التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي- الأحد الرابع من زمن الصليب 9 تشرين أول ٢٠١٦

التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي– الأحد الرابع من زمن الصليب 9 تشرين أول ٢٠١٦ (متى24: 45-54)

في زمن الصليب، وهو زمن النهاية، إنجيل هذا الأحد يتكلّم عن الموت كساعة تأدية الحساب عمّا أوكل الله إلى كلّ واحد منّا من مسؤولية، بحيث مطلوب منه أن يكون “الوكيل الأمين الحكيم” (متى 24: 45). الحياة بكلّ حالة من حالاتها وكالة ومسؤوليّة. فلا يحقّ لأحد العبث بها.

شرح نصّ الانجيل

من إنجيل القديس متى24: 45-54

مَن هو العبدُ الأمينُ الحكيمُ الذي أقامه سيّده على أهل بيته ليُعطيهم الطّعام في حينه؟ ألا طوبى لذلك العبدِ الذي إذا جاء سيّده وجدَه على عملِهِ هذا. فالحقَّ أقولُ لكم إنّهُ يُقيمه على جميعِ أمواله. ولكن إذا كانَ ذلك العبدٌ شريراً فقالَ في قلبِهِ إنّ سيّدي مُبطىءٌ في مجيئه  فأخذَ يضربُ رفاقه، ويأكل ويشربُ مع السّكيرين، فيأتي سيّد ذلك العبد في يومٍ لا يتوقّعه وساعةٍ لا يعلمها فيَفصلُه ويجعلُ نصيبَه مع المنافقين. هناك يكون البكاء وصريفُ الأسنان.

1. حياة الإنسان على وجه الأرض تحمل مسؤوليّة تتنوّع في طبيعتها، وفي الأعمار والحالات. في مَثَل فعلة الكرم (متى 20: 1-16)، يرسل صاحب الكرم فعلة للعمل فيه على دفعات: في الصباح الباكر، وفي الساعة الثالثة، وفي الساعة السادسة والتاسعة والحادية عشر. طبّق القدّيس غريغوريوس الكبير هذه الساعات الخمس على أعمار الإنسان الخمسة: الطفولة والمراهقة والشباب والكهولة والشيخوخة. الكرم هو العالم الذي يضمّ الكنيسة والعائلة والمجتمع والدولة. الفعلة المرسلون للعمل فيه هم جميع الناس وفقًا لأعمارهم. العمل هو كلّ واجب ومسؤولية ومهمّة وسلطة، فيما العمل المشترك هو بناء ملكوت الله، لكون الإنسان، كلّ إنسان، شريك الله في هذا البناء (راجع الإرشاد الرسولي للبابا القديس يوحنا بولس الثاني: العلمانيّون المؤمنون بالمسيح، الفصل الرابع).

 2. الموت عنصرٌ أساسي من زمن النهايات، وهو نهاية حياة كلّ إنسان على وجه الأرض. فهو عليها عابر سبيل، مسؤول إنسانيًّا عن بناء عائلته ومجتمعه ووطنه، وروحيًّا عن بناء ملكوت الله من خلال حياة الكنيسة ورسالتها. عندما تنتهي الأزمنة والعالم المخلوق وجميع الكائنات، الكلّ يعود إلى العدم الذي منه خُلق، أي إلى اللاوجود، ما عدا الإنسان لأنّه مخلوق ذو نفس خالدة، ليكون شريك الله في حياته الإلهيّة وسعادة السماء.

الموت هو حضورٌ أمام الله، وتتمّ فيه تأدية الحساب عن وكالة الحياة ومسؤولياتها. هذه الحقيقة بكلّ أبعادها يبيّنها لنا الربّ يسوع في هذا المَثَل الإنجيلي البليغ.

3. الوكيل هو كلّ إنسان صاحب مسؤوليّة ما، كبيرةً كانت أم صغيرة، سواء في العائلة أم في الكنيسة، في المجتمع أم في الدولة. وتوجد مسؤوليّة مشتركة هي الحياة المعطاة لكلّ واحد وواحدة منّا. فهي هبة من الله، مخلوقة على صورة الله ومثاله، وتوجب علينا المحافظة عليها، عندنا وعند غيرنا، بكلّ بهائها، من خلال الاتّحاد الدائم بالله، بالصلاة وأفعال العبادة وممارسة الأسرار، وبالتنشئة الروحيّة. هذه الحياة تُحترَم في كرامتها وقدسيَّتها، وتُنمَّى، ويُحافَظ عليها. وليس لأيّ شخص حقّ الاعتداء عليها، فهي خاصّة الله سيِّدها. إنّه وحده سيّد الحياة والموت.

4. يُطلب من الوكيل أن يتحلّى بميزتَين: الأمانة والحكمة. أمّا الأمانة فهي لثلاثة: لله، وللأشخاص المولَّى عليهم، وللواجب الموكول إليه. الحكمة هي فطنة التصرّف بدون نقص وعيب مقصودَين. وهي من مواهب الروح القدس وتعني النظر إلى الأمور وتعاطيها من منظار الله. وتتّصل الحكمة بموهبة أخرى من مواهب الروح، هي مخافة الله. ولذا “رأسُ الحكمة مخافةُ الله” (مز 111: 10). ما يعني أنّ ممارسة المسؤوليّة بحكمة إنّما تبغي أساسًا مرضاة الله ومخافته في عباده.

5. عندما نقول “وكيل” يستتبع ذلك حتمًا وجود موكِّل يكلّف الوكيل بمهمّة محدّدة، عليه أن يقوم بها ويؤدّي حسابًا عنها. هذه “المهمّة” مشبَّهة “بإعطاء الطعام في حينه لأهل بيت الموكِّل” (الآية 45). ما يعني أنّ السلطة والمسؤوليّة وُجدتا لتأمين خير الجماعة، المعروف بالخير العام، الذي هو خير الجميع وخير كلّ واحد. هذا الخير هو مبرِّر وجود السلطة وكلّ مسؤولية.

في العائلة السيِّد الموكِّل هو الله وشريعته، لكونه هو مؤسِّس الزواج لخير الزوجَين والأولاد. والوكلاء هم الأزواج والوالدون. في الكنيسة، الموكِّل هو المسيح الربّ، مؤسّسها ورئيسها غير المنظور والفاعل من خلال الرؤساء الكنسيِّين، الذين يتمّ انتخابهم أو تعيينهم وفقًا لقوانين الكنيسة. في المجتمع والدولة الموكِّل هو الشعب عبر البرلمان والسلطة الإجرائية. عندما نقول “وكيل” و”موكِّل” نقول أيضًا “مساءلة ومحاسبة”.

6. يجب ألّا ينسى الوكيل وجود الموكِّل. فهو لا يمارس مهامّه وصلاحياته باسمه الشخصي، بل باسم موكِّله. ولذا، يوجد ثواب وعقاب. عندما يعمل الوكيل باسم موكِّله وبالإخلاص له، ينال ثواب الخلاص، ساعة موته. أمّا إذا ظنّ أنّه هو في آن الوكيل والموكّل، فيسيء استعمال مسؤولياته، يكون نصيبه عقاب الهلاك الأبدي. هاتان الحقيقتان شبَّههما الربّ يسوع “بالوكيل الصالح” الذي، عندما يأتي سيّده ويجده ملتزمًا بواجب مسؤوليّته، يقيمه وكيلًا على كلّ ما يملك؛ “والوكيل الشِّرير” الذي يأكل ويشرب مع السكِّيرين، ويضرب رفاقه. هذا عندما يأتي سيّده ينزل فيه شرّ العقاب.

7. الثواب والعقاب يرمزان إلى دينونة كلّ إنسان التي تنتهي بالخلاص الأبدي للوكيل الأمين الحكيم، وبالهلاك الأبدي للوكيل الشّرير الذي لم يحفظ الأمانة، ولم يتصرّف بالحكمة والفطنة.

الأمانة فضيلة أساسيّة في الحياة، وهي صفة المسؤول المحبّ. مَن يحبّ حقًّا يحفظ الأمانة، ومَن لا يحبّ من كلِّ قلبه يخون. والأمانة تقتضي العودة باستمرار إلى قرار اليوم ألأوّل. هذه العودة تعطي المناعة والقوّة بوجه المصاعب والتجارب والمحن.

والحكمة هي أيضًا فضيلة أساسيّة، وصفة مطلوبة في كلّ مسؤول، لأنّها تساعده على التصرّف من دون لوم، وعلى نيل ثقة مَن قلَّده المسؤوليّة.

سنُدان على الأمانة والحكمة في مساء الحياة.

*   *   *

 ثانيًا، الإرشاد الرسولي للبابا فرنسيس: “فرح الحبّ”

1. “فرح الحب” هو الغاية الأولى والأساسية من وجود الزواج والعائلة، بحسب التصميم الإلهي. فكلّ زوج يلتزم تجاه الآخر بعهد الحبّ، فيعمل على إسعاده وتأمين خيره. وانطلاقًا من الزوجَين، كوالدين، يصير فرح الحبّ حياةً وغايةً في العائلة، من خلال إسعاد الأولاد وتأمين خيرهم. يؤكّد البابا فرنسيس أنّ “فرح الحبّ في العائلات هو فرح الكنيسة” (الفقرة 1). فالكنيسة تحمل للعائلة البشارة المسيحيّة الإنجيليّة التي هي بشرى سارّة بحدّ ذاتها.

2. لهذه الغاية بدأ الربّ يسوع حياته العلنيّة ورسالته الخلاصيّة بحضور عرس قانا الجليل حيث أجرى أولى آياته بتحويل الماء إلى خمر فائق الجودة، لإسعاد العروسَين (راجع يو2: 1-11). فكانت في الوقت عينه آية نبوية ذات بُعدَين: الأوّل، أنّه هو فرح الأزواج والعائلات ومصدر أفراحهم، إذا أدخلوه إلى صميم حياتهم. والثاني، أنّ الربّ يسوع استبق عرسه الخلاصي، الذي حوّل فيه الخمر إلى دمه لحياة العالم، بإسعاده من خلال غسل خطايا البشر، وإعطائهم الحياة الجديدة، وبداية مسيرة التغيير في حياة كلّ إنسان وفي المجتمع البشري.

3. مصدر “فرح الحبّ”، كلمة الله في الكتاب المقدس، كما يستخرجها البابا فرنسيس في الفصل الأول. سعادة العائلة موصوفة في المزمور 28: “طوبى لجميعِ الذينَ يتَّقون الرّبّ وفي سبُله يسيرون.إِنَّك تأكلُ من تعب يدَيك فالطّوبى والخيرُ لك! إمرأتك مثلُ كرمةٍ مُثمرة في جوانب بيتك. بنوك كغراس الزّيتون حول مائدتك. هكذا يبارك الرجلُ الذي يتّقي الربّ”.

4. منطلق “فرح الحبّ” إنّما ينبع من طبيعة الإنسان المخلوق ذكرًا وأنثى على صورة الله ومثاله، بمعنى أن الزوجَين يشكِّلان “جماعة حبّ وحياة” على صورة الله، وباتّحادهما كزوج وزوجة يصبحان شريكَي الله في الخلق ونقل الحياة البشرية (راجع تك1: 27-28؛ 2: 24).

نقرأ في الإرشاد الرسولي: “إنّ كلمات القدّيس يوحنّا بولس الثاني تنيرنا: “إلهنا في سرّه المكنون، ليس وحيدًا، ولكنّه عائلة، لأنه في ذاته الأبوّة والبنوّة، وجوهر العائلة، الذي هو الحبّ. هذا الحبّ، في العائلة الإلهيّة، هو الرُّوح القدس”. إن العائلة ليست منفصلة بالتمام عن كيان الله العميق. هذا الجانب الثالوثيّ للزوجَين له توضيح جديد في اللاهوت البولسيّ عندما يضعه الرسول في علاقةٍ مع سرّ وحدة المسيح والكنيسة (راجع أف 5: 21- 33).

5. مكوِّن فرح الحبّ في حياة الزوجَين نجده في سفر التكوين حيث نقرأ عن وحشة الرجل الذي يبحث عن “عون مناسب له”، قادر على ملء فراغ وحدته. فلم يجده في الحيوانات والمخلوقات، إلى أن أوجد له الخالق امرأة رأى فيها “عظمًا من عظامه ولحمًا من لحمه”، أي انعكاس ذاته. فملأت فراغ وحدته وأسعدته (راجع تك2: 20-24) (الفقرتان 12 و13).

6. والمكوِّن الثاني لفرح الحبّ في العائلة هو الأولاد الذين يسمّيهم المزمور المذكور “كغراس الزيتون” (مز128: 3)، لكونهم ممتلئين نشاطًا وحيوية. إذا كان الوالدان يُعتبران كأساس المنزل، فالأولاد هم “الحجارة الحيّة” للعائلة (راجع 1بطرس2: 5)، وكمالها وضمانة استمرايتها من جيل إلى جيل (الفقرة 14).

*   *   *

صلاة

أيّها الربّ يسوع، أنت الخادم الأمين الذي أوكل إليك الآب رسالة الخلاص وفداء البشر، بإعلان كلام الله، وموتك على الصليب، وقيامتك من بين الأموات. ودعوتنا لنكون على مثالك خدّامًا موكّلين، نؤدّي خدمتنا بأمانة وحكمة. وتؤكّد أنك ستدين عليها كلّ واحد وواحدة منا في مساء حياته. أعطنا نعمة الإدراك الدائم لحالتنا كوكلاء لديك. إجعل الأزواج يدركون مسؤوليّتهم عن فرح الحبّ في حياتهم الزوجية والعائلية. وإنّنا نرفع معًا المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، ينبوع فرح الحبّ، الآن وإلى الأبد، آمين.

*   *   *

شاهد أيضاً

رسالة قداسة البابا فرنسيس في مناسبة اليوم العالمي

المائة والتّاسع للمهاجرين واللاجئين 2023أحرارٌ في أن نختار بين الهجرة أو البقاء أيّها الإخوة والأخوات …

تأجيل المعاملات في نيابة صربا عيد العمال 1 أيار 2023