التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي – الأحد الخامس من زمن الصليب 16 تشرين أول ٢٠١6 (متى 25: 1-13)
الإيمان والأعمال لا ينفصلان
زمن الصليب ذو بعدَين: مسيرة الإيمان المجاهد بالثبات والأعمال، ونهاية الحياة بالموت، وما يتبع من ثوابِ خلاصٍ، وعقابِ عذاب. إنجيل هذا الأحد يشرح لنا هاتَين الحقيقتَين بمَثَل العذارى العشر وانتظار مجيء العريس.
شرح نص الإنجيل
من إنجيل القديس متى 25: 1- 13قالَ الرَبُّ يَسُوع: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَمَاوَاتِ عَشْرَ عَذَارَى أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وخَرَجْنَ إِلى لِقَاءِ العَريس، خَمْسٌ مِنْهُنَّ جَاهِلات، وخَمْسٌ حَكِيمَات. فَالجَاهِلاتُ أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ ولَمْ يَأْخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيْتًا. أَمَّا الحَكِيْمَاتُ فَأَخَذْنَ زَيْتًا في آنِيَةٍ مَعَ مَصَابِيْحِهِنَّ. وأَبْطَأَ العَريسُ فَنَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ، ورَقَدْنَ. وفي مُنْتَصَفِ اللَيل، صَارَتِ الصَيحَة: هُوَذَا العَريس! أُخْرُجُوا إِلى لِقَائِهِ! حينَئِذٍ قَامَتْ أُولئِكَ العَذَارَى كُلُّهُنَّ، وزَيَّنَّ مَصَابِيحَهُنَّ. فقَالَتِ الجَاهِلاتُ لِلحَكيمَات: أَعْطِينَنا مِنْ زَيتِكُنَّ، لأَنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئ. فَأَجَابَتِ الحَكيمَاتُ وقُلْنَ: قَدْ لا يَكْفِينَا ويَكْفِيكُنَّ. إِذْهَبْنَ بِالأَحْرَى إِلى البَاعَةِ وابْتَعْنَ لَكُنَّ. ولَمَّا ذَهَبْنَ لِيَبْتَعْنَ، جَاءَ العَريس، ودَخَلَتِ المُسْتَعِدَّاتُ إِلى العُرْس، وأُغْلِقَ البَاب. وأَخيرًا جَاءَتِ العَذَارَى البَاقِيَاتُ وقُلْنَ: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ، افْتَحْ لَنَا! فَأَجَابَ وقَال: أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ، إِنِّي لا أَعْرِفُكُنَّ! إِسْهَرُوا إِذًا، لأَنَّكُم لا تَعْلَمُونَ اليَوْمَ ولا السَاعَة».
1- يشبّه الربّ يسوع ملكوت السماوات بالعرس الكبير الذي يشارك فيه كلّ مؤمن ومؤمنة، عاش إيمانه، وثبت فيه بوجه المحن، وجسّده بالأعمال الصالحة، وسط الجماعة الكنسيّة التي هي زرع الملكوت الذي ينمو ويكبر وينتشر، ثمّ يكتمل في مجد السماء.
الملفت أنّ الإنجيل يتكلّم فقط عن العريس، من دون أيّ ذكر للعروس. فهذه هي نحن الذين نؤلّف كنيسته التي هي عروسته. هذه التي يناجيها في كتاب نشيد الأناشيد: “كلُّكِ جميلة يا خليلتي، ولا عيب فيكِ، هلمّي معي من لبنان، ايّتها العروس. من مرابض الأسود، من جبال النمور… ما أجمل حبَّكِ يا أختي العروس” (نشيد 4: 8 و10). ويتكلّم بولس الرسول عن اتّحاد المسيح بعروسته التي هي الكنيسة (راجع أفسس5: 25 و32).
2. العرس الحقيقي هو عرس خلاصنا الأبدي نحن، المرموز إلينا بالعذراى العشر. العذراى هم الذين كرّسوا نفوسهم لله وخدمته في الإنسان باختيار شخصيّ حرّ. فهم المعمّدون الذين تكرّسوا بزيت العماد والميرون؛ وهم الكهنة والأساقفة الذين تكرّسوا بالدرجة المقدسة؛ وهم الرهبان والراهبات وسائر المكرّسين بالنذور الثلاثة: الطاعة العفة والفقر؛ وهم كلّ الذين انتدبوا نفوسهم لخدمة الشأن العام في كلّ القطاعات والفنون.
3. أمّا العدد “عشرة” فيرمز إلى كمال الكنيسة التي أسّسها المسيح الربّ واحدة متكاملة، فجزّأها البشر إلى قسمَين خمسة خمسة. العذارى الحكيمات الخمس يرمزْن إلى القداسة والخير، فيما العذارى الجاهلات الخمس يرمزْن إلى الخطيئة والشّر. العالم منقسم بين الخير والشّر. هكذا كان منذ البداية مع آدم وحوّاء اللَّذَين عندما خالفا أمر الله، سقطا من حالة النعمة والخير إلى حالة الخطيئة والشر، ومع أوّل ولدَين لهما، كان الواحد بارًّا، وهو هابيل، وكان الآخر شرّيرًا وهو “قايين” (راجع تك، فصل 4). نحن مدعوّون لنكون من جماعة الخير الملتزمة بتبديد الشّر.
4. عندما نصلّي “ليأتِ ملكوتك”، تعمل الكنيسة، بكلّ أبنائها وبناتها ومؤسّساتها، من أجل إحلال ملكوت الله القائم على الخير، بوجه الشّرير المعروف بالشيطان، الذي يحاربه، ويحمل الناس إلى اليأس والإقلاع عن الصلاة وعن الثبات في الإيمان. لكن المؤمن يعلم أنّ المسيح الإله انتصر بموته وقيامته على الشيطان، وأعطانا نعمة الانتصار. فأكّد لنا انتصاره: “الآن رئيسُ هذا العالم (الشيطان) يُطرَح خارجًا” (يو12: 31)، ويؤكّد انتصارنا عليه وعلى المحن والمضايق بقوّة صليب المسيح: “سيكونُ لكم في العالم ضيق. لكن تقوَّوا، أنا غلبتُ العالم” (يو16: 33).
في كتب العهد القديم، لنا مثال ورمز في الطوفان وشخصيّة نوح: عندما امتلأت الأرض شرًّا، واحد فقط، نوح، لم يستسلم لتيّار الخطيئة. فأرسل الله طوفانًا أهلك البشرية جمعاء، ما عدا نوح ومَن معه في سفينته. ولولاه لفَنيت البشرية كلّها (راجع تك، فصل 7). هذا هو دور القدِّيسين الذين يشفعون بنا أمام العرش الإلهي، وهم سور الكنيسة – السفينة التي تحمي أبناءها والبشريّة جمعاء. الكنيسة هي جماعة القدِّيسين والمقدَّسين السائرين على طريق المسيح الذي يقود إلى القداسة، إلى “الحكمة” وهي فضيلة حسن التصرّف تحت نظر الله. هؤلاء هم “العذارى الحكيمات”، الذين سلكوا طريق المسيح فابتعدوا عن الخطيئة و”الجهل” الذي سقطت فيه “العذارى الجاهلات”.
5. تظهر “الحكمة” و”الجهل” في أنّ “الحكيمات أخذن زيتًا في مصابيحِهنّ”، أي التزْمن بمقتضيات المعمودية (المصباح). وهي الإيمان الواعي والمدرك والمثقَّف، المقرون “بزيت الأعمال الصالحة”. “فالإيمان من دون أعمال ميت، كالجسد من دون روح”، كما يقول القديس يعقوب الرسول (يع 2: 26)، أي يصبح مصباحًا منطفئًا. أمّا “الجاهلات فلم يأخذْن معهنّ زيتًا”، ما يعني أنّهنّ أطفأن مصباح المعمودية بعدم الالتزام بمقتضياتها، أي أطفأن الإيمان بعدم تجسيده في الأعمال.
6. “عندما أبطأ العريس نعسْن ورقدْن”. تعب الجميعُ فناموا. التعب أمر طبيعي، والنعاس كذلك، وأيضًا استراحة النوم. لكن المهمّ هو أن لا ينال التعب من عزيمتنا الروحيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة. فلا نحيد عن خطّ “الحكمة والقداسة”، ولا نتعب من تجسيد إيماننا بأعمال الخير المتنوّعة.
فعندما “جاء العريس في منتصف اللَّيل وصار النداء لاستقباله”، كانت “العذارى الحكيمات” مستعدّات بمصباح الإيمان المقرون بالأعمال، بالرغم من ظلمات محن الحياة. أمّا “الجاهلات” فلا. مجيء العروس هو ساعة الموت والدينونة. فيها يقف كلّ إنسان أمام عرش الله بإيمانه الشخصي وأعمال الخير الشخصيّة. فما كان يأخذه في حياة الدنيا من أعمال غيره الصالحة (من العذارى الحكيمات)، لا يستطيع أخذه بعد موته. نفكّر بمَثَل الغني ولعازر (راجع لو 16: 19-31).
في أوان الدينونة سيحمل كلّ إنسان مسؤوليّته الذاتية، وإيمانه وأعماله.
7. “إذهبْن وابتعْن لكنَّ زيتًا”. هي صيغة تهكّمية، لأنّ الأعمال الصالحة لا تُشترى ولا تُباع. وفي ذلك إشارة إلى الرشوة التي يعتاد عليها “الجاهل” فيشتري ويبيع بالمال غير المباح. وهكذا “الجاهلات ذهبْن ليبتعْن”. وهذا دليل على “جهلهنّ”. الجاهل في إيمانه، أي المؤمن غير المثقّف، الذي أصبح عنده الإيمان أمرًا خارجيًّا وانتماءً اجتماعيًّا، يفهم خطأً كلام الإنجيل وتعليم الكنيسة، ويتصرّف من غير وعي وبدون نظرة معمَّقة إلى المستقبل. نفكّر بمَثَل النملة والزيز (La cigale et la fourmi) في حكايات Lafontaine.
8. “ولمّا جاء العريس دخلت المستعدّات معه إلى العرس وأُغلِقَ الباب”. الموت باب يُغلَق، لينفتح لنا باب آخر على الحياة الأبدية. إنّه مفصل نهائي، ولن يُفتح الباب ثانية مهما قرعنا.
وتنتهي الاستعارة بأمثولة: “إِسهروا، لأنّكم لا تعلمون اليوم ولا الساعة”.
صلاة
أيّها الربّ يسوع، لقاؤنا بك هو عرس الفرح الحقيقي، لأنّك تنير مصباح إيماننا بكلمتك، وتسير بنا إلى تجسيده في أعمال الخير والرحمة، وفي كلّ ما يبني ويجمع ويوحّد. إمنحْنا النعمة لنكون في سهر انتظار دائم لتجلّيك في حياتنا اليوميّة، ولمجيئك في مساء حياتنا. قوِّنا في المحن والتجارب، متَّكلين على نعمة صليبك الظافر، فلا يتعب إيماننا ولا يقنط ولا ييأس. فإنّا بك ننتصر على كلّ محنة وتجربة تأتينا من الشرير. فنخرج من المحن بفرح الانتصار، ونرفع نشيد المجد للثالوث الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *