التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي – الأحد 3 كانون الثاني 2016
وجود الرب في الهيكل (لو 2: 41-52)
عيد العائلة المقدسة
يسوع، ابن الله، الإله الكامل الألوهة، تأنّس في عائلة يوسف ومريم من الروح القدس. هو الله يدخل تاريخ البشر من باب العائلة، ليقدّسها ويعيدها إلى بهاء صورتها، ولكي يتربّى فيها في إنسانيّته، تربية مثلَّثة الأبعاد: الجسدية والأخلاقية والروحية. في إنجيل عيد العائلة المقدّسة، يسوع ابن اثنتَي عشرة سنة يعلن بنوّته للآب السماوي، وبنوّته ليوسف ومريم.
أوّلاً، شرح الإنجيل
من إنجيل القديس لوقا 2: 41-52
كانَ أَبَوَا يَسُوعَ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ في عِيدِ الفِصْحِ إِلى أُورَشَليم. ولَمَّا بَلَغَ يَسُوعُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة، صَعِدُوا مَعًا كَما هِيَ العَادَةُ في العِيد. وبَعدَ انْقِضَاءِ أَيَّامِ العِيد، عَادَ الأَبَوَان، وبَقِيَ الصَبِيُّ يَسُوعُ في أُورَشَلِيم، وهُمَا لا يَدْرِيَان. وإذْ كَانَا يَظُنَّانِ أَنَّهُ في القَافِلَة، سَارَا مَسِيرَةَ يَوْم، ثُمَّ أَخَذَا يُفَتِّشَانِ عَنْهُ بَيْنَ الأَقارِبِ والْمَعَارِف. ولَمْ يَجِدَاه، فَعَادَا إِلى أُورَشَليمَ يُفَتِّشَانِ عَنْهُ. وَبعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّام، وَجَدَاهُ في الهَيكَلِ جَالِسًا بَيْنَ العُلَمَاء، يَسْمَعُهُم ويَسْأَلُهُم. وكَانَ جَمِيعُ الَّذينَ يَسْمَعُونَهُ مُنْذَهِلينَ بِذَكَائِهِ وأَجْوِبَتِهِ. ولَمَّا رَآهُ أَبَوَاهُ بُهِتَا، وقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: «يا بُنَيّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكذا؟ فهَا أَنَا وأَبُوكَ كُنَّا نَطْلُبُكَ مُتَوَجِّعَيْن!». فَقَالَ لَهُمَا: « لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلا تَعْلَمَانِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ في مَا هُوَ لأبي؟». أَمَّا هُمَا فَلَمْ يَفْهَمَا الكَلامَ الَّذي كَلَّمَهُمَا بِهِ. ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا، وعَادَ إِلى النَاصِرَة، وكانَ خَاضِعًا لَهُمَا. وكَانَتْ أُمُّه تَحْفَظُ كُلَّ هذِهِ الأُمُورِ في قَلْبِهَا. وكَانَ يَسُوعُ يَنْمُو في الْحِكْمَةِ والقَامَةِ والنِعْمَةِ عِنْدَ اللهِ والنَاس. |
1. الفتى يسوع ابن الاثنتَي عشرة سنة يتردّد إلى أورشليم كعادة العائلة لمناسبة عيد الفصح. الأيام الثلاثة ووجع أبيه وأمّه استباق لدفنه الثُلاثي الأيام، ولآلام مريم أمّه. المناسبة هي عيد الفصح اليهودي حيث تُقدّم ذبيحة الحمل التكفيرية. ويسوع يُنبئ عن فصحه الجديد، حيث هو نفسه حمل ذبيحة فداء البشر المقدَّمة لأبيه. هذا ما كان يعني جوابه لأمه:”ألم تعلما أنه يجب عليّ أن أكون في ما هو لأبي؟” (لو 2: 49). بالطبع لم يفهم أبواه أبعاد هذا الجواب، لكن مريم أمه حفظته في قلبها حتى يوم تحقيقه. فباحت به فيما بعد للوقا الذي كتبه في إنجيله. لقد تلقّت العلم من ابنها كربٍّ لا كإبن. ويوسف رأى أن الأعظم يخضع للأصغر. هنا يبدو سموّ فضيلة التواضع، تواضع الألوهة. فكم علينا نحن البشر أن نتحلّى بها.
2. يسوع في بيت أبيه، الذي هو الهيكل. إليه كان يتردّد للصلاة وسماع كلام الله في كلّ يوم سبت (راجع لو 4: 16). وإلى هيكل سليمان في أورشليم كان يتردّد كلّ سنة برفقة أبيه وأمّه. بيت الله اليوم هو الكنيسة حيث يلتقي المؤمنون كأبناء وبنات لله، ويؤلّفون عائلته الملتئمة بالروح القدس حول المسيح القرباني، حول مائدة كلام الحياة بسماعها وحفظها في القلب والتأمل فيها وعيشها ثقافة إنسانيّة وأخلاقيّة في العائلة والمجتمع والدولة؛ وحول مائدة جسد الرب ودمهلقبول الحياة الجديدة التي تحوّلنا مثل تحويل الخبز والخمر إلى إنسان جديد، وتجعلنا جدسه السرّي أي “المسيح الكامل” (القديس أغسطينوس).
3. يسوع الإله، ابن الإنسان، يعلّمنا الالتزام بفضيلة التعبّد لله، عبر الممارسة الدينية في أيام الآحاد والأعياد. وهذه إحدى وصايا الكنيسة السَّبع. ولقد بلغ ذروة فضيلة التعبّد بتقديم ذاته قربانًا مرضيًّا للآب فيه كلّ المجد والتسبيح والشكر والتشفّع والالتماس، وبجعله القربان الذي ترفعه الكنيسة باسم البشرية جمعاء لله الواحد والثالوث، في يوم الربّ، يوم الأحد.
“بجلوسه بين العلماء يستمع إليهم ويسألهم” (الآية 46)، يظهر يسوع المعلّم الإلهي. إنه يواصل رسالته التعليميّة الإلهيّة للجماعة المؤمنة في كلّ مرة تلتئم حوله. تسمعه هو نفسه بسماع كلامه في الكتب المقدسة؛ تتعلّم منه الكلمة والمَثَل لتقتدي به. وتتأمل في كلامه وأفعاله وآياته من خلال عظة المحتفل.
“مع أبيه وأمه كان يتردّد إلى الهيكل”، بهذا يعلّمنا أن العائلة “كنيسة منزلية” تنقل الإيمان وتربّي على الصلاة. فتصبح العائلة المسيحية “جماعة تؤمن وتنشر الإنجيل” (البابا يوحنا بولس الثاني؛ في وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم، 51).
4. “خضوع يسوع لأبيه وأمّه” (الآية 51) يعلّمنا الطاعة للوالدين ولأولياء أمرنا ولرؤسائنا. لكن أساس الطاعة هو التواضع. فيسوع، وهو الأعظم، يطيع ويخضع لمَن هما الأدنى. هذا هو جمال الطاعة وقيمتها الروحية في حياة المؤمنين والمؤمنات، وفي حياة الكهنة والرهبان والراهبات. الطاعة تقدّس صاحبها، وتجعله سيّد نفسه، وحرًّا من ذاته ومتجرّدًا، في سبيل إتمام إرادة الله والخير العام. الطاعة تعلّم الحرّية الحقيقية لأنها فعل اختيار حرّ لمشيئة الله وتصميمه، والتزام بكلّ ما يخدم خير الجماعة.
5. “نموّ يسوع بالقامة والحكمة والنعمة” (الآية 52) يعطينا أمثولتَين:
الأولى هي أنّ كلّ شخص بشري مدعوٌّ لينمو نموًّا كاملاً بأبعاد شخصيّته الثلاثة: النموّ الجسدي، والنموّ الأخلاقي، والنموّ الروحي. نموّه بالجسد ضروري من أجل حماية وجوده، بقدر ما يقسم الله له من عمر على وجه هذه الدنيا. ونموّه بالأخلاقضروريّ أيضًا لكي يحسن عيش حياته الاجتماعية في العلاقات مع الآخرين، وفي نوعيّة أقواله وأفعاله ومبادراته. فالبُعد الاجمتاعي أساسي في حياة كل ّإنسان. ويتوفّر له النموّ الأخلاقي بسماع كلام الله وبالعلم والتربية. ونموّه بالروح يتحقّق بفعل النعمة الإلهية التي تقدّسه وترفعه يومًا فيومًا نحو الله، وتساعده على الوقوف أمامه من أجل إصلاح ذاته بممارسة سرّ التوبة، والامتلاء منه بتناول جسد الربّ ودمه في سرّ القربان.
الأمثولة الثانية هي أنّ العائلة وُجدت لتكون المكان الطبيعي للنموّ الجسدي من خلال عناية الوالدين؛ والمدرسة الأولى للتربية على الأخلاق وتوفير العلم والثقافة؛ والكنيسة البيتيّة التي تسهر على النموّ الروحي، وتساعد على توفيره.
في هذا المسعى يجب أن تتضافر قوى العائلة والمجتمع والكنيسة، وأن تتكامل. كلّ شخص بشري بحاجة لهؤلاء الثلاثة، لكي يكون إنسانًا بكلّ أبعاد الانسانية، ولكي يدرك أنّه مواطن في الأرض ومواطن في السماء. موطنيته الأولى تهيّئ الثانية. إن الكنيسة المؤتمنة على الإنجيل والكتب المقدسة ترسم في تعليمها طريق هاتَين المواطنيتين.
* * *
ثانيًا، ألقاب السيدة العذراء في طلبتها
تأمّلنا في ستّة أوصاف لمريم حاملة لقب سلطانة. واليوم نتأمل في آخر أوصافها.
7. يا سلطانة العذارى
العذارى هم البتولات والبتولين الذين كرّسوا بتوليتهم لله وللكنيسة سواء في الحياة الكهنوتية، أم في الحياة المكرّسة في الأديار أو في العالم بالنذور الثلاثة الطاعة والعفة والفقر، من أجل السير على خطى المسيح والشهادة لمحبّته.
ومريم العذراء البتول الكلّية القداسة هي سلطانتهم لأنّها عاشت كمال التكرّس الذاتي لإرادة الله ولرسالة ابنها للخلاص والفداء. بل كانت شريكته السخيّة ببطولة الإيمان والرجاء والمحبة.
8. يا سلطانة جميع القديسين
مريم تسمو على جميع القدّيسين لأنّها لم تعرف الخطيئة، لا الأصليّة ولا الشخصيّة، ولأنّها تفوقهم جميعًا بقداستها. ولهذا تذكر في الصلوات الليتورجية قبلهم جميعًا. وتُلقَّب “بسلطانة جميع القديسين”.
9. يا سلطانة الحبل بلا دنس
مريم عُصمت من الخطيئة الأصلية، الموروثة من أبوينا الأوّلين، آدم وحواء، في اللحظة الأولى من تكوينها في حشى أمّها القدّيسة حنة زوجة القديس يواكيم. ذلك أنّ الله كان يعدّها لتكون أم ابنه المتجسّد. وبذلك حقّق الله وعده، منذ الخطيئة الأولى، بأنّ المرأة ستدوس رأس الحيّة-الشيطان (راجع تك3: 15).
أعلن الطوباوي البابا بيوس التاسع عقيدة الحبل بلا دنس في 8 كانون الأوّل 1854. والسيدة العذراء أكّدتها بظهوراتها للقدّيسة برناديت في لورد. فلمّا سألتها الطفلة عن اسمها أجابت: “أنا الحبل بلا دنس”.
تمحى منّا الخطيئة الأصليّة بالمعمودية، بينما مريم عُصمت منها، فتُلقَّب “سلطانة الحبل بلا دنس”.
10. يا سلطانة الانتقال
جميع البشر سيقومون في نهاية الأزمنة بأجسادهم. أمّا مريم فقد نُقلت بالنفس والجسد إلى مجد السماء في ساعة نياحها، بفضل استحقاقات ابنها يسوع، وأمومتها له، ومشاركته في عمل الفداء، وبفضل قداستها الكاملة. ولذا، تُلقَّب “بسلطانة الانتقال”.
11. يا سلطانة الورديّة المقدّسة
مريم التي أوحت صلاة المسبحة الوردية للقدّيس عبد الأحد، أرادتها وسيلة للخلاص من الخطيئة وللتوبة ونهاية الحروب، وطريقًا إلى الخلاص الأبدي. هذا ما أوحته في ظهوراتها ولا سيّما في ظهورات فاطيما. ولذا، تُلقَّب بحقّ “سلطانة الوردية المقدّسة”.
12. يا سلطانة السلام
مريم أعطت العالم “أمير السلام”، يسوع المسيح ابنها، كما أنشد الملائكة يوم ميلاده: “المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر”(لو2: 14). وشاركت يسوع في نشر سلامه على الأرض. ومن سمائها تنعم بالسلام على العالم. ولهذا تهتف إليها الكنيسة: “يا سلطانة السلام”.
* * *
صلاة
أيُّها الربّ يسوع، لقد تأنّست في عائلة، وأنت الله، فقدّست العائلة وأعدتَ إليها بهاء صورة الله فيها “كجماعة حبّ وحياة”. وبدخولك ابنًا فيها، وأنت القدّوس، جعلتها كنيسة بيتية ومدرسة طبيعية لتربية الأجيال ونموّها جسديًّا وأخلاقيًّا وروحيًّا. نسألك، بشفاعة عائلتك المقدّسة، عائلة الناصرة، أن تقدّس عائلاتنا، وتقوّي بنعمتك الوالدين والمربّين والمسؤولين المدنيِّين في مهمّتهم التربوية السامية.
ويا مريم، سلطانة السماء والأرض، ومثال ساكنيها وتاج مجدهم، أنيري ببتوليّتك المكرَّسين والمكرَّسات، قدِّسي المؤمنين والمؤمنات، إحفظينا في نعمة المعمودية وثوب النقاء، إجعلي من ورديّتك طريقًا لنا إلى المسيح والخلاص، وازرعي سلامه في القلوب لكي ينتشر في العائلة والكنيسة، وفي المجتمع والدولة. فنرفع معكِ المجد والتسبيح لله الواحد والثالوث الذي اختاركِ، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *