التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي – الأحد الثاني من زمن الدنح 15 كانون ثاني ٢٠١٧

التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي

    الأحد الثاني من زمن الدنح 15 كانون ثاني ٢٠١٧ (يوحنا 1: 35-42)

إعلان متبادل بيننا وبين المسيح

 زمن الدنح هو زمن اعتلان سرّ يسوع، بلسان يوحنا المعمدان، بأنّه “حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم”، وبأنّه “ابن الله”. ثمّ كان اعتلانه بلسان اندراوس أخي سمعان بأنّه “مشيحا” أي المسيح المنتظر. وبالمقابل كان اعتلان سمعان بن يونا، بفم المسيح نفسه، إذ بدَّل اسمه إلى “بطرس” أي “الصخرة” التي سيبني عليها كنيسته، كما أعلن له ذلك في قيصرية فيليبّس (راجع متى 16: 18).

هذا هو نهج الربّ يسوع معنا: نعرفه فنقصد العيش معه. نعلن سرّه، فيبدّل هو مجرى حياتنا وهويّتنا الداخلية، ويكشف دورنا، أفرادًا وجماعة، في تصميم الله الخلاصي.

أوّلاً، شرح الإنجيل

من إنجيل القديس يوحنا 1: 35-42

في الغَدِ أَيْضًا كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفًا هُوَ واثْنَانِ مِنْ تَلاميذِهِ. ورَأَى يَسُوعَ مَارًّا فَحَدَّقَ إِليهِ وقَال: «هَا هُوَ حَمَلُ الله». وسَمِعَ التِلْمِيذَانِ كَلامَهُ، فَتَبِعَا يَسُوع. والتَفَتَ يَسُوع، فرَآهُمَا يَتْبَعَانِهِ، فَقَالَ لَهُمَا: «مَاذَا تَطْلُبَان؟» قَالا لَهُ: «رَابِّي، أَي يا مُعَلِّم، أَيْنَ تُقِيم؟». قالَ لَهُمَا: «تَعَالَيَا وانْظُرَا». فَذَهَبَا ونَظَرَا أَيْنَ يُقِيم. وأَقَامَا عِنْدَهُ ذلِكَ اليَوم، وكَانَتِ السَاعَةُ نَحْوَ الرَابِعَةِ بَعْدَ الظُهر. وكَانَ أَنْدرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ أَحَدَ التِلمِيذَيْن، اللَذَيْنِ سَمِعَا كَلامَ يُوحَنَّا وتَبِعَا يَسُوع. ولَقِيَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَان، فَقَالَ لَهُ: «وَجَدْنَا مَشيحَا، أَي المَسِيح». وجَاءَ بِهِ إِلى يَسُوع، فَحَدَّقَ يَسُوعُ إِليهِ وقَال: «أَنْتَ هُوَ سِمْعَانُ بْنُ يُونا، أَنتَ سَتُدعى كيفا، أَي بُطرُسَ الصَخْرَة».

1. ثلاثة أيام متتالية غنيَّة بالظهور والاعتلان. في اليوم الأوّل، كان اعتلان سرّ يسوع، عند معموديّته في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان. فانفتحت السماوات، فيما كان يصلّي، واعتلن سرّ الله الواحد والمثلَّث الأقانيم، واعتلن سرّ يسوع “أنّه ابن الآب الحبيب الذي ارتضى به” (راجع مرقس1: 9-11).

في اليوم الثاني، كانت شهادة يوحنا عندما رآه مارًّا، فأعلن أنّه “حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم”، وأنّه “ابن الله” (يو1: 29 و 34).

وفي اليوم الثالث يجدِّد يوحنا إعلان سرّ يسوع بأنه “حمل الله”. ويليه إعلان اندراوس لأخيه سمعان بأنّه “مشيحا” أي المسيح المنتظر. ثمّ كان الإعلان، غير المتوقّع، من قِبل يسوع عن سمعان بن يونا، بتبديل اسمه إلى “بطرس” أي الصخرة. ومعروف، بحسب الدراسات التاريخية أنّ سمعان-بطرس، ذو طبيعة صلبة كالصخر، إذ كان ينتمي إلى حزب الغيارى المسلّح، الذي كان يقاوم الاحتلال الروماني والمتعاملين معه من اليهود. نذكر كيف ضرب بطرس بسيفه أحد معتقلي يسوع في بستان الزيتون، فقطع أذنه. أمّا يسوع فردّها له وشفاه. وأمر بطرس والتلاميذ بعدم استعمال السيف (راجع متى 26: 52). وقد سلّمه فيما بعد سيف الإيمان والمحبة اللّذَين تميّز بهما سمعان-بطرس.

2. لمّا رأى يوحنا، ومعه اثنان من تلاميذه، يسوع مارًّا، “حدّق إليه وقال: “ها هو حمل الله” (الآية 36). ثلاثة أفعال، قام بها يوحنا، تشكّل النهج المسيحي في علاقتنا مع المسيح الرّب: رآه، وحدّق إليه، وأعلن. رؤية العين لا تكفي، بل يجب أن تصبح رؤية القلب. هذا هو الفرق بين “رآه” و”حدّق إليه”. التحديق هو التأمّل الصامت والطويل في ما نرى ونسمع. كلام الله في الكتب المقدّسة لا نقرأه كقصة أو نكتفي بسماعه يُتلى علينا. بل ينبغي أن نتبعه بقراءة تأمّلية معمَّقة، ملتمسين “أن يفتح الروحُ القدس أذهانَنا لنفهم الكتب” (لو24: 45). فكلمة الله، كما يقول عنها بلسان أشعيا النّبي، لا ترجع إليه فارغة: “كما ينزل المطر والثلج من السماء، ولا يرجع إلى هناك، دون أن يُروي الأرض، ويجعلها تُنتج وتُنبت، لتأتي الزارع زرعًا والآكل طعامًا. كذلك تكون كلمتي، التي تخرج من فمي، لا ترجع إليّ فارغة، بل تتمّم ما شئت وتنجح في ما أرسلتُها له” (اش55: 10-11).

بنتيجة الرؤية والتحديق التأمّلي نكتشف الحقيقة التي لا نستطيع أن نحتفظ بها لنفسنا، بل نعلنها. هكذا يوحنا أعلن لتلميذَيه الحقيقة التي بلغ إليها أنّ يسوع هو حمل الله. إنّها حقيقة خلاصيّة، ينبغي إشراك الغير فيها. كلّ مسيحي رسول لأنّه مؤتمن على حقيقة المسيح الهادية إلى الخلاص. رسالة الكرازة والتعليم واجبة على الأساقفة والكهنة بحكم الدرجة المقدَّسة، وعلى الرهبان والراهبات وسائر المكرَّسين بحكم نذورهم الرهبانية. أدرك بولس الرسول هذه المسؤوليّة بعدما اكتشف سرّ المسيح واختبر فعل نعمته، فقال: “الويلُ لي إنْ لم أبشِّر” (1كور 9: 16).

3. يسوع هو حمل الله (الآية 36). هذه التسمية غنيّة بمضمونها اللاهوتي الكبير. يسوع هو حمل الفصح الجديد، الحمل الذي قدَّمه الآب لفداء البشر أجمعين وخلاصهم. كان فصح العهد القديم، بحسب شريعة موسى في سفر الخروج، يقتضي ذبح حَمَل ومرافقته بطقوس وصلوات وتذكارات أهمّها تحرير شعب الله من مصر، والعبور به إلى أرض الميعاد. وكان الشعب يضع على الحمل خطاياهم، فتُتلف بذبحه ثمّ يقدِّمون قسمًا منه محرقة تكفير وشكر للربّ، ويأكلون القسم الباقي بركة. وكان لكلّ عائلة حَمَل خاصّ بها. فيذبح الكهنة الحملان في الهيكل بمناسبة عيد الفصح، وينادون كلّ عائلة لاستلام حملها. إنّه “حمل العائلة الفلانية”.

أمّا يسوع فكان حمل الله، الحمل المقدَّم من الآب فصحًا للجميع. فذُبح على الصليب حاملًا خطايا البشريّة جمعاء، وغاسلًا إيّاها بدمه. “ذُبِح” على الصليب في ذاك يوم الجمعة العظيمة، في الساعة التي كان الكهنة ورؤساء الكهنة يذبحون في الهيكل حملان الفصح. ما جعل بولس الرسول يقول: “هو يسوع حمل فصحنا قد ذُبح” (راجع 1كور5: 7). يسوع هو “حمل الله” الطاهر الذي لا عيب فيه.

في ليلة آلامه أسّس سرّ القربان والكهنوت، من أجل استمراريّة ذبيحة الصليب لفدائنا من خطايانا، ووليمة جسده ودمه لحياتنا وحياة العالم. هذا هو فصح المسيح، فصح العهد الجديد الذي يعبر بنا من حالة الخطيئة إلى حالة النعمة، ويمنحنا الحياة الإلهيّة. إنّه فصح دائم عبر ذبيحة القداس الإلهي، المسمّاة إفخارستيا أي “صلاة الشكر”.

كانت كلّ عائلة، في العهد القديم، تجتمع لتأكل حمل الفصح، وفقًا لشريعة موسى. أمّا في العهد الجديد، فكلّ جماعة المؤمنين، “عائلة الله” تجتمع في بيته، الذي هو كنيسة الرعية، لتشارك في فصح المسيح، في يوم الأحد، وهو “يوم الرب”.

4. سمع التلميذان شهادة يوحنا فتبعا يسوع (الآية 40). شهادة يوحنا واضحة وصادقة ومسموعة. إنّها إيّاها شهادة الكنيسة من جيل إلى جيل، وتستلزم من أبنائها وبناتها سماعها. السَّماع في الكتاب المقدّس يعني الطاعة لِما نسمع، لأنّ الكلمة-الخبر هي من عند الله. ليست البشارة المسيحيّة مجرَّد أفكار فلسفيّة ونظريات، بل هي نهج حياة، وطريق إلى الملكوت. عندما سمع تلميذا يوحنا شهادته، تبعا يسوع، أي أطاعا الكلمة-الشهادة. وهذا ما كان يبغيه يوحنا من إداء شهادته: أن يعرف تلميذاه يسوع ويتبعاه. لم يكن يسعى لجلب تلاميذ له، ولكسب ولائهم، وليكونوا له. ففرح أنّهما يتبعان يسوع الذي هو “أقوى منه وأقدم، وهو لا يستحق أن يحلّ رباط حذائه”، كما قال عن نفسه (راجع لو3: 16).

كم نحن بحاجة إلى روح يوحنا! فكم نتمسّك بالمؤسّسة، أو بالمركز أو بالوظيفة أو بالمكان أو بالمصلحة الذاتيّة، أكثر من الكنيسة وعلى حساب حياتها وشهادتها ورسالتها! هذا نشهده على مستوى الكهنوت، والحياة الرهبانيّة، وعلى مستوى الحياة المدنيّة والسياسيّة.

5. تبع التلميذان يسوع بحثًا عن حقيقة الخلاص، وهي رغبة مشتعلة في قلبَيهما. لا يبحث مَن لا يتوق ولا يرغب، ومَن ليس يعنيه أمر الخلاص، بل يبقى أسير نفسه والأرضيّات. صلاتنا أن يُشعل الله في قلب كلّ إنسان توقًا إليه وإلى معرفته، فيصلّي مع صاحب المزمور: “كما يشتاقُ الأيّلُ إلى مجاري المياه، كذلك تشتاق نفسي إليك يا الله” (مز 41: 1).

تبعاه بإيمان، التزامًا بشخصه، ليكونا شريكَي حياته. يشبِّه الكتاب المقدّس العلاقة الإيمانيّة بين الإنسان والله “بالزواج”، إذ يصبح الله شريكًا في حياة المؤمن، وفي قرارات حياته اليوميّة. تبعاه لأنّه الأقوى والقادر على خلاصهما. من المؤسف أن نرى كثيرين يستغنون عن الله وخدمة الكنيسة وتعليم الإنجيل والممارسة الأسراريّة. وبذلك يعتبرون أنفسهم أقوى من المسيح الفادي ومن الكنيسة كأداة الخلاص لكلِّ إنسان. الإيمان هو مسيرة حياة دائمة مع المسيح في قلب الكنيسة.

6. دخل يسوع في حوار مع التلميذَين: ماذا تريدان؟ – يا سيِّد أين تقيم؟ – تعاليا وانظرا” (الآيتان 38 و39). كانت الرغبة والمبادرة من التلميذَين كافيتَين لكي يبدأ يسوع حواره معهما. إنّه يقدّم لنا ذاته “طريقًا وحقيقة وحياة”، من دون أن يفرضها على أحد. بل كلّ شخص ينعم بعقل ومعرفة ومواهب، عليه هو أن يأخذ قرار حياته بيده، بفعل إرادة حرّ: “ماذا تطلبان؟” والمسيح – عمانوئيل – الله معنا، هو في جهوزيّة دائمة ليرافقه في الطريق المؤدِّي إلى خلاصه. سألاه عن “مكان إقامته” ليكونا معه في شركة حياة، وكأنّهما وجدا الكنز الذي يبحثان عنه. فكان جوابه: “تعاليا وانظرا”.

7. “أقاما عنده ذلك اليوم” (الآية 39). أعطياه وأعطاهما كلّ الوقت. إنّه سخاء الوقت نقدّمه لله. فالعلاقة معه بحاجة إلى سخاء الوقت. كم نحن بحاجة إلى هذا السخاء! في الكنيسة نستطول كلّ شيء: القداس، التراتيل، الصلوات، العظة… ونتطلّع مرارًا إلى الساعة، ونرى كأن الوقت يذهب ضياعًا. ذلك أنّنا لم نلتقِ الله. فعندما نلتقيه ننسى الوقت، ولا نجرؤ النظر إلى الساعة لئلّا نرى الوقت يمرّ سريعًا. أليست هي حالتنا عندما نجالس شخصًا نحبّه؟

عدم السخاء بالوقت يدمِّر العلاقات بين الأشخاص: بين الزوجَين، إذ لا وقت لسماع ما يشكو منه الزَّوج الآخر أو ما يرغب أن يقوله؟ بين الأهل وأولادهم، لا يجدون الوقت لتبادل الكلام والآراء والأفكار والحاجات والرغبات؛ بين الجماعة السياسيّة والشعب، لسماع مطاليبه ومعاناته، وللحلول التي يقترحها. إنّ عدم السّماع يؤدِّي إلى الكبت، ثمّ إلى الانفجار، فإلى الانفصال وكسر الرباط، والثورة والنزاعات.

8. كانت نتيجة سخاء الوقت مع يسوع، أن التلميذَين اكتشفا سرّ يسوع وعادا بفرح يخبران عنه. “فلقي اندراوس أخاه سمعان، وقال له: لقد وجدنا مشيحا أي المسيح” (الآية 41). هذه شهادة عظيمة فيسوع الذي هو من الناصرة، هو إيّاه المسيح المنتظر، الذي تكلّم عنه الأنبياء. سقطت الشهادة في قلب سمعان، “فجاء به أخوه إلى يسوع” (الآية 42)، وكانت المفاجأة. فبعد أن حدّق يسوع إليه أعلن تبديل اسم سمعان إلى بطرس أي الصخرة (الآية 42). هو يسوع يقرأ في مكنونات القلب، لا في ظاهر الإنسان. لقد اكتشف أنّ سمعان بن يونا هو رجل الإيمان، كما سيظهر في قيصريّة فيليبس (راجع متى16:16)، ورجل المحبة الخالصة ليسوع، كما سيتبيّن على شاطئ بحيرة طبريّه (راجع يو21: 15-17). لذلك جعله صخرة إيمان يبني عليها كنيسته، وراعيًا مُحبًّا لخرافه. إنّها ولادة جديدة.

صلاة

أيّها الربّ يسوع، لقد شهد لك يوحنا المعمدان وأعلن سرَّك أمام تلميذَيه فتبعاك، وأقاما معك، وعادا متجدِّدَين في الإيمان والنظرة ومعنى حياتهما والوجود. أعطنا أن نسمع بسخاء الوقت شهادة الكنيسة وإعلانها سرّك، وهبنا النعمة لكي نتبعك مثل التلميذَين، وننعم باختبار الفرح والسعادة الداخليَّين، ونرجع لنخبر عنك بغيرة ومسؤوليّة. ونسألك يا ربّ أن تقرأ رغبات قلوبنا ونوايانا الصافية، وتعلن، لكلّ واحد وواحدة منّا، إرادتك عليه ودعوتك له. ومعًا بالابتهاج نرفع نشيد المجد والتسبيح للثالوث القدوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

*    *    *

شاهد أيضاً

رسالة قداسة البابا فرنسيس في مناسبة اليوم العالمي الأوّل للأطفال

25-26 أيّار/مايو 2024 رسالة قداسة البابا فرنسيس في مناسبة اليوم العالمي الأوّل للأطفال 25-26 أيّار/مايو …

رسالة قداسة البابا فرنسيس في مناسبة الزّمن الأربعيني 2024 مِن البرِّيَّة يقودنا الله إلى الحرّيّة

رسالة قداسة البابا فرنسيس في مناسبة الزّمن الأربعيني 2024 مِن البرِّيَّة يقودنا الله إلى الحرّيّة …