التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي
الأحـد الاول بعد الصليب 18 أيلول 2016 زمن النهايات (مرقس 10 : 35-45)
عيد الصليب والآحاد التي تليه، تشكّل زمن الصليب، أو زمن النهايات، وبه نختم السنة الطقسيّة. فمن الطبيعي بعد مسيرة الكنيسة التاريخية على الأرض، جاهدةً في بناء ملكوت المسيح، أن توجِّه نظرها الى العالم الآتي الذي يلي نهاية الأزمنة. يُسمّى “زمن النهايات” لأنّه يتكلّم عن الموت ونهاية العالم والدينونة والخلاص والهلاك. ولأنّه زمن الصليب فهو دعوة إلى الرجاء بقوّة الصليب التي بها نقهر بدورنا الخطيئة والشّر. فباسم الصليب وتحت رايته نبدأ ونختم كلّ عمل صالح.
اولاً، شرح نص الانجيل
من انجيل القديس مرقس 10: 35-45
ودَنا إِلَيه يَعقوبُ ويوحَنَّا ابنا زَبَدى، فقالا له: «يا مُعَلِّم، نُريدُ أَن تَصنَعَ لَنا ما نَسأَلُكَ». فقالَ لَهما: «ماذا تُريدانِ أَن أَصنَعَ لكما؟» قالا لهُ: «اِمنَحْنا أَن يَجلِسَ أَحَدُنا عن يَمينِك، والآخَرُ عَن شِمالِكَ في مَجدِكَ». فقالَ لَهما يسوع: «إِنَّكُما لا تَعلَمانِ ما تَسألان. أَتَستَطيعانِ أَن تَشرَبا الكأسَ الَّتي سأَشرَبُها، أَو تَقبَلان المَعمودِيَّةَ الَّتي سَأَقبَلُها؟» فقالا له: «نَستَطيع». فقالَ لَهما يسوع: «إِن الكأَسَ الَّتي أَشرَبُها سَوفَ تَشرَبانِها، والمَعمودِيَّةَ الَّتي أَقبَلُها سَوفَ تَقبَلانِها. وأَمَّا الجُلوسُ عن يَميني أَو شِمالي، فلَيسَ لي أَن أَمنَحَه، وإِنَّما هُوَ لِلَّذينَ أُعِدَّ لهم». فلمَّا سَمِعَ العَشَرَةُ ذلكَ الكَلامَ اغْتاظوا مِن يَعقوبَ ويوحَنَّا، فدَعاهم يسوعُ وقالَ لَهم: «تَعلَمونَ أَنَّ الَّذينَ يُعَدُّونَ رُؤَساءَ الأُمَمِ يَسودونَها، وأَنَّ أَكابِرَها يَتَسَلَّطونَ علَيها. فلَيسَ الأَمرُ فيكم كذلِك. بل مَن أَرادَ أَن يَكونَ كَبيرًا فيكم، فَلْيَكُنْ لَكُم خادِمًا. ومَن أَرادَ أَن يكونَ الأَوَّلَ فيكم، فَلْيَكُنْ لأَجمَعِكم عَبْدًا. لأَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس.
1. مطلب يعقوب ويوحنّا يشكّل نافذة نحو العالم الجديد، نحو النهايات. فهما يطلبان من الربّ يسوع الجلوس عن يمينه ويساره في العالم الآتي. أمّا جواب يسوع فكان تحديد واجبات الخلاص والبلوغ إلى النهاية السعيدة في مجد السماء، بشرطَين (الآية 38):
الشّرط الأوّل: شرب كأس المشاركة بآلام الفداء، بحيث يتحمّلان الرفض والاضطهاد والافتراء والنميمة والشهادات الكاذبة والوشاية، كما تحمّل هو. وبحيث يخضعان ربّما للقتل وشهادة الدَّم.
الشّرط الثاني: “الاصطباغ بصبغة المسيح” أو بتعبير القديس بولس : “أن يلبسا المسيح” (غل 3: 27)، ويتبعان نهج المسيح، نهج التواضع والوداعة. ويسمّي يسوع هذه الصبغة “معموديّته” التي جعلته، بحلول الروح على بشريّته نبيًّا وكاهنًا وملكًا بامتياز، وأعلنته “الابن الحبيب” للآب السماوي. ونحن “الذين اعتمدنا بالمسيح قد لبسنا المسيح” (غل 3: 27)، أشركنا بهوّيته النبوية والكهنوتيّة والملوكيّة، لنكون ملتزمين بموجباتها: قبول كلمة الله وعيشها وإعلانها باللّسان والأعمال (خدمة النبوءة)؛ والمشاركة في تذكار ذبيحة المسيح وتناول جسده ودمه في سرّ الإفخارستيا، وضمّ قرابيننا الروحيّة: أفراحنا وأحزاننا، عملنا وتعبنا، آلامنا وأفراحنا، إلى آلامه الخلاصيّة (الخدمة الكهنوتية؛ والالتزام بإحلال العدالة والأخوّة والسلام بين جميع الناس ومحاربة الشَّر والظُّلم، وكلّ نزاع (الخدمة الملوكيّة).
فأجاب يعقوب ويوحنا بالإيجاب. وعاشا هذَين الشرطين.
2. أمّا يسوع، بلطفه المعهود، فأكّد على أنّ هذَين التلميذَين سيلتزمان حقًّا بالشرطَين المذكورَين، غير أنّ الجلوس من عن يمينه ويساره في ملكه سيمنحه للّذين أُعِدَّ لهم. وكاد الموضوع أن ينتهي هنا، والتلميذان أدركا المطلوب منهما، واقتنعا بجواب يسوع.
3. ولكنّ “العشرة الآخرين اغتاظوا وتذمّروا على يعقوب ويوحنا” (الآية 41)، بسبب مطلبهما الذي يثير نوعًا من الحسد. أمّا يسوع فكالعادة يغتنم كلّ فرصة ليعطي تعليمه الجديد، ويصحِّح النظرة والفكر والموقف.
ففي سياق “النهج الجديد” الذي سمّاه “صبغته” أعطى مفهوم السّلطة وطريقة ممارستها.
فهي خدمة متواضعة ومتفانية، لأنّها التزام بخدمة الخير العام، الذي منه خير كلّ مواطن وخير الجميع. سُمِّيَت السياسة “فنًّا شريفًّا” لأنّها من النظام الطبيعي الذي وضعه الله، لكي يعيش جميع الناس في الطمأنينة والخير والسلام، ولأنّها تقتضي بذل الذات والتضحية بالوقت والراحة والمصلحة الذاتية في سبيل الصالح العام وخير كلّ إنسان في حاجات إنسانيّته وأبعادها (راجع الآيتين 44-45).
وهكذا يكون الأوّل خادم الجميع (الآية 44).
4. وصحّح الربُّ يسوع الممارسة السياسيّة التي يمارسها أصحابها المدعوّون في المجتمع “رؤساءَ الأمم وأربابًا وعظماء”. ومجتمعُ اليوم يسمّيهم عندنا “الزعماء السياسيّين”. فيشجب الربّ ممارستهم للسلطة السياسيّة كتسلُّط على الشعوب (الآية 42). ويوجّه النداء بنهجه الجديد إلى كلّ صاحب سلطة قائلًا: “فلا يكن هذا بينكم” (الآية 43).
ويقدّم يسوع نفسه مثالًا للنهج الجديد: “كما أنّ ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم، بل ليَخدم، ويبذل نفسه فدىً عن الكثيرين” (الآية 45).
* * *
ثانيًا، شرح إنجيل ارتفاع الصليب
1. تقرأ الكنيسة نصًّا من إنجيل القدّيس يوحنا (12: 20-32). وفيه قولٌ للربّ يسوع يتّصل بزمن النهايات. عندما أقبل اثنان من اليونانيّين، الذين جاؤوا إلى أورشليم للمشاركة في أسبوع عيد الفصح اليهودي، وكانا يطلبان التعرّف إلى يسوع. وكان ذلك يوم دخل يسوع أورشليم، واستقبله الشعب بعفوية وأعلنوه ملكًا، في الأحد السابق لآلامه وصلبه وموته وقيامته وهو المعروف بأحد الشعانين.
فتكلّم يسوع، في المناسبة، عن النهاية وبداية عهد جديد بموته وقيامته، ويدعو أتباعه إلى عيش موجبات هذا العهد الجديد. ثمّ يفتح نافذة على العالم الجديد الآتي.
2. تكلّم عن موته وقيامته وولادة عهد بشري جديد، معتمدًا استعارة حبّة القمح التي، إذا وقعَتْ في الأرض وماتَت، أتَت بثمرٍ كثير” (يو12: 14). يسوع المسيح هو “حبّة القمح” الذي سيموت على الصليب، وثمار هذه “الحبّة” هي الكنيسة بكلِّ أبنائها وبناتها، المعروفة بشعب الله الجديد، الذي اختاره المسيح من دون أن ينتمي إليه كإله، فيما هو رأسه، لكي يحقّق في العالم تصميم الله الخلاصي.
إنّه “نهج المسيح” نهج الموت عن الذات والقيامة لحياة جديدة. هو نهج قبلناه بالمعمودية التي تحقّق من خلال رموزها الموت عن الخطيئة والقيامة لحياة النعمة، الموت عن الإنسان القديم والقيامة لإنسان جديد، بتعبير القديس بولس (راجع أفسس 4: 22-24). هذا النهج تكرّسنا له بمسحة الميرون.
ثمّ يوضح الربّ يسوع مفهوم الاستعارة مع دعوة لنا: “من يحببْ نفسه يهلكها (التضحية والتجرّد وبذل الذات)، ومن يبغضْ نفسه في هذا العالم (الانتصار على شهوات العين والجسد وكبرياء الحياة)، يحفظها لحياة الأبد” (ينال الخلاص الأبدي) (الآية 25).
ويسمِّي يسوع عيش نهجه “خدمته”: “من يخدمْني فليتبعْني”. وكونه حاضر بمحبّته ورحمته ونعمته في كلّ مكان، فإنّه يدعو إلى خدمته حيث هو: “كنتُ جائعًا، عطشانًا، غريبًا، عريانًا، مريضًا، محبوسًا” (راجع متى 25: 35-36). ويفتح نافذة جديدة على النهايات: “مَن يخدمْني يكرمه الآب” (راجع الآية 26).
4. هذا “النهج” الذي قد تتغلّب عليه محنة الألم والموت، حتى تكاد تُنسي أفراح القيامة، أخاف يسوع كما يخيف كلّ إنسان، فالتمس النجاة منه: “الآن نفسي مضطربة. يا أبتاه نجِّني من هذه الساعة” (الآية 27).
ولكن نعمة إلهيّة قوّته من الداخل، وأعادته إلى مواصلة “نهجه”، فأصبح قبول الألم والموت تمجيدًا للآب السماوي، لكونه بذلك يتمّم تصميمه الخلاصي. فاستدرك: “ولكن لأجل هذا بلغتُ إلى هذه الساعة”، وجدّد التزامه بتحقيق إرادة الآب: “أيّها الآبُ مجّد اسمك” (الآية 27-28).
فكان جواب الآب تشديدًا لعزيمته ووعدًا بقيامته، وسُمِع صوته: “قد مجّدتُ وسأمجّد” (الآية 28).
5. والربّ يسوع بفيضٍ من حنانه وجّه صوت التعزية الإلهيّة إلى كلّ إنسان يعاني من محن صعبة في حياته: “ليس لأجلي كان هذا الصوت، بل لأجلكم” (الآية 30)، وأكّد الانتصار بنعمته على قوى الشَّر التي تعترضه: “الآن أركونُ هذا العالم يُطرح خارجًا” (الآية 31)، ويعد بالتالي بفرح الانتصار في هذه الحياة، ورجاء القيامة في العالم الآتي: “وأنا حينَ أرتفعُ عن الأرض، أجتذبُ إليَّ كلَّ إنسان” (الآية 32).
* * *
صلاة
أيّها الربّ يسوع، في زمن الصليب والنهايات، أنت تشركنا في سرّ آلامك وموتك وقيامتك، وتعطي آلامنا قيمة خلاصيّة؛ وتفتح أمام نفوسنا وقلوبنا نافذة نحو العالم السعيد الآتي، بعد نهاية الأزمنة. نسألك أن توقظ فينا هذا الادراك المزدوج، لكي نواصل بناء ملكوت الله في عالم البشر متَّبعين نهج حبّة الحنطة والخدمة المتفانية في العائلة والكنيسة، وفي المجتمع والدولة. وليكنْ صليبُك الخلاصي، أيّها المسيح، رايةَ رجاءٍ في المحن والمصاعب، وقوةَ انتصارٍ عليها وعلى قوى الشّر. فنرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.