التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي – الأحـد السابع عشر من زمن العنصرة – الأحد 13 أيلول 2015(لو10: 25-27)
في هذا الأحد الأخير من زمن العنصرة، الكنيسة، بكلّ أبنائها وبناتها ومؤسساتها، تأخذ وجه السامري الصالح، الذي يرمز إلى المسيح. إنّه وجه الرحمة الذي يخلق روابط القرابة بين الناس. عالمنا الذي يعاني من الانقسامات والأحقاد والحروب والنزاعات، ومن العنف والإرهاب ومن اللاإنسانية، هو بأمسّ الحاجة إلى الرحمة لكي تترمّم علاقات الأخوّة والقرابة بين الناس. من أجل هذه الغاية أعلن قداسة البابا فرنسيس سنة الرحمة التي تبدأ في 8 كانون الأوّل 2015.
أولاً، شرح نصّ الانجيل
من إنجيل القديس لوقا 10: 25-37
قالَ لُوقَا البَشِير: وإِذَا عَالِمٌ بِالتَوْرَاةِ قَامَ يُجَرِّبُ يَسُوعَ قَائِلاً: «يا مُعَلِّم، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَياةَ الأَبَدِيَّة؟». فَقَالَ لَهُ: «مَاذَا كُتِبَ في التَوْرَاة؟ كَيْفَ تَقْرَأ؟». فَقَالَ: «أَحْبِبِ الرَبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَكُلِّ نَفْسِكَ، وَكُلِّ قُدْرَتِكَ، وَكُلِّ فِكْرِكَ، وَأَحْبِبْ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». فَقالَ لَهُ يَسُوع: «بِالصَوابِ أَجَبْتَ. إِفْعَلْ هذَا فَتَحْيَا». أَمَّا هُوَ فَأَرادَ أَنْ يُبَرِّرَ نَفْسَهُ، فَقَالَ لِيَسُوع: «وَمَنْ هُوَ قَريبِي؟». فَأَجابَ يَسُوعُ وَقَال: «كانَ رَجُلٌ نَازِلاً مِنْ أُورَشَلِيمَ إِلى أَرِيحَا، فَوَقَعَ في أَيْدِي اللُصُوص، وَعَرَّوهُ، وَأَوْسَعُوهُ ضَرْبًا، وَمَضَوا وَقَدْ تَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْت. وَصَدَفَ أَنَّ كَاهِنًا كَانَ نَازِلاً في تِلْكَ الطَرِيق، وَرَآهُ، فَمَالَ عَنْهُ وَمَضَى. وَمَرَّ أَيْضًا لاوِيٌّ بِذلِكَ الْمَكَان، وَرَآهُ، فَمَالَ عَنْهُ وَمَضَى. ولكِنَّ سَامِرِيًّا مُسَافِرًا مَرَّ بِهِ، وَرَآهُ، فَتَحَنَّنَ عَلَيْه، وَدَنَا مِنْهُ، وَضَمَّدَ جِرَاحَهُ، سَاكِبًا عَلَيْها زَيْتًا وَخَمْرًا. ثُمَّ وَضَعَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَذَهَبَ بِهَ إِلى الفُنْدُق، واعْتَنَى بِهِ. وفي الغَد، أَخْرَجَ دِينَارَينِ وَأَعْطاهُمَا لِصَاحِبِ الفُنْدُق، وَقَالَ لَهُ: إِعْتَنِ بِهِ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فَأَنَا أُوفِيكَ عِنْدَ عَوْدَتي. فَمَا رَأْيُكَ؟ أَيُّ هؤُلاءِ الثَّلاثَةِ كَانَ قَريبَ ذلِكَ الرَجُلِ الَّذي وَقَعَ في أَيْدِي اللُصُوص؟». فَقَالَ: «أَلَّذي صَنَعَ إِلَيْهِ الرَحْمَة». فَقَالَ لَهُ يَسُوع: «إِذْهَبْ، واصْنَعْ أَنْتَ أَيْضًا كَذلِكَ». |
1. الربّ يسوع لا يواجه الاستفزاز بالاستفزاز، ولا الخداع بالخداع، بل بصبر وتواضع يعلّم الحقيقة ويهدي إليها. “العالِم بالتوراة جاء يجرّب يسوع”، ليوقعه في حبائله فيشتكيه ويبدأ حملة مغرضة ضدّه. كان يظنّ، كما سواه من اليهود علماء الشريعة، أنّ يسوع جاء لينقض الشريعة، علمًا أن أوّل إعلان علني ليسوع في عظة الجبل، كان واضحًا جدًّا: “لا تظنّوا أنّي جئتُ لأنقض الشريعة والأنبياء. أنا ما جئتُ لأنقض بل لأكمّل. الحقّ أقول لكم: السماء والأرض تزولان وحرف واحد من الشريعة لا يزول” (متى 5: 17-18). ومع هذا ظلّ الكتبة والفريسيّون يراقبونه ويجرّبونه بشأن محافظته على الشريعة، ولم يقتنعوا من كلامه الصريح ومَثَل حياته والتزامه. هذا يسمّونه عندنا في لبنان بالفرنسية: Perception . فمهما تقدّم لهم من براهين معاكسة لا يريدون أن يصدّقوا.
لقد جرّبوا يسوع أكثر من مرّة مثلًا:
– عند وجوب دفع الجزية للقيصر (راجع متى 22: 15-22)
– عند وجوب رجم المرأة المأخوذة بزنى (يو 8: 3-11)
لكن، كما في كل مرّة، بصبر وتواضع وفهم النوايا السيئة، كان يجيب بما يحرّر العقول من الضلال والاحتيال، والقلوبَ من البغض وروح الشر. هو الذي قال: “ليكن كلامُكم نعم نعم أو لا لا. فما زاد على ذلك فهو من الشرير” (متى 5: 37). فتكلّم يسوع عن الرحمة، مشدِّدًا لا على حرف الشريعة بل على تطبيقها بالأفعال في “محبة الله، ومحبة القريب كمحبة الذات” (لو10: 27-28).
2. كشف يسوع في جوابه نيّة عالِم الشريعة السيئة، ولكن بلطف وبدون إساءة. فسأله: “ماذا كُتب في الشريعة؟ كيف تقرأ” (لو10: 26). هنّأه على الجواب ودعاه ليفعل بموجب جوابه: “بالصواب أجبت. إفعل هذا تحيا” (الآية 28). فشعر عالِم الشريعة بنوع من الخجل، إذ أدرك أنّ يسوع قرأ نيّته السيئة. “فأراد أن يزكّي نفسه، فسأل يسوع: ومَن هو قريبي” (راجع لو10: 28-29).
فأعطاه يسوع خبرًا عن الرحمة التي تترجم بالأفعال “محبة القريب كمحبة الذات”، لكي يبيّن أنّ قريبي هو الذي أنا أعامله بالرحمة، بمعنى أني أنا، بأفعال المحبة والرحمة، أنشئ رابطة القرابة مع كلّ إنسان. بفهوم الربّ يسوع، القرابة ليست محصورة بقرابة الدم والمصاهرة والنَّسب.
ودائمًا بنهجه التربوي، طلب يسوع من عالم الشريعة بسؤال، لكي يجيب هو نفسه على السؤال الذي سبق وطرحه على يسوع: “ومَن قريبي؟” فأجاب أن “قريب ذاك الرجل الذي وقع بين أيدي اللصوص هو “الذي عامله بالرحمة”. فردّد يسوع قوله له في جوابه عمّا كتب في الشريعة: “إذهب فاعمل أنت أيضًا كذلك” (لو10: 37).
3. استخلص آباء الكنيسة من هذا الخبر المؤثّر العبر والأمثولات. وقرأوا قراءة مجازية، ورأوا فيها رموزًا روحية. فلا يقف الخبر-الحدث في حدود الماضي. بل أرادوه قصّة كلّ واحد منّا في كل يوم.
السامري الصالح هو يسوع المسيح الذي يحنو على البشرية الجريحة بخطاياها، والمتعثّرة في مشاكل الحياة الزوجيّة والعائليّة والاجتماعيّة والوطنيّة، والتي تعاني من الفقر والجوع والإهمال والتشريد والخطف والتهجير واللجوء، والتي تتألّم من حزن ومرض ووحشة وعزلة. وجه الربّ يسوع السامري الصالح هو وجه الكنيسة بأبنائها وبناتها ومؤسساتها.
هذه البشرية هي ذاك الرجل الذي وقع بين أيدي اللصوص، وهؤلاء هم كلّ الذين يتسبّبون، بشكل مباشر أو غير مباشر، بكلّ ما تعاني منه البشرية.
5. تضميد جراح الرجل المعتدى عليه، وصبّ الزيت والخمر عليها (راجع لو10: 34)، أفعال تدلّ على الرحمة الصادرة من القلب. فعندما “رآه السامري المسافر، أشفق عليه” (الآية 33).
هذه الأفعال، بالنسبة إلينا اليوم، هي كلمة الإنجيل المنيرة والمعزّية والمشجّعة، ونعمة الأسرار المقدّسة:التوبة والقربان ومسحة المرضى. إنّها علاجات الطبيب الإلهي يسوع المسيح. بكلمته يضمّد الجروح، وبنعمة أسراره يشفيها. الكنيسة، برعاتها وشعبها ومؤسساتها مدعوة لتكون دائمًا بقرب كلّ إنسان متألم، جسديًّا أو مادّيًا، روحيًّا أو معنويًّا. وبذلك تجعل المسيح قريبًا من كلّ إنسان، وقد افتداه بدمه.
6. الفندق هو الكنيسة ومؤسّساتها الراعوية والتربوية والاستشفائية والاجتماعية. فيها يجد كلّ “جريح”العناية بكلّ أنواعها، وفقًا لتنوّع هذه المؤسسات.
يبدو من النصّ الإنجيلي أنّ ذاك السامري أمضى ليلته في الفندق مع الرجل الجريح لأنّه في “الغد دفع دينارين، على أن يوفي الزيادة عند عودته” (راجع الآية 35). هذا يدلّ على قيمة المجّانية في العطاء والسخاء في عمل الخير ومساعدة مَن هم في عوز، وفي دعم المؤسّسات والمنظّمات والهيئات التي تخدم المحبة والرحمة، وترقّي الإنسان، والإنماء الثقافي والاقتصادي والاجتماعي.
7. اللّاوي يرمز إلى الأنبياء، والكاهن إلى الشريعة. كان من واجبهما، بحكم الحالة والوظيفة، الاعتناء بالرجل المرمى على جانب الطريق. لكنّهما رأياه، ولم يشعرا بأي شفقة ورحمة، فأكمل كلّ واحد طريقه. هذا يعني أنهما تعلّقا “بالحرف الذي يقتل“، وأُفرغ قلباههما من “الروح الذي يبني” (روم3: 6).
إنّها أمثولة لنا جميعًا في عدم نسيان الواجب الذي تفرضه عليّ حالتي ومسؤوليّتي: في البيت، في الكنيسة، في المجتمع، في الدولة. معاناة شعبنا اليوم الذي يعبّر عنها بالتظاهرات ضدّ السياسيين، وبفريق من الشباب يضربون عن الطعام، إنّما هي تعبير عن إدانة إهمال المسؤولين السياسيين لواجبات حالتهم ومسؤولياتهم، والمطالبة بإصلاح الفساد. ولكن كان الأجدى المطالبة بانتخاب رئيس رئيس للجمهورية كمدخل أساسي لحلّ الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الآخذة في الاتّساع، وتنذر بنتائج وخيمة للغاية.
يسوع، ابن الله المتجسّد، صار قريبنا، إذ حنا على جروحات البشرية كلّها، وعنه صلّى صاحب المزامير: “كقريب وكأخ سُررت بهم” (مز34: 14). ويريدنا أن نصبح بدورنا في كلّ يوم ومناسبة “أقرباء” لكلّ إنسان متألّم.
* * *
ثانيًا، أشخاص بأمسّ الحاجة إلى قرابتنا بهم
إلى الأشخاص الذين ذكرناهم أعلاه (الفقرة3)، ينبغي أن نضيف أشخاصًا هم بحاجة ماسّة إلى قرابتنا بهم. إنّهمأولئك الذين ينتحرون لأسباب نفسية وسواها.
قرأتُ في إحدى الصحف اللبنانية[1]، تحقيقًا يقول أنّ “في لبنان ينتحر شخص كلّ ثلاثة أيام. ما يعني أنّ في السنة الواحدة نفقد 120 شخصًا بالانتحار، ومعظمهم من الرجال، بنسبة رجلَين مقابل امرأة واحدة”. يستعمل الرجال وسائل عنيفة مثل السلاح والشنق، والنساء وسائل أقل عنفًا مثل المواد السّامّة والأدوية المخدّرة. وتبيّن أن 90 في المئة من حالات الانتحار هي لأسباب نفسية.
ما أحوجنا، تجاه هذه الحالات المرّة جدًّا والمؤلمة للغاية، إلى سامري صالح. هؤلاء بحاجة إلى “قريب”، يسمعهم، ينتبه لحالتهم، يساعدهم على استشارة طبيب، والحصول على دراء، ويعطي معنى لحياتهم، وأملًا بمستقبل أفضل. السامري الصالح هو أشخاص ومؤسسات، هو الكنيسة والمجتمع والدولة. ماذا ينفعنا كلّ شيء إذا فقدنا الإنسان في لبنان والواحد تلو الآخر انتحارًا؟ وكيف يهدأ لنا ضمير وأشخاص من بيننا، قريبون وبعيدون، ينهون حياتهم بالانتحار، ونحن لا نحرّك ساكنًا، ولا نشعر بالمسؤولية الشخصية؟
ماذا ينتظر السياسيّون عندنا في لبنان، وهل يفكّرون بما سينتج من حالات نفسية محطّمة، عن تظاهرات الشعب التي لا يعيرونها ايّ اهتمام جدّي، بل يزكّي كل شخص وفريق نفسه أنّه ليس من طبقة الفاسدين؟ وماذا ستكون الحالة النفسية عند الشباب المضربين عن الطعام، والسياسيون غير معنيّين بمطالبهم وأوجاعهم وتطلعاتهم المستقبلية لوطن يحبّونه، ويرون القيّمين عليه آخذين في هدمه. فبتروا رأسه، وأحجموا عن انتخاب رئيس له، وبذلك يفكّكون أوصاله ومؤسساته، والنافذون من بيتهم يسيطرون على مقدّراته وماله العام.
* * *
صلاة
أيّها الربّ يسوع، ايّها السامري الصالح، شعبنا في لبنان، من كباره إلى صغاره، أضحى مثل ذلك الرجل الذي سطا عليه اللصوص. الحادثة إيّاها تتكرّر: فالمسؤولون السياسيون، بإهمال واجباتهم أو باستغلال وظيفتهم ومقامهم، لا يخدمون الخير العام، الذي منه خير الجميع، فيسطون على الشعب بتجويعه وتهجيره وإهماله. نسألك أن تجعل من كلّ واحد وواحدة منّا، ومن مؤسّساتنا ومنظّماتنا، سامريًّا صالحًا، يساعد ويضمّد الجراح ويشجّع ويشفي ويزرع الرجاء في القلوب.
إجعلْ يا ربّ من آلام جماهير المتظاهرين والشباب المضربين عن الطعام فجرًا جديدًا للبنان، مجتمعًا ودولة، مثلما أعطيتَ أنت البشرية فجرها الخلاصي الجديد، بانقطاعك عن الطعام أربعين يومًا وأربعين ليلة في البرّية.
حقّق، يا ربّ، أمنيات شعبنا المخلص لوطنه، أعطه رئيسًا للجمهورية، لكي تعود الحياة الطبيعية إلى المؤسسات الدستورية والعامّة. وإنّا نرفع نشيد المجد والتسبيح والشكر للآب والابن والروح القدس الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *