التنشئة المسيحية لغبطة البطريرك مار بشاره بطرس الراعي أحد البيان ليوسف 11 كانون أول ٢٠١٦ (متى 1: 18-25)
في تحقيق مشروع الله الخلاصي، يظهر الإنسان الشريك. اليوم يظهر يوسف خطّيب مريم المدعو ليكون أبًا لا بالطبيعة بل بالشريعة ليسوع المولود من مريم بقوّة الروح القدس، وزوجًا حاميًا لمريم، ومسؤولًا عن تربية ابن الله المتجسّد وإعالته. البيان ليوسف هو بمثابة بشارة ثالثة، بعد البشارة لمريم وقبلها لزكريا. وهي تدخله شريكًا في تحقيق مشروع الله لخلاص الجنس البشري. فأطاع مثل مريم إرادة الله، وكرّس ذاته، جسدًا وقلبًا وروحًا لخدمة الكلمة المتجسّد، ولتنفيذ المشروع الإلهي. البيان ليوسف يبيِّن أن مشروع الله الخلاصي يتحقّق بموآزرة كلّ إنسان، كلّ واحد وواحدة منا.
من إنجيل القديس متى 1: 18-25
أَمَّا مِيلادُ يَسُوعَ المَسيحِ فَكانَ هكَذَا: لَمَّا كانَتْ أمُّهُ مَرْيَمُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُف، وقَبْلَ أَنْ يَسْكُنَا مَعًا، وُجِدَتْ حَامِلاً مِنَ الرُوحِ القُدُس. ولَمَّا كَانَ يُوسُفُ رَجُلُها بَارًّا، ولا يُرِيدُ أَنْ يُشَهِّرَ بِهَا، قَرَّرَ أَنْ يُطَلِّقَهَا سِرًّا. ومَا إِنْ فَكَّرَ في هذَا حتَّى تَرَاءَى لَهُ مَلاكُ الرَبِّ في الحُلْمِ قَائِلاً: «يَا يُوسُفُ بنَ دَاوُد، لا تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ، فَالمَوْلُودُ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ مِنَ الرُوحِ القُدُس. وسَوْفَ تَلِدُ ابْنًا، فَسَمِّهِ يَسُوع، لأَنَّهُ هُوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُم». وحَدَثَ هذَا كُلُّهُ لِيَتِمَّ مَا قَالَهُ الرَبُّ بِالنَبِيّ: «هَا إِنَّ العَذْرَاءَ تَحْمِلُ وتَلِدُ ابْنًا، ويُدْعَى اسْمُهُ عِمَّانُوئِيل، أَي الله مَعَنَا». ولَمَّا قَامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوْم، فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلاكُ الرَبِّ وأَخَذَ امْرَأَتَهُ. ولَمْ يَعْرِفْهَا، فَوَلَدَتِ ابْنًا، وسَمَّاهُ يَسُوع.
1. بحسب شريعة العهد القديم، الخطبة زواج شرعي بكلّ مفاعيله القانونية، إنما تنقصه المساكنة الزوجية. وهي فترة استعداديّة. في هذه الفترة كشف الله تصميمه على مريم ومشروعه الخلاصي. فدعاها لتكون أمّ ابنه الأزلي الذي يتكوّن فيها ليولد إنسانًا بقوّة الروح القدس. ولمّا بدا الحبل عليها، حار يوسف رجلها، وتنازعته تساؤلات وشكوك. لكن مفتاح حلّها هو في كونه رجلًا بارًّا (الآية 19).
فمن جهة سيحسب الناس حتمًا أنّ مريم خطّيبته قد خانته أو تجاوزت موجبات الخطبة قبل المساكنة الزوجية. وهذا الأمر يستوجب الرجم بحسب الشريعة، او سيُطالب ويُلاحق هو. لكن “براءته” وحبّه النقي الطاهر لمريم أبى تصديق ذلك، بل رأى في الأمر سرًّا إلهيًّا.
ومن جهة ثانية اعتبر يوسف أن لا مكان له ولا دور في هذا السّر، وأن على مريم أن تواجه الأمر بنفسها. وكأنّ زواجهما الشرعي قد انحلّ بحدّ ذاته. فتجلّت برارته في تواضع وامّحاء ذات أمام السّر الإلهي الكبير.
2. لم يشأ يوسف اللجوء إلى الشريعة القاضية بالرجم. وبذلك لم يخالفها، وهو “البار”، بل لطّفها بالحبّ والرحمة والغفران، وكان يدرك في قرارة نفسه أن الشريعة هي للحياة، لا للموت؛ وهي للتوبة والخلاص، لا للانتقام والعقاب. سيكتب بولس الرسول:”الحرف يقتل، والروح يُحيي” (2كور3: 6). موقف يوسف هذا، اتّخذه الربّ يسوع تجاه المرأة الزانية التي جاء بها كتبة وفريسيون للاحتكام عنده بشأن رجمها وفقًا للشريعة. لم يطبِّق يسوع هذه الشريعة القاسية والقاتلة، بل طبّق شريعة المحبة الغافرة والداعية برفق إلى التوبة، وعدم ارتكاب مثل هذه الخطيئة (راجع يوحنا7: 3-11).
لقد قرّر يوسف ألّا يشهِّر بمريم، وأن يطلّقها سرًّا (الآية 19). بالطبع هو قرار صعب عليه وعلى مريم. وشغل باله طوال اللّيل، مصلّيًا، ومتلمِّسًا نورًا سماويًّا. فكان ظهور الملاك له في الحلم الذي “أبان” له كلّ هذا السّر، وحدّد له موقعه ودوره فيه (الآية 20 وما يليها).
3. نتوقّف عند أمثولات يعلّمنا إيّاها يوسف البارّ بتصرفه وموقفه.
أ- يعلّمنا التروّي في اتّخاذ القرار أمام الأوضاع الغامضة، ولو بدت صحيحة للنظرة الأولى. فمن الضرورة التشاور، واستلهام أنوار الروح القدس، والصلاة: “هلمَّ أيّها الروح القدس، واملأ باطن قلوب مؤمنيك”. هذا الموقف يساعدنا على إجراء حوار بنّاء، بحثًا عن الحقيقة. لا يبلغ الحوار غاية إذا كان أحد المتحاورَين يعتقد أنه يمتلك كلّ الحقيقة، والآخرُ كلّ الخطأ. إنّ الحوار يشترط الانفتاح والرغبة في اكتشاف الحقيقة الموضوعية.
ب- ويعلّمنا كيفيّة فهم الشريعة بروحها لا بحرفها فقط، وعلى الأخصّ في العلاقات الإنسانيّة، ولاسيّما بين الزوج وزوجته. يجب أوّلًا السعي إلى فهم وتفهّم الآخر، وقبول واقعه وضعفه واختلافه، والدفاع عنه، وحماية صيته وكرامته ومشاعره.
ج- ويقدّم يوسف مثالًا للعائلة المسيحيّة، بتروّيه وتجاوزه اتّخاذ القرار المتسرّع، غير المحاور وغير المتفهّم؛ كما وبإصغائه لِما يوحي إليه الله.
إنّ تصرّف يوسف وموقفه من مريم هيّأه لسماع صوت الله بوحي الملاك له في الحلم. “فصنع كما أمره ملاك الربّ” (الآية 24).
4. لقد أنشأت الأبرشيات مراكز تحضير للزواج، ومراكز إصغاء لمرافقة الأزواج والعائلات في الصعوبات التي يواجهونها. فعندما تنشب خلافات بين الزوجَين أو في العائلة، يجب اللجوء إلى كاهن الرعية أو إلى مرشد روحي أو إلى مطران الأبرشية، أو إلى مركز الإصغاء، لكي يُصار إلى حلّ الخلافات بالتروّي والصلاة وممارسة سرّ التوبة، وبتقريب وجهات النظر، ومعالجة أسباب الخلاف. فلا ينسى الزوجان أن الله رفيق دربهما، وعليهما الرجوع إليه والإصغاء لما يوحي لهما.
5. “ما إن فكّر يوسف البار بالحلّ الذي توصّل إليه، حتى تراءى له ملاك الربّ في الحلم” (الآية 20). هنا تظهر جهوزية الله في سماع الداعين إليه، وجهوزية يوسف في الإصغاء لِما يوحي الله. هذا هو نمط علاقتنا بالله، وعلاقته بنا. الله جاهز أبدًا لسماع صوتنا، كما يؤكّد الربّ يسوع على لسان يوحنا الرسول في رؤياه: “هاءنذا واقف على الباب أقرع. من يفتح، أدخل وأتعشّى عنده” (رؤ3: 20). والمؤمن البارّ من جهته هو في حالة إصغاء لِما يقوله الله ويوحي به، وفي حالة استعداد للعمل بموجبه وتنفيذه بطاعة الإيمان المتشدّد بالرجاء. هكذا فعل يوسف: “فلما قام من النوم، صنع كما أمره ملاك الربّ، وأخذ امرأته. ولم يعرفها، فولدت ابنًا، وسمّاه يسوع” (متى1: 24-25).
6. البيان ليوسف ليس مجرّد إيضاح لِما يجري مع مريم، بل هو بشارة سارّة له عن دعوته الإلهيّة ليكون الأب الشرعي لابنه المتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، والمربّي والمعيل له؛ وليكون الزوج الشرعي لمريم والحارس لها ولأمومتها وبتوليّتها.
بهذه الدعوة التي خصّ بها الله يوسف، الرجل النجّار العادي، المهاجر من مدينته بيت لحم إلى الناصرة بحثًا عن لقمة العيش. لقد ذكّره بأنّه ابن داود ومن أصل ملوكي، بكلام الملاك في الحلم: “يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك” (الآية 20). في البشارة لمريم يحدّد لوقا الإنجيلي أن “مريم مخطوبة لرجل من بيت داود، اسمه يوسف” (لو1: 27). وينقل كلام الملاك لمريم بأن المولود منها “سيكون عظيمًا، وابن العلي يُدعى. ويعطيه الربّ الإله عرش داود أبيه” (لو1: 32).
هو الله في نهجه “يختار مَن هو جاهل في العالم ليُخزي الحكماء؛ ومَن هو ضعيف في العالم ليُخزي ما هو قويّ… لكي لا يفتخر ذو جسدٍ أمام الله” (1كو1: 27-29).
7. إنّ دعوة الله لكلّ واحد وواحدة منا لا تُثمَّن. وأوّلها الدعوة إلى الحياة، والولادة في عائلة مسيحية، والعيش في رعية وبيئة روحية وأخلاقية حاضنة. وكذلك الدعوة إلى الزواج، والدعوة إلى الكهنوت، والدعوة إلى الحياة المكرّسة. وأيضًا الدعوة لتحمّل مسؤولية في الكنيسة أو في المجتمع أو في الدولة. لا فضل لأحد فيها، بل هي هبة مجّانية من الله. ولا مجال للاعتداد بالنفس، بل ينبغي التحلّي بالتواضع وبساطة العيش والتجرّد والاتّكال على عناية الله وإلهاماته.
8. الدور الذي بشّر به الملاك في الحلم ليوسف، في ضوء حبل مريم، واضح وهو الآتي:
أ- مريم هي امرأة يوسف بكلّ معنى الكلمة القانونية والإنسانية والعاطفية: “لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك” (الآية 20). بالرغم من الشك والخوف، مريم هي امرأتك التي أحببتَها، يا يوسف، واخترتها لتكون شريكة حياتك. وأنت تجدّد اليوم عهدك معها.
كم هو مهمّ أن يسمع الزوجان والوالدان كلمة “لا تخف! لا تخافي!” من الله، ومن الكنيسة ومن المرشد. الحدث الإنجيلي يدعوهم للتروّي في أخذ القرار عند حالات الصعوبة والتعثّر. فلا يجوز أن ينسيا التاريخ الطويل الذي عاشاه معًا، ولا التضحيات الكثيرة التي بذلاها، ولا الحبّ والإعجاب المتبادلَين. من المؤسف أنّهما، عند الخلاف، لا يذكران سوى مساوئ بعضهما، وكأن لا شيء جميلًا في الآخر. وهذا الذي كان أحسن إنسان يصبح أسوأ إنسان في الوجود.
ب- المولود من مريم هو من الروح القدس، من قدرة الله، لا من زرع رجل. ما يعني أن في بيتك يسكن الله. وأنت “تسمّيه يسوع الذي يخلّص شعبه من خطاياهم” (الآيتان 20-21). أدرك يوسف دعوته السامية بأن يكون أبًا مربّيًا ليسوع، الإله المتجسّد في بيته، والحارس الغيور له ولأمّه. وأدرك أيضًا أنّه، من خلال هذه الدعوة هو شريك في عمل ابنه الخلاصي، مثل مريم أمّه. إنّه حارس الكنزَين.
“يسوع الذي يخلّص شعبه من خطاياهم” هو في نبوءة أشعيا “عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا”، “والذي يولد من عذراء” (الآية 23؛ أش7: 14). نبوءة أشعيا ترقى إلى حوالي 500 سنة قبل الميلاد.
ج- اسما المولود من مريم دعوة مزدوجة لنا في الميلاد: الأولى، أن ابن الله صار إنسانًا ليخلّص كلّ واحد منا، ليخلّصني أنا أوّل الخطأة، على ما كان يقول القدّيس بولس الرسول (1طيم1: 15). والخلاص يتمّ بالتوبة كما نادى الربّ يسوع في مطلع رسالته… “توبوا وآمنوا بالإنجيل” (مر1: 15). الميلاد هو زمن ولادة كلّ واحد منا بالمسيح عبر التوبة. وهو ميلاد المسيح فينا لا في المغارة الرمزية. المغارة تذكّرنا وتدعونا لهذه الولادة الجديدة.
الدعوة الثانية تأتينا من كون المسيح المولود هو “الله معنا” بشكل دائم: “الكلمة صار بشرًا وسكن بيننا” (يو1: 14). هو رفيق دربنا، “جاء ليقطع الطريق مع كلّ إنسان” (البابا القديس يوحنا بولس الثاني في رسالته العامّة: فادي الإنسان). عمانوئيل معنا كلّ يوم وفي كلّ ظرف وحالة “الطريق والحق والحياة” (يو 16: 6). و”هو هو أمس واليوم وإلى الأبد” (عبرا 13: 8). إذًا، ليس الميلاد مجرّد حدث خارجي عابر.
د- اتّصف يوسف بطاعة الإيمان تمامًا مثل مريم: هي أجابت الملاك الحاضر أمامها: “ها أنا أمة الربّ. فليكن لي بحسب قولك” (لو1: 37). ويوسف فعل كما أمره الملاك في الحلم” (متى 1: 24). الإيمان الحقيقي هو الذي يُترجم في طاعة مقتضيات وتعليم وإيحاءات هذا الإيمان. ليس الإيمان مجرّد إحساس وعواطف، بل هو مشروع يريد الله أن يكتمل، ونحن شركاء في إتمامه.
9. “أخذ يوسف امرأته مريم “ولم يعرفها فولدت ابنهاالبكر وسمّاه يسوع” (الآية 25). كرّس يوسف ومريم بتوليّتهما لخدمة ابن الله المتجسّد في بيتهما، ولخدمة مشروع الله الخلاصي. فأصبحا المثالَ والقدوة للمكرَّسين والمكرّسات في الحياة الكهنوتية والرهبانية، سواء في الأديار أم في العالم.
يسوع هو الابن البكر، لا كأوّل بين إخوة في الدم، بل كأوّل في أبناء الله المخلَّصين به والمولودين “لا من دم ولا من رغبة جسد، ولا من إرادة رجل، بل من الله” (يو1: 12-13). وكأوّل القائمين من موت الخطيئة بإنسانيّته التي لم تعرف الخطيئة، وكرأس الجسد الذي هو الكنيسة، وكأوّل في كلّ شيء، وفيه يحلُّ الملء كلُّه. ولأنّه كذلك “يصالح به الله مع نفسه كلّ ما على الأرض وفي السماوات، بإقراره السلام بدم صليبه (راجع كول1: 18-20).
* * *
صلاة
أيُّها الربّ يسوع، لقد اخترتَ مريم ويوسف، أمًّا وأبًا بتولَين، لكي تعيد لكلّ عائلة قدسيّتَها وكرامتها، ولكي تنعم انت كإنسان بدفء العائلة، مغمورًا بحنان وعناية الأب والأمّ. قدِّس كلّ عائلة بحضورك فيها، وساعدها بنعمتك لتعيش ما أردتها أنت أن تكون: خليّةً حيّة للمجتمع، ومدرسةً أولى للتربية على القيم الإنسانية والاجتماعية، وكنيسةً بيتيّة تنقل الإيمان وتعلِّم الصلاة. لقد اخترتَ مريم ويوسف شريكَين لتحقيق مشروع الله الخلاصي. وهما لبّيا الدعوة. ساعدْ كلّ واحد وواحدة منّا ليكتشف إرادة الله عليه ودوره في هذا المشروع الإلهي. فنرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.