التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي مولد يوحنا المعمدان – الأحد 6 كانون الأول 2015

مولد يوحنا المعمدان – الأحد 6 كانون الأول 2015(لو 1: 57-66)

التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي

مع مولد يوحنا المعمدان إنبثقَ فجر الرحمة الإلهيّة. فاسمُهُ يعني “الله رحوم”. أظهرَ رحمته في الهبة الإلهيّة لزكريا وأليصابات بشخص يوحنا الذي سيكون النبيّ والمبشِّر والسابق لكلمة الله، يسوع المسيح. وظهرَت رحمته بانحلال عقدة لسان زكريا: هو يوحنا أعادَ النّطقَ لأبيه حالما كتبَ اسمَهُ من بعد أن حبسَهُ الملاك، علامةً لأمانة الله لوعوده. وظهرَت عندما امتلأ زكريا من الروح القدس فأطلقَ نشيداً نبويًّا (لو1: 67- 80).

أوّلاً، شرح نصّ الإنجيل

من إنجيل القديس لو 1: 57-66

     قالَ لوقا البَشِير: تَمَّ زَمَانُ إِليصَابَاتَ لِتَلِد، فَوَلَدَتِ ابْنًا. وسَمِعَ جِيرانُهَا وأَقَارِبُها أَنَّ الرَبَّ قَدْ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا، فَفَرِحُوا مَعَهَا. وفي اليَوْمِ الثَامِنِ جَاؤُوا لِيَخْتِنُوا الصَبِيّ، وسَمَّوْهُ باسْمِ أَبِيهِ زَكَرِيَّا. فأَجَابَتْ أُمُّهُ وَقالَتْ: «لا! بَلْ يُسَمَّى يُوحَنَّا!». فقَالُوا لَهَا: «لا أَحَدَ في قَرابَتِكِ يُدْعَى بِهذَا الاسْم». وأَشَارُوا إِلى أَبِيهِ مَاذَا يُريدُ أَنْ يُسَمِّيَهُ. فطَلَبَ لَوْحًا وكَتَب: «إِسْمُهُ يُوحَنَّا!». فَتَعَجَّبُوا جَمِيعُهُم. وانْفَتَحَ فَجْأَةً فَمُ زَكَرِيَّا، وانْطَلَقَ لِسَانُهُ، وَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ ويُبَارِكُ الله، فَاسْتَولى الخَوْفُ على جَمِيعِ جِيرانِهِم، وتَحَدَّثَ النَاسُ بِكُلِّ  هذِهِ الأُمُورِ في كُلِّ جَبَلِ اليَهُودِيَّة. وكانَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ  بذلِكَ يَحْفَظُهُ في قَلْبِهِ قَائِلاً: «ما عَسَى هذَا الطِّفْلُ أَنْ يَكُون؟». وكانَتْ يَدُ الرَبِّ حَقًّا مَعَهُ.

1. إختارَ الله في سرّ تدبيره، يوحنا، إبن زكريا وأليصابات، ليَختُم به سلسلة أنبياء العهد القديم، ويفتتح به شهود العهد الجديد. أرادَهُ فجرًا يسبق شمس الكون، كلمة الله المتجسِّد من مريم بقوّة الروح القدس. هذا النّبي الجديد يُعلن المسيح، يُهيِّئ الطريق بالدعوة إلى التوبة، ويشهد له أنّه فادي الإنسان، “كحملٍ جديدٍ يحملُ خطايا العالم” (يو1: 29).

2. كشفَ القديس افرام السّرياني العلاقة والفرق بين يوحنا ويسوع:

“ولدت أليصابات العجوز آخرَ الأنبياء، وولدتْ مريم الصبية ربّ الملائكة. ولدتْ إبنة هارون (أليصابات) الصوت الصارخ في البريّة، وولدتْ إبنة داود إله الكون القدير. ولدتْ أليصابات العاقر الداعي الى التوبة، وولدت العذراء مريم حامل الخطايا وغافرها.

أضاءَ الأكبر سنًّا (يوحنا) سراجًا في بيت يعقوب أبيه، وكان هو السراج، الذي أضاءَ على الأصغر سنًّا، شمس البرّ لكلّ الكون، يسوع المسيح.

الصوت الصارخ (يوحنا) يُعلن ما يتعلّق بالكلمة، ومن رأى الحمامة (يوحنا) يُعلنُ مَن تستقرّ عليه. يوحنا كبرق يسبق الرّعد”.

3. يوم ختانة الطفل، في اليوم الثامن لولادته، ما إن كتبَ أبوه زكريّا اسمه “يوحنا” حتّى انحلّتْ عقدة لسانه، وامتلأ من الروح القدس فأطلقَ نشيده النبويّ (راجع لوقا 1: 67- 80):

أ – فرأى سرّ المسيح الآتي “كافتقادٍ من الله لشعبه وافتداء، وإقامة عهد خلاص جديد في بيت داود، حسب وعده منذ القديم بلسان أنبيائه وذكراً لعهده المقدّس وللقسَم الذي أقسمَهُ لأبينا ابراهيم بنجاتنا من جميع الأعداء، فنعبده غير خائفين، سائرين بالقداسة والبرّ طول أيّام حياتنا” (لو1: 68- 75).

تُشكّل نبوءة زكريّا عن المسيح أفضل تأمّل روحي وخريطة طريق للإستعداد لعيد مجيء المخلّص والفادي الإلهي.

ب – وتنبّأ زكريّا عن إبنه مُخاطبًا إيّاه كاشفًا هويّته ورسالته (لو1: 76- 79):

“وأنتَ أيّها الصّبيّ، نبيَّ العليّ تُدعى، لأنّكَ تَسيرُ أمامَ وجهِ الرّبِّ لتُعدَّ طُرُقَه،  وتُعلّمَ شعبَهُ الخلاصَ بمغفرةِ خطاياهم، في أحشاء رحمةِ إلهنا، التي بها افتقدَنا المُشرِقُ منَ العلاء، ليُضيء على الجالسينَ في ظلمة الموتِ وظلاله، ويهدي خُطانا إلى طريق السّلام”.

سمّى زكريا إبنه يوحنا “نبيّ العليّ”، لأنّه مقام من الله مثل سائر الأنبياء. إنّه “يسير أمام الرّبّ ليُعدّ طريقه” ليكون نوراً يُضيء الطريق لمجيء المسيح الآتي “رحمةً من أحشاء الله، وإشراقًا من العُلى، ليُهدي الذين في الظلمة إلى سبيل السّلام”. هذا هو المسيح النور والشمس اللّذان ينشران السلام على الخلق (القديس كيرللس الإسكندري).

4. وختمَ القديس لوقا نصّ نشيد زكريا بالآية: “وكان الطفل ينمو ويتقوّى بالرّوح، وأقامَ في البراري إلى يوم ظهوره للشعب” (لو1: 80)

النموّ والتقوّي بالروح هما الأساس في حياة الإنسان. فلا يكفي أن يتقوّى بالجسد، بل ينبغي أن يتقوّى بالروح، لكي يقوى على ضعف الجسد من كلّ جوانبه.

القويّ بالجسد لكنّه ضعيف بالروح، هو ضعيف حقًّا في كلّ شيء. يوحنا مثالٌ لنا في الدعوة لنتقوّى بالروح. بهذه القوّة استطاع هو على الإقامة في البراري بالحرمان والتقشف، استعدادًا لرسالته وهي تهيئة طريق الربّ إلى النفوس والقلوب.

5. إسم يوحنا يعني “الله رحوم”. بميلاده أُعلنتْ رحمة الله التي ستظهر بالجسد في شخص يسوع المسيح. فيسوع هو وجه رحمة الآب، وذروة ظهورها في تاريخ البشر. وكان الآب “الغنيّ بالرّحمة” (أفسس2: 4) قد كشفَ إسمه لموسى بأنّه “إلهٌ حنونٌ رحومٌ، بطيءٌ في الغضب، مملوءٌ حبّاً وحقيقة” (خروج34: 6). “وفي ملء الزّمن” (غلا4:4)، أرسلَ إبنَهُ  مولوداً من العذراء مريم، لكي يكشفَ لنا حبّه بشكلٍ نهائيّ. “فمَن رآه رأى الآب” (يو14: 9).

إنّ يسوع كشفَ رحمة الله بكلامه وأفعاله وبكلّ شخصه (البابا فرنسيس: وجه الرحمة، براءة إعلان يوبيل الرحمة غير العادي، 1).

“الرّحمة هي ينبوع الفرح والسكينة والسلام، وطريقنا إلى الخلاص. الرحمة تكشف سرّ الله الواحد والثالوث، وهي العمل الأخير والأسمى الذي به يأتي الله لملاقاتنا، لكي يسكنَ في قلوبنا، جاعلًا الرحمة شريعة حياة فينا، بها نلتقي الآخر على دروب الحياة. الرحمة هي السبيل الذي يجمع الله والإنسان، لكي يفتح هذا الأخير قلبه على الرجاء بأنّه محبوب من الله بشكلٍ دائم على الرّغم من حدود خطيئته” (المرجع نفسه، فقرة 2).

في 8 كانون الأوّل المقبل يفتتح قداسة البابا فرنسيس سنة يوبيل الرحمة في بازيليك القديس بطرس بروما، بمناسبة عيد سيدة الحبل بلا دنس، الذي يُذكّرنا كيف واجهتْ رحمة الله خطيئة آدم وحوّاء بتهيئة مريم العذراء لتكون أمّ المخلّص والفادي، لكي لا يبقى الإنسان فريسة الخطيئة والشر. ما يعني أنّ رحمة الله تظلّ دائمًا أكبر من خطيئة الإنسان. ولا أحد يستطيع أن يفرض حدًّا لحبّ الله الذي يغفر (الفقرة 3).

الغاية من يوبيل الرحمة هي أن نركّز نظرنا على الرحمة، لكي نصبح نحن أيضًا علامة فاعلة لعمل الآب الرحوم (الفقرة 3).

***   ***   ***

         ثانيًأ: ألقاب السيدة العذراء في طلبتها:

                  نتأمل في ثلاثة القاب من طلبة امنا العذراء مريم:

         1ـ يا بيت الذهب:

         هذا اللقب مأخوذ من كتب العهد القديم: من سفر العدد، الذي يتكلم في الفصل الثامن عن “بيت الذهب” الذي بناه موسى ويحوي ثلاثة هي أعزّ ما عند الشعب ويعتبرها بمثابة كنز قيمته قيمة الذهب: تابوت العهد والمنّ السماوي وعصا هارون. ومأخوذ كذلك من سفر الاحبار (2 احبار، 5:3 – 10 ) الذي يتكلم عن الهيكل الذي بناه سليمان الملك سنة 1500 وكان مرصّعًا في داخله بالذهب.

         مريم العذراء تدعى “بيت الذهب” لانها احتوت اسمى هبات النعمة وامتيازات المجد وحملت في حشاها الاله القدوس. ما جعلها تفوق الذهب بشخصها وبدورها في تاريخ الخلاص. واصبحت بذلك تحفة الخلق والفداء.

         2 – يا تابوت العهد

هذا اللَّقب مأخوذ من “تابوت العهد” في العهد القديم الذي كان يحوي لوحَي الشريعة المطبوعة عليهما والوصايا العشر التي أعطاها الله لموسى، بهدف تنظيم حياة الشعب الدينية والمدنية (راجع خروج 25: 10-21).

تحمل مريم العذراء لقب “تابوت العهد”، لأنّها حملت في حشاها كلمة الله الذي أحذ منها جسدًا بشريًّا، وهو إيّاه الذي أنزل الوصايا لموسى، فأصبحت مريم “تابوت العهد الجديد”، حاملة شريعة جديدة ليست من حجر، بل من لحم ودم هي يسوع المسيح، الكلمة المتجسّد.

         3- يا باب السماء

هذا اللَّقب مأخوذ أيضًا من كتب العهد القديم. ويعني الباب الذي يدخل منه ملك المجد (مز23: 7)؛ وباب الربّ الذي يدخل منه الصدّيقون (مز117: 20)؛ وباب الخلاص بيسوع المسيح: “أنا الباب. إن دخل بي أحد يخلص. يدخل ويخلص ويجد مرعىً (يو10: 9)؛ وباب السماء الذي رآه يعقوب ويتّصل بسلّم يصعد وينزل عليه الملائكة (تكوين28: 12 و17).

تُدعى مريم “باب السماء” الذي يتّصل بسلّم نزل الله الكلمة عليه للأرض واستقرّ في حشا مريم وجعلها السلّم والباب إلى السماء. مريم فتحت لنا باب السماء، لأنّها ولدت المخلّص الإلهي الذي فتح للبشرية باب السماء من بعد أن خلقه الله بسبب خطيئة آدم وحواء.

         صلاة

أيّها الربّ يسوع، في مولد يوحنا سابقك، كان انبثاق فجر رحمة الآب، الذي بلغ ذروة شمسه فيك، انت وجه الرحمة الإلهية المتجسّدة. اغمرْنا في سنة يوبيل الرحمة بفيض من رحمتك الغافرة والمُحبة والهادية. واجعلنا فعلة رحمة مع كلّ إنسان، وفي كلّ مجتمع. فما أحوج عالم اليوم إلى الرحمة!

يا مريم بيت الذهب استمدّي لنا النعم الإلهية التي تذهّب قلوبنا وعقولنا بالحقيقة وإراداتنا بالتزام الخير. ويا تابوت العهد اجعلينا ندرك أنّنا نصبح كذلك عندما نقبل في قلوبنا كلمة الله، وجسد الربّ ودمه، ومواهب الروح القدس. ويا باب السماء إهدينا إلى الطريق المؤدّي بواسطتك وبالمسيح ابنكِ إلى الوطن السماوي، وطن الخلاص والمجد. فنرفع في كلّ آن نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، إلى الأبد، آمين.

*   *   *

شاهد أيضاً

الرَّجاءُ لا يُخَيِّبُ مرسوم الدّعوة إلى اليوبيل العادي لسنة 2025 فرنسيس أسقف روما خادم خدّام الله إلى الّذين سيقرؤون هذه الرّسالة ليملأ الرّجاء قلوبكم

Spes non confundit الرَّجاءُ لا يُخَيِّبُ مرسوم الدّعوة إلى اليوبيل العادي لسنة 2025 فرنسيس أسقف …

رسالة قداسة البابا فرنسيس

في اليوم العالمي الحادي والسّتين للصّلاة من أجل الدّعوات 21 نيسان/أبريل 2024“مدعُوُّون لتزرعوا الأمل وتبنوا …