التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي – أحد البشارة لزكريا 15 تشرين الثاني 2015(لوقا 1: 5-25)
مع البشارة لزكريا بولادة يوحنا يبدأ زمن الميلاد، المعروف بزمن المجيء. فيوحنا آخر نبيّ من العهد القديم، وأوّل رسول من العهد الجديد. إنه نبيّ وشهيد. زكريا الكاهن من فرقة أبيّا، وأليصابات امرأته من سلالة هارون الكهنوتية هما البقيّة، الأمينة لله ولوصاياه ورسومه، من العهد القديم، وخاتمة الكهنوت فيه.
أولاً، شرح نص الانجيل
من انجيل القديس لوقا 1: 5-25
كَانَ في أَيَّامِ هِيرُودُس، مَلِكِ اليَهُودِيَّة، كَاهِنٌ ٱسْمُهُ زَكَرِيَّا، مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، لهُ ٱمْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ هَارُونَ ٱسْمُها إِليصَابَات. وكَانَا كِلاهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ الله، سَالِكَيْنِ في جَمِيعِ وصَايَا الرَّبِّ وأَحْكَامِه بِلا لَوْم. ومَا كَانَ لَهُمَا وَلَد، لأَنَّ إِليصَابَاتَ كَانَتْ عَاقِرًا، وكَانَا كِلاهُمَا قَدْ طَعَنَا في أَيَّامِهِمَا. وفِيمَا كَانَ زَكَرِيَّا يَقُومُ بِالخِدْمَةِ الكَهَنُوتِيَّةِ أَمَامَ الله، في أَثْنَاءِ نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ، أَصَابَتْهُ القُرْعَة، بِحَسَبِ عَادَةِ الكَهَنُوت، لِيَدْخُلَ مَقْدِسَ هَيْكَلِ الرَّبِّ ويُحْرِقَ البَخُور. وكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ الشَّعْبِ يُصَلِّي في الخَارِج، في أَثْنَاءِ إِحْرَاقِ البَخُور. وَتَراءَى مَلاكُ الرَّبِّ لِزَكَرِيَّا وَاقِفًا مِنْ عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ البَخُور، فَٱضْطَرَبَ زَكَرِيَّا حِينَ رَآه، وٱسْتَولَى عَلَيْهِ الخَوف. فقَالَ لهُ المَلاك: “لا تَخَفْ، يَا زَكَرِيَّا، فَقَدِ ٱسْتُجيبَتْ طِلْبَتُكَ، وَٱمْرَأَتُكَ إِلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ٱبْنًا، فَسَمِّهِ يُوحَنَّا. ويَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَٱبْتِهَاج، ويَفْرَحُ بِمَوْلِدِهِ كَثِيرُون، لأَنَّهُ سَيَكُونُ عَظِيمًا في نَظَرِ الرَّبّ، لا يَشْرَبُ خَمْرًا ولا مُسْكِرًا، وَيَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ وَهُوَ بَعْدُ في حَشَا أُمِّهِ. ويَرُدُّ كَثِيرينَ مِنْ بَني إِسْرَائِيلَ إِلى الرَّبِّ إِلهِهِم. ويَسيرُ أَمَامَ الرَّبِّ بِرُوحِ إِيلِيَّا وقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلى الأَبْنَاء، والعُصَاةَ إِلى حِكْمَةِ الأَبْرَار، فيُهيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُعَدًّا خَيْرَ إِعْدَاد”. فقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلاك: “بِمَاذَا أَعْرِفُ هذَا؟ فإِنِّي أَنَا شَيْخٌ ، وٱمْرَأَتي قَدْ طَعَنَتْ في أَيَّامِهَا”. فأَجَابَ المَلاكُ وقالَ لهُ: “أَنَا هُوَ جِبْرَائِيلُ ٱلوَاقِفُ في حَضْرَةِ الله، وقَدْ أُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وأُبَشِّرَكَ بِهذَا. وهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا، لا تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّم، حَتَّى اليَوْمِ الَّذي يَحْدُثُ فِيهِ ذلِكَ، لأَنَّكَ لَمْ تُؤْمِنْ بِكَلامِي الَّذي سَيَتِمُّ في أَوَانِهِ”. وكَانَ الشَّعْبُ يَنْتَظرُ زَكَرِيَّا، ويَتَعَجَّبُ مِنْ إِبْطَائِهِ في مَقْدِسِ الهَيْكَل.ولَمَّا خَرَجَ زَكَريَّا، لَمْ يَكُنْ قَادِرًا أَنْ يُكَلِّمَهُم، فأَدْرَكُوا أَنَّهُ رَأَى رُؤْيَا في المَقْدِس، وكَانَ يُشيرُ إِلَيْهِم بِالإِشَارَة، وبَقِيَ أَبْكَم. ولَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ، مَضَى إِلى بَيْتِهِ.وبَعْدَ تِلْكَ الأَيَّام، حَمَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ إِلِيصَابَات، وكَتمَتْ أَمْرَهَا خَمْسَةَ أَشْهُر، وهِيَ تَقُول:”هكَذا صَنعَ الرَّبُّ إِليَّ، في الأَيَّامِ الَّتي نَظَرَ إِليَّ فِيهَا، لِيُزيلَ العَارَ عَنِّي مِنْ بَيْنِ النَّاس!”
1. كانت الرؤيا لزكريا أثناء الصلاة وحرق البخور، ما يعني أنّ الله يوحي بذاته وإرادته وتصميمه للناس أثناء الصلاة. فهي الوقت الأحبّ والأهمّ في ساعات النهار. إنها حوار الانسان مع الله وتجلّي سرّ الله وإرادته للإنسان. إنّها وقت الرؤيا الداخلية، لكونها ترفع العقل والقلب إلى الله: “لتكُن أفكارُنا وعقولنا وقلوبنا مرتفعةً إلى الله” (صلاة ليتورجيا الذبيحة الإلهية).
2. جرت الرؤيا والبشارة عن يمين مذبح البخور، وهو المذبح الثاني في الهيكل. فالأوّل هو مذبح المحرقات المخصّص لتقديم الذبائح. إنه مغشَّى بالنحاس لهذه الغاية، وقائم أمام أبواب المذبح. أما مذبح البخور المخصّص لحرق البخور، فمغشّى بالذهب وموضوع أمام مدخل قدس الأقداس. هذا المكان يعني نهاية دور المذبحَين والكهنوت والأنبياء والعبادة القديمة. والبُكم الذي أصاب زكريا يرمز إلى أنّ أسرار المقدس أصبحت صامتة. والكلّ – صلاة حرق البخور على يد الكاهن زكريا في قدس الأقداس وترائي الملاك – تنبئ بمجيء رئيس الكهنة السّرمدي والحقيقي، الذي سيكون الذبيحة الحقيقية لخلاص العالم، في عهد جديد. لهذا السبب تُعتبر البشارة لزكريا بولادة يوحنا بداية زمن المجيء.
3. يوحنّا السابق للكاهن الأزلي الآتي يسوع المسيح، هو من سلالة كهنوتية. فأبوه زكريا كاهن من فرقة أبيّا، وأمّه من سلالة هارون الكهنوتية. ما يعني أن يوحنا تسلّم من آبائه وأجداده رسالة التبشير بالإيمان بمجيء الربّ. وهو إيمان لم يولد عنده فجأة، بل تلقّاه من أجداده بحكم قانون الطبيعة نفسه.
الاسم “يوحنا”، الموحى من الملاك، هو هويّته ويعني نعمة من الله تكشف وجهه “كإله رحوم”، وتكشف وجه يوحنا بأنّه “سيكون سببَ فرح للجميع، وسيكون عظيمًا أمام الله، ويمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمه” (لو 1: 14-15). و”يسير أمام الربّ بروح إيليا وقوّته” (الآية 17).
واسمه يوحنا رسالته بأن يحمل رحمة الله إلى الناس: يردّ الكثيرين إلى الربّ إلههم، مبشِّرًا بالتوبة لمغفرة الخطايا، ويردّ قلوب الآباء عطفًا على الأبناء، ويُرجع العصاة إلى حكمة الأبرار، ويعدّ للربّ شعبًا كاملاً (لو 1: 16-17).
يوحنّا شخص مميّز وغير عادي في هويّته ورسالته، وفي ولادته وموته. ولادته غير مألوفة، من أمٍّ عاقر، ومن أبوَين طاعنَين في السّن. وموته غير مألوف إذ قُتل ذبحًا من أجل الحقّ. بولادته أعلن مجيء المخلص، وبموته أدان المحرَّمات التي ارتكبها هيرودس وامرأته.
4. يشرح آباء الكنيسة أوصاف هويّة يوحنا:
أ. “العظمة أمام الله” تأتيه من الروح القدس. هي عظمة النفس لا الجسد. عظمة الفضيلة: الزهد بالملذات الانسانية وبشهوة الجسد. لم تشدّه إغراءات الحياة، ولم تغيّر صمود غايته أيّة رغبة.
فلا هو حقّق انتصارات، ولا أبوه وأمه أجريا المعجزات. بل الروح القدس الذي ملأه وهو في بطن أمه (راجع لو1: 44)، والاختيار الإلهي الذي عاش أمينًا له. وهو اختيار تقديسي. إنّ نعمة الاختيار والتقديس تسبق مادّة الحياة، بحسب قول الربّ على لسان أرميا النبي: “قبل أن أصورَّك في البطن اخترتُك. وقبل أن تخرج من الرّحم كرّستُك وجعلتك نبيًّا للأمم” (ارميا 1: 5).
ب. “السّير بروح إيليا وقوته”. “سار بروح إيليا”: بين إيليا ويوحنا شبه كبير. كلاهما عازبان يلبسان اللِّباس الخشن. عاشا في البرّية يبشّران بالحقّ.إيليا عانى الاضطهاد من أجل البرّ والعدالة على يدَي آحاب الملك وزوجته إيزابيل (1ملوك 19: 1-3). ويوحنا عاناه من أجل الحقّ على يد هيرودس الملك وزوجته هيروديّا (متى 14: 3).
و”سار بقوّة إيليا”: تجلّت قوة الاثنَين في ردّ الناس إلى التوبة، ومن عدم الإيمان إلى الإيمان المستقيم. تميّزا بقدرة الإمساك والصبر. شقّ إيليا نهر الأردن (2 ملوك 13: 2)، ويوحنا جعله ينبوع خلاص. روّى إيليا الأرض بالمطر بعد انحباسه عنها ثلاث سنوات (2 أخبار 18: 1 و45)، ويوحنا نضح أجساد البشر الجافّة بمياه الإيمان.
5. أمومة العاقر وأمومة العذراء
يقيم القديس اغسطينوس الرابط بين أمومة اليصابات العاقر وأمومة مريم العذراء. يولد يوحنا لعجوز عاقر، ويولد المسيح لفتاة عذراء. الرّحم العاقر يلد يوحنا، والحشا البتولي يلد المسيح.
“وُلد يوحنا بعد أن كانت السّن الطبيعية لخصوبة الأبوَين قد انقضت. ووُلد المسيح من دون أن تكون لأمّه علاقة زوجيّة. بإعلان الملاك للعذراء تمّ الحبل بالمسيح، وبالبشارة لزكريا كانت البشرى بأن سيولد له ولزوجته ولد يُدعى يوحنا. في ولادة يوحنا من عاقر وولادة يسوع من عذراء سرٌّ صعب غوره. لكنّه يبيّن أن “ليس عند الله أمرٌ عسير” (لو1: 37). هذه رسالةٌ لكلِّ واحد منّا: تدعونا لنثق في قدرة الله اللّامحدودة، ولانتظار تجلّيات إرادته وتصميمه في حياتنا.
* * *
ثانيًا، ألقاب العذراء في طلبتها
نتأمل اليوم في ثلاثة ألقاب:
1. يا مرآة العدل
المرآة تعكس الوجه. مريم تعكس وجه المسيح المعروف “بشمس العدل”. وهي نموذج في هذا الانعكاس لكلِّ مؤمن ومؤمنة. العدالة، وهي إحدى الفضائل المحورية الأربع، تعني الاستقامة في الأفكار والأفعال والمسلك. هي فضيلة قوامها الإرادة الثابتة على إداء واجب العبادة لله بسماع وحفظ رسومه ووصاياه، وواجب احترام حقوق كلّ إنسان، وإنشاء علاقات إنسانية قائمة على الإنصاف والالتزام بالخير العام، الذي منه خير كلّ إنسان وخير الجميع (راجع كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1807).
2. يا كرسيّ الحكمة
الحكمة هي أولى مواهب الروح القدس السبع. وبما أنّ الروح ملأ مريم العذراء بالنعم، عندما كوّنها في حشا أمّها القديسة حنّة، وملأها من مواهبه السبع، فأصبحت “عرش الحكمة”.
الحكمة ومواهب الرّوح القدس، وهي الفهم والعلم، المشورة والقوّة، التّقوى ومخافة الله، تجعل المؤمنين والمؤمنات مطواعين وطائعين لكلّ جهوزية وفوريّة الإلهامات الإلهيّة. هذه نجدها كاملة في شخص مريم. لذا ندعوها “عرش الحكمة”. أمّا ملء الحكمة المطلق ففي شخص المسيح (راجع كتاب التّعليم المسيحي، 1831).
كلّنا نحتاج إلى مواهب الرّوح القدس، ولا سيّما إلى الحكمة، لأنّها باب الفضائل. “فالحكمة نفحة من قدرة الله، وانعكاس للنّور الأزلي، ومرآة صافية لعمل الله وصورة لصلاحه (الحكمة 7: 26).
لقد أشركنا الله بحكمته، وبشكلٍ كامل أمّنا مريم العذراء. هكذا نقرأ في سفر الحكمة: “هو الذي وهب لي علمًا يقينًا بالكائنات… فعرفت كلّ ما خفِيَ وكل ما ظهر، لأنّ مهندسة كلّ شيء علّمتني، وهي الحكمة” (الحكمة7: 17 و21).
3. يا سبب سررونا
مريم العذراء، أمّ الإله، هي تُحفة الخَلق والفداء وظهرتْ هذه التّحفة بكاملها في انتقال مريم الكليّة القداسة بنفسها وجسدها إلى مجد السّماء. الرّوح القدس هيّأَها وجعلَ منها هذه التّحفة. وقد حقّقَ فيها تصميم الآب المحبّ. فبقوّته حبلت العذراء وولدتْ إبنَ الله الذي أصبحَ إبنَ العذراء.
لكلّ هذه الأسباب، مريم هي بهجة البشريّة ورجاؤها. لذا نهتف إليها: “يا سبب سرورنا”، لكونها مصدر فرحنا وطمأنينتها كأمّ سماويّة تسهر علينا، وترافقنا في رحلتنا عبر بحر هذا العالم حتّى نصل إلى ميناء الخلاص.
* * *
صلاة
أيّها الرّبّ يسوع، لقد أعلنَ إسم يوحنا رحمة الله للبشر. بتجسّدك أعطيتَ الرّحمة الإلهيّة جسدًا. فرأيناها ولمسناها فيك. إطبعْنا، يا ربّ، بطابع الرّحمة لكي نشهد لها بأعمالنا ومبادراتنا، وقد أضحى مجتمعنا بأمسّ الحاجة إلى رحمة.
يا مريم، مرآة العدل وكرسيّ الحكمة وسبب سرورنا، إعكسي علينا وفينا هذه الفضائل الإنسانيّة، لكي نُغني بها حياتنا، ونجعل منها ثقافة حياة. فنستحقَّ أن نرفعَ نشيدَ المجدِ والتّسبيح للآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *