التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي – الأحد 24 كانون الثاني 2016
أحد الأبرار والصديقين (متى 25: 31-46)
محبة الإنسان طريقنا إلى الله
تخصّص الكنيسة هذا الأحد والأسبوع الطالع لتذكار الأبرار والصديقين الذين عاشوا محبة المسيح في محبة الأخوة المحتاجين، ويعدّدهم الربّ يسوع في إنجيل هذا الأحد وهم: الجائع والعطشان والعريان والغريب والمريض والسجين. ويسمّيهم “إخوته الصغار” (متى 25: 40). في هذا الأسبوع السابق للأحد نشارك الكنيسة فيأسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس، وقد تمّ افتتاحه مساء الأحد السابق.
أوّلاً، شرح الإنجيل
من إنجيل القديس متى 25: 31-46
قالَ الرَبُّ يَسُوع: «متى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ في مَجْدِهِ، وَجَمِيعُ المَلائِكَةِ مَعَهُ، يَجْلِسُ على عَرْشِ مَجْدِهِ. وتُجْمَعُ لَدَيْهِ جَمِيعُ الأُمَم، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُم مِنْ بَعْض، كَمَا يُمَيِّزُ الرَاعِي الخِرَافَ مِنَ الجِدَاء. ويُقِيمُ الخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالجِدَاءَ عَنْ شِمَالِهِ. حِينَئِذٍ يَقُولُ المَلِكُ لِلَّذينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوا، يَا مُبَارَكي أَبي، رِثُوا المَلَكُوتَ المُعَدَّ لَكُم مُنْذُ إِنْشَاءِ العَالَم؛ لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي، وعَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي، وكُنْتُ غَريبًا فَآوَيْتُمُوني، وعُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُوني، ومَريضًا فَزُرْتُمُونِي، ومَحْبُوسًا فَأَتَيْتُم إِليّ. حِينَئِذٍ يُجِيبُهُ الأَبْرَارُ قَائِلين: يَا رَبّ، متى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاك، أَو عَطْشَانَ فَسَقَيْنَاك؟ ومتى رَأَيْنَاكَ غَريبًا فَآوَيْنَاك، أَو عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاك؟ ومتى رَأَيْنَاكَ مَريضًا أَو مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْك؟ فَيُجِيبُ المَلِكُ ويَقُولُ لَهُم: أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: كُلُّ مَا عَمِلْتُمُوهُ لأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاءِ الصِغَار، فَلِي عَمِلْتُمُوه! ثُمَّ يَقُولُ لِلَّذينَ عَنْ شِمَالِهِ: إِذْهَبُوا عَنِّي، يَا مَلاعِين، إِلى النَارِ الأَبَدِيَّةِ المُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وجُنُودِهِ؛ لأَنِّي جُعْتُ فَمَا أَطْعَمْتُمُونِي، وعَطِشْتُ فَمَا سَقَيْتُمُوني، وكُنْتُ غَريبًا فَمَا آوَيْتُمُونِي، وعُرْيَانًا فَمَا كَسَوْتُمُونِي، ومَرِيضًا ومَحْبُوسًا فَمَا زُرْتُمُونِي! حِينَئِذٍ يُجِيبُهُ هؤُلاءِ أَيْضًا قَائِلين: يَا رَبّ، متى رَأَيْنَاكَ جاَئِعًا أَوْ عَطْشَانَ أَوْ غَرِيبًا أَو مَريضًا أَو مَحْبُوسًا ومَا خَدَمْنَاك؟ حِينَئِذٍ يُجِيبُهُم قِائِلاً: أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: كُلُّ مَا لَمْ تَعْمَلُوهُ لأَحَدِ هؤُلاءِ الصِغَار، فلِي لَمْ تَعْمَلُوه. ويَذْهَبُ هؤُلاءِ إِلى العَذَابِ الأَبَدِيّ، والأَبْرَارُ إِلى الحَيَاةِ الأَبَدِيَّة».
1- يؤكّد الرب يسوع أننا سَنُدان على المحبة الاجتماعية أعني مساعدة مَن هم في حاجة مادية أو روحية أو معنوية أو أخلاقية. فتتضافر الجهود من قِبل الجميع، أفرادًا وجماعات، ومن قِبل الكنيسة بعملها الراعوي في الأبرشيات والرعايا والأديار، وبعملها الاجتماعي والإنساني والإنمائي في مؤسساتها التربوية والاستشفائية وتلك المعنية بالحاجات الخاصة؛ ومن قِبل المجتمع والدولة في مختلف النشاطات الإدارية والتشريعية والإجرائية والقضائية والأمنية.
2- هذه مسؤولية شاملة تفرضها الحالات السّت التي يعدّدها الربّ يسوع في إنجيل اليوم، وهي ذات طابع شمولي للحاجات.
يوجد بيننا: الجائع إلى خبز وطعام، والجائع إلى حقّ وعدل وإنصاف وعلم وثقافة. العطشان إلى ماء وسوائل لجسمه، والعطشان إلى كرامة وتفهّم وفرصة عمل وتحقيق ذات. العريان المحروم من الثوب والحذاء والأثاث لبيته، والمعرّى من الصيت الحسن بالكذب والنميمة. الغريب البعيد عن أهله وبيئته ووطنه، والغريب بين أهله ورفاقه وفي بيئته، عندما يعاني الوِحدة والعزلة وعدم الفهم والرفض والاقصاء وعدم الاعتبار. المريض جسديًا ونفسيًا وعصبيًا، والمريض بروحه وأخلاقه بسبب حالة الخطيئة التي يعيش فيها، والكبرياء، والأنانية، والبخل والأميال المنحرفة. السجين وراء قضبان الحديد، أو المخطوف أو المحتَجز، والسجين مأسورًا بالتبعية العمياء، وبالاستعباد لآخر، وسجين أرائه ومواقفه وإيديولوجيات وغسيل دماغ.
هؤلاء كلّهم بحاجة إلى محبتنا تساعدهم للخروج من حاجاتهم العديدة والمتنّوعة. وكلنا قادرون على مدّ يد المساعدة لهم، أكانت مادّية أم روحيه أم معنوية أم أخلاقية. لا يمكن اتّخاذ موقف اللامبالاة واللامسؤولية. فبحكم فضيلة التضامن، كلّنا مسؤولون عن كلّنا.
3- هذه المحبة للإنسان في حاجته، أيًّا تكن، هي الطريق إلى الإلتقاء بالله. بهذا المعنى كتب يوحنا الرسول:”إن قال أحدٌ: إنّي أحبّ الله، وهو يبغض أخاه، فهو كاذب. فمن لا يحبّ أخاه وهو يراه، لا يستطيع أن يحبّ الله وهو لا يراه” (1يو 4: 20). فمن يتجاهل الإنسان، يتجاهل الله أيضًا. لكن الله أحبّنا هو أولاً، وما زال يحبّنا هو أولاً. لذلك يمكننا نحن أيضًا أن نجاوب بالحبّ. إنطلاقًا من “حبّ الله الأول” يمكن، جوابًا على حبّه، أن يتفجّر الحبُّ أيضًا فينا. هذا يحصل عندما نختبر، ما اختبره القديس اغسطينوس، وهو أن “الله أقرب إليّ أكثر مما أنا عليه من ذاتي” (اعترافاتي 3: 6، 11). حينئذٍ يتنامى التسليم لله، والله يصبح فرحنا (راجع مز 72 (73): 23-28)، ومحبة الإنسان تصير ممكنة، لكوني أحبّه في الله ومع الله. وهكذا أنظر إلى الشخص الآخر، ليس فقط بعينيّ وعواطفي، بل ومن وجهة نظر يسوع المسيح. فصديقه صديقي. والمسيح هو صديق كل إنسان (راجع البابا بندكتوس السادس عشر: الله محبة، 17-18).
4- عندما انظر وأرى بعيني المسيح، استطيع أن أعطي الآخر أكثر بكثير من الأشياء التي يحتاج إليها خارجيًّا: يمكنني أن أهبه نظرة الحبّ التي يحتاج إليها. ولكن إذا كنت افتقر كليًا في حياتي إلى معرفة المسيح، وإلى التواصل مع الله، فلن أستطيع أبدًا أن أرى في الآخر إلاّ الآخر، ولن أنجح في أن أتعرّف فيه على صورة الله. وبالعكس، إذا أهملت تمامًا في حياتي الانتباه إلى الآخر، راغبًا فقط في أن أكون “تقيًا”، وأتمّم “واجباتي الدينية”، حينئذٍ تيبس علاقتي مع الله. تكون علاقتي هذه “صحيحة شكليًا”، ولكنها خالية من الحبّ.
وحدها خدمة القريب تفتح عينيّ على ما يصنعه الله من أجلي، وعلى طريقته هو في محبّته لي. عندئذٍ انطلق منه بكثير من الحب نحو “أخوة الرب الصغار”. نفكّر مثلاً “بالقديسة تريزا دي كلكوتا، والطوباوي أبونا يعقوب حداد الكبوشي وغيرهم من أمثالهم. لقد نهلوا من لقائهم الرب في القربان القدرة على محبة “الأخوة الصغار”، بتجدد دائم. وبفضل خدمتهم للأخوة المحتاجين ازدادت محبتهم لله واتّحادهم به. وهكذا، محبة الله ومحبة القريب لا تنفصلان. إنهما وصية واحدة، بل يصبحان اختبار حبّ نابع من الداخل (المرجع نفسه، 18).
ثانيًا، أسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس
1- كان، مساء الأحد 17 كانون الثاني الجاري في لبنان، افتتاح أسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس في كنيسة القديس نيقولاوس للروم الارثوذكس (بيروت). يدوم هذا الأسبوع من 18 ذكرى قيام كرسي القديس بطرس الرسول في روما، إلى 25 كانون الثاني ذكرى ارتداد القديس بولس الرسول. الموضوع الذي اختير لمواكبة الصلاة والقراءات من الكتاب المقدس، مأخوذ من رسالة القديس بطرس الأولى: “دعاكم الرب لتعلنوا فضائله” (1بطرس 2: 9). ينظّم أسبوع الصلاة مجلسُ كنائس الشرق الأوسط واللجنةُ الأسقفية للعلاقات المسكونية في مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان.
2- يندرج موضوع هذا الأسبوع في إطار كلام القديس بطرس الرسول عن النعمة التي نلناها بالمعمودية والميرون، إذ أصبحنا شركاء في هوية المسيح ورسالته بأبعادها الثلاثة: البعد النبوي والبعد الكهنوتي والبعد الملوكي. فقال عن المسيحيين:”أنتم ذريّة مختارة وكهنوت ملوكي وأمّة مقدّسة وشعبٌ اقتناه الله لإعلان فضائله، هو الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب” (1بطرس 2: 9-10).
3- “فضائل الله” التي نعلنها هي آياته وأعماله العظيمة وفي طليعتها أنه جعلنا، بموت المسيح وقيامته وبوحدة الروح القدس، شعبًا واحدًا، وقد كنا أفرادًا مشتتين، على ما أضاف بطرس الرسول في رسالته:”ما كنتم شعبًا من قبل، وأما اليوم فأنتم شعب الله. كنتم لا تنالون رحمة الله، أما الآن فنلتموها” (1بطرس 2: 10).
4- أسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس يقتضي منا، ومن الجميع، مسؤولين وأفرادًا وجماعات، أن نعمل بكلّ جهدنا من أجل وحدة شعب الله على قاعدة الحقيقة والمحبة والرحمة. فلا يحقّ لنا أن نجعل قضية وحدة الكنائس المعروفة بالحركة المسكونية مجرّد قضية أكاديمية نحاضر فيها، بل ينبغي أن ندرك أن الانقسامات في كنيسة المسيح الواحدة، إنما هي جرح بليغ في جسده السرّي وتمزيق لأعضائه. ولهذا، استوجب الأمر أسبوع الصلاة، بل الصلاة كلّ يوم، بحيث تتواصل من قلوبنا وعلى ألسنتنا صلاة الربّ يسوع، ليلة إقباله على الموت من أجلنا:”ليكون تلاميذه واحدًا كما أن الآب فيه، وهو في الآب” (يو 17: 11). لكن الصلاة من القلب تقتضي الشعور بعدم الامانة، والتألم للانقسام والشجاعة في معرفة الحقيقة، والخروج من اللامبالاة ومن العداء المتبادل.
* * *
صلاة
أيها الرب يسوع، تدعونا، على مثالك، لنحبّ كلّ مَن هم في حاجة مادية أو روحية أو معنوية، وسميّتَهم “أخوتك الصغار”؛ وجعلتهم طريقنا إليك وإلى الخلاص الأبدي. جدّد زرع محبتهم في قلوبنا بقوة الروح القدس، وبالاغتذاء من جسدك ودمك في سرّ القربان.
أشعل في قلوبنا مسؤولية العمل من أجل وحدة المسيحيين والكنائس، ونحن نشعر بألم الانقسام، وبالجرح الذي يمزّق جسدك. ولتردد أفواهنا صلاتك الأخيرة:”ليكونوا، أيها الآب واحدًا فينا، كما نحن واحد”.
ولتصعد من قلوبنا الموحَّدة بمحبتك صلاة الشكر والتسبيح للثالوث الواحد: الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *