التنشئة المسيحية لغبطة البطريرك مار بشاره بطرس الراعي– الأحد الثالث بعد الدنح 22 كانون ثاني ٢٠١٧ ( يوحنا 3: 1-8)
زمن الدنح، هو زمن الاعتلان، يتناول إنجيل هذا الأحد إعلان الربّ يسوع لنيقوديموس سرّ المعمودية، وهي “الولادة الثانية من الماء والروح” (يو3: 3و5). بها ندخل ملكوت الشركة والوحدة مع الله. ملكوت الله يبدأ في كنيسة الأرض كأداة للخلاص الشامل، ويكتمل في كنيسة السماء الممجَّدة.
ما زلنا نقيم أسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس بموضوع: “محبّة المسيح تحثُّنا على المصالحة” (2كور5: 14-20). وهو يمتدّ من 18 إلى 25 كانون الثاني، أي من تذكار قيام كرسي بطرس في روما، إلى عيد إيمان بولس الرسول.
أوّلاً، شرح الانجيل
من انجيل القديس يوحنا 3: 1-8
قالَ يوحنَّا الرَسُول: كانَ إِنْسَانٌ مِنَ الفَرِّيسيِّينَ اسْمُهُ نِيقُودِيْمُوس، رَئِيسٌ لِليَهُود. هذَا جَاءَ لَيْلاً إِلى يَسُوعَ وقَالَ لَهُ: «رَابِّي، نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ جِئْتَ مِنَ اللهِ مُعَلِّمًا، لأَنَّهُ لا أَحَدَ يَقْدِرُ أَنْ يَصْنَعَ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَصْنَعُهَا مَا لَمْ يَكُنِ الله مَعَهُ». أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُ: «أَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لا أَحَدَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ مَا لَمْ يُولَدْ مِنْ جَدِيد». قَالَ لَهُ نِيقُودِيْمُوس: «كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ أَنْ يُولَدَ وهُوَ كَبِيرٌ في السِنّ؟ هَلْ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ ثَانِيَةً حَشَا أُمِّهِ، ويُولَد؟». أَجَابَ يَسُوع: «أَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ، لا أَحَدَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ مَا لَمْ يُولَدْ مِنَ المَاءِ والرُوح. مَولُودُ الجَسَدِ جَسَد، ومَوْلُودُ الرُوحِ رُوح. لا تَعْجَبْ إِنْ قُلْتُ لَكَ: عَلَيْكُمْ أَنْ تُولَدُوا مِنْ جَدِيد. أَلرِيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاء، وأَنْتَ تَسْمَعُ صَوتَهَا، لكِنَّكَ لا تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي ولا إِلى أَيْنَ تَمْضِي: هكَذَا كُلُّ مَوْلُودٍ مِنَ الرُوح».
1. نيقوديموس رئيس لليهود “يقصد يسوع ليلًا”، خوفًا من انتقاد الشعب اليهودي له، خاصّة وأنّ فئة الفريسيّين، وهو منهم، كانوا على خلاف مع يسوع، لأنّهم تعلّقوا بحرف الشريعة، امّا يسوع فبروحها. وسيقول بولس الرسول: “الحرف يقتل، والروح يحيي” (2كور3: 6). هذه هي مشكلة الأصوليّين والمتطرِّفين والمتعلّقين بالحرب. يُسيئون فهم الكتاب المقدّس، ويفسّرونه كلمات متقطّعة، غير مترابطة بالروح الذي يجمع. ويعادون مَن يخالفهم الرأي.
هذا صحيح أيضًا على مستوى الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، والنّزاع مع الكنيسة. فهي تعلن المبادئ والثوابت الواضحة في الدستور والقانون والميثاق، وهم يرفضون ويقاطعون لأنّ ممارستهم منافية لهذه المبادئ. ويقولون: “ينبغي على الكنيسة ألّا تتعاطى الشَّأن السياسي”. وهي في الواقع لا تتعاطاه كخيارات بل كمبادئ.
2. نستطيع فهم “ليلًا” بالمعنى المجازي. كان يعيش نيقوديموس في “ظلمة فكر ومعرفة وضمير”. جاء يبحث عند يسوع عن النور الذي يزيل ظلمته. فناداه “يا معلّم. نحن نعلم أنّك جئتَ من الله معلّمًا. وآياتك دليل على ذلك” (راجع الآية 2).
هذا الإعلان كان كافيًا ليدرك يسوع صدق الرجل وسلامة نواياه. وهو الذي كان يفهم مكايد الفريسيِّين وخبث نواياهم من وراء أسئلتهم وسمات وجوههم. فأراد أن يكافئ نيقوديموس فكشف له أربع أهمّ حقائق الإيمان:
أ – المعموديّة من الماء والروح، كولادة ثانية ضرورية بشكل حاسم كي يدخل المعمَّد ملكوت الله، ويصبح عضوًا في جسد المسيح السّرّي الذي هو الكنيسة (الآية 5).
ب- حقيقة يسوع ابن الإنسان النازل من السماء، والذي وحده يخبر عن أمور السماء (الآيتان 12 و13).
ج- ارتفاع يسوع صليب الفداء الذي يشفي من لدغة الخطيئة، والمرموز إليه بالحيّة النحاسيّة التي رفعها موسى في البرّية لشفاء مَن تلدغه الأفعى (الآية 14).
د- يسوع ذبيحة الآب على الصليب، وهو ابنه الوحيد، حبًّا بالعالم من أجل خلاص كلّ مؤمن بالابن، فلا يهلك، بل تكون له الحياة الأبدية (الآية 16).
3. التفاتة وجدانيّة بسيطة منّا إلى المسيح كافية لأن يفتح كنوز قلبه، وكلّ الحقيقة التي تحيي، وتنير وتوحِّد. نيقوديموس مثال لنا في ذلك، إذ يمكن للمصالح الشخصية والمراكز والأموال والعادات أن تشكّل عائقًا أمامنا في البحث عن يسوع وعن الحقيقة الموضوعيّة. نيقوديموس جاهد وتغلّب على مخاوفه، ونال أهمّ حوار مع يسوع أخرجه من ظلمة عالمه الفرّيسي.
في الواقع، ذات يوم أرسل الفريسيّون ورؤساء الكهنة حرسًا لاعتقال يسوع، ولم يفعلوا قائلين: “ما تكلّم إنسان من قبل مثل هذا الرجل”. فوبّخوهم وقالوا: “أخدعكم أنتم ايضًا؟ أرأيتم واحدًا من الرؤساء أو الفريسيّين آمن به؟ أمّا هؤلاء العامّة من الناس الذين يجهلون الشريعة، فهم ملعونون”. عندئذٍ وقف نيقوديموس بشجاعة وقال: أتحكم شريعتنا على أحد قبل أن تسمعه وتعرف ما فعل؟ فأجابوه: أتكون أنت أيضًا من الجليل؟ فتّش تجد أن لا نبي يظهر من الجليل”. عندها تفرّق الجميع (راجع يو7: 45-53).
مثال رائع للوقوف بوجه الظلم والضلال والتضليل والافتراء، ولإعلان الحقيقة والعدالة والعودة إلى روح الشريعة.
ونجد نيقوديموس، الإنسان الذي اهتدى بنور حقيقة المسيح وتعليمه، في موقف آخر جريء، عندما صلب رؤساء الكهنة والفريسيّون والشعب يسوع وتركه الجميع وتنكّروا له خوفًا من اليهود، “جاء نيقوديموس، ومعه خليط من المرّ والعود وزنُه مئة درهم، ومع يوسف الرامي حمل جسد يسوع، وسكبا عليه الطّيب ولفّاه في كفنٍ، ووضعاه في قبر جديد في البستان، قريب من مكان صلبه” (راجع يو19: 39-42).
هذه هي ثمرة كلّ لقاء وجداني مع يسوع. يجد الإنسان ذاته، ويدخل في عالم فسيح آخر من الحقيقة والمحبة وفعل الخير. فكأنَّ نيقوديموس تعمّد من دون معمودية الماء والروح، بل “بمعموديّة الشوق”. هذا يعني أنّ الروح القدس فاعل في جميع الناس من أيّ دين كانوا أو عرق أو ثقافة. فهو يمنح نعمة الخلاص الفائضة من موت المسيح لفداء الخطايا، ومن قيامته لمنح الحياة الجديدة، أي من سرّه الفصحي المتواصل في أسرار الكنيسة الخلاصيّة. ولهذا جعل المسيح الرّب كنيسته “أداة الخلاص الشامل” (الدستور العقائدي في الكنيسة، 48).
إنّ عمل المسيح الخلاصي، بالروح القدس ومعه، يعمّ البشرية جمعاء، حتى وراء حدودها المنظورة. فبفضل سّره الفصحي يُشرك المسيح منذ الآن كلّ مؤمن ومؤمنة في حياته بقوة الروح القدس، ويمنحه رجاء القيامة. يؤكّد آباء المجمع المسكوني الفاتيكتاني الثاني: “لا يصحّ ذلك فقط في الذين يؤمنون بالمسيح ولكن في كلّ الناس ذوي الإرادة الصالحة، الذين تعمل النعمة في قلوبهم بطريقة خفيّة. فإذا كان المسيح مات عن الجميع، وإذا كانت دعوة الإنسان الأخيرة هي حقًّا واحدة للجميع، أي انها دعوة إلهيّة، علينا إذًا أن نتمسّك بأنّ الروح القدس يقدِّم للجميع إمكانيّة الإشتراك في سرّ الفصح بطريقة يعرفها الله وحده” (الكنيسة في عالم اليوم، 22).
4. بالعودة إلى بداية اللِّقاء الوجداني بين نيقوديموس ويسوع، نرى أنّ الرجل كان معجبًا بشخصيّة يسوع كمعلّم، وبخاصّة بالآيات التي يصنعها، وهذه علامة أنّ يد الربّ كانت معه: إقرار رائع، وقراءة سامية. لقد فهم وجود الله وحضوره في آيات يسوع وتعليمه.
تعدّى يسوع ذاته وارتفع بنيقوديموس إلى الأسمى، إلى ما يُعطى لكلّ إنسان بأن يولد ثانية من الماء والروح. وبهذه الولادة يدخل ملكوت الله، إذ يصبح ابنًا لله بالابن الوحيد، يسوع المسيح، وشريكًا وريثًا لخيرات الملكوت السماوي وللحياة الأبدية.
الكنيسة تواصل هذا الدور وهذه الرسالة: تعلن ملكوت الله، وتساعد الناس للدخول فيه، وفقًا لمقتضياته. لا يحقّ لها أن تتساهل في التعليم الإلهي العقائدي والأخلاقي، “مجاراةً مع العصر” كما يقول البعض. فلو رُفض تعليمها، ونُشر تعليم آخر، ولو سخر به الناس، لا تستطيع الكنيسة إلّا أن تردّد كلام المعلّم الإلهي: “الحقّ الحقّ أقول لكم”.
5. لم يحدِّث يسوع ضيفه نيقوديموس عن “عجائبه” ألتي أبهرته، بل عن كونها علامات للتعليم اللاهوتي الذي نقله إليه وذكرناه أعلاه. الكثير من الناس يتعلّقون بالأعجوبة، وينسون أنّها علامة لحقيقة يريد الله أن يكشفها لنا، وهي خلاص نفوسنا وتقديسنا، وإلّا كمن يقف عند الإشارة وينسى أنّها تدلّه على الطريق، فلا يواصل سيره. كم من الناس يهملون قداس الأحد ونعمة الأسرار، ليسافروا إلى البعيد حيث توجد أعجوبة ما! وكم من الناس يتابعون ريبورتاج تلفزيوني عن أعجوبة ما، وعندما يعقبها برنامج تثقيف ديني، يبدّلون القناة! هؤلاء يتمسّكون بالأعجوبة الظاهرة وينسون الله.
6. إنّ أوّل ما علّمه يسوع لضيفه “الولادة الثانية من الماء والروح”، أي المعمودية التي هي باب الخلاص لانّها تعطي نعمة البنوّة لله. كانت الولادة الأولى بالجسد من رحم الأمّ، امّا الثانية فبالروح من رحم محبة الله المتجلّية في سرّ المعمودية.
إنّ المؤمن يطلب العماد لكي يدخل في علاقة بنوّة لله. هذا ما يفعله الأهل لأولادهم الصغار وأطفالهم. هؤلاء يُعمّدون على إيمان والديهم والعرّابين. وكانت العادة القديمة أن يعمّد الطفل بعد ثمانية أيام لولادة الطفل. هل من هبة وكنز يعطيه الوالدان لطفلهما أعظم من البنوّة لله؟ كم هو مخطئ من يقول: “دعوه يكبر ويختار ما يريد! وكأنّ البنوّة لله بالمعمودية خيار! هل يترك الأهل مولودهم يكبر ليختار ما يأكل وما يلبس، ويحرمونه بالتالي من الطعام واللباس فيموت! هذه هي الحال عند تأجيل المعمودية. مثل هذا التصرّف الجاني على الطفل علامة قلّة إيمان عند والديه، وجهلٍ مدقع.
7. ويوضح الربّ يسوع لنيقوديموس أنّ “المولود من الجسد هو جسد، والمولود من الروح هو روح (الآية 6). بالولادة من الجسد يبقى الإنسان ميتًا بخطاياه ومتسعبَدًا لها، بدءًا من الخطيئة الأصليّة الموروثة من أبوَينا الأوّلين، وصولًا إلى الخطايا الشخصيّة. فهذه كلّها يمحوها سرّ المعمودية وسرّ التوبة النابعان من موت المسيح وقيامته. أمّا بالولادة من الروح، فتُمحى كلّ هذه الخطايا بنعمة الفادي الإلهي وقوّة الروح القدس، بواسطة سرَّي المعمودية والتوبة.
لم يفهم نيقوديموس كلّ هذا الكلام، وما يحتوي من حقائق تفوق إدراك العقل البشري، وسأل: “كيف يكون هذا؟” (الآية 9). فبسّط له يسوع الموضوع مشبِّهًا عمل الروح القدس داخل الإنسان بعمل الريح في الطبيعة. الريح لا نراها، وتهبّ حيث تشاء، لكنّنا نسمع صوتها ونشعر بمرورها، من دون أن نعرف مصدر هبوبها ومكان سكينتها. هكذا الروح القدس يهبّ ويعمل في الإنسان حيث يشاء وكيفما يشاء. نحن لا نراه بل نرى فعله في النفوس التي تعيش في الحقّ والخير والجمال، في العدالة والسلام. نراه في ثماره الظاهرة في أفعال وأقوال وتصرفات الاشخاص الذين قبلوه وتفاعلوا مع نعمته.
* * *
ثانيًا، اسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس
يقام أسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس في العالم أجمع من 18 إلى 25 كانون الثاني الجاري، بموضوع مأخوذ من رسالة القدّيس بولس الرسول إلى أهل كورنتس: “محبة المسيح تحثُّنا على المصالحة” (2كور5: 14-20). اختار الموضوع وأعدّ دليلًا لإحياء أسبوع الصلاة مجلس كنائس الشَّرق الأوسط بالتعاون مع اللّجنة الأسقفيّة للعلاقات المسكونيّة.
إنّ وحدة الكنائس تبدأ بالمصالحة مع الله أوَّلًا، وهي تقودنا إلى المصالحة والوحدة فيما بيننا كمؤمنين. فبقدر ما يتصالح الإنسان مع الله ويتّحد به، يستطيع أن يتصالح ويتّحد مع الآخرين. إنّ المصالحة ببعدها العمودي مع الله، والأفقي مع جميع الناس، قد حقّقها المسيح الفادي بموته على الصليب، فصالحنا مع الآب، ويستحثّنا لنتصالح مع بعضنا البعض.
نأمل أن يقام في الرعايا أسبوع الصلاة وفقًا “للدليل” الموضوع لهذه الغاية، وإنّا بذلك نواصل صلاة الربّ يسوع: “ليكونوا، ايُّها الآب، واحدًا فينا، فيؤمن العالم أنّك أنتَ أرسلتَني، وأنّك أحببتَهم كما أحببتَني” (يو1: 21-23).
إنّ وحدة الكنائس مسؤوليّة ضميريّة تقتضي إعادة وحدة جسده السرّي الممزَّق بالانقسامات؛ ومسؤوليّة رساليّة، لأنّ في الوحدة تظهر صدقيّة المسيح المرسَل من الآب، وصدقيّة وصيّة المحبة. ما يعني أنّ وحدة الكنائس هي ثمرة رسالة المسيح، وأنّها تعلو فوق كلّ سبب للانقسام بقوّة محبة المسيح المسكوبة في قلوبنا بالروح القدس.
* * *
صلاة
أيُّهــا الــربّ يســوع، يـا مَن في ليلـة إقبالـِك علـى الموت من أجلنــا، صلّيْـتَ لكـي يكــون تلاميـذك بأجمعهــم واحــدًا، كما أنّ الآب فيـكَ وأنـتَ فيــه. إجعلنــا أن نشعــر بعـدم أمانتنـا، ونتألّـم لانقسامنـا. أعطنـا صـدقـًا فنعـرف حقيقتنـــا، وشجاعـة فنطــرح عنّـا ما يكمـن فينـا من لامبالاة ورَيبـة، ومن عــداء متبـــادَل. وامنحنــا يــا ربُّ أن نجتمــعَ كلُّنـــا فيــــك فتصعــد قلوبنـــا وأفـواهنـــا، بــلا انقطاع صلاتــك من أجل وحـدة المسيحيّيــن، كمــا تريـدها أنتَ وبالسبــل التي تــريــد. ولنجــدْ فيـــك، أيّهــــا المحبّــــة الكــاملـــة، الطريـــق الذي يقـــود إلى الوحـــدة، فـي الطـاعــة لمحبّتـــــك وحقّــــــك .آمين.
* * *