحقيقة الذي يهيب بالإنسان إلى الاعتراف بأن الحقيقة نفسها ليس الإنسان مبدعها ولا مقياسها، بل هي عطية إلى الإنسان من لدن الله، وهو الحقيقة القصوى؛ ,أن العقل البشري بإمكانه، وإن بوجه محدود وبشيء من العنت أحياناً، أن يتواصل إلى الحقيقة الراهنة والشاملة، الحقيقة التي تتوخّى الله ومعنى الوجود، وأخيراً إن الإيمان نفسه لا يستطيع أن يُنحّي العقل ويعفي من ضرورة “إعمال الفكر” في محتواه، كما يشهد بذلك القديس أوغسطينوس المعروف بثقافة ذهنه: “أردت أن أسبُر بالعقل ما آمنت به وحاججت كثيراً وجهدت كثيرا” (161).
العلوم المعروفة “بالعلوم الإنسانية” لها منفعة أكيدة لفهم الإنسان والمجتمع فهماً أعمق، وللاضطلاع بالمسؤوليات الراعوية بطريقة واقعية قدر الإمكان. هذه العلوم هي علم الاجتماع وعلم النفس والتربية والعلوم الاقتصادية والسياسية ووسائل الاتصال الاجتماعية. هذه العلوم الإنسانية، في إطار العلوم الموضوعية والوصفية، تساعد كاهن الغد في مواصلة عمل المسيح الذي صار معاصراً لأهل زمانه. وقد جاء في حديث للبابا بولس السادس: “لقد صار المسيح معاصراً لجماعة من الناس ونطق بلغتهم. فمن واجب الأمانة للمسيح أن يظل معاصراً لأهل زماننا (162).
52- التنشئة الفكرية لكاهن الغد تلقى في درس اللاهوت (العلم المقدس) مرتكزها الطبيعي والأهم. ولكن قيمة هذه التنشئة اللاهوتية وسلامتها منوطتان بما نكنّه لطبيعة علم اللاهوت من حرمة وتقيّد بمضامينه. وهذا ما لخّصه الآباء السينودسيون بقولهم: “علم اللاهوت يصدر عن الإيمان ويقود إليه” (163)، وهذا أيضاً ما علّمته الكنيسة دوماً وبخاصة المراجع الرسمية فيها. وهذا أخيراً ما نادى به اللاهوتيون العظام الذين أثروا الفكر الكنسي عبر الأجيال. وقد أوضح القديس توما (الأكويني) ذلك، بجلاء ما بعده جلاء، بقوله إن الإيمان هو منبت اللاهوت وحافزه الدائم (164)، وإن “علم اللاهوت كله” غرضه تغذية الإيمان (165).
ومن ثم، فاللاهوتي هو، قبل كل شيء، رجل إيمان، ولكنه مؤمن يبحث (الإيمان الباحث عن العقل)، ويتساءل ليتوصل إلى فهم أعمق لإيمانه. فالإيمان، من جهة، والفكر المنهجي، من جهة أخرى، مترابطان متداخلان، وبتناسقهما وتشابكهما تتميّز طبيعة علم اللاهوت الحق، وبالتالي مضامينه وأساليبه والروح الذي يهيمن على صياغة العقيدة المقدسة ودرسها.
ولا شك أن الإيمان، وهو منطلق اللاهوت وغايته، يخلق علاقة شخصية بين المؤمن ويسوع المسيح، ضمن الكنيسة. ومن ثم فاللاهوت يتميّز هو أيضاًَ بملامح كريستولوجية وكنسية، على المرشح للكهنوت أن يتبنّاها تبنّياً واعياً بسبب مداخلاتها ليس فقط في حياته الشخصية، بل في خدمته الراعوية أيضاً. فإذا كان الإيمان هو تقبّل كلام الله، فلا بدّ من أن ينتهي “جواباً” جذرياً من المؤمن إلى يسوع المسيح، الابن الذي أرسله الله إلى العالم، كلمةً ساميةً (را عب 1 / 1 -4). وينجم عن ذلك أن الفكر اللاهوتي لا يمكن أن يجد مرتكزه إلا في يسوع المسيح، حكمة الله، ولا يسوغ أن يُعتبر إلا اشتراكاً في “فكر” المسيح (را 1 قور 2 / 16) بشكل علم بشري (علم الإيمان). وينجم عن ذلك أيضاً أن الإيمان يدخل المؤمن في الكنيسة ويجعله شريكاً في حياة الكنيسة بصفتها جماعة إيمان. ومن ثم فعلم اللاهوت يملك بعداً كنسياً، لأنه تأمل في محتوى إيمان الكنيسة، من قبل لاهوتيّ هو عضو في الكنيسة (166).
هذه الاعتبارات الكريستولوجية والكنسية المقترنة بصميم طبيعة اللاهوت، تساعد المرشحين للكهنوت على أن ينموا في ذواتهم، إلى جانب الصرامة العلمية، حباً كبيراً ومضطرماً ليسوع المسيح ولكنيسته. هذا الحبّ الذي يزوّد حياتهم الروحية، يهيب بهم أيضاً إلى تحقيق خدمتهم تحقيقاً سخياً. وهذا، بالتحديد، ما توخاه المجمع الفاتيكاني الثاني عندما طالب بإعادة تنظيم برامج الدروس الكنسية، وتوزيع أفضل للمواد الفلسفية واللاهوتية، بحيث تساهم الفلسفة واللاهوت معاً في إشراع أذهان الاكليريكيين على سرّ المسيح الذي يخالج تاريخ الجنس البشري كله، ولا يني يعمل في الكنيسة وخصوصاً بواسطة الخدمة الكهنوتية” (167).
التنشئة الفكرية اللاهوتية والحياة الروحية، وبخاصة حياة الصلاة، تتماسكان وتتداعمان من غير أن يمسّ ذلك بجديّة البحث ولا بطعم الصلاة ومذاقها الروحي. ويحذرنا القديس بونافانتورا بقوله: “لا يتوهّمنّ أحد أن المطالعة تكفي بدون الصلاة، والتنظير بدون التقوى، والبحث بدون التعجّب، والملاحظة بدون الحبور، والنشاط بدون الورع، ومعرفة الذات بدون الحكمة التي يفيضها الله فينا (168).
53- التنشئة اللاهوتية مهمّة معقّدة وشاقّة: فالمرشح للكهنوت، يجب أن تتوفر له رؤية متماسكة وفسيحة للحقائق التي أوحى بها الله بيسوع المسيح، وفي الوقت نفسه خبرة كاملة وسليمة للإيمان كما تعيشه الكنيسة. من هنا ضرورة الوقوف على جميع الحقائق المسيحية، من غير انتقاصات اعتباطية، والاحاطة بها بطريقة منهجية. لا بد إذن من مساعدة الطالب في تحصيل خلاصة تضم مختلف الرفود اللاهوتية، وتتفرّد قيمتها بالتوفيق والتأليف بين مختلف عناصرها.
ويتجه الفكر اللاهوتي في اتجاهين: أولهما “درس كلام الله”، الكلام المسطور في الكتاب المقدس، كما تحتفل به الكنيسة وتعيشه تقليداً حياً، وكما تفسّره السلطة التعليمية فيها. وهذا يستلزم درس الكتاب المقدّس الذي يجب أن يكون للاهوت كله بمثابة الروح” (169)، والاطلاع على آثار آباء الكنيسة وعلى الليترجية وتاريخ الكنيسة وتعاليمها. وأما الاتجاه الثاني فيُعنى بالإنسان مخاطب الله: الإنسان المدعو إلى أن “يعتقد” و”يعيش” وينقل إلى الآخرين الإيمان المسيحي و”الخلقية” المسيحية. كل هذا يستتبع إذن درس اللاهوت النظري، واللاهوت الأدبي واللاهوت الروحي والحق القانوني واللاهوت الراعوي.
التوجّه إلى الإنسان المؤمن يحدو اللاهوت على أن يعنى عناية خاصة بالعلاقة الأسّية بين الإيمان والعقل، من جهة، ومن جهة أخرى، بالأحوال المرتبطة بالوضع الاجتماعي – الثقافي السائد في عصرنا. في الاتجاه الأول يسير اللاهوت الأساسي الذي يتوخّى واقع الوحي ونقله في الكنيسة. وأما الاتجاه الثاني فتندرج فيه علوم أكثر تطوراً، أمس واليوم، باعتبارها أجوبة على معضلات أقرب إلى الحسّ المعاصر. يدخل في هذا النطاق التعليم الاجتماعي الكنسي “الذي يدخل في إطار اللاهوت، وبخاصة اللاهوت الأدبي” (170)، والذي يجب أن نعدّه عنصراً جوهرياً ووسيلة من وسائل “البشارة الجديدة” (171). من هذا القبيل أيضاً درس الرساليات والشؤون المسكونية واليهودية والإسلام والديانات الأخرى غير المسيحية.
54- التنشئة اللاهوتية، في أيامنا، يجب أن تتنبّه لبعض المعضلات التي كثيراً ما تثير صعوبات وتحدث توترات وإشكالات في حياة الكنيسة. من هذا القبيل مشكلة العلاقة بين ما يصدر عن السلطة التعليمية في الكنيسة والنقاشات اللاهوتية. هذه العلاقة لا تتم دائماً بالطريقة المتمناة، أي بروح التعاون: “هناك، ولا شك، مواهب ووظائف مختلفة يتميّز بها كل من السلطة التعليمية في الكنيسة والفكر اللاهوتي، ومع ذلك فكلاهما يرميان، في النهاية، إلى هدف واحد: أن ينعم شعب الله بالحقيقة المحرّرة، ويغدو هكذا “نور الأمم”. هذه الخدمة للجماعة الكنسية تقيم وشائج متبادلة بين اللاهوتي والسلطة التعليمية. فالسلطة التعليمية تنقل تعليم الرسل نقلاً صحيحاً سليماً وتستفيد من العمل اللاهوتي لتدحض الاعتراضات وتحرّر الإيمان من تشاويهه، وتقترح، علاوة على ذلك، بالسلطة التي أكرمها بها يسوع المسيح، تقصيّات وإيضاحات وتطبيقات جديدة للعقيدة المنزلية، واللاهوت، من جهته، يحرز، بالفكر، فهماً يزداد عمقاً مع الأيام، لكلام الله المتضمّن في الكتاب المقدس، والمنقول نقلاً وفيّاً، عبر التقليد الكنسي الحيّ بإشراف السلطة التعليمية، ويسعى إلى تنوير العقل في فهم التعاليم المنزلية وأفراغها في صيغة نظيمة ومنهجية” (172). ولكن إذا اتفق لهذا التعاون أن يتقلص لأسباب مختلفة، يجب ألاّ نتيه في بحر من الغوامض والمغالط، بل يجب أن نميّز بوضوح بين “التعليم الشائع في الكنيسة وآراء اللاهوتيين ونزعاتهم المتطرفة” (173). فليس هناك من سلطة تعليمية “موازية”، لأن السلطة الوحيدة هي بين يدي بطرس والرسل، بين يدي البابا والأساقفة” (174).
هناك معضلة أخرى نقع عليها خصوصاً في المعاهد الأكاديمية حيث يتلقّى بعض الاكليريكيين تنشئتهم الفكرية: هي معضلة التوفيق بين الصرامة العلمية في علم اللاهوت وغايته الراعوية، وهي من ثمّ معضلة الطابع الراعوي في علم اللاهوت. والحقيقة إننا بإزاء اتجاهين في اللاهوت وطريقة تعليمه، لا يتناقضان بل يتكاملان ويساهمان، كلّ على طريقته، في “فهم الإيمان” فهماً كاملاً. فمن الثابت أن الطابع الراعوي في علم اللاهوت لا يعني أن هذا يُعوزه الطابع التعليمي أو الصبغة العلمية، بل يعني، بالعكس، أن اللاهوت يُؤهّل كهنة الغد لأن يبشرّوا بالإنجيل طبقاً للقرائن الثقافية المعاصرة، وأن يفهموا العمل الراعوي انطلاقاً من رؤية لاهوتية صحيحة. وهكذا يتضح لنا، من جهة، أن كل تحصيل يراعي الطابع العلمي الدقيق لكل من المواد اللاهوتية، يساعد راعي النفوس ومعلم الإيمان في اقتناء ثقافة أكمل وأعمق. ويتضح لنا، من جهة أخرى، أن كل تحسّس، لدى كاهن الغد، لمهمته الراعوية يؤجّج فيه الرغبة في الإقبال على درس اللاهوت بطريقة جدّية وعلمية.
ثمة معضلة أخرى نلمسها اليوم لمساً قوياً، وهي الضرورة القاضية بأن نطعّم الثقافات بالإنجيل ونؤقلم الإنجيل في الثقافات. وتلك، ولا شك، مسألة راعوية بالدرجة الأولى، يجب أن نعالجها معالجة وافية وبكثير من التيقّظ، طوال فترة التنشئة الكهنوتية: “في الظروف الراهنة، وفي غير موقع من العالم، تُعتبر المسيحية ديناً غريباً عن الثقافات التليدة والجديدة. من الأهمية إذن بمكان، في كل تنشئة فكرية وإنسانية، أن نعتبر “الأقلمة” مهمة ضرورية وجوهرية” (175). وهذا يفرض علينا، تمهيداً، لاهوتاً صحيحاً نابعاً من المبادئ الكاثوليكية في شأن “الأقلمة”. هذه المبادئ ترتبط بسرّ تجسّد كلمة الله، وبالانتروبولوجية المسيحية، وتلقي ضوءها على “الأقلمة” في مفهومها الحقيقي. هذه الأقلمة في مواجهة الثقافات المنتشرة في كل أنحاء العالم، على تنوعها بل على تضاربها أحياناً، إنما هي جواب طاعة لما أمرنا به المسيح من أن نبشر بالإنجيل جميع الأمم إلى أقاصي الأرض. ولكن هذه الطاعة لا تعني الأخذ بمذهب التلفيق أو اللجوء إلى تكييف البلاغ المسيحي، بل دخول الإنجيل دخولاً حيّاً في تضاعيف الثقافات، وتجسده فيها، متخطياً العناصر الثقافية المنافية للإيمان والمسلكية المسيحية، ومرتقياً بقيمها إلى مستوى سرّ الخلاص النابع من المسيح (176). مسألة الأقلمة يمكن أن تسترعي انتباهاً خاصاً في حال انتماء المرشحين للكهنوت إلى ثقافات أهلية: هؤلاء المرشحون بحاجة إلى مناهج تربوية مناسبة، تجنّبهم أحد محذورين: أما التساهل والاكتفاء بتربية ركيكة القيم الإنسانية والمسيحية والكهنوتية، وأما التغاضي والأعراض عما تتضمنه ثقافاتهم وتقاليدهم من حسنات وقيم (177).
55- امتثالاً لما ورد في المجمع الفاتيكاني الثاني من تعاليم وتوجيهات، وتطبيقاً لما أضيف بعد ذلك في المنهج الأساسي للمؤسسة الكهنوتية من قواعد تطبيقية، تمتّ في الاكليريكيات حركة تحديث واسعة النطاق في مناهج التعليم الفلسفي، والتعليم اللاهوتي خصوصاً. هذا “التحديث”، مع ما يعوزه أحياناً من تعديلات وتطويرات، قد ساهم في الإجمال، مساهمة فعالة، في تحسين الثقافة المعطاة في إطار التنشئة الفكرية. “وقد كرّر الآباء السينودسيون، في هذا السياق، مراراً وبكثير من الوضوح، مطالبتهم الملحّة في أن يطبَّق في الاكليريكيات ودور التربية، البرنامج الدراسي الأساسي سواء البرنامج العام أم البرنامج الخاص لمختلف البلدان والمجالس الأسقفية” (178).
ولا بد من أن نكافح بحزم ما هنالك من نزعة إلى تخفيض مستوى الدروس وجدّيتها، وهي ظاهرة ملحوظة في بعض المؤسسات الكنسية، ومردّها، جزئياً، قصور التنشئة الفكرية الأساسية وثغراتها لدى الطلاب البادئين مرحلة الدروس الفلسفية واللاهوتية. وإن الوضع المعاصر نفسه يفرض على المعلمين أن يكونوا دوماً أكثر بمستوى أحوالنا المعقدة، وأهلاً لأن يواجهوا بجدارة ووضوح وعمق برهان، الأسئلة المطروحة على إنسان اليوم والتي لن يجد إلا في إنجيل يسوع المسيح أجوبتها الوافية الشافية.
التنشئة الراعوية: الاشتراك في محبة يسوع المسيح الراعي الصالح
56- التنشئة الكهنوتية كلها هدفها إعداد المرشحين للكهنوت لأن يكونوا شركاء في محبة يسوع الراعي الصالح. وقد جاء تأكيد ذلك بوضوح في القرار المجمعي: “التنشئة الكهنوتية”، في معرض كلامه عن الإكليريكيات الكبرى: “التنشئة الكاملة لطلاب الإكليريكيات الكبرى يجب أن تسعى إلى أن تجعل منهم خداما حقيقيين للنفوس على مثال يسوع المسيح المعلم والكاهن والراعي. يجب إذن أن يُهيّأ ولخدمة الكلمة بحيث يفقهون كلمة الوحي الإلهي بطريقة دائماً أفضل، ويستوعبونها بالتأمل ويعبّرون عنها باللسان والسيرة. ويتهيأون لخدمة العبادة والتقديس بحيث يقبلون على الصلاة وعلى الاحتفالات والليترجية المقدسة، ويمارسون عمل الخلاص بذبيحة الإفخارستيا والأسرار، ويهيّأون لخدمة الرعاية بحيث يعرفون كيف يقدّمون للبشر صورةً حقيقية للمسيح الذي “لم يأت ليُخدم بل ليخدم، ويبذل نفسه فداء عن كثيرين” (مر 10 / 45، يو 13 / 12 – 17)، حتى إذا ما طوّعوا ذواتهم لخدمة الجميع، ربحوا الأكثرين” (را قور 9، 19) (179).
يركّز النص المجمعي على العلاقة الوثقى القائمة بين مختلف نواحي التنشئة الإنسانية والروحية والفكرية، وفي الوقت نفسه على الغاية الراعوية التي تستقطبها كلها. فالغاية الراعوية تؤمّن للتنشئة الإنسانية والروحية والفكرية مضامين محددة وخصائص واضحة، توحّد التنشئة الكهنوتية كلها وتميّزها.
وعلى غرار كل تنشئة أخرى، تتحقق التنشئة الراعوية، بارتكازها على تفكير ناضج وتمارين عملية، وتمتد بجذورها الحية إلى الروح، نواة كل شيء ومنطلق كل زخم ونموّ.
هناك إذن مادة لاهوتية راهنة لا غنى عنها، هي مادة اللاهوت الراعوي أو العملي، وهي تأمل علمي في الكنيسة التي تتكوّن كل يوم، عبر التاريخ، بقوة الروح، أي الكنيسة باعتبارها “سرّ الخلاص الشامل” (180)، وعلامة “ووسيلة” حيّة للخلاص بيسوع المسيح، عبر الكلمة والأسرار وخدمة المحبة. المهمة الراعوية ليست مجرّد فنّ، ولا مجموعة من الموعظات والخبرات والوصفات، بل هي تنعم بملء كرامتها اللاهوتية لأنها تستقي من الإيمان مبادئ العمل الراعوي في الكنيسة وفي التاريخ، تلك الكنيسة التي “تلد” كل يوم الكنيسة نفسها، على حدّ تعبير بيدوس الجليل (181). من بين تلك المبادئ والضوابط، قاعدة في غاية الأهمية لا بدّ من التنويه بها وهي قاعدة التمييز الإنجيلي للأوضاع الاجتماعية – الثقافية والبيئة الكنسية التي يتم فيها العمل الراعوي.
دراسة اللاهوت الراعوي يجب أن تُلقي بضوئها على النشاط العملي الذي يجب أن يعكف عليه طلاب الكهنوت خلال دورات راعوية تدريبية تتم بطريقة تدريجية وبالتنسيق دائماً مع باقي وجوه التنشئة. هذه “الاختبارات” الراعوية قد تكون بمثابة “ابتداء راعوي” حقيقي يدوم فترة من الزمن ويجب أن يخضع لتقييم منهجي دقيق.
ولكن هذه التنشئة الراعوية بوجهيها النظري والعملي، يجب أن تعيد الطالب دوماً إلى معين باطن لا بد من العمل على صونه والتنويه به: وهو الاشتراك المتأصّل، يوماً بعد يوم، في محبة يسوع الراعوية؛ هذه المحبة التي حفزت ودعمت عمل يسوع الخلاصي، يجب أن تحفز أيضاً وتدعم مهمة الكاهن، بفيض الروح عليه في سرّ الكهنوت. لا بد إذن من تنشئة لا تكتفي بأن تجهّز الكاهن بكفاءة راعوية علمية وحذاقة عملية، بل تكفل له أيضاً وخصوصاً أن ينمو في المسيح الراعي الصالح، متبنيّاً مشاعره وتصرفاته: “تخلّقوا بخلق المسيح” (فيل 2 / 5).
57- التنشئة الراعوية، بهذا المفهوم، لا يمكن أن تعتبر مجرّد تلقين لتقنيات راعوية يتدرّب عليها طلاب الكهنوت. الهدف من التربية الاكليريكية أن يتعلم هؤلاء أن يقتنوا حساً راعوياً، فيضطلعوا بمسؤولياتهم اضطلاعاً واعياً ناضجاً، ويروزوا الظروف والمعضلات ويقيموا سلّم الأولويات، ويجدوا الوسائل لتحقيقها، كل هذا في ضوء الإيمان وطبقاً للمبادئ اللاهوتية والراعوية.
هذه الخبرة الأولية والتدرّجية تدخل طلاب الكهنوت في جو التقاليد الراعوية الحيّة التي تتميز بها كنيستهم الخاصة، وتساعدهم في إفساح أفق ذهنهم وقلبهم على قياس حياة الكنيسة كلها ونشاطها الرسالي، وفي التدرّب على بعض أشكال التعاون بينهم ومع الكهنة الذين يرسلون لمهاونتهم؛ ويعود لهؤلاء مسؤولية خطيرة في تربيتهم الراعوية بالتواصل مع ما يتلقونه في الاكليريكية.
في اختيار الأمكنة والخدمات المطلوبة للخبرات الراعوية، يجب أن تُخصّ الرعية بالاهتمام (182): فهي الخلية الحية لمختللف الخبرات الراعوية، وفيها يواجه المتدربّون المعضلات التي سيواجهونها غداً. وقد قدّم الآباء السينودسيون مجموعة من الأمثال الواقعية: عيادة المرضى، العناية بالمهجرين والمنفيين والمشردين، والخدمة الاجتماعية على أنواعها. وقد أوردوا خصوصاً ما يلي: “لا بد للكاهن من أن يشهد لمحبة المسيح نفسه الذي “راح من مكان إلى آخر يعمل الخير” (رسل 10 / 38). وعلى الكاهن أيضاً أن يكون الآية المرئية لمحبة الكنيسة، الأمّ والمعلّمة. ولأن إنسان اليوم عرضة للمكاره، وخصوصاً الإنسان الذي يسحقه الفقر المخزي والعنف الأعمى والحكم الجائر، لا بدّ لرجل الله المعدّ لكل عمل صالح (را 2 طيم 3 / 17) من أن يطالب بحقوق الإنسان وكرامته. ولكن عليه أن يحترس من الايديولوجيات الزائفة، وألاّ ينسى، وهو يلاحق قضية التطور والرقي، أن العالم لا يفتديه إلا صليب المسيح” (183).
مجموع هذه النشاطات وأشباهها تعلّم طالب الكهنوت أن يجعل من “سلطته” في الجماعة، رسالة و”خدمة”، فيتجنّب كل استعلاء وكل ممارسة لسلطته لا تبرّرها المحبة الراعوية.
لتحقيق تنشئة مناسبة، لا بد لهذه الاختبارات المتنوعة التي يقوم بها طلاب الكهنوت من أن تتخذ طابع “الخدمة”، وتبقى في علاقة وثيقة مع جميع ما يتطلبه الأعداد للكهنوت، في إطار خدمة الكلمة والعبادة والرئاسة، على ألاّ يعود ذلك بالضرر على الدروس. هذه الخدم يمكن أن تصبح تجسيماً واقعياً لرتبة القارئ والمرافق والشماس الإنجيلي.
58- العمل الراعوي، غايته الطبيعية إنعاش الكنيسة التي هي، في جوهرها، “سرّ” و”شركة” ورسالة. ومن ثم فالتنشئة الراعوية عليها أن تراعي هذه الاعتبارات في ممارسة الخدمة.
إنه في غاية الأهمية أن نعي أن “الكنيسة سراً” أي عمل إلهي، ثمرة روح المسيح، علامة نعمة فاعلة، حضور الثالوث في الجماعة المسيحية. هذا الوعي، بدلاً من أن يخفّف معنى المسؤولية عند الراعي، يقنعه، بالعكس، أن نموّ الكنيسة عمل مجّاني منوط بالروح، وإن خدمتها – الموكولة بنعمة إلهية إلى المسؤولية البشرية الحرة – هي خدمة العبد البطال الذي يذكره الإنجيل (را لو 17 / 10).
وأما وعي الكنيسة “شركةً”، فيُعدَّ طلاب الكهنوت لأن يمارسوا مهامَهم الرعائية ممارسة جماعية بالتعاون بين مختلف أعضاء الكنيسة: الكهنة والأساقفة، الكهنة الأبرشيين والرهبان، الكهنة، والعلمانيين. ولكن مثل هذا التعاون يفترض أولاً أن يعرفوا ويقدّروا مختلف العطايا والمواهب، ومختلف الدعوات والمسؤوليات التي يوزعها الروح على أعضاء جسد المسيح ويكلها إليهم؛ ويفترض أيضاً أن يدركوا، بطريقة دقيقة وواضحة، معنى هويتهم وهوية الآخرين في الكنيسة، ويقتضيهم قدراً من الثقة المتبادلة وطول الأناة والوداعة والتفهم والإصغاء؛ ويتجذّر خصوصاً وأخيراً في محبة للكنيسة أعظم من محبتهم لذواتهم أو للجماعات التي ينتمون إليها. وأنه لمن الأهمية بمكان أن يهيّأ كهنة الغد للتعاون مع العلمانيين “فيكونوا مستعدين – على حد قول المجمع – لأن يستمعوا إلى العلمانيين ويراعوا تطلعاتهم مراعاة أخوية ويستعينوا بما لهم من خبرة ومقدرة في مختلف ميادين النشاط البشري، فيتمكنوا وإياهم من الوقوف على علامات الأزمنة” (184). هذه المحبة الراعوية تجاه العلمانيين قد نوّه بها أيضاً السينودس الأخير: “يجب على طالب الكهنوت أن يصبح أهلا لأن يدل المؤمنين – وبخاصة الشبَّان – ويهديهم إلى مختلف الدعوات (الزواج، الخدمات الاجتماعية، الرسالة، الخدم الكنسية، المسؤوليات الراعوية، الحياة المكرسة، مسؤوليات الحياة السياسية والاجتماعية، البحوث العلمية، التعليم…). ويجب خصوصاً أن ننوّر العلمانيين وندعمهم في دعوتهم إلى التزام مسؤولياتهم في العالم وتطوير المجتمع في ضوء الإنجيل، معترفين بقيمة هذا الالتزام وحرمته (185).
على طالب الكهنوت أن يعي الكنيسة أخيراًَ “شركة رسولية”، فيهوى ويعيش هذه المزية الرسالية الجوهرية في الكنيسة وفي مختلف نشاطاتها الراعوية، ويفسح في ذاته كل مجال وأهبةٍ لمختلف إمكانات البشارة بالإنجيل في عصرنا، مع التنبّه لأهمية وسائل الإعلام في هذا المجال (186). وعليه أن يتأهب لخدمة بإمكانها، في الواقع، أن تقتضيه التطوع، تلبية لصوت الروح القدس وصوت أسقفه، للمناداة بالإنجيل خارج حدود بلاده (187).
2- أوساط التنشئة الكهنوتية
جماعة الاكليريكية الكبرى
59- ضرورة الاكليريكية الكبرى – أو البيت الرهباني المماثل – لتنشئة طلاب الكهنوت، أكّدها المجمع الفاتيكاني الثاني تأكيداً جازماً (188)، وأعاد تأكيدها السينودس بالطريقة الآتية: “يجب أن نؤكد، مرة أخرى، أن مؤسسة الإكليريكية الكبرى، كأحسن مكان للتربية الكهنوتية، هي البيئة الطبيعية، حتى من الناحية المادية، لحياة جماعية وتراتبية، والدار المثلى لتنشئة المرشحين للكهنوت، بمعية رؤساء مكرسين حقاً لهذه المهمة. هذه المؤسسة أخرجت ثمارأً وأفردة مدى الأجيال ولا تزال تخرجها في العالم كله (189).
الإكليريكية هي ولا شك حيّز في الزمن والمكان، ولكنها خصوصاً أسرة تربوية ماضية في طريقها: هي الجماعة التي يقيمها الأسقف ليتسنّى لكل من دعاه الرب للخدمة كما دعا الرسل، أن يعيش الخبرة التربوية التي منحها الرب للاثني عشر. هناك، في الواقع، صلة حياة مديدة وحميمة مع يسوع، يقدمها الإنجيل كتمهيد لا بد منه للخدمة الرسولية. هذا العيش الحميم قد أهاب بالرسل أن يحققوا، بطريقة فريدة وصريحة، التجرّد المقترح على جميع التلاميذ، إلى حدّ ما، تجاه المحيط العيلي والعمل المألوف وأغلى المعزّات (را مر 1 / 16 – 20، 10 / 28، لو 9/ 23، 57 – 62، 14 / 25 – 27). وقد أوردنا مراراً ما جاء في إنجيل مرقص من وصف الرباط الوثيق بين الرسل والمسيح وبعضهم ببعض: فقبل أن يرسلهم يبشرون ويصنعون العجائب دعاهم ليكونوا صحابته” (مر 3 / 14). الإكليركية هي إذن، في جوهر لبها وعلى طريقتها، استمرار في الكنيسة للجماعة الرسولية المجتمعة حول يسوع والمصغية إلى كلامه، والمتقدمة صوب الاختبار الفصحي، في ترقب فيض الروح لأجل الرسالة. ذاك هو المثال الذي يجب أن تصبو إليه كل إكليريكية، بصرف النظر عمّا مرّت به عبر التاريخ، كمؤسسة بشرية، من أشكال متنوعة وتقلبات كثيرة. وإنها لتجد في عمق هويتها ما يحدوها دائماً على أن تقيم لذاتها صيغة واقعية ووفية للقيم الإنجيلية التي تستوحيها، وقادرة على التجاوب مع الأوضاع والحاجات المعاصرة.
الاكليريكية، في حدّ ذاتها، شكل أصيل من أشكال الحياة الكنسية: فيها يمثل الأسقف عبر الخدمة التي يؤديها الرئيس مع المربين الآخرين في روح المسؤولية المشتركة والتضامن، بإشراف الأسقف وحفزه، لنموّ الطلاب راعوياً ورسولياً. وهناك أيضاً، في أسرة الاكليريكية، الأعضاء الآخرون يجمعهم الروح القدس في أخوّة فريدة ويتعاونون، كل حسب موهبته، في تنمية الجميع في الإيمان والمحبة. وهكذا يتأهّب الطلاب لأن يصيروا كهنة ويواصلوا، من ثمّ، في الكنيسة وفي التاريخ، حضور يسوع المسيح المخلص والراعي الصالح.
حتى على الصعيد البشري، يجب أن تصبو الاكليريكية الكبرى إلى أن تصير “جماعة مترابطة برباط وثيق من الصداقة والمحبة، لإقامة أسرة حقيقية تنضح فرحاً” (190). على الصعيد المسيحي، يجب أن تنشأ الاكليريكية – على حدّ قول الآباء السينودسيين – على غرار “جماعة كنسية”، “جماعة تلاميذ للرب، يقيمون ليترجيةً واحدة تملأ حياتهم روح صلاة، ويجتمعون كل يوم لاستماع كلمة الله والتأمل فيها، ويحتفلون بسرّ الإفخارستيا، ويتّحدون في ممارسة المحبة الأخوية وروح العدالة. في هذه الجماعة يتلألأ روح المسيح وحب الكنيسة، بفضل نمو الحياة الجماعية والحياة الروحية عند كل من أعضائها” (191). ويتابع الآباء السينودسيون كلامهم، مؤكدين بكل صراحة وواقعية: “على الاكليريكية، باعتبارها جماعة كنيسة، ملتحقة بأبرشية أو أكثر، أو حتى باعتبارها جماعة رهبانية، أن تنمي معنى الشركة الكنسية بين الطلاب وأسقفهم وبين الطلاب والمجموعة الكهنوتية في الأبرشية، بحيث يشاركونهم رجاءهم ومخاوفهم، ويفسحون انفتاحهم هذا على حاجات الكنيسة جمعاء” (192).
لا بد إذن، في تنشئة طلاب الكهنوت والخدمة الراعوية – وهي كنسيّة من طبيعتها – من أن ننظر إلى الاكليريكية لا بنظرة خارجية سطحية، كمجرد مكان للسكن والدراسة، بل بنظرة داخلية عميقة، كأسرة كنسية مميّزة، تجدّد خبرة الاثني عشر حول يسوع (193).
60- الاكليريكية هي إذن جماعة كنسية تربوية، أو بالأحرى، جماعة خاصة هدفها التربية. وما يميّز تكاوينها إنما هو الهدف المحدد الذي ترمي إليه وهو مرافقة دعوة المرشحين للكهنوت، وبالتالي تمييز هذه الدعوة، والمساعدة في تلبيتها والتأهب لنيل سرّ الكهنوت مع النعم والمسؤوليات التي يحملها والتي بها يتصوّر الكاهن بصورة يسوع المسيح الرأس والراعي ويصبح أهلاً لمشاركته رسالة الخلاص في الكنيسة وفي العالم.
فإذا كانت الاكليريكية جماعة تربوية فيجب أن تكون الحياة فيها، بجميع تعابيرها ومختلف نواحيها، ممحورة حول التنشئة الإنسانية والروحية والفكرية والراعوية لكهنة الغد: هذه التنشئة، مع ما يداخلها من عناصر كثيرة مشتركة بينها وبين التنشئة الإنسانية والمسيحية لكل أعضاء الكنيسة، تتميز بمضامين وأنماطٍ وخصائص لها علاقة وثقى بالهدف المنشود: أي الأعداد للكهنوت.
والحقيقة أن مضامين العمل التربوي وأنماطه تفرض على الاكليريكية أن تملك برمجة واضحة، أي برنامج حياة يتمتّع بوحدة عضوية متماسكة إلى جانب تناغمه مع الغاية الوحيدة التي تبّرر وجود الاكليريكية: أي الأعداد للكهنوت.
وقد كتب الآباء السينودسيون، في هذا السياق: “على الاكليريكية، باعتبارها جماعة تربوية، أن تتبنّى برنامجاً واضح المعالم، يتميّز بوحدة الادراة الممثلة برئيس الاكليريكية ومعاونيه، وبالتناغم في نظام الحياة والنشاط التربوي، وبالمبادئ الأساسية التي تقوم عليها الحياة الجماعية التي تفترض، هي أيضاً، مقومات جوهرية تدخل في نطاق المهمة التربوية. هذا البرنامج يجب أن يخضع، بلا تردد ولا مواربة، للغاية المحدّدة التي تبرر وحدها وجود الاكليريكية: أي تنشئة كهنة الغد ورعاة الكنيسة (194). ولكي يكون هذا البرنامج مناسباً حقاً وفعالاً، يجب أن تتحدد خطوطه العريضة بطريقة عملية ومفصّلة، ببعض القواعد الخاصة الهادفة إلى تنظيم الحياة الجماعية وتحديد ما يجب من الوسائل والتواقيت.
ثمة وجه آخر لا بد من الإشارة إليه: العمل التربوي، من طبيعته، مرافقة أشخاص واقعيين يعيشون في التاريخ ويتلمّسون أهدافاً وخيارات ونماذج حياة. وهذا بالضبط ما يفرض على المهمة التربوية أن تجمع، في التناغم، الرؤية الواضحة للهدف المنشود، وحثّ الطالب على السير جدّياً إليه، والسهر على “المسافر”، أي على ذاك الإنسان الحيّ المقصود بالتنشئة وما يحيط به من أوضاع ومشاكل وعقبات ومراحل سير ونموّ. كل هذا يقتضي كثيراً من الفطنة والمرونة واقلاعاً عن كل مساومة على القيم وعلى معنى الالتزام الواعي والحرّ، وقلباً مفعماً بحب حقيقي واحترام خالص للمتقدم في طريق الكهنوت، ولأوضاعه الخاصة. وهذا لا ينطبق فقط على كل من الطلاب، بل على مختلف القرائن الاجتماعية والثقافية التي تندرج فيها حياة الاكليريكيات وتاريخها. من هنا واجب التحديث في كل ما يتعلق بالمهمة التربوية. وقد أكّد الآباء السينودسيون ذلك تأكيداً جازماً، خصوصاً في ما يتعلق بتكاوين الاكليريكية: “مع احترام القيم التقليدية المأثورة في الاكليريكيات، يعرب السينودس عن رغبته في استمرار السعي الاستشاري، ضمن المجالس الأسقفية، حول ما تتطلبه التنشئة الكهنوتية من حاجات معاصرة، كما نصّ على ذلك القرار المجمعي في “التنشئة الكهنوتية (فقرة 1)، وقرارات سينودس 1967. ولا بد، من ثمّ، من إعادة النظر، بطريقة مناسبة، في المناهج التربوية المرعية في اكليريكيات كل أمّة وكل طقس، إما عن طلب من المجالس الأسقفية، وإما بمناسبة الزيارات الرسولية للاكليريكيات في مختلف أنحاء العالم، وذلك لإدخال أنماط تربوية تتماشى وحاجات الشعوب المتمتعة بحضارات محلية قديمة، وحاجات الدعوات المتأخرة والدعوات الرسالية…” (195).
61- هدف الاكليريكية وبنيتها التربوية يفرضان على طلاب الكهنوت ألا يلتحقوا بها إلا بعد فترة من الاستعداد والتأهب. هذه الفترة الاستعدادية لم تكن لتطرح مشكلة خاصة، حتى هذه السنين الأخيرة؛ فقد كان المرشحون للكهنوت، آنذاك، يُقبلون عادة من الاكليريكيات الصغرى، أو من أوساط مسيحية وجماعات كنسية كانت توفّر للجميع، بلا استثناء، ثقافة مسيحية وتربية دينية راهنة.
ولكن الوضع تغير في مناطق كثيرة. فهناك فرق واسع بين النمط الحياتي والتنشئة الأساسية التي يحظى بها الأولاد والفتيان والشبان حتى العائشون منهم في بيئة مسيحية والمنخرطون في حياة الكنيسة، من جهة، ونمط حياة الاكليريكية ومقتضياتها التربوية، من جهة أخرى. ففي هذه القرائن، وبالاتحاد مع الآباء السينودسيين، أطلب أن تُلحظ فترةٌ إعدادية كافية، تسبق تنشئة الطلاب في الاكليريكية: “من المفيد أن تكون هناك فترة إعداد إنساني ومسيحي وثقافي وروحي لطلاب الاكليريكية الكبرى. ولكن لا بد لهؤلاء الطلاب من أن يتحلّوا ببعض المزايا: خلوص النية، وقدر كافي من النضج الإنساني ومعرفة واسعة لعقيدة الإيمان وبعض الالمام بطرائق الصلاة ونمط حياة ينسجم مع التقليد المسيحي. وليكن لهم من السيرة ما يعبّر، طبقاً للعادات المرعية في مناطقهم، عن سعيهم إلى الله وإلى الإيمان” (را بشرى الإنجيل، فقرة 48) (196). “المعرفة الواسعة لعقيدة الإيمان” التي يتكلم عنها الآباء السينودسيون مطلوبةٌ قبل الشروع في دراسة اللاهوت: فالمرء لا يستطيع أن ينمو في فهم الإيمان، قبل أن يقف على محتوى الإيمان. هذه الثغرة يمكن ردمها بعد صدور كتاب “التعليم المسيحي الشامل”.
بينما الاقتناع من ضرورة هذه الفترة الاعدادية قبل الانضمام إلى الاكليريكية آخذ في الانتشار، نجد هناك تضارباً في الآراء حول مضامينها ومزاياها وأهدافها: أهي تنشئة روحية لتمييز الدعوة أم هي تنشئة فكرية ثقافية؟ هذا ولا يسعنا أن نغفل الفروق الكثيرة والعميقة القائمة ليس فقط بين الطلاب أنفسهم، بل بين المناطق والبلاد أيضا. كل هذا يدعونا إلى تمديد هذه المرحلة من التمحيص والاختبار لنتمكن من أن نحدّد، بطريقة أوفى وأدق، مقومات هذا التمهيد أو هذه “الفترة الاعدادية”، من حيث مدتها ومكانها وشكلها وبرامجها، بحيث تتناسق مع ما يعقبها من سني التنشئة في الاكليريكية.
في هذا السياق أودّ أن أكرر شخصياً وأعرض ثانية على مجمع التربية الكاثوليكية، الطلب الذي نصّ عليه الآباء السينودسيون: “يطلب السينودس من مجمع التربية الكاثوليكية أن يجمع كل المعلومات عما جرى من اختبارات وما يجري حتى اليوم في شأن هذه التنشئة الاعدادية، وينقلها في الوقت المناسب إلى المجالس الأسقفية (197).
الاكليريكية الصغرى وما هنالك من أشكال أخرى لمرافقة الدعوات
62- تشهد خبرة طويلة أن أول تفتح للدعوة الكهنوتية يتم عادة في فترة ما قبل الفتوّة أو في مطالع سن الشباب. وحتى الذين يتأخرون في قرار دخولهم الاكليريكية، ليس من النادر أن نجد عندهم أثراً لدعوة الله لهم منذ زمن بعيد. تاريخ الكنيسة لا يني يخبر عن نداءات للرب في ريعان الشباب. ويشرح القديس توما الأكويني، مثلاً أن يسوع قد خصّ الرسول يوحنا بمحبته “بسبب حداثة سنه”، ويخلص إلى النتيجة التالية: “هذا يفهمنا أن الله يحب حبّاً خاصّاً الذين يقفون ذواتهم لخدمته منذ مطلع شبابهم (198).
الكنيسة تعنى ببذور الدعوة هذه، المزروعة في قلوب الأولاد، وبواسطة الاكليريكيات الصغرى تحقق أول مرحلة من مراحل تمييزها ومرافقتها المتنبّهة. هذه الاكليريكيات لا تزال قائمة في أنحاء مختلفة من العالم، تسدي عملاً تربوياً نفيساً للسهر على بذور الدعوة الكهنوتية وتنميتها، ومساعدة الطلاب في التثبّت منها والتأهب لتلبيتها. وإنما الغرض من هذه المؤسسات التربوية العمل، بطريقة مناسبة ومتدرّجة، على إرساء تنشئة إنسانية وثقافية وروحية تقود الفتى إلى طريق المدرسة الكبرى مجهزّاً بأساس مناسب ومتين.
“إتبّاع المسيح الفادي بروح سخي وقلب نقي” ذاك هو الهدف الموضوع للاكليريكية الصغرى كما بيّنه القرار المجمعي في “التنشئة الكهنوتية”، راسماً هكذا نسقها التربوي: “يعيش الطلاب في ظلّ رعاية رؤسائهم الأبوية وبمساعدة أهلهم المفيدة، عيشة تتفق وسنّ الشباب وعقليته وتطوره، وتجري تماماً على سنن سيكولوجية سليمة، ولا تستثنى منها الخبرة الملائمة للحقائق الإنسانية ولا العلاقات الطبيعية بذويهم” (199).
ويمكن أن تكون الاكليريكية الصغرى مركزاً في خدمة الأبرشية لاقتراح أشكال مفيدة من الرعاية للشباب الباحثين عن دعوتهم، وتزويدهم بالمعلومات اللازمة، أو الذين قرروا اتّباعها ولكنهم مجبرون على تأجيل دخولهم الاكليريكية، لأسباب متنوعة، عيلية أو مدرسية.
63- حيث لا يمكن إنشاء اكليريكية صغرى – وهي، على ما يبدو، ضرورية ومفيدة جداً في كثير من المناطق” (200) – لا بد من إقامة مؤسسات أخرى بديلة “كفرق الداعوات”، للفتيان والشبان. هذه الفرق، مع أنها غير ثابتة، يمكن أن توفّر لأصحابها، في حيّز الجماعة، ظروفاً مؤاتية لترسيخ الدعوة وإنمائها. هؤلاء الأولاد والفتيان، مع أنهم يعيشون مع ذويهم ويخالطون الجماعة المسيحية التي تعاضدهم في طريق دعوتهم، يجب ألا نتركهم وشأنهم. إنهم بحاجة إلى فريق خاص أو جماعة مرجعية يستندون إليهما لإنجاز مسيرة الدعوة التي بدأتها فيهم نعمة الروح القدس.
وإننا لنلحظ اليوم ما عهدته الكنيسة دوماً عبر تاريخها، من إقبال كثيف على الكهنوت، وبمظهر جديد ومشجّع، من قبل البالغين، بعد فترة قصيرة أو طويلة من الحياة العلمانية والممارسة المهنية. وليس من الممكن دائما، ولا من المستحسن أحياناً كثيرة، أن نفرض على هؤلاء البالغين أن ينخرطوا في المسيرة التربوية المرعية في الاكليريكية الكبرى، بل علينا أن نجد لهم، بعد تمحيص دقيق لصحة دعوتهم، طريقة خاصة من طرائق المرافقة والتربية تكفل لهم، مع ما يلزم من مقتضيات التكييف، ما يحتاجون إليه من تنشئة روحية وفكرية (201). وهناك قدر لا بد منه من الاتصال برفاقهم الآخرين من طلاب الكهنوت، والالتحاق، من فترة إلى فترة، بجماعة الاكليريكية الكبرى، ليتسنّى لهم الاندماج الكامل في الجسم الكهنوتي الواحد، والاتحاد به، اتحاداً حميماً ووثيقاً.
3- المسؤولون عن التنشئة الكهنوتية
الكنيسة، والأسقف
64- بما أن تنشئة المرشحين للكهنوت جزء لا يتجزأ من المهمة الراعوية التي تضطلع بها الكنيسة في خدمة الدعوات، لا بد من القول أن الكنيسة هي الشخص المعنوي الذي يحظى بالنعمة والمسؤولية لمرافقة من دعاهم الرب نفسه ليكونوا خدامه في الكهنوت.
بهذا المعنى يمكننا القول أن معرفة سرّ الكنيسة هو الذي يساعدنا في تحديد وتوضيح المهمة التي تقع على عوائق أعضائها سواء كأفراد، أم كأعضاء في جماعة، في تنشئة طلاب الكهنوت.
ولا غرو أن الكنيسة، في صميم هويتها، هي “ذكرى” يسوع المسيح، و”سرّ” حضوره بيننا ولنا. هذا الحضور الخلاصي إنما هو حافز الدعوات إلى الكهنوت، بل هو أيضاً حافز المرافقة التي يحتاجها المدعوون ليتحققوا من نعمة الرب ويلبّوها تلبية حرّة ومفعمة حبّاً. ولا شك أن روح يسوع هو الذي ينيرنا ويقوّينا في تمييز الدعوة ومرافقتها. وليس من تنشئة كهنوتية صحيحة بدون نعمة روح المسيح. هذه الحقيقة، كل مربّ للناس يجب أن يكون مقتنعاً منها اقتناعاً كاملاً. وكيف يمكن أن لا نتوسم في ذلك “رفداً” مجانياً وفعّالاً له أعظم وزن في الاضطلاع بمهمة التنشئة الكهنوتية؟ وكيف يمكن أن لا نجذل لما يتمتع به كل مربّ بشري من كرامة سامية، وقد غدا، نوعاً ما، ليطالب الكهنوت، ممثلاً مرئياً للمسيح؟ وإذا كانت مهمة التنشئة الكهنوتية، في جوهرها، أعداد رعاة للغد، على صورة يسوع المسيح الراعي الصالح، فمن يكون أصلح من يسوع نفسه، يفيض من روحه، لأن يوزع وينفح تلك المحبة الراعوية التي عاشها حتى التضحية الكاملة بحياته (را يو 15 / 13، 10 / 11) والتي يريد أن يعيشها كل الكهنة من بعده؟
أول ممثل للمسيح في التنشئة الكهنوتية هو الأسقف. ويسوغ أن نقول في الأسقف، وفي كل أسقف، ما أورده مرقص الإنجيلي في النص الذي أتينا على ذكره مراراً: “ودعا الذين أرادهم فأقبلوا إليه. فأقام منهم اثني عشر يصحبونه فيرسلهم يبشّرون…” (مر 3 / 13 – 14). والحقيقة أن نداء الروح في الباطن، يجب على الأسقف أن يثبته ويوثقّه. فلئن كان بإمكان الجميع أن “يقبلوا” إلى الأسقف، باعتباره أبا الجميع وراعيهم، فأولى بالكهنة أن يفعلوا ذلك، بسبب اشتراكهم وإياه في ذات الكهنوت ونفس الخدمة: وعلى الأسقف – يقول المجمع – أن يعدَّهم “إخوة له وأصدقاء” ويعاملهم كذلك (202). وهذا القول يمكن تطبيقه، قياساً، على المتأهبين للكهنوت. وأما الشق الثاني: إن “يصحبوه” – أي أن يصحبوا الأسقف – فمسؤولية هذا الأخير، بصفته مريباً لطلاب الكهنوت، تلزمه بأن تردد عليهم مراراً، ويكون “صاحبهم” نوعا ما.
حضور الأسقف يرتدي أهمية خاصة ليس فقط لأنه يساعد جماعة الاكليريكية في الاندماج في الكنيسة المحلية والاتحاد بالراعي الذي يقودها، بل لأنه يثبّت أيضاً ويوثّق الغاية الراعوية التي تتميز بها كل تنشئة كهنوتية. وإنما هناك اعتبار خاص: وهو أن حضور الأسقف بين الاكليريكيين، وأشراكهم في كل ما يتعلق بالمسيرة الراعوية، في الكنيسة المحلية، يضفيان عنصراً أساسياً على تنشئتهم وتفقيههم “معنى الكنيسة”، وهو من القيم الروحية والراعوية الجوهرية في ممارسة الخدمة الكهنوتية.
الأسرة التربوية في الاكليريكية
65- الأسرة التربوية في الاكليريكية قوامها المربّون على أنواعهم: فهناك الرئيس والمرشد الروحي والمديرون والأساتذة، وعليهم جميعاً أن يشعروا بأنفسهم متحدين اتحاداً وثيقاً بالأسقف الذي يمثلونه بصفات وطرائق متنوعة، وعليهم أن يقيموا بينهم شركة عميقة وتعاوناً أخويا. هذا التضافر بين المربّين يحقق، من جهة، أهداف المهمة التربوية، ولكنه، من جهة أخرى، يقدّم لطلاب الكهنوت نموذجاً بليغاً وصورة واقعية للشركة الكنسية وما تمثّله من قيمة أساسية في الحياة المسيحية والخدمة الراعوية.
ولا جرم أن نجاح التربية منوط، إلى حدّ كبير، بشخصية المربيّن وما تتحلى به من نضج ورسوخ، على الصعيدين البشري والإنجيلي. ولا بد، من ثمّ، من التدقيق في اختيارهم وحثّهم على المضي دوماً في سبيل التأهل للمهمة الملقاة على عاتقهم. ولقد أسهب الآباء السينودسيون في تحديد صفات المربيّن، يقيناً منهم أن تهيئة الطلاب للكهنوت منوطة بحسن اختيار المربيّن وإحكام تنشئتهم. وقد كتبوا خصوصاً في هذا الشأن: “مهمة تربية المرشحين للكهنوت تقتضي ليس فقط إعداداً خاصاً للمربيّن على الصعيد التقني والتربوي والروحي والإنساني واللاهوتي بل أيضاً روح وحدة وتعاون، يمكّنهم من أن يحققوا، في ترابط وثيق، برنامج التنشئة بوجه يضمن وحدة العمل الراعوي في الاكليريكية، بإشراف الرئيس. وعلى فريق المربيّن فيها أن يؤدّي شهادة حياة إنجيلية راهنة، وتكرّس كاملٍ للرب. ومن المستحسن أن يتمتع بشيء من الثبات وأن يجعل مقامه العادي بين جماعة الاكليريكية. وعليه أن يتّحد اتحاداً وثيقاً بالأسقف، فهو المسؤول الأول عن التنشئة الكهنوتية” (203).
وعلى الأساقفة أن يكونوا في طليعة الواعين لمسؤوليتهم الخطيرة في تربية المدعوّين إلى أن يضطلعوا بأعباء تربية كهنة الغد. هذه المهمة لا بد من أن ينتدب لها كهنةٌ يتميزّون بقداسة سيرتهم، ويملكون مجموعة من الصفات: “النضج الإنساني والروحي، الخبرة الراعوية، الجدارة المهنية، الثبات في دعوتهم، الأهبة للتعاون، التضلّع من العلوم الإنسانية (وبخاصة علم النفس) الموازية لمهمتهم، الوقوف على أساليب العمل الجماعي” (204).
الأسرة الكهنوتية المعنية بتنشئة المرشّحين للكهنوت، يجب أن تتضامن في تحمل مسؤوليات التربية، مع مراعاة التمييز بين حيّز الضمير والمسلك الظاهر، واطلاق الحرية في اختيار المعرّفين، والتزام جانب الفطنة والدراية في الإرشاد الروحي. ويعود إلى هذا الفريق التربوي خصوصاً، وبالتنسيق دائماً مع سلطة الأسقف ورأي الرئيس، أن ينميّ أهليّة الطلاب للكهنوت، ويحكم فيها، لجهة المواهب الروحية والإنسانية والفكرية، وخصوصاً لجهة ما يجب أن يتحلّوا به من روح صلاة واستيعاب لعقيدة الإيمان، وقدرة على ممارسة الأخوّة ونعمة البتولية (205)ز
لا بد من لفت النظر، ونحن في هذا السياق، إلى توجيهات وردت في رسالتي: “العلمانيون المؤمنون بالمسيح و”كرامة المرأة” (206)، وذكّر بها الآباء السينودسيون، وفيها تنويه بالأثر السليم للروحانية العلمانية وموهبة الأنوثة، في كل نهج تربوي. فمن الأهمية بمكان أن نفسح مكاناً، لمعاونة المؤمنين العلمانيين، رجالاً ونساءً، في العمل التربوي لكهنة الغد، مع التزام الحيطة والتنبّه لمختلف الأوضاع الثقافية. هؤلاء المعاونون من العلمانيين والعلمانيات، لا بد من التدقيق في اختيارهم في نطاق السنن الكنسية، وطبقاً لمواهبهم الخاصة وكفاءاتهم المختبرة. هذه المعاونة إذا تمتّ في التنسيق مع المسؤولين عن التربية الكهنوتية يمكن أن نتوقع منها ثمارا مفيدة لتنمية الحس الكنسي، تنمية متوازنة، وفهم أدق للهوية الكهنوتية، لدى المرشحين للكهنوت (207).
أساتذة اللاهوت
66- الذين يُدخلون طلاب الكهنوت ويرافقونهم في أجواء العقيدة المقدسة بالتعليم اللاهوتي، عليهم مسؤولية تربوية خاصة يتّضح، بالخبرة، أنها أعمق أثراً من مسؤولية المربّين الآخرين في تنمية شخصية كاهن المستقبل.
مسؤولية أساتذة اللاهوت قبل أن تمسّ العلاقات التربوية مع المرشحين للكهنوت، تتناول أولاً تصوّرهم لماهيّة اللاهوت والخدمة الكهنوتية، كما تتناول أيضاً الروح والأسلوب في تأدية التعليم اللاهوتي. وقد أكّد الآباء السينودسيون في هذا المجال أن “اللاهوتيّ يجب أن يلحظ، في تعليمه، أنه لا يستمد سلطته من ذاته، بل أنه باسم الرب والكنيسة يفقّه الإيمان وينقله. وهكذا يمارس اللاهوتيّ خدمته بتفويض من الكنيسة وبالتعاون مع الأسقف، وإن عمد إلى استعمال وسائل العلم الحديثة. ولأن اللاهوتيين والأساقفة هم في خدمة الكنيسة الواحدة لتنمية الإيمان، فعليهم أن يعزّزوا الثقة بينهم، فيتمكّنوا، بهذا الروح، أن يتغلّبوا أيضاً على المشادّات والنزعات (راجع رسالة مجمع العقيدة والإيمان في “دعوة اللاهوتي الكنسية” (208).
أستاذ اللاهوت، مثله مثل كل مؤدب آخر، يجب أن يظل على اتصال وتعاون وثيق مع جميع المسؤولين عن تربية كهنة المستقبل، ويؤدي فيها قسطه الأصيل والمميّز، تأدية سخية متواضعة ناشطة. هذه المساهمة لا تقتصر على تلقين عقيدة – وإن هي العقيدة المقدسة – بل هي ابداء رؤية متكاملة تجمع، في مقصد الله الخلاصي، جميع المعارف البشرية ومختلف تعابير الحياة.
بيد أن مزيّة معلمي اللاهوت وفعاليتّهم التربوية تقاسان خصوصاً بمقياس صفتهم، قبل كل شيء” رجال إيمان مفعمين حبّاً للكنيسة، مقتنعين أن الكنيسة هي وحدها حاملة معرفة السرّ المسيحي، وموقنين، من ثمّ، أن مهمتهم التعليمية إنما هي خدمة كنسية، ومتمتعين بحسّ راعوي يجعلهم يميّزون، إلى جانب المضامين التعليمية، الأساليب المناسبة لممارسة هذه المهمة. ولا بد للمعلمين أن يتحلّوا بالأمانة الكاملة للسلطة التعليمية، فيكونوا شهود إيمان يعلّمون باسم الكنيسة” (209).
الجماعات المصدّرة والمنظمات والحركات الشبيبية
67- الجماعات المصدّرة للدعوات لا يني لها أثر بالغ في تنشئة كاهن المستقبل، بالرغم مما يفرضه اختيار الدعوة من انفصال لا بدّ منه. وعليها، من ثمّ، أن تدرك ما عليها من مسؤولية في هذا النطاق.
ولا بد أولاً من أن نذكر الأسرة: “فالوالدان المسيحيان وكذلك الأخوة والأخوات وسائر أعضاء النواة العيلية، يجب ألاّ يسعوا أبداً، حتى بدافع محبة صادقة، إلى أن يقيّدوا كاهن الغد باعتبارات بشرية أو عالمية ضيّقة. بل عليهم، بالعكس، أن يطوّعوا إرادتهم لإرادة الله”، ويرافقوا الطالب، في مسيرته التربوية، بالصلاة والاحترام ومثال الفضائل العيلية والمساعدة الروحية والمادية، وخصوصاً في الأوقات الصعبة. وتعلّمنا الخبرة أن هذه المساندة بمختلف وجوهها لها، في كثير من الأحيان، أثر حاسم في حياة المرشح للكهنوت. وحتى في حال وقوف الأهل موقف اللامبالاة أو الإعتراض على دعوة ولدهم، فهذا الموقف، إذا ظلّ هادئاً وصريحاً، بإمكانه أن يرسّخ الطالب في قراره، ويضفي على دعوته الكهنوتية مزيداً من النضج والوعي والتصميم.
الأسرة لها علاقة وثيقة بالرعية؛ فهذه تكمّل الأسرة في مهمة تربية الإيمان، وقد تقوم مقامها أحياناً على صعيد العناية بشؤون الشبيبة والدعوات. وأهم من ذلك أن الرعية، باعتبارها تجسّد سرّ الكنيسة بطريقة أوثق، لها في تنشئة كاهن المستقبل قسط فريد وفعّال. فالرعية يجب أن تعتبر الشابَّ السائر في طريق الكهنوت جزءاً حيّاً فيها، وعليها أن ترافقه بالصلاة، وتحتفي به في فترات العطلة، وتؤدي له من الاحترام والمساندة ما يساعده في تكوين شخصيّته الكهنوتية، موفّرة له من المناسبات والاختبارات ما يكفل له امتحان دعوته إلى الرسالة الكهنوتية.
وحتى المنظمات والحركات الشبيبية – وهي برهان الحيوية التي يفيضها الروح على الكنيسة – بإمكانها بل من واجبها أن تساهم في تنشئة المرشحين للكهنوت، وبخاصة أولئك المتأثرين بتلك الحركات وخبرتها المسيحية والروحية والرسولية. فالاكليريكيون الذين تلقّوا تنشئتهم الأولى في تلك الجمعيات التي يدينون لها بخبرتهم الكنسية، يجب ألاّ يحسبوا أنفسهم مضطرين إلى الانقلاع من ماضيهم، والانعزال عن البيئة التي ساعدتهم في تلبية دعوتهم. وعليهم ألا يطمسوا ملامح الروحانية التي تلقّوها وعاشوها فيها في كل ما تحتوي عليه من عناصر جيدة وبنّاءة ومثرية (210). هذه البيئة يجب أن تظلّ للآتين منها مصدر عون ودعم في طريق تربيتهم الكهنوتية. كل هذه السوانح يمنّ بها الروح على كثير من الشبان لتهذيب إيمانهم وتنمية حياتهم المسيحية والكنسية، عبر هذه الأشكال المتنوعة من الجماعات والحركات والمنظمات العاملة بوحي الإنجيل. ويجب أن نعتبرها ونعيشها كعطيّة من الرب وكينبوع ثريّ داخل المؤسسة وفي خدمتها. فليست الحركة الخاصة أو الروحانية الخاصة جهازاً “يقوم مقام المؤسسة، بل هي بالعكس، ينبوع تجدد مستمرّ لأصالة كيانها وتاريخها.على الكاهن إذن أن يجد، في هذه الحركات، من النور والدفء ما يقدّره على أن يُخلص لأسقفه، ويقوم بواجبات المؤسسة ويتقيّد بالأنظمة الكنسية، فيتشدد بذلك عزم إيمانه و صدق أمانته” (211).
لا بد إذن للشبان الآتين من منظمات وحركات كنسية والمنضمين إلى أسرتهم الجديدة في الاكليريكية برعاية الأسقف، أن يتعلموا احترام الطرائق الروحية الأخرى وروح الحوار والتعاون ويتقيدوا بدقة ومحبة بالإرشادات التربوية الصادرة عن الأسقف وسائر المربيّن في الاكليريكية، ويمتثلوا، بثقة واخلاص، توجيهاتهم وأحكامهم (212). هذه المرونة تعدّ بل تستبق، نوعاً ما، صحة اختيار الكاهن لمهمته في خدمة شعب الله كله، في الشركة الأخوية مع أخوته الكهنة، وفي الطاعة للأسقف.
اشتراك الاكليريكي والكاهن الأبرشي في روحانيات وجماعات كنسية خاصة يعود، ولا شك، عليهما بالنفع الجزيل في تعزيز نموّها الروحي وأخوّتهما الكهنوتية. ولكن هذا الانتماء يجب ألا يعوق، بل بالعكس، أن يساعد في ممارسة الخدمة الراعوية والحياة الروحية لدى الكاهن الأبرشي “الذي يجب أن يبقى دائما راعي الجميع. فليس هو فقط “المداوم” المتفرغ للجميع، ولكنه يرعى لقاءات الجميع – ويتولى خصوصاً مسؤولية الرعايا – ويضمن للجميع الحفاوة التي من حقّهم أن يتوقّعوها ضمن الجماعة وفي الإفخارستيا التي تجمعهم، أيّا كان انتماؤهم الديني والتزامهم الراعوي” (213).
الطالب نفسه
68- ولا يغرب عن بالنا، أخيراً، أن طالب الكهنوت هو المسؤول الأول والأخير عن تربية ذاته. فكل تنشئة – حتى التنشئة الكهنوتية – هي تنشئة ذاتية. ولا يسع أحداً أن يزاحم الإنسان في فرادته، ويغتصب حريّته المسؤولة.
على كاهن المستقبل أن يدرك، ولا شك، أدراكاً رهيفاً، أن المسؤول الأعلى عن تربيته إنما هو الروح القدس الذي يستطيع وحده أن يمنّ عليه بقلب جديد ويصوره على صورة يسوع المسيح الراعي الصالح؛ وعلى طالب الكهنوت، من ثمّ، أن يؤكد، بطريقة جذرية، أهبته لتقبل نعمة الروح وعمله التربوي. ولكن هذه الطواعية للروح لا تنفي استعداد الطالب لتقبّل “الوسائط” البشرية التي يستعملها الروح. ولذا، فالعمل الذي يقوم به المربّون على تنوّعهم لا يبلغ حقاً مداه الكامل إلا بمقدار ما يساهم فيه الطالب مساهمة شخصية صادقة ونابعة من قلب محبّز
الفصل السادس
استحلفك أن تذكي الهبة
التي جعلها الله فيك
التنشئة الدائمة للكهنة
التنشئة الدائمة ودواعيها اللاهوتية
69- “استحلفك أن تُذكي الهبة التي جعلها الله فيك” (2 / طيم 1 – 6). كلمات القديس بولس إلى طيموتاوس يمكن، بحق، أن نطبّقها على التنشئة الدائمة التي لا بد لجميع الكهنة من التقيّد بها، بداعي “هبة الله” التي نالوها يوم رسامتهم. هذه الكلمات تمكّننا من فهم معنى التنشئة الدائمة، بكل حقيقتها وأصالتها. هناك نصّ آخر من بولس إلى طيموتاوس يساعدنا في ذلك أيضاً: “لا تهمل الهبة الروحية التي فيك، فقد أوتيتها بالنبوة حين وضع جماعة الكهنة أيديهم عليك. إصرف همّك إلى ذلك و كن له ملازماً ليبدو نجاحك لجميع الناس. انتبه لنفسك ولتعليمك وواظب على ذلك، فإنك إذا فعلت خلّصت نفسك وخلّصت الذين يستمعون إليك” (1 طيم 4 / 14 – 16).
يطلب الرسول من طيموتاوس أن يُذكي “الهبة الإلهية” كما تُذكى النار تحت الرماد، وأن يتقبّلها ويحياها، من غير أن يفقد أن ينسى “هذه الجدّة الدائمة” التي تميّز عطية الله المجدد كل الأشياء “رؤيا 21 / 5)، وأن يعيش من ثمّ هذه العطية، في كل طراوتها ورونقها الأول.
“إذكاء” الهبة الإلهية ليس فقط واجباً يقع على عاتق طيموتاوس، ولا هو نتيجة جهد ذاكرة وإرادة، بل هو ثمرةٌ دينامية نعمة الله. فالله هو الذي يُذكي الهبة التي يسبغها ويفعّل ثروة النعمة وطاقات المسؤولية الكامنة فيها.
بفيض نعمة الروح القدس التي تقدّس وترسل، يصور الكاهن على صورة يسوع المسيح رأس الكنيسة وراعيها، ويُبعَثُ ليقيم الخدمة الراعوية؛ وهكذا يوسم الكاهن بوسم أبدي لا يمّحى، يطبع كيانه بطابع الخدمة ليسوع وللكنيسة، ويدمج في نمط حياة دائمة وراسخة، وتفوّض إليه خدمة راعوية دائمة وثابتة، لأنها متأصلة في كيانه وتغمر حياته كلها. رتبة الكهنوت تولي الكاهن نعمة خاصة وتخوّله نصيباً ليس فقط في “سلطة” “يسوع وعمله” الخلاصي بل في “محبته” أيضاً. نعمة الكهنوت هذه تكفل للكاهن أيضاً كل النعم الحالية الضرورية والمفيدة للاضطلاع بالمهمة التي تلقّاها.
التنشئة الدائمة، نجد لها في دينامية رتبة الكهنوت، مستنداً خاصاً وحافزاً أصيلاً. فنحن، ولا شك، لا نفتقر إلى دواع، حتى على الصعيد البشري، تحمل الكاهن على اعتماد التنشئة الدائمة؛ فهي مقتضى من مقتضيات نموّه البشري: ولا غرو، فكل حياة إنما هي مسيرة متواصلة تتوخى النضج الذي لا يتحقق إلا بفضل تنشئة مستمرة؛ وهي أيضاً مقتضى من مقتضيات الخدمة الكهنوتية، في ما لها من طابع مشترك مع المهن الأخرى المبذولة في خدمة الآخرين: فليس اليوم من مهنة أو التزام أو عمل إلاّ ويفترض تأهيلاً متواصلاً ليظلّ فاعلاً. “مواكبة” التاريخ في تقدمه هي أيضاً من الدواعي البشرية التي تبرر التنشئة المتواصلة.
ولكن هذه الدواعي وغيرها تدعمها وتعلّلها الاعتبارات اللاهوتية التي أتينا على ذكرها آنفاً ونسهبها في ما يلي:
سرّ الكهنوت، بصفته “علامة” كما هو حال جميع الأسرار، يمكن اعتباره “كلمة الله” وهو في الحقيقة كذلك. إنه كلمة الله الذي يدعو ويرسل، لا بل هو أبلغ تعبير عن دعوة الكاهن ورسالته. فالله، بواسطة هذا السرّ، يدعو الطالب “إلى” اعتناق الكهنوت بحضور الكنيسة.
نداء يسوع: “تعال فاتبعني” يعلنه الرب اعلاناً كاملاً وحاسماً وسط احتفال كنسي، ويسمعه من خلال صوت الكنيسة بلسان الأسقف الذي يحتفل بالصلاة وبوضع اليد. ويستجيب الكاهن في الإيمان لنداء يسوع بقوله: “هاءنذا آت لأتبعك”. وعندئذ ينطلق هذا الجواب وهذا الخيار الأساسي ليتكرر ويتجدّد كل يوم على مدى السنين، عبر أجوبة أخرى كثيرة تنبع كلها وتستمد حيويتها من جواب الكاهن يوم رسامته.
بهذا المعنى يمكن التكلم عن دعوة “ضمن” الكهنوت. والحقيقة أن الله لا يني يدعو ويرسل، كل مرة يكشف للكاهن خطة خلاصه، خلال أحداث حياته أو أحداث حياة الكنيسة والمجتمع. من هذا الملحظ يتضح معنى التنشئة الدائمة وضرورتها لاستكشاف هذه الدعوة أو هذه الإرادة الإلهية المستمرة وامتثالها. هكذا دعا يسوع بطرس إلى اتّباعه حتى بعد أن وكل إليه القطيع: “قال له يسوع: أرع خرافي. الحق الحق أقول لك: لما كنت شاباً، كنت تشدّ الزنّار بنفسك، وتسير إلى حيث تشاء”. قال ذلك مشيراً إلى الميتة التي سيمجّد بها الله. ثم قال له: “اتبعني” (يو 21 / 17 – 19). هناك إذن أمر “بالاتّباع” يرافق حياة الرسول ورسالته، ويؤكد الدعوة إلى الأمانة حتى الموت (يو 21 / 22). وقد يعني ذلك اتباع المسيح ببذل الذات بذلاً كاملاً بالاستشهاد (214).
لقد بيّن الآباء السينودسيون السبب القاضي بضرورة التنشئة الدائمة والمعبّر عن طبيعتها الصميمة، عندما وصفوها بأنها “أمانة للخدمة الكهنوتية” “ومسيرة توبة مستمرة” (215). فالروح القدس الفائض على الكاهن في سرّ الكهنوت هو الذي يسانده في هذه الأمانة ويرافقه ويحثّه في هذه المسيرة، مسيرة التوبة المستمرة. عطية الروح هذه لا تشلّ حرية الكاهن بل تحركها لكي يتحمل مسؤولية تنشئته المستمرة تحمّلاً واعياً ويعتبرها مهمة موكولة إليه. وهكذا تكون التنشئة الدائمة عبارةً وشرطاً لهذه الأمانة، أمانة الكاهن لخدمته بل لذات كيانه. فهي إذن دليل محبة الكاهن ليسوع كما هي دليل انسجامه مع ذاته. ولكنها أيضاً برهان محبته لشعب الله الذي أقيم الكاهن أن يؤدّي عنه حساباً؛ كيف لا وقد انتدب ليُقرّ ويقيم هذا الحق الأساسي الذي يتمتع به شعب الله والذي يخولّه الاستفادة من كلام الله والأسرار وخدمة المحبة، وهي العناصر الأساسية التي لا يستطيع الكاهن أن يستعفي منها في أداء مهمته الراعوية. التنشئة الدائمة لا بد منها إذن ليتمكن الكاهن من أن يؤدي لشعب الله حقّه بطريقة لائقة.
روح هذه التنشئة المستمرة وصورتها هما المحبة الراعوية. فالروح القدس الذي يهب المحبة الراعوية يقود الكاهن ويرافقه ليزداد تقصيّاً لمعرفة سرّ السميح الذي لا يسبر غوره (را اف 14 / 19) ومعرفة سرّ الكهنوت في آن واحد. هذه المحبة الراعوية نفسها تحثّ الكاهن على أن يكثّف اهتمامه لترقبات الشعب وقضاياه ومشاعره في أوضاعهم الراهنة، الفردية والعيلية والاجتماعية.
ذلك هو إذن هدف التنشئة المستمرّة: التأهب بطريقة حرّة واعية لتلبية ما تتطلبه المحبة الراعوية والروح القدس ينبوعها الأول وسندها الدائم. فهي من هذا الملحظ، مقتضى صميم من مقتضيات موهبة الرسامة الكهنوتية والخدمة الراعوية المرتبطة بها. وهي ضرورة يفرضها كل زمان، ولكنها اليوم ضرورة ملحة ليس فقط بسبب التحولات السريعة في الأوضاع الاجتماعية والثقافية لدى الأفراد والشعوب المستفيدة من الخدمة الكهنوتية، بل أيضاً بداعي “البشارة الجديدة”، وهي أولى مهمات الكنيسة في غروب هذا الألف الثاني.
التنشئة الدائمة في مختلف أبعادها
70- التنشئة الدائمة للكهنة الأبرشيين والرهبان هي الامتداد الطبيعي والإلزامي لذاك السعي الهادف إلى تكوين الشخصية الكهنوتية والذي ابتدأ ونما في الاكليريكية أو في الدير الرهباني، في فترة التنشئة والتأهب للرسامة الكهنوتية.
وإنه من الأهمية بمكان أن نلحظ ونحترم العلاقة الوثقى بين التنشئة قبل الرسامة الكهنوتية وبعدها. فلئن وقع انفصام أو حتى تباين ما بين هاتين المرحلتين، فقد ينجم عن ذلك فوراً نتائج خطيرة ترتد على النشاط الراعوي والشركة الأخوية بين الكهنة، وبخاصة بين الكهنة المتفاوتين سناً. التنشئة الدائمة ليست ترداداً لما حصّله الكاهن في الاكليريكية على أن يعاد النظر فيها ويضاف إليها معلومات ملحقة وتطبيقات جديدة، بل هي تفترض محتوى جديداً وخصوصاً أنماطاً مستحدثة، فتتطور تطوّراً حيّاً متماسكاً. عليها إذن أن تتجذّر في التنشئة التي توفّرها الاكليريكية وتضيف عليها من أساليب التكييف والتحديث والتعديل ما لا يعزلها ولا يفصمها عن منطلقاتها الأساسية.
هذا ويجب أن نمهّد للتنشئة المستمرة منذ عهد الاكليريكية، فنوقظ في أذهان طلاب الكهنوت الرغبة في هذه التنشئة، وتحسّس أهميتها والشعور بضرورتها وفوائدها وروحها، ونؤمن لهم شروط تنفيذها.
ولأن التنشئة المستمرة هي امتداد للتنشئة المعطاة في الاكليريكية فهي لا تتوخّى فقط تجهيز الطالب بعقلية مهنية وتزويده بتقنيات راعوية جديدة، بل يجب أن توفّر له، بطريقة حيّة وكاملة، مقوّمات نضج متواصل، وتعمّق في كل من أبعاد التنشئة (الإنسانية والروحية والفكرية والراعوية) وعلاقتها الوثيقة والمميّزة بالمحبة الراعوية.
71- أول وجه من وجوه هذا التعمق، له علاقة بالعبد الإنساني في التنشئة الكهنوتية. فالكاهن يجب أن ينمو في الاتصال الدائم بالآخرين وفي مقاسمة حياتهم اليومية، ويرهف حسّه الإنساني فيتمكن من أن يفهم حاجات الناس ويلبّي نداءاتهم ويستبق ما لا يبوحون به من لباناتٍ ومطالب ويقاسمهم آمالهم وترقباتهم، أفراحهم وهموم حياتهم المألوفة، ويكون مستعداً لأن يلتقي كلاً بمفرده ويحاور الجميع. وعلاوة على هذا كله، يستطيع الكاهن أن يثري خبرته الإنسانية ويجعلها أكثر وثوقاً وشفوفاً، بفضل محبة للناس متزايدة ومتقدة، وذلك عبر المعرفة والمقاسمة، أي الاندماج في خبرة الألم بجميع أشكاله، خبرة الفاقة والمرض والتهمّش والجهل والعزلة وسائر أشكال العوز المادي والأدبي.
ولكي يُنمي الكاهن ثقافته الإنسانية، فهو يعوّل على نعمة يسوع المسيح: فالراعي الصالح لم يعبّر عن محبته للبشر بمنحهم عطية الخلاص وحسب، بل بمقاسمة أحوالهم المعيشية. فالكلمة صار جسداً (را يو 1 / 14) وخبر مع الناس أفراحهم وأحزانهم وأتعابهم وقاسمهم مشاعرهم وخفّف أعباءهم. لقد عاش المسيح إنساناً بين الناس ومع الناس، فقدم لنا بذلك أكمل صورة وأصحّ تعبير وأكمل فكرة عن الحالة البشرية: فنحن نراه يشترك في حفلة زفاف في قانا، ويتردد إلى أسرة صديقة ويتحنن على جمهور من الشعب يتبعه جائعاً، ويردّ أبناء مرضى أو موتى إلى ذويهم ويبكي موت صديقه لعازر…
يجب أن يتمكن شعب الله من أن يقول في الكاهن الذي أضاف إلى شعوره الإنساني ثروة خبرة متنامية، ما يضاهي قول صاحب الرسالة إلى العبرانيين في يسوع: “ليس لنا حبر عاجز عن أن يرثي لضعفنا: فإنه قد امتُحن في كل شيء مثلنا ما عدا الخطيئة” (عب 4 / 15).
البعد الروحي في ثقافة الكاهن هو من مقتضيات الحياة الإنجيلية الجديدة التي دعاه إليه الروح القدس بطريقة مميّزة يوم أفيض عليه في سرّ الكهنوت. فالروح إذ يكرّس الكاهن ويصوّره على صورة يسوع المسيح الرأس والراعي، ينشئ وثاقاً في صميم كيان الكاهن. هذا الوثاق يجب على الكاهن أن يلتزمه ويعيشه بطريقة شخصية، أي بطريقة واعية وحرّة، عبر حياة مشاركة أثرى وحبّ أعمق ومقاسمة أوسع وأرسخ لأفكار يسوع المسيح وأخلاقه. هذا الوثاق بين الرب يسوع والكاهن، هذا الوثاق الكياني والنفساني، السرّاني والأدبي هو، في آن واحد، المرتكز والقوة اللازمة لتلك “الحياة في الروح”، وتلك “المطلقية الإنجيلية” التي دُعي الكاهن إليها والتي تعزّزها التنشئة المستمرة بوجهها الروحي.
هذه التنشئة لا بد منها أيضاً في ممارسة الخدمة الكهنوتية ممارسةً صحيحة وخصيبة روحياً. “هل تتوفر على الاعتناء بالنفوس؟” سؤال طرحه القديس شارل بوروميه، وأجاب عليه في حديث إلى الكهنة بقوله: “لا تهمل بسبب ذلك، أن تعتني بنفسك أيضاً. ولا يكن تفانيك في سبيل الغير، بحيث لا يبقى شيء منك ولا شيء لك. عليك، ولا شك، أن تذكر النفوس التي أقمت راعياً عليها ولكن لا تذهل عن ذاتك. إفهموا، يا أخوتي، أن ليس هناك شيء يوازي ضرورة التأمل قبل العمل وفي أثنائه وبعده: “أنشد لك يا رب – يقول النبي – وأتأمل” (را مز 100 – 1). عندما تمنح الأسرار، يا أخي، تأمل في ما تفعل. عندما تحتفل بالقداس، تأمّل في ما تقرّب. عندما ترتل المزامير في الخورص، تأمّل في من تكالم وعمّا تتكلم. عندما تهدي النفوس، تأمّل في الدم الذي طهّرها. “ولتكن أموركم كلها بمحبة” (1 قور 16 / 14). هكذا يصبح بوسعنا أن نتغلّب على المصاعب التي نلقاها كل يوم، وما أكثرها.. وعلى كل، فهذا ما تقتضيه المهمة الموكولة إلينا، فإذا تصرفنا هكذا، أصبح في مقدورنا أن نولّد المسيح فينا وفي الآخرين” (216).
ثمة خصوصاً حياة الصلاة التي يجب أن تظل، عند الكاهن، في “تجدّد” دائم. وتعلّمنا الخبرة إننا، في هذا المجال، لا نستطيع أن نكتفي بما هو في حوزتنا، بل علينا كل يوم، أن نجدّد الأمانة الظاهرة لأوقات الصلاة، ولا سيما الصلوات الليترجية، والأوقات المحفوظة لصلاتنا الشخصية خارج السياق الليترجي: لا بل علينا، علاوة على ذلك، وبطريقة خاصة، أن نتمّرن بلا انقطاع على تجديد لقائنا الشخصي ليسوع، وإقامة حوار واثق مع الآب، ونشدان خبرة عميقة للروح.
إن ما يؤكده الرسول بولس في شأن جميع المؤمنين الذين يجب أن يصلوا إلى الإنسان الكامل، وإلى ملء قامة المسيح (اف 4 / 13)، يمكن أن نطبّقه بطريقة مميزة على الكهنة المدعوين إلى كمال المحبة، ومن ثمّ إلى القداسة. وإنهم ليجدون لجميع المؤمنين أمثلة حيّة.
البعد الفكري، في الثقافة الكهنوتية، يقتضي هو أيضاً المتابعة والتعمق، على مدى حياة الكاهن كلها، وبخاصة عن طريق الدرس والتحصيل، وتحديث المعارف الثقافية، تحديثاً رصيناً ومثابراً. ولا غرو، فالكاهن يشارك يسوع في رسالته النبوية ويندمج في سرّ الكنيسة، معلمة الحق، ومن ثمّ فهو مدّعو إلى أن يكشف للناس “في آنٍ واحد وجه الله ووجه الإنسان الحقيقي” في يسوع المسيح (217). ولكن هذا يفرض قبلاً على الكاهن ذاته أن يلتمس هذا الوجه ويتأمله بخشية ومحبة (را مز 26 / 8، 41 / 2). وهكذا فقط يستطيع أن يعرّف به الآخرين.
وينبغي على الكاهن أولاً، وبطريقة خاصة، أن يتابع درس اللاهوت ليتمكن من القيام قياماً وافياً بخدمة الكلمة وينادي بها بلا لبس ولا غموض، ويميزّها من الأفكار البشرية المحضة أيّا كان استشهارها وانتشارها. هكذا يستطيع أن يقوم حقاً بخدمة شعب الله، ويجعله مستعداً لأن يردّ على من يطلب منه دليل رجائه المسيحي (را 1 بط 3 / 15). هذا، وإذا أكبّ الكاهن على درس اللاهوت، بوعي ومثابرة، أصبح بإمكانه أن يستوعب الثروة الكنسية الحقة بشكل وثيق وشخصي، ويحقق الرسالة القاضية عليه بأن يرّد على الاعتراضات الموجهة إلى العقيدة الكاثوليكية الصحيحة ويتغلب على ما لديه ولدى الآخرين من نزعة إلى الشجب والتنديد بالسلطة التعليمية والتقليد المرعي في الكنيسة (218).
وأما الوجه الراعوي في التثقيف المستمر، فيعبّر عنه الرسول بطرس بقوله: “ليخدم بعضكم بعضاً، كل واحد بما نال من النعمة، كما يحسن بالوكلاء الصالحين” (1 بط 4 / 10). فلكي يعيش الكاهن كل يوم بمقتضى النعمة المعطاة، عليه أن يشرح صدره كل يوم أكثر للمحبة الراعوية، محبة يسوع المسيح التي أفاضها عليه الروح القدس في سرّ الكهنوت. وكما كان كل عمل الرب ثمرة وآية لمحبته الراعوية، يجب أن يكون كذلك أيضاً كل ما يقوم به الكاهن من نشاط راعوي. هذا، ونعرف أن المحبة الراعوية هي، في آن واحد، عطية وواجب، نعمة ومسؤولية تستلزم منا الأمانة، فيجب أن نتقبلها ونمارسها حتى أقصى مقتضياتها. هذه المحبة الراعوية ذاتها تحفز الكاهن – كما سبق القول – وتحمله على أن يزداد كل يوم أكثر إلماماً بالأوضاع الحقيقية للذين وللواتي أرسل إليهم، ويميّز نداءات الروح في الظروف التاريخية التي يعيش فيها، ويلتمس أخيراً أكثر الأساليب ملائمة، وأكثر الطرق فائدة ليضطلع بخدمته في الزمن الراهن. وهكذا نرى أن المحبة الراعوية تنعش وتدعم الجهود البشرية التي يبذلها الكاهن ليأتي نشاطه الراعوي مطابقاً لمقتضى الحال، وممهوراً بطابع المصداقية والفعالية. ولكن هذا كله يتطلب تثقيفاً راعوياً مستمراً.
طريق النضج لا يفرض على الكاهن فقط أن يتقصّى دوماً كل هذه الأبعاد المتّصلة بثقافته، بل أيضاً وخصوصاً أن يدمجها في ذاته دمجاً متناغماً، بحيث يبلغ الوحدة الباطنة التي تحققها المحبة الراعوية؛ ومن الواضح أن هذه المحبة لا تكتفي فقط بأن تنسّق وتوحّد هذه الوجوه المختلفة من الثقافة، بل توليها نوعية خاصة تميّز تنشئة الكاهن بما هو كاهن، أي بصفته صورة شفّافة وحيّة، بل بصفته سرّاً ليسوع الراعي الصالح.
التثقيف الدائم يساعد الكاهن في التغلّب على النزعة إلى اعتبار خدمته الكهنوتية مجرّد نشاط قائم في ذاته، مستغرقٍ، بطريقة لا شخصية، في اهتمامات شتّى، أيّاً كانت صفتها الروحية أو القدسية، أو محصورٍ في شبه دائرة وظائفية في خدمة النظام الكنسي. التثقيف الدائم يستطيع وحده أن يساعد “الكاهن” في الحفاظ، بحبّ ويقظة، على السر الذي يحمله في ذاته لخير الكنيسة والبشرية.
التثقّف الدائم في مفهومه العميق
72- التثقّف الدائم، بمختلف نواحيه وتكامل وجوهه، يساعدنا في استيعاب مفهومه العميق: وهو مساعدة الكاهن في أن يظلّ، كياناً وعملاً، في توافق مع يسوع الراعي الصالح، روحاً ونسقاً.
هذه حقيقة لا بد من وضعها موضع التنفيذ. وهذا ما ينبّهنا إليه القديس يعقوب بقوله: “إعملوا بهذا الكلام ولا تكتفوا بسماعه فتخدعوا أنفسكم” (يع 1 / 22). الكهنة مدعون إلى أن “يصنعوا حقيقة” إنّيتهم، أي أن يعيشوا، “في المحبة” (را اف 4 / 15)، هويتهم وخدمتهم في الكنيسة وللكنيسة. إنهم مطالبون بأن يعوا، كل يوم أكثر، عطية الله، ويتذكّروها. وذاك ما حضّ عليه بولس تلميذه طيموتاوس: “احفظ الوديعة الكريمة بعون الروح القدس الذي حلّ فينا” (2 طيم 1 / 14).
في القرائن الكنسية التي أتينا على ذكرها غير مرّة، يمكننا أن نقدر حق القدر التثقيف الكهنوتي الدائم في مفهومه الأعمق، وذلك من منطلق حضور الكاهن وعمله في الكنيسة، بوصفها سرّاً وشركة ورسالة.
في الكنيسة “السرّ” يدعى الكاهن، عبر التثقيف المستمرّ، إلى أن يحصن وينمي في الإيمان وعي هويته في حقيقتها الكاملة والعجيبة: فهو خادم المسيح والمؤتمن على أسرار الله (را 1 قور 4 / 1). ويناشد بولس المؤمنين مناشدة صريحة أن ينظروا إليه من منظار هذه الهوية، وهو نفسه أول من يعيش في وعي هذه العطية التي نالها من الرب. على كل كاهن أن يكون على مثل هذا، إذا رام أن يقيم في حقيقة ذاته وهويته. بيد أن الإيمان وحده، والنظر وحده بعيني يسوع يمكّنان من ذلك.
من هذا الملحظ يمكن القول أن التثقيف الدائم يهدف إلى أن يكون الكاهن مؤمنا ويصيره كل يوم أكثر، وينظر دوماً إلى ذاته كما هو في الحقيقة، بعيني المسيح، وعليه أن يسهر على هذه الحقيقة بحبّ مفعم شكراً وفرحاً، ويجدّد فيه الإيمان بممارسته الخدمة الكهنوتية، ويعرف ذاته خادماً ليسوع المسيح وآية حبّ الله للناس، كل مرة يكون وسيطاً ووسيلة حيّة لموهبة الله وعطيته للإنسان. وعليه أيضاً أن يقرّ لأخوته بهذه الحقيقة عينها منطلقاً من هذا الأساس ليبادل أخوته الكهنة التقدير والمحبة.
73- في الكنيسة “الشركة”، نرى أن التثقيف الدائم يساعد الكاهن في إنضاج وعيه لهذه الحقيقة: وهي إن خدمته الكهنوتية تهدف، في نهاية المطاف، إلى جمع شمل أسرة الله في أخوّة تنعشها المحبة، وتوجيهها إلى الآب بالمسيح في الروح القدس (219).
على الكاهن أن ينمو في فهم الشركة الحميمة التي تربطه بشعب الله. فليس هو فقط “بإزاء” الكنيسة، بل أولاً وقبل كل شيء “في” الكنيسة. إنه أخ بين أخوة. ولأنه لبس، بالمعمودية، كرامة أبناء الله وحرّيتهم في الابن الوحيد، فهو عضو في جسد المسيح الواحد والأوحد (را اف 4 / 16). وعي هذه الشركة يبعث في الكاهن روح المسؤولية المشتركة وينميها، في خدمة رسالة الخلاص الواحدة، ويحمله على أن يقيّم ويشجّع كل المواهب والوظائف التي يوزعها الروح على المؤمنين لبناء الكنيسة. هذه الشركة العميقة مع الجميع، على الكاهن أن يعيشها ويشهد لها أولاً وقبل أي شيء آخر، في ممارسة الخدمة الراعوية الهادفة، بطبيعتها، إلى خير شعب الله. “علينا، على حدّ ما جاء في رسالة البابا بولس السادس – أن نكون أخوة للناس، ما دمنا نريد أن نكون لهم رعاة وآباء ومعلمين. مناخ الحوار هو الصداقة، لا بل هو الخدمة” (220).
الكاهن مدعو، بطريقة أخصّ، إلى تنمية وعيه أنه عضو في كنيسة محلية هو مرتبط بها، أي مندمج فيها بوثاق قانوني وروحي وراعوي. مثل هذا الوعي يفترض وينمي في الكاهن لكنيسته الخاصة حباً خاصاً. والحقيقة أن الكنيسة المحلية هي الهدف الحي والدائم للمحبة الراعوية التي يجب أن تقود حياة الكاهن. فالمحبة الراعوية هي التي تهيب بالكاهن إلى أن يشارك كنيسته المحلية تاريخها وخبرة حياتها بما لديها من ثروات و ثغرات، من آلام وآمال، ويعمل على إنمائها. وما دام كل كاهن قد ورث الكثير من كنيسته المخلية وشارك في بنيانها مشاركة ناشطة، فهو بالاتحاد مع أخوته، يواصل النشاط الرعائي الذي قام به أسلافه؛ وإنه لمقتضىً بديهيّ من مقتضيات المحبة الراعوية تجاه الكنيسة الخاصة وتجاه مستقبلها الراعوي أن يعنى كل كاهن بالبحث، نوعاً ما، عمّن يخلفه في الكهنوت.
وعلى الكاهن أيضاً أن ينمو في وعي الشركة القائمة بين مختلف الكنائس المحلية، وهي شركة متأصلة في صميم كيان تلك الكنائس التي تحيا محلياً حياة كنيسة المسيح الواحدة الجامعة. وعي هذه الشركة بين الكنائس يعزّز وينشّط “تبادل المواهب” بدءاً بتلك المواهب الحيّة والشخصية أعني بها الكهنة أنفسهم. من هنا الأهبة بل التطوّع السخيّ لتحقيق توزيع عادل للاكليروس (221). من بين هذه الكنائس المحلية، لا بدّ من أن نذكّر بتلك التي حرمت حرّياتها فلم تعد لها كفاية بدعواتها الخاصة، أو تلك التي “خرجت حديثاً من حكم الاضطهاد، وتلك الكنائس الفقيرة التي نالت الرفد منذ زمان طويل ومن جهات كثيرة بروح أخويّ، ولا تزال تعوّل على تلك المساعدة” (222).
في حضن هذه الشركة الكنسية، يدعى الكاهن خصوصاً إلى أن ينمو، يتثقيفه الدائم، كعضو في الجسم الكهنوتي المتّحد بالأسقف، ولا بد من القول، أن الجسم الكهنوتي هو أيضاً سرّ في ملء حقيقته الفائقة الطبيعة، والنابعة من سرّ الكهنوت. فالكهنوت هو منبعه ومصدره، و”مكان” ولادته ونشوئه. “فالكهنة، بحكم سرّ الكهنوت، مرتبطون بالمسيح الكاهن الأوحد برباط شخصي لا ينحلّ. إنهم يتقبّلون نعمة الكهنوت أفراداً ولكنهم مندمجون مع الأسقف في شركة الجسم الكهنوتي” (نور الأمم، فقرة 28، خدمة الكهنة، فقرة 7 – 8) (223).
هذا المصدر السرّاني ينعكس ويتشعب في ممارسة الخدمة الكهنوتية، فمن السر إلى الخدمة. اتحاد الكهنة بأسقفهم وبعضهم ببعض لا ينضاف من الخارج إلى طبيعة خدمتهم المميّزة، بل يعكس جوهرها ولبّها أي رسالة المسيح الكاهن إلى الشعب المجتمع في وحدة الثالوث الأقدس” (224). بهذه الوحدة الكهنوتية الممارسة في روح المحبة الراعوي يصبح الكهنة شهوداً ليسوع المسيح الذي صلّى إلى أبيه “ليكونوا جميعهم واحداً” (يو 17 / 21).
ملامح الجسم الكهنوتي هي إذن ملامح أسرة حقيقية، وأخوّة وشائجها ليست من لحم ودم، بل من نعمة الكهنوت. هذه النعمة تحتضن وترفع العلائق البشرية والنفسية والعاطفية والصداقية والروحية بين الكهنة، وتتجلّى خصوصاً وتظهر واقعياً في شتى مجالات التعاون الروحي وحتى المادي. الأخوّة الكهنوتية لا تستثني أحداً، ولكنها تستطيع بل يجب عليها، أحياناً، في خطّ التوجّه الإنجيلي، أن تؤثر بالمحبة من هم أشد حاجة إلى الدعم والتشجيع.
“هذه الأخوة تحوّط الكهنة الجدد بعناية خاصة وتعقد حواراً قلبياً وأخوياً مع ذوي الأعمار المتوسطة أو المتقدمة، ومع الذين يعانون صعوبات خاصة لأسباب شتّى. وأما الكهنة الذين خرجوا من الخدمة أو الذين أسقطوا الأمانة لها، فالأخوّة لا تدعهم وشأنهم بل تتابعهم وتحوّطهم بعناية أرق” (225).
الكهنة الرهبان المقيمون والعاملون في كنيسة محلية هم جزء أيضاً، ولكن بصفة مختلفة، في الجسم الكهنوتي. وجودهم فيه يشكّل ثروة لكل الكهنة. مواهبهم الخاصة، على أنواعها، تحمل الكهنة على التقدم في فهم معنى الكهنوت وتساهم في حثّ الكهنة على متابعة تثقفهم الدائم. إن موهبة الحياة الرهبانية، ضمن الجماعة الأبرشية، إذا تمشّت مع التقدير الصادق والاحترام لمزية كل مؤسسة وكل تراث روحي، فهي تفسح أفق الشهادة المسيحية وتساهم، بطرق شتّى في إثراء الروحانية الكهنوتية. وهي تضطلع بهذه المهمة خصوصاً في كل ما يتعلق بالصلة الملائمة والأثر المتبادل بين قيم الكنيسة المحلية وقيم مجموع شعب الله. وعلى الرهبان، من جهتهم، أن يحرصوا على صون روح الشركة الكنسية الحقّة والمساهمة السخيّة في حسن سير الأبرشية، وتحقيق أهداف الأسقف الراعوية وتجنيد مواهبهم لبناء الجميع في المحبة (226).
في هذا السياق من التأمل في الكنيسة الشركة وفي الجسم الكهنوتي يجدر بنا أن نواجه معضلة عزلة الكاهن التي لفتت انتباه الآباء السينودسيين. هناك عزلة تندرج في خبرة الجميع كواقع عادي جداً. وإنما هناك عزلة أخرى، وليدة مصاعب من كل نوع، وتولّد بدورها معضلات أخرى. ولا بد من القول، في هذا المجال، أن “المشاركة الناشطة في المصف الكهنوتي الأبرشي والاتصالات المنتظمة بالأسقف والكهنة الآخرين، والتعاون المتبادل، والحياة المشتركة أو الأخوية بين الكهنة، كذلك الصداقة والعلاقات الوديّة مع العلمانيين الملتزمين خدمة الرعايا التزاماً ناشطاً، كل هذا هو من قبيل الوسائل الناجعة جداً للتغلب على عواقب العزلة التي قد يعانيها الكاهن أحياناً” (227).
العزلة لا تولّد فقط مصاعب، بل توفّر بعض الفوائد لحياة الكاهن، فهي إذا قُبلت بروح قرباني، والتُمست سبيلاً إلى الألفة مع الرب يسوع المسيح، فبإمكانها أن تنشّط الصلاة والدرس، كما بإمكانها أن تساهم في التقديس والتنمية الإنسانية” (228). هذا ويجب ألا يغيب عن بالنا أن شكلاً من أشكال العزلة لا بد منه للتثقيف الدائم. فالمسيح كان يتنحّى مراراً عن العالم، لينقطع إلى الصلاة في العزلة (را متى 14 / 23). إن القدرة على احتمال عزلة مفيدة هي شرط لا بد منه للحفاظ على الحياة الباطنة، فهي إذ ذاك عزلة آهلة بحضور الرب الذي يصلنا بالآب في نور الروح.
لا بد إذن في هذا المجال، من أن نخلد إلى الصمت، ونلتمس أمكنة وأوقاتاً “صحراوية” تلائم التنشئة الدائمة على الصعيد الفكري والروحي والراعوي. وفي هذا المجال أيضاً يمكن القول إن من لا يحسن عيش العزلة لا يقدر أن يعيش الشركة الحقة والأخوّة الصافية.
74- التثقيف الدائم يهدف إلى أن ينمّي، عند الكاهن، وعي اشتراكه في رسالة الكنيسة الخلاصية. في إطار الكنيسة “الرسالة”؛ التثقيف الكهنوتي الدائم ليس هو فقط شرطاً متواصلاً، وضمان تحقيقه بطريقة سخية وفيّة. هذا التثقف يساعد الكاهن في تحسّس واجبٍ لا يمكنه التغاضي عنه وإدراك كل ما ينطوي عليه، في آن واحد، من خطورة ذريعة ونعمة عجيبة. وعليه أن يقول مع بولس: “إذا بشّرت فليس في ذلك لي مفخرة، لأنها فريضة لا بدّ منها، والويل لي إن لم أبشّر” (1 قور 9 / 16). هذا التثقف يساعدنا أيضاً في أن نوجس مدى التلمّس، الصريح أو الدفين، عند الذين يدعوهم الله بلا ملل إلى الخلاص.
تثقف دائم ملائم يستطيع وحده أن يساند الكاهن في أن يظل وفياً لخدمته وفاء صميماً وجازماً. وهذا ما أشار إليه الرسول بولس بقوله: “جلُّ ما يُطلب من الوكلاء أن يكون كل منهم أميناً” (1 قور 4 / 2). فأيّاً كانت المشقَّات التي تعترض طريق الكاهن، حتى في أقسى الظروف، وفي أحوال الكلل التي لا بد منها، عليه أن يبقى صامداً وأميناً، بكل ما لديه من طاقات، حتى الرمق الأخير. شهادة بولس يجب أن تظلّ نموذجاً وحافزاً لكل كاهن. لقد كتب إلى المسيحيين في قورنش: “لا نجعلنّ لأحد سبيلاً إلى العثار لئلا ينال خدمتنا لوم، بل ننزل في كل أمر منزلة خدم الله بصبرنا في الشدائد والكرب والمشقات والجلد والسجن والفتن والتعب والسهر والصوم، بالعفاف والمعرفة وطول الأناة والرفق والروح القدس والمحبة الخالصة، بكلام الحق وقدرة الله وسلاح البر، سلاح الهجوم وسلاح الدفاع، بالكرامة والهوان، بسوء الذكر وحسنه. نحسب كاذبين ونحن صادقون، مجهولين ونحن معروفون، مائتين وها إننا أحياء، معاقبين ولا نقتل، محزونين ونحن دائماً فرحون، فقراء ونغني كثيراً من الناس، لا شيء عندنا ونحن نملك كل شيء” (2 قور 6 / 3 – 10).
في كل سنّ وفي كل حال من أحوال الحياة
75- التثقيف الدائم، لأنه دائم، يجب أن يظلّ دائماً ماثلاً في حياة الكهنة، أيّاً كان سنّهم أو ظروف حياتهم أو مستوى مسؤولياتهم الكنسية. ولكن من البديهي أن يتم ذلك انطلاقاً من الإمكانات المتوفرة، وخصائص الأعمار وظروف الحياة والوظائف.
التثقيف الدائم واجب يقع أولاً على الكهنة الشبّان، فهو يقودهم شيئاً فشيئاً وطبقاً لتوقيت ملائم وبرنامج لقاءات منظم يتممّ ما حصّلوه في الاكليريكية من ثقافة متينة ورصينة، إلى أن يستوعبوا ويعيشوا ذاك الغنى الفريد، غنى الموهبة التي جاد بها الله عليهم بالكهنوت. وهذا التثقيف يفسح لهم المجال أيضاً للتعبير عن مؤهلاتهم للخدمة، وأهبتهم خصوصاً للانخراط في الجسم الكهنوتي عن اقتناع ووعي، وبالتالي للشركة والمشاركة في المسؤولية مع إخوتهم الكهنة.
نفهم أن يكون لدى الكاهن الشاب الخارج توّاً من الاكليريكية شعور “بالارتواء” تجاه ما يطلب منه من انصرافٍ جديد إلى الدرس واللقاء والتحصيل. بيد أن فكرة انتهاء التنشئة الكهنوتية عند الخروج من الاكليريكية فكرة خاطئة وخطيرة جدّاً يجب تنحيتها.
عندما يشترك الكهنة الشبّان في لقاءات تؤمّن لهم التنشئة الدائمة، فهم يلقون فيها سنداً متبادلاً بتقاسم خبرات وأفكار في طريقة التعبير عملياً عن النموذج الكهنوتي الذي تبنّوه في غضون إقامتهم في الاكليريكية. ثمّ إن اشتراكهم النشيط في لقاءات التنشية ضمن محيط المصف الكهنوتي يمكن أن يكون مثالاً وحافزاً للكهنة الآخرين المتقدمين عليهم في السن. فهم يؤدّون بذلك الدليل على تعاطفهم مع المصف الكهنوتي بأجمعه، واندفاعهم في تلبية حاجة الكنيسة المحلية إلى كهنة مزوّدين بثقافة متقنة.
لكي تتوفّر للكنة الأحداث مواكبة تلائم هذه المرحلة الأولى والدقيقة من حياتهم الكهنوتية وخدمتهم الراعوية، ينبغي بل يجب اليوم، أكثر من أي يوم مضى، أن ينشأ جهاز دعم خاص مع ما يلزمه من كفاة المرشدين والمعلمين. هذا الجهاز يستطيع الكهنة الأحداث أن يصيبوا فيه، بطريقة نظيمة ومطّردة، ما يحتاجونه من دعم ليشرعوا في خدمتهم الكهنوتية شروعاً جيداً. في غضون لقاءات منتظمة، طويلة ومتواترة، وإذا تمّ ذلك في إطار حياة جماعية وإقامة سكنية، يجب أن توفر لهم فترات ثمينة يخلدون فيها إلى الراحة والصلاة والتداول الفكري والمقاسمة الأخوية، فيتيسّر عليهم بذلك، منذ البداية، أن يضمنوا لحياتهم الكهنوتية توازنها الإنجيلي. إذا كانت الكنائس المحلية عاجزة، وحدها، أن توفّر هذه الخدمة لكهنتها الجدد، فمن المستحبّ أن تنضمّ الكنائس المتقاربة لتجبي معاً الطاقات اللازمة وتصوغ معا البرامج المناسبة.
76- التثقف الدائم لا بد منه أيضاً للكهنة ذوي الأعمار المتوسطة. والحيقية أنهم قد يتعرّضون لأخطار كثيرة بسبب عمرهم بالذات، بالانهماك مثلاً في نشاطات مفرطة أو الانقياد للروتينية في ممارسة خدمتهم. هناك أيضاً خطر الادّعاء والاعتداد بالنفس واعتبار الخبرة الشخصية الممتحنة غير قابلة للتواجه مع أي خبرة أخرى أو أي شخص آخر. وليس من باب الندرة أن يعاني الكاهن إذ ذاك شبه كلل باطن خطير نتيجة خيبة مكظومة في مواجهة العراقيل والاخفاقات. علاج هذا الوضع يجده الكاهن في التثقيف الدائم والمراقبة المستمرة لتوازنه الشخصي وعمله، والمثابرة في البحث عن دواعي رسالته ووسائلها. هكذا يحفظ الكاهن ذهنه يقظاً ومتأهباً لتلبية المطالب الخلاصية المتجدّة بلا انقطاع التي يطرحها الكثيرون على الكاهن “رجل الله”.
التثقيف الدائم يجب أن يهتم له أيضاً الكهنة ذوو الأعمار المتقدمة، المدعوون “قدامى” والذين يشكلون في بعض الكنائس الفئة الأكثر عدداً في المصف الكهنوتي. هذا المصف يجب أن يحوّطهم بالشكر لما اضطلعوا به من خدمة وفيّة للمسيح وللكنيسة، ويظهر لهم من التضامن الفعلي ما يوجبه وضعهم الراهن. هؤلاء الكهنة لن يكون تثقيفهم الدائم مسألة درس ونقاش وتحديث ثقافي، بل تثبيت هادئ ووادع للدور الذي يدعون إلى الاضطلاع به في المصف الكهنوتي. هذا الدور لا يقتصر فقط على مواصلة الخدمة الراعوية، بأشكال قد تكون على جانب من التميّز، بل على المؤهلات التي زوّدتهم بها الحياة والرسالة ليصيروا هم أنفسهم للكهنة الآخرين من كفاة المعلمين والمرّبين.
وحتى الكهنة الذين أمسوا، بسبب التعب أو المرض، في وضع معيّن من الوهن الجسدي والملل الأدبي، يمكنهم أن يجدوا في التثقف الدائم رفداً. هذا التثقف الدائم يشجعهم على الاستمرار في خدمة الكنيسة بطريقة هادئة وشجاعة، ورفض الانفصال عن الجماعة وعن المصف الكهنوتي والتخفيف من نشاطهم الخارجي للتوفر على ما تقتضيه العلاقات الراعوية والروحانية الشخصية، وما من شأنه أن يدعم دواعي وجودهم وبهجة كهنوتهم. التثقف الدائم يساعدهم خصوصاً في المحافظة على ذاك اليقين الذي طالما لقّنوه للمؤمنين، وهو أنهم لا يزالون أعضاء ناشطة في بنيان الكنيسة، وخصوصاً بقوة اتحادهم بيسوع المسيح المتألم وبذاك الجمهور الكبير من الاخوة والأخوات في الكنيسة الذين يشاركون الرب آلامه. مع هؤلاء كلهم، يعيش الكهنة المتقدمون في السن خبرة بولس القائل: “يسرّني الآن ما أعاني لأجلكم فأتمّ في جسدي ما نقص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة” (قور 1 / 24) (229).
المسؤولون عن التنشئة الدائمة
77- الأحوال الراهنة التي تتم فيها الخدمة الكهنوتية، كثيراً ما لا تسهّل الإقبال على التثقيف الدائم، إقبالاً جدياً، وذلك عبر موقع في العالم. فكثرة المهام والخدمات المطلوبة وتعقّد الحياة البشرية بعامة، وحياة الجماعات المسيحية بخاصة، والانهماك في العمل والتوتّر في السعي، كل هذا يطبع أوساط مجتمعنا بطابع خاص، ويحرم الكهنة غالباً ما يفتقرون إليه من وقت وعزم لأنفسهم” (1 طيم 4 / 16).
كل هذا يجب أن ينمّي عند الجميع مسؤولية التغلّب على هذه العقبات واعتبارها تحدّياً لهم في تنظيم وتحقيق تنشئة دائمة، تتماشى وعظمة عطية الله وخطورة ما يواجهنا به عصرنا من مطالب ومقتضيات.
المسؤوون عن التنشئة الكهنوتية الدائمة يجب أن يثبت انتماؤهم إلى الكنيسة “الشركة”. ومن ثمّ فالكنيسة المحلية كلها مسؤولة، برعاية الأسقف، عن تعهد التنشئة الكهنوتية الدائمة وإرسائها في مختلف وجوهها وأنماطها. فالكهنة ليسوا كهنة لذواتهم بل لشعب الله. وبالتالي فالتنشئة الدائمة تضمن للكهنة نضجهم الإنساني والروحي والفكري والراعوي وتؤتي ثماراً خيرة تعود فائدتها على شعب الله نفسه. هذا، ولا يخفى أن ممارسة الخدمة الراعوية تؤدي إلى تبادل مستمرّ ومثمر بين حياة الإيمان عند الكهنة وعند المؤمنين، وإلى تقاسم حياتيّ بين الكاهن وجماعته، يكوّن مساهمة أساسية في التنشئة الدائمة إذا عرف الكاهن أن يحقّقه ويفيد منه إفادة حكيمة. هذه المساهمة لا تقتصر على فترة محددة ولا على مبادرة معزولة، بل تشمل حياة الكاهن كلها وخدمته.
والواقع أن ما يلقاه الكاهن لدى البسطاء والمتواضعين من سيرة مسيحية، ولدى المشغوفين بالله من ارتقاءات روحية، ولدى المسيحيين الملتزمين من ممارسة عملية وجريئة في مسؤوليات اجتماعية ومدنية شتى، كل هذا يعود بالفائدة على الكاهن فيجد فيه غذاءً روحياً منشّطاً إذا أضفى عليه نور خدمته الكهنوتية. وحتى الريب والأزمات والترددات بإزاء الأوضاع الشخصية والاجتماعية من كل نوع، أو حتى مسوّلات الرفض واليأس في ساعات الألم والمرض والموت، كل هذه الأشواك التي يصادفها الناس على دروب الإيمان، يختبرها الكاهن ويقاسمها مقاسمة أخوية ويتوجّع لها في قلبه توجّعاً صادقاً، وفي التماسه أجوبة للآخرين، يجد نفسه مضطراً إلى التماسها دون كلل لذاته.
وهكذا فشعب الله كله، وبأعضائه كلها، يمكنه بل يجب عليه أن يؤدي قسطه وافياً في التنشئة الكهنوتية الدائمة. ومن واجبه، في هذا المجال، أن يدع للكهنة من الوقت ما يحتاجونه للدرس والصلاة، وألا يطلب منهم إلاّ ما يدخل في نطاق مهمّتهم، ويتعاون وإياهم في مختلف قطاعات رسالتهم الراعوية مع التنبّه، بطريقة خاصة، لكل ما يتعلّق بالرقي الإنساني وخدمة المحبة. وعليه أن يقيم مع كهنته علاقات إنسانية وأخوية ويبعث فيهم الوعي أنهم “لم يُجعلوا للسيطرة على الإيمان” بل “للمعاونة في فرح” جميع المؤمنين (را قور 1 / 24).
هذه المسؤولية الموضوعة على عاتق الكنيسة المحلية في تنشئة الكهنة، يضطلع بها، بطريقة عملية ومميّزة، كل من أعضاء هذه الكنيسة، ابتداء من الكاهن نفسه.
78- الكاهن هو المسؤول الأول، نوعاً ما، عن تثقّفه الدائم في الكنيسة، وعلى كل كاهن يقع حقاً هذا الواجب الناشب في صميم كهنوته، أن يظلّ وفيّاً لعطية الله ولدينامية التوبة اليومية النابعة من هذه العطية نفسها. فالأنظمة والقواعد التي تقرّها السلطة الكنسية في هذا الشأن، والأمثلة الصادرة عن الكهنة الآخرين، لا تكفي لتشوّق الكاهن وتجذبه إلى متابعة التثقيف إذا لم يكن هو نفسه مقتنعاً من ضرورتها، ومصمّماً على الاستفادة من سوانحها وأوقاتها وأنماطها. التثقيف الدائم يحفظ للروح “شبابه” ونضارته، وهذا لا يستطيع أحد أن يفرضه من الخارج، بل يستقيه كل واحد من ذاته بلا انقطاع. هذا “الشباب” لا ينعم به إلا من يحفظ دائماً في قلبه متأججاً حبّ التعلّم والتقدم.
مسؤولية الأسقف وإلى جانبه الجسم الكهنوتي، مسؤولية أساسية. هذه المسؤولية الأسقفية ترتكز على أن الكهنة يستمدّون كهنوتهم من الأسقف، ويشاركونه محبته الراعوية لشعب الله برمته. أنه مسؤول عن هذه التنشئة الدائمة الهادفة إلى أن يكون جميع كهنته أمناء للموهبة والخدمة التي أنيطت بهم، كما يريدهما شعب الله، وكما من “حقه” أن يريدهما. هذه المسؤولية ترتّب على الأسقف، بمعيّة الجسم الكهنوتي، أن يقرّ وينظّم برنامج تنشئة دائمة لا يقصرها على نقطة معيّنة، بل يجعل منها مشروعاً ممتّداً على مراحل وطبقاً لمناهج واضحة. ولا تقتصر مسؤولية الأسقف على أن يوفّر لكهنته ما يلزم من الأمكنة والأوقات لتنشئتهم الدائمة، بل عليه، علاوة على ذلك، أن يكون حاضراً هو نفسه ويشارك فيها عن اقتناع واندفاع. وقد يكون من المناسب غالباً بل من الضرورة أن يعمد أساقفة الأبرشيات المجاورة أو أساقفة المنطقة الرسولية الواحدة إلى التشاور والتعاون للوصول إلى مقترحات أفضل تعود بالفائدة على مناهج التنشئة الدائمة؛ من ذلك مثلاً إقامة دورات كتابية أو لاهوتية أو راعوية، وفترات حياة مشتركة، وسلاسل محاضرات وأوقات تفكير وتقييم للتوجهات الراعوية للمصف الكهنوتي والجماعة الكنسية.
ويمارس الأسقف مسؤوليته أيضاً بطلب المساهمة التي يمكن أن تؤديها معاهد الدروس اللاهوتية والراعوية وكليّاتها والإكليريكيات والأجهزة والمنظمات المعنيّة بالتنشئة الدائمة، علاوة على الأفراد المهتميّن لهذا الشأن من كهنة ورهبان وعلمانيين.
في إطار الكنيسة المحلية تحتل الأسرة مكاناً مرموقاً، في مجال التنشئة الكهنوتية الدائمة. فالأسرة هي “الكنيسة البيتية” وهي، من ثمّ، مرجع حقيقي للجماعات الكنسية الموكولة إلى رعاية الكهنة وتوجيههم. ولا بدّ من التنويه، على الأخص، بدور أسرة الكاهن نفسه فإذا شاركته النيّة فبإمكانها أن تؤدي لرسالته رفداً أصيلاً ونفيساً. فهي مهد دعوته ومصدر حماية ودعم لا بدّ منهما لتنمو وتترعرع. فإذا تطوّعت أسرة الكاهن لتحقيق قصد العناية الآلهية التي انبتت فيها الدعوة، فهي تساهم، لا محالة أيضاً، في نموّها وازدهارها، وعليها من ثمّ، أن تظلّ دائماً إلى جانبه شاهدة أمينة تحوّط بأعظم الاحترام هذا الابن الذي أختار أن يقدّم حياته لله ولأخوته، وتشجعه في رسالته، وتقاسمه أعباءها، بتفان ورزانة.
التنشئة الدائمة: أوقاتها وأشكالها ووسائلها
79- كل وقت يمكن أن يكون “وقتاً مرتضى” (را 2 قور 6 / 2) يعمل فيه الروح القدس على إنماء الكاهن في الصلاة والدرس ووعي مسؤولياته الراعوية. وإنما هناك أوقات “ممتازة”، وإن كانت عادية وملحوظة من قبل.
لا بد من التذكير هنا أولاً بلقاءات الأسقف مع كهنته، ليترجية كانت (وبخاصة الاحتفال الجماعي بقداس الخميس المقدس) أم راعوية أم ثقافية لتبادل الآراء في الأنشطة الراعوية أو لمعالجة قضايا لاهوتية معيّنة.
ثمة أيضاً اللقاءات الكهنوتية الروحية، كالتمارين الروحية والخلوات الروحية، وهي سوانح نماء روحي وراعوي، وصلاةٍ أهدأ وأطول، وعودةٍ إلى جذور الهويّة الكهنوتية، ونضارة جديدة لدوافع الأمانة والانطلاق الراعوي.
مهمّة أيضاً لقاءات الدرس والتفكير معا. فهي تتلافى الأملاق الثقافي، وتجمّد الأفكار والمواقف البالية على الصعيد الراعوي، نتيجة للتواني الفكري. وهي توفّر خلاصة أوعى ورباطاً محكماً بين مقوّمات الحياة الروحية والثقافية والرسولية، وتوعّي العقل والقلب على ما يواجهنا به التاريخ من تحدّيات جديدة ونداءات جديدة يطلقها الروح في الكنيسة.
80- هناك أنماط كثيرة في التعاون وأساليب كثيرة يمكن استعمالها لجعل التنشئة الدائمة أحبّ على قلوب الكهنة. من قبيل ذلك أشكال متنوعة من الحياة الكهنوتية المشتركة لا تزال قائمة في تاريخ الكنيسة، على اختلاف أنماطها ودرجات وهجها. “هذه الحياة المشتركة لا نستطيع اليوم إلا أن نوصّي بها، وخصوصاً لمن يعيشون معاً ويضطلعون معاً بمهامهم الراعوية في نفس المكان. هذه الحياة الكهنوتية المشتركة تعود بالنفع على الحياة والنشاط الراعوي، وتؤدي للجميع، كهنة وعلمانيين، مثالاً نيّراً في المحبة والوحدة” (230).
ثمة رفد آخر يمكن أن توفره الجمعيات الكهنوتية ولا سيما الجمعيات الكهنوتية ذات الطابع الأبرشي التي تضم الكهنة حول أسقفهم ضمّاً أوثق. هذه المؤسسات تدعو أعضاءها الكهنة إلى التكرس بالنذور أو بوثاقات مقدسة أخرى، والتزام المشورات الإنجيلية التزاماً عملياً في حياتهم الكهنوتية” (231). كل هذه الأصناف من “الأخوّة الكهنوتية” التي أقرتها الكنيسة مفيدة لا للحياة الروحية وحسب، بل للحياة الرسولية والراعوية أيضاً.
ممارسة الاسترشاد الروحي تساهم أيضاً مساهمة فعّالة في التنشئة الكهنوتية الدائمة، فهي وسيلة تقليدية معروفة لم تفقد البتة قيمتها، ليس فقط للتنشئة الروحية، بل أيضاً لتعزيز ودعم الاستمرار في الأمانة والسخاء في ممارسة الخدمة الكهنوتية. وقد كتب بولس السادس، في هذا الشأن: “الإرشاد الروحي له وظيفة رائعة، ويسوغ القول أن الإرشاد الروحي لا غنى عنه في التربية الأخلاقية والروحية في كل مرحلة من مراحل العمر، وكلّ مرة نعمد إلى محبة مرشد تقي وأنواره الحكيمة لنتحقق من سداد وضعنا، ونستمد منه الدعم في تحقيق ما علينا تحقيقاً سخياً، إنه وسيلة تربوية دقيقة جدّاً ونفسية جداً، بل هو للمرشد فنّ تربوي ونفسيّ يحمّله مسؤولية كبيرة، وللمرشد مران روحي على التواضع والثقة” (232).
الخاتمة
81- “وأعطيكم رعاة على وفق قلبي” (ار 3 / 15).
وعد الله هذا لا يزال حتى اليوم حيّاً وفاعلاً في الكنيسة؛ فهي تعرف أن هذه الكلمات النبوية موجهة إليها دائماً وأبداً، وتلمس حقيقتها وتحققها كل يوم وفي أماكن كثيرة في الأرض، بل في قلوب بشرية كثيرة وبخاصة عند الشباب. في عتبة الألف الثالث، تود الكنيسة، بسبب من حاجاتها الخطيرة والملحّة، ومن حاجات العالم أيضاً، أن يتحقق هذا الوعد بطريقة متجددة، وعلى مدى أوسع وبشكل أعمق وأفعل، بفيض خارق من روح العنصرة.
وعد الرب يوقظ في قلب الكنيسة صلاة وسؤالاً متواضعاً ومتوقداً وحافلاً بالثقة بمحبة الآب. فكما أرسل يسوع الراعي الصالح، والرسل وأعقابهم، وجمهوراً لا يحصى من الكهنة، لا يزال حتى اليوم يظهر للناس أمانته ولطفه.
الكنيسة مستعدة لتلبية هذه النعمة، وتعلم أن هبة الله تقتضي ردّاً سخيّاً جامعاً: كل شعب الله يجب أن يصلّي بلا ملل ويعمل في سبيل الدعوات الكهنوتية. وعلى طلاب الكهنوت أن يستعدّوا استعداداً دقيقاً لأن يتقبلوا عطية الله ويعيشوها، يقيناً منهم أن الكنيسة والعالم هما بأمسّ الحاجة إليهم. وعليهم أن يُشغفوا بالمسيح الراعي الصالح ويجعلوا قلبهم شبه قلبه، ويستعدوا، مثله، لأن يجوبوا دروب العالم ويعلنوا للجميع أن المسيح هو الطريق والحق والحياة.
وإني أوّجه نداء خاصّاً إلى الأسر: لكي يسخى الوالدون، ولا سيما الأمهات، ويقدموا للرب من يدعوهم الله من أبنائهم إلى الكهنوت، ويساهموا، بفرح في مسار دعوتهم؛ وليكونوا على يقين أنهم، بهذه الطريقة، يوسّعون ويعمّقون خصبهم المسيحي والكنسي، فيخبرون، نوعاً ما، ما خبرته العذراء من سعادة: “مباركة أنت في النساء، ومباركة ثمرة بطنك” (لو 1 / 42).
وأما شبيبة اليوم، فأود أن أقول لها هذا: كونوا أكثر طواعية لصوت الروح، ولتجلجل في قلوبكم كبريات آمال الكنيسة والبشرية، ولا تجزعوا من أن تُشرعوا روحكم لنداء المسيح الرب، واكتشفوا النظرة المحبة، نظرة يسوع المحدّق إليكم، ولبّوا نداءه إلى اتباعه اتباعاً كاملاً.
وتستجيب الكنيسة للنعمة، بالتزام الكهنة واجب التثقيف الدائم المطلوب منهم بداعي الكرامة والمسؤولية النابعتين من سرّ الكهنوت. كل الكهنة مدعوون إلى أن يدركوا الواجب الملّح الذي يلزمهم اليوم الزاماً خاصاً بمواصلة تثقيفهم: وذلك بأن البشارة الجديدة بحاجة إلى مبشرين جدد، وإلى كهنة يؤالون على ذواتهم أن ينهجوا نهج القداسة الكهنوتية.
وعد الله هذا يكفل لكنيسته لا رعاة عاديين، بل رعاة “على وفق قلبه”. “قلب” الله تجلّى لنا تجلّياً كاملاً من خلال قلب المسيح الراعي الصالح. فهو لا يزال دائما يشفق على الحشود الشعبية، ويزوّدهم بخبز الحقيقة، خبز المحبة والحياة (را مر 6 / 30 – 44)، ويود لو يخفق في قلوب أخرى – قلوب الكهنة _ : “أعطيكم أنتم ليأكلوا” (مر 6 / 37). الناس بحاجة إلى أن يخرجوا من الغفلية ويعتقوا من الخوف. إنهم بحاجة إلى من يعرفهم ويناديهم بأسمائهم، فيسيرون على دروب الحياة بخطى ثابتة، وإلى من يجدهم إذا ضلّوا الطريق، فينالون الخلاص عطية أخيرة من عطايا الحبّ الإلهي. هذا ما يحققه يسوع الراعي الصالح، وما يحققه الكهنة معه.
في ختام هذه الموعظة، أحيل نظري إلى ذاك الحشد الغفير من الاكليريكيين والكهنة المنتشرين في كل أنحاء العالم، والذين يواجهون أصعب الظروف بل أحرجها أحياناً ولكن دائماً في غمرة الفرح والجهاد في سبيل الأمانة للرب وخدمة القطيع بلا ملل، ويقرّبون كل يوم حياتهم لنموّ الإيمان والرجاء والمحبة في قلوب وفي حياة معاصرينا من الرجال والنساء.
أنتم، أيها الكهنة الأعزاء، تفعلون ذلك لأن الرب هو الذي دعاكم بقوة روحه القدوس، إلى أن تظهروا للناس، من خلال حياتكم المتواضعة، المستترة في آنية من خزف، صورة الراعي الصالح وكنز حبّه الذي لا يثمن.
فبالاتحاد مع الآباء السينودسيين، وباسم جميع الأساقفة في العالم والأسرة المسيحية كلها، أود أن أعرب لكم عن الشكر الذي تستحقّه أمانتكم وخدمتكم (233).
وإني أتمنى لكم جميعاً أن تجدّدوا كل يوم هبة الله التي أفيضت عليكم بوضع الأيدي (را 2 طيم 1 / 6)، وتختبروا العزاء النابع من عمق الصداقة التي تربطكم بيسوع وتشدّكم بعضكم إلى بعض وتنعموا بنمو قطيع الله وتقدّمه في محبته تعالى ومحبة كل إنسان وتلبثوا على وثوق ويقين أن من بدأ فيكم هذا العمل الصالح سيسوقه إلى غايته حتى يوم المسيح يسوع (را فيل 1 / 6)؛ بالاتحاد مع الجميع ومع كل واحد منكم، أوجّه هذا الدعاء إلى مريم أمنا ومربيتنا في الكهنوت.
التنشئة الكهنوتية بكل نواحيها، يمكن الرجوع بها إلى مريم، هي التي من بين الناس، وأكثر من أي إنسان آخر، لبّت نداء الله، فصارت للكلمة خادمة وتلميذة، وصوّرت في قلبها وأحشائها الكلمة المتأنّس لتقدّمه للبشرية. لقد دُعيت إلى أن تكون مربّية الكاهن الأبدي الأوحد الذي أطاعها وخضع لسلطتها الوالدية. وتبقى العذراء القديسة بمثالها وشفاعتها ساهرة على ازدهار الدعوات والحياة الكهنوتية في الكنيسة.
ومن ثم فنحن الكهنة مدعوون إلى أن ننمّي في ذواتنا، للعذراء مريم، عاطفة حبّ رقيق ومتين، ونعرب عن هذه العاطفة بالتشبّه بفضائلها والتوجّه إليها بالدعاء المتواتر.
يا مريم أم يسوع المسيح وأم الكهنة، تقبّلي هذا الاسم الذي نطلقه عليك، لكي نحتفل بأمومتك ونتأمّل، بقربك، في كهنوت ابنك وابنائك، يا أمّ الله القديسة.
يا أمّ المسيح، لقد أعطيت الماسّيا الكاهن جسده البشري، بمسحة الروح القدس لخلاص المساكين ، وذوي القلب النادم، أحفظي الكهنة في قلبك وفي الكنيسة، يا أمّ المخلص.
يا أمّ الإيمان، لقد رافقت إلى الهيكل ابن الإنسان، كمال الوعود المعقودة لآبائنا، كلي إلى الآب، لمجده، كهنة ابنك، يا تابوت العهد.
يا أمّ الكنيسة في العلّية، مع التلاميذ، كنت تصلّين إلى الروح، لأجل الشعب الجديد ورعاته، اطلبي للكهنة كمال المواهب، يا سلطانة الرسل .
يا أمّ يسوع المسيح، كنت معه في مطلع حياته ورسالته، لقد بحثت عنه معلّماً بين الشعب، وكنت بقربه، مصلوباً ومعدّاً للذبيحة الوحيدة الأبدية وكان بقربك يوحنا ابنك.
تقبّلي الذين دعاهم الرب، في خطواتهم الأولى على الطريق، اسهري على نموّهم ورافقي في الحياة والخدمة، من هم أبناؤك، أنت يا أمّ الكهنة. آمين.
صدر عن رومة، بقرب كنيسة القديس بطرس، في 25 آذار / مارس 1992، في عيد البشارة بالرب، في السنة الرابعة عشرة من حبريتنا.
يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1) التوصية 2 من مجمع الأساقفة.
2) الكلمة الختامية في مجمع الأساقفة المنعقد بتاريخ 27 / 10 / 1990، عدد 5: صحيفة الأوسرفاتوري رومانو، 28 / 10 / 1990.
3) التوصية 1.
4) الدستور العقائدي “نرو الأمم” عدد 28؛ القرار المجمعي في التنشئة الكهنوتية، القرار المجمعي في حياة الكهنة وخدمتهم الرعوية.
5) Ratio fundamentalis institutionis sacerdotalis (6 / 1 / 1970): أعمال الكرسي الرسولي 62 (1970)، ص 321 – 384.
6) الكلمة الختامية في مجمع الأساقفة (27 / 10 / 1990)، عدد 3، المرجع السابق ذكره.
7) المرجع نفسه عدد 1.
8) رسالة آباء المجمع إلى شعب الله (28 / 10 / 1990) عدد 3، المرجع السابق ذكره صحيفة الأوسرفاتوري رومانو، 29 – 30 / 10 / 1990.
9) صلاة التبشير (14 / 1/ 1990)، عدد 2: صحيفة الاوسرفاتوري رومانو، 15 – 16 / 10 / 1990.
10) المرجع نفسه عدد 3.
11) التوصية 3.
12) بولس السادس، عظة في الدورة العامة التاسعة للمجمع المسكوني الفاتيكان الثاني (7 / 12 / 1965): أعمال الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص 55.
13) التوصية 3.
14) المرجع نفسه.
15) مجمع الأساقفة الخاص في “تنشئة الكهنة في الأحوال الراهنة” – الخطوط الكبرى (1989) عدد 5 و 6.
16) الدستور الرعوي “في الكنيسة وعالم اليوم”؛ فرح ورجاء، عدد 4.
17) مجمع الأساقفة، الجمعية العامة العادية السابعة، رسالة آباء المجمع إلى شعب الله (28 / 10 / 1990)، الجزء الأول.
18) الكلمة الختامية، مجمع الأساقفة ( 27 / 10 / 1990)، عدد 4: المرجع نفسه؛ الرسالة الموجهة إلى الكهنة في مناسبة خميس الأسرار 1991 (10 / 3 / 1991): صحيفة الأورسرفاتوري رومانو، 15 / 3 / 1991.
19) الدستور العقائدي في الكنيسة “نور الأمم”؛ القرار في حياة الكهنة وخدمتهم الرعوية، القرار في تنشئة الكهنة، المجمع المقدس للتربية الكاثوليكية: توجيهات أساسية للتنشئة الكهنوتية ( 6 / 1/ 1870) المرجع السابق ذكره، ص 321 – 384، مجمع الأساقفة، الجمعية العامة العادية الثانية، 1971.
20) التوصية 7.
21) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني. الدستور العقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عدد 5.
22) إرشاد رسولي: “العلمانيون المؤمنون بالمسيح” ( 30 / 12 / 1988) عدد 8: أعمال الكرسي الرسولي 81 (1989) ص 405؛ مجمع الأساقفة، الجميعة العامة غير العادية الثانية، 1985.
23) التوصية 7.
24) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، القرار في حياة الكهنة وخدمتهم الرعوية، عدد 7 و 8.
25) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عدد 1.
26) التوصية 7.
27) المرجع نفسه.
28) التوصية 7.
29) مجمع الأساقفة، الجمعية العامة العادية الثامنة، تنشئة الكهنة في الأحوال الراهنة، عدد 16؛ راجع التوصية 7.
30) صلاة التبشير، 25 / 2 / 1990: الاوسرفاتوري رومانو، 26 – 27 / 2 / 1990.
31) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 7 – 9.
32) المرجع نفسه عدد 8؛ التوصية 7.
33) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 9.
34) الدستور المجمعي في الكنيسة”نور الأمم” عدد 10.
35) التوصية 7.
36) القرار المجمعي في حياة الكهنة وخدمتهم الراعوية، عدد 10.
37) القرار المجمعي في تنشئة الكهنة، عدد 20.
38) التوصية 12.
39) رسالة آباء المجمع إلى شعب الله ( 28 / 10 / 1990)، الجزء 3.
40) الدستور المجمعي في الكنيسة “نور الأمم”، عدد 40.
41) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 12.
42) العظة 340، 1: الآباء اللاتين 38، 1483.
43) المرجع نفسه.
44) التوصية 8.
45) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 2؛ 12.
46) التوصية 8.
47) Sermo Morin Guelferbytanus, 32, 1; PLS 2, 637.
48) كتاب القداس اللاتيني، صلاة المناولة، الأحد الرابع بعد الفصح.
49) الرسالة الحبرية في “كرامة المرأة” (15 / 8 / 1988)، عدد 26 ، أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988) ص 1715 – 1716.
50) التوصية 7.
51) عظة السجود، سيول، (7 / 10 / 1989) عدد 2، تعاليم: الجزء 12 / 2 (1989) ص. 785.
52) أغسطينوس، في إنجيل يوحنا 123، 5: CCL 36, 678
53) إلى الكهنة المشاركين في مؤتمر مجلس الأساقفة إيطاليا (4 / 11 / 1980): تعاليم، الجزء الثالث / 2 (1980)، ص. 1055.
54) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عد 14.
55) المرجع نفسه.
56) المرجع نفسه.
57) بولس السادس، الإرشاد الرسولي، في “واجب إعلان الإنجيل”، (8 / 12 / 1975) عدد 75؛ أعمال الكرسي الرسولي 68 (1976) ص 64 – 67.
58) التوصية 8.
59) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 12.
60) In Iohannis Evangelium Tractatus 123, 5: 1.c.
61) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 12.
62) المرجع نفسه، عدد 5.
63) المجمع المسكوني التريدنتيني، القرار في “التبرير” الفصل 7؛ القرار “في الأسرار” قانون 6، (1529، 1606).
64) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 12.
65) عظة في طبيعة رسالة الرسولين بطرس وبولس المستوحاة من الإنجيل حيث يقول: يا سمعان بن يونا هل تحبني؟ S. Augustin, Sermo de Nat. Sanct. Apost. Petri et Pauli ex Evangelio in quo ait: Simon Iohannis diligis me?: Bibliotheca Casimensis, in “Miscellanea Augustiniana”, Vol. I, publié par G. MORIN, o.s.b., Rome, Typ. Polygl. Vat., 1930, p. 404.
66) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 4 – 6 و 13.
67) بولس السادس، إرشاد رسولي في “واجب إعلان الإنجيل” (8 / 12 / 1975)، عدد 15، ص. 13 – 15.
68) الدستور المجمعي في الوحي الإلهي “كلمة الله”، عدد 8 و 10.
69) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 5.
70) الإرشاد الرسولي، “المصالحة والتوبة” (2 / 12 / 1984)، عدد 31، الفصل 4: أعمال الكرسي الرسولي، 77 (1985) ص. 265 – 266.
71) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 6.
72) الدستور المجمعي في الكنيسة “نور الأمم”، عدد 42.
73) التوصية 9.
74) القرار المجمعي في حياة الكهنة، “نور الأمم”، عدد 15.
75) المرجع نفسه.
76) الدستور المجمعي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد 42.
77) الإرشاد الرسولي في “وظائف العائلة المسيحية” (22 / 11 / 1981)، عدد 16: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982) ص. 98.
78) التوصية 11.
79) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 16.
80) المرجع نفسه.
81) التوصية 8.
82) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 17.
83) التوصية 10.
84) المرجع نفسه.
85) المجمع المقدس للرهبانيات والمؤسسات الكهنوتية والمجمع المقدس للأساقفة: “توجيهات بشأن العلاقات المتبادلة بين الأساقفة والرهبان في الكنيسة” (14 / 5 / 1978) عدد 18، أعمال الكرسي الرسولي 70 (1978)، ص. 484 – 485.
86) التوصية 25 و 38.
87) الدستور المجمعي في الكنيسة “نور الأمم”،عدد 23.
88) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 10 والتوصية 12.
89) رسالة الفادي (7 / 12 / 1990)، عدد 67: أعمال الكرسي الرسولي 83 (1991)، ص 315 – 316.
90) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 10.
91) عظة أمام 5000 كاهن من جميع مناطق العالم (9 / 10 / 1984)، عدد 2: تعاليم، الجزء 7 / 2 (1984)، ص. 839.
92) الكلمة الختامية في مجمع الأساقفة (27 / 10 / 1990)، عدد 5.
93) التوصية 6.
94) التوصية 13.
95) التوصية 4.
96) الدستور المجمعي في الكنيسة “نور الأمم” عدد 9.
97) المرجع نفسه.
98) S. Cyprien, DE dominica Oratione, 23: CCL 3/ A, 105>
99) القرار المجمعي في رسالة العلمانيين، عدد 3.
100) التوصية 5.
101) صلاة التبشير (3 / 12 / 1989)، عدد 2: تعاليم، الجزء 12 / 2 / (1989)، ص. 1417.
102) رسالة في مناسبة اليوم العالمي للصلاة من أجل الدعوات الكهنوتية (19 / 4 / 1968): تعاليم: الجزء 6، (1968)، ص. 134 – 135.
103) التوصية 5.
104) راجع الدستور المجمعي “نور الأمم”، عدد 10 والقرار المجمعي في “خدمة الكهنة وحياتهم”، عدد 12.
105) التوصية 13.
106) الدستور المجمعي “فرح ورجاء”، عدد 16.
107) كتاب القداس اللاتيني، صلاة لأجل الدعوات الكهنوتية.
108) الدستور المجمعي في الليتورجيا المقدسة، عدد 10.
109) التوصية 15.
110) المرجع نفسه.
111) “لا يجوز لأحد أن ينتهك حق أي كان في الحفاظ على شأنه الخاص”؛ الحق القانوني، بند 220 و 642.
112) القرار المجمعي في التنشئة الكهنوتية، عدد 2.
113) القرار المجمعي في مهمة الأساقفة الراعوية، عدد 15.
114) القرار المجمعي في التنشئة الكهنوتية، عدد 2.
115) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 6.
116) المرجع نفسه، عدد 11.
117) القرار المجمعي في التنشئة الكهنوتية، عدد 2.
118) التوصية 14,
119) التوصية 15.
120) التوصية 16.
121) رسالة في مناسبة اليوم العالمي الثاني والعشرين للصلاة من أجل الدعوات الكهنوتية، (13 / 5 / 1985)، عدد 1: أعمال الكرسي الرسولي 77 (1985) ص. 982.
122) رسالة آباء المجمع إلى شعب الله (28 / 10 / 1990)، الجزء 4: المرجع السابق ذكره.
123) التوصية 21.
124) القرار المجمعي في “تنشئة الكهنة”، عدد 11؛ القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 3؛ المجمع المقدس للتربية الكاثوليكية: توجيهات أساسية للتنشئة الكهنوتية (6 / 1 / 1970)، عدد 51، ص. 356 – 357.
125) التوصية 21.
126) الرسالة العامة “فادي الإنسان” (4 / 3 / 1979)، عدد 10 أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979)، ص. 274.
127) إرشاد رسولي، في “وظائف العائلة المسيحية” (22 / 11 / 1981)، عدد 37، ص. 128.
128) المرجع نفسه.
129) التوصية 21.
130) الدستور الراعوي في الكنيسة وعالم اليوم، “فرح ورجاء”، عدد 24.
131) التوصية 21.
132) التوصية 22.
133) Cf. S. Augustin, Conf., I, 1: CSEL 3, 1.
134) مجمع الأساقفة، الدورة العامة العادية الثامنة: تنشئة الكهنة في الأحوال الراهنة، “أداة العمل”، عدد 30.
135) التوصية 22.
136) التوصية 23.
137) القرار المجمعي في التنشئة الكهنوتية، عدد 8.
138) دستور عقائدي في الوحي الإلهي “كلمة الله”، عدد 24.
139) المرجع نفسه، عدد2.
140) المرجع نفسه، عدد 25.
141) صلاة التبشير (4 / 3 / 1990) عدد 2 – 3، الاوسرفاتوري رومانو 5 – 6 / 3/ 1990.
142) الدستور المجمعي في الليتورجيا، عدد 14.
143) S. Augustin, In Iohannes Evangelium Tractatus 26, 13: 1.c. 266>
144) Liturgia Horarum, In festo SS. Corpris Christi, ad II Vesperas antiphona ad Magnificat.
145) القرار المجمعي في حياة الكهنة وخدمتهم الراعوية، عدد 13.
146) صلاة التبشير (1 / 7 / 1990)، عدد 3، الاوسرفاتوري رومانو 2 – 3 / 7 / 1990.
147) التوصية 23.
148) المرجع نفسه.
149) المرجع نفسه.
150) القرار المجمعي في التنشئة الكهنوتية، عدد 9.
151) المجمع المقدس للتربية المسيحية، أسس المعاهد الكهنوتية (6 / 1/ 1970)، ص 354.
152) القرار المجمعي في التنشئة الكهنوتية، عدد 10.
153) المرجع نفسه.
154) رسالة إلى جميع الكهنة في مناسبة خميس الأسرار 1979: تعاليم 2 / 1 (1979)، ص 841 – 862.
155) التوصية 24.
156) الدستور المجمعي الراعوي “فرح ورجاء”، عدد 15.
157) التوصية 26.
158) القرار المجمعي في التنشئة الكهنوتية، عدد 16.
159) تنشئة الكهنة في الأحوال الراهنة “أداة العمل”، عدد 39.
160) المجمع المقدس للتربية الكاثوليكية، رسالة إلى الأساقفة بشأن تعليم الفلسفة في المعاهد الاكليريكية (20 / 1 / 1972).
161) De Trinitate XV, 28: CCL 50/ A, 534.
162) خطاب في الأسبوع البيبلي الإيطالي الواحد والعشرين (25 / 9 / 1970): أعمال الكرسي الرسولي 62 (1970)، ص. 618.
163) التوصية 26.
164) “الإيمان الذي هو بمثابة ملكة لاهوتية” In Lib. Boetii de Trinitate V, 4, ad 8.
165) راجع توما الأكويني، In I Sentent. Q. I, a: 1 – 5.
166) مجمع العقيدة والإيمان، إرشاد في الدعوة الكنسية لاستاذ اللاهوت ملقّن الحقيقة (Donum Veritatis) (24 / 5 / 1990)، عدد 11 و 40؛ أعمال الكرسي الرسولي 82 (1990) ص. 1554 – 1555 و 1568 – 1569.
167) القرار المجمعي في التنشئة الكهنوتية، عدد 14.
168) Itinerarium mentis in Deum, Prol. N. 4: Opera omnia, Tomus V, Ad Claras Aquas (1891), p. 296.
169) القرار المجمعي في التنشئة الكهنوتية، عدد 16.
170) الرسالة العامة “الاهتمام بالشأن الاجتماعي” (30 / 12 / 1987)، عدد 41: أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988) ص. 571.
171) الرسالة العامة “السنة المئة” (1 / 5 / 991)، عدد 54: أعمال الكرسي الرسولي 83 (1991) ص. 859 – 860.
172) مجمع العقيدة والإيمان، إرشاد في الدعوة الكنسية لاستاذ اللاهوت (24 / 5 / 1990) عدد 21: المرجع المذكور أعلاه ص. 1559.
173) التوصية 26.
174) على سبيل المثل كتب القديس توما الأكويني: “ينبغي إيثار الكنيسة على سلطة أوغسطينوس وإيرونيموس أو أي معلم آخر” (المجموعة اللاهوتية 2 – 2، 10، 12 وقال في مكان آخر: “ولا يستطيع أحد أن يتسلّح بسلطة إيرونيموس وأوغسطينوس أو أي معلم آخر ضد سلطة بطرس”، المجموعة اللاهوتية (2 – 2، 11، 2 و 3).
175) التوصية 32.
176) الرسالة العامة “رسالة الفادي” (7 / 12 / 1990)، عدد 67، المرجع المذكور أعلاه ص. 315 – 316.
177) التوصية 32.
178) التوصية 27.
179) القرار المجمعي في التنشئة الكهنوتية، عدد 4.
180) الدستور المجمعي العقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عدد 48.
181) شرح سفر الرؤيا، الآباء اللاتين، Lib. II, 12: PL 93, p.
182) التوصية 28.
183) المرجع نفسه.
184) القرار المجمعي في حياة الكهنة وخدمتهم الراعوية، عدد 9، والإرشاد الرسولي: “العلمانيون المؤمنون بالمسيح، للبابا يوحنا بولس الثاني (30 / 12 / 1988)، عدد 61 المرجع السابق ذكره، ص. 512 – 514.
185) التوصية 28.
186) المرجع نفسه.
187) الرسالة العامة “رسالة الفادي” (7 / 12 / 1990)، عدد 67 – 68، المرجع المذكور أعلاه، ص. 315 – 316.
188) القرار المجمعي في التنشئة الكهنوتية، عدد 4.
189) التوصية 20.
190) المرجع نفسه.
191) المرجع نفسه.
192) المرجع نفسه.
193) خطاب أمام تلامذة وقدامى معهد كابرانيكا (21 / 1 / 1983): تعاليم: 6 / 1 (1983)، ص. 173 – 178.
194) التوصية20.
195) المرجع نفسه.
196) التوصية 19.
197) المرجع نفسه.
198) In Iohannes Evangelistam Expositio, c.21, lect. V,2.
199) القرار المجمعي في التنشئة الكهنوتية، عدد 3.
200) التوصية 17.
201) المجمع المقدس للتربية الكاثوليكية “توجيهات أساسية للتنشئة الكهنوتية” (6 / 1 / 1970)، عدد 19: المرجع السابق ذكره ص 342.
202) القرار المجمعي في حياة الكهنة، عدد 7.
203) التوصية 29.
204) المرجع نفسه.
205) التوصية 23.
206) الإرشاد الرسولي “العلمانيون المؤمنون بالمسيح”، (30 / 12/ 1988)، عدد 61، 63: المرجع السابق ذكره ص. 512 – 514؛ 517 – 518؛ رسالة رسولية في “كرامة المرأة” (15 / 8 / 1988) عدد 29 – 31؛ المرجع السابق ذكره ص. 1721 – 1729.
207) التوصية 29.
208) التوصية 30.
209) المرجع نفسه.
210) التوصية 25.
211) كلمة أمام الكهنة المقرّبين من حركة “اتحاد وتحرير” (Communion et Libération) بتاريخ (12 / 9 / 1985)، أعمال الكرسي الرسولي 78 (1986) ص. 256.
212) التوصية 25.
213) في لقاء مع ممثلي الاكليروس السويسري في أينسيدلن (Einsiedein) في (15 / 6 / 1984)، عدد 8: التعاليم 7 / 1 (1984) ص. 1798.
214) Cf. S. Augustin, In Iohannis Evangelium Tractatus, 123, 5: 1.c., 678 -680.
215) التوصية 31.
216) S. Charles Borromée, Acta Ecclesiae Mediolamensis, Milan, (1559) p. 1178.
217) الدستور المجمعي “فرح ورجاء”، عدد 22.
218) مجمع الأساقفة، الدورة العامة العادية السابعة، تنشئة الكهنة في الأحوال الراهنة، “أداة العمل” (1990)، عدد 55.
219) القرار المجمعي في حياة الكهنة وخدمتهم الراعوية، عدد 6.
220) الرسالة العامة Ecclesiam suam ، 6 / 8 / 1984، الجزء الثالث، أعمال الكرسي الرسولي 56 (1964)، ص 647.
221) المجمع المقدس الاكليروس، توجيهات في التعاون بين الكنائس الخاصة ولا سيما في توزيع الاكليروس بصورة أوفى. راجع “Postquam Apostoli” (25 / 3 / 1980)، أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980)، ص. 343 – 364.
222) التوصية 39.
223) التوصية 34.
224) المرجع نفسه.
225) المرجع نفسه.
226) التوصية 38؛ المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قرار في حياة الكهنة، وخدمتهم الراعوية، عدد 1؛ المجمع المقدس للرهبان والمؤسسات الكهنوتية، والمجمع المقدس للأساقفة، “توجيهات في العلاقات المتبادلة بين الأساقفة والرهبان في الكنيسة” (14 / 5/ 1978)، عدد 2، 10: المرجع السابق ذكره، ص. 475 و 479 – 480.
227) التوصية 35.
228) المرجع نفسه.
229) التوصية 36.
230) سينودس الأساقفة، الجلسة الثامنة: تنشئة الكهنة في الأحوال الراهنة – “وسيلة العمل” (1990)، عدد 60؛ راجع أيضاً القرار المجمعي في مهمة الأساقفة الراعوية، عدد 30؛ القرار المجمعي في حياة الكهنة عدد 8؛ الحق القانوني، البند 550 / 2.
231) التوصية 37.
232) G. B. Montini, Lettre pastorale sur le sens moral, 1961.
233) التوصية 40