عظة المطران بولس روحانا
النائب البطريركي العام على منطقة صربا
في جنازة المرحوم الخوري بطرس التنوري
كنيسة سيّدة النجاة، بقعتوتا
الجمعة 30 كانون الأول 2016، الساعة 2،00 ب.ظ.
باسم الآب والإبن والروح القدس الإله الواحد آمين.
– حضرة الخوري نعمة الله نخله، خادم هذه الرعيّة المباركة،
– إخوتي الكهنة والرهبان والشمامسة الأفاضل،
– الفعاليات البلديّة والاختياريّة والسياسيّة المحترمين،
– عائلة المرحوم الخوري بطرس التنوري:
أبناء شقيقيه وشقيقته المرحومين جوزيف وإدوار وفيكتوريا وعائلاتهم المحترمين،
– أبناء وبنات رعايا بقعتوتا وكفردبيان وبقعاتة كنعان ومرج بسكنتا الأعزّاء،
– أيّها الإخوة والأخوات بالربّ،
1. عندما تفقدُ الكنيسةُ كاهنًا، وإنْ طَعَنَ في السِّنّ وتقاعد، يختبرُ الأسقفُ غِيابَ مُعاونٍ أساسيٍّ لهُ، تعليمًا وتقديسًا وتدبيرًا للأبرشيّة التي اؤتمن عليها. كما يختبرُ الكهنةُ غيابَ أخٍ لهم وشريكٍ في الجسم الكهنوتيّ ضمن الأبرشيّة الواحدة. أمّا الرعيّةُ فتشعرُ من جهة أنّها “ترمّلت” بِفَقدِ من ارتبط بها ارتباط زوجٍ بزوجته، “وتَيَتَّمَت روحيًّا” من جهة أخرى بغيابِ أبٍ للكبار والصِّغار فيها، سعى، على ضَعفِه وبالإتِّكال على نعمة الله التي نالها في المعموديّة وفي سرّ الكهنوت، أن يبنيَ الرعيّة بكلمة الله المُحيية، وهو يشعر أنّه يفعل ذلك بتكليفٍ من المسيح أو “بالنيابة عنه”، عبرَ اختيار الكنيسة. ويُدركُ الكاهن أنَّ الأبوَّةَ التي دُعي إليها لن تُؤتي ثمارًا روحيّة وفيرة ما لم يتتلمذ هو أوّلاً على أبوّة الله كما كشفها لنا الربّ يسوع في الإنجيل. وتتجلّى تلك الأبوّة رحمةً ومغفرةً وخدمةً متواضعة، وانتظارًا صبورًا ومُحبًّا للإخوة والأخوات الذين يُضلّون الطريقَ وهم ينشدون الحرّيّة بعيدًا عن الله أو خارجَه، إلى أن يعودوا إلى عائلة الله التي ينتمون إليها بعمادهم، مهما طال الغياب، كما يظهر ذلك في مثل الإبن الضائع الذي يتفرّد بذكره الإنجيليّ لوقا، إنجيليُّ الرحمة.
2. بهذه العواطف الروحيّة تلتقي اليوم نيابةُ صربا البطريركيّة، أسقفًا وكهنةً ورهبانًا وراهبات وشمامسةً ومؤمنينَ علمانيِّين وعلمانيّات، ومعها عائلةُ الفقيد المرحوم الخوري بطرس التنوري، لنتذكّر معًا مسيرةَ الكاهن الراحل في محطّاتها الأساسيّة وقد أتمّ الأسبوع الفائت الرابعةَ والتِّسعينَ من العمر، وكان ذلك في الرابع والعشرين من كانون الأول الجاري، لِيُولَدَ في الحياة الجديدة التي لا تعرِفُ الغروبَ والزوال. على هذا الرّجاء، نشكرُ الربَّ معكم على النِّعَم الكثيرة التي سَكَبَها في قلبِ الخوري بطرس، فتفاعَلَ معها كالأرض الخصبة، فأسهَمَ في نهضة الرعايا التي اؤتمنَ عليها بشرًا وحجرًا.
3. وُلِدَ الخوري بطرس سنة 1922 في بلدة بقعتوتا وترعرع في كَنَفِ والدَينِ تَقيَّين هما فارس التنوري ومباركة إبنة الخوري بطرس كرم من بسكنتا، فسمّياه “فارس” إلى أن تخلّى عن هذا الاسم طوعًا بعد أن اتّخذ له اسمَ “بطرس” عند سيامته الكهنوتيّة التي نالها في الثامن من شهر أيار 1958 من يد المثلّث الرحمات المطران عبدالله نجيم. فمن اسمه العلمانيّ “فارس”، تشرّب النخوةَ والشجاعةَ والشهامة والقوّة والحزمَ بدون تهوّر. ومن اسمه الكهنوتيّ “بطرس”، تدرّب على فضيلة المحبّة، التي لا تعرف الحدود، طريقًا للرعايةِ الكنسيّة وفق قلب المسيح، متذكّرًا قول يسوع القائم من الموت لبطرس: “يا سمعانَ بن يونا، أتحبّني أكثر ممّا يُحبّني هؤلاء؟” “نعم يا ربّ، أنتَ تعلَم أنّي أحبّك”. “إرعَ حملاني، إرعَ نعاجي، إرعَ خرافي” (يوحنا 21/ 15-17). والمحبّة في عرف الإنجيل هي قبل كلّ شيء بذلٌ للذات في سبيل مَن نُحبّ.
4. وقد حَبى اللهُ فقيدَنا الغالي بمواهبَ فكريّة مُتنوّعة أهَّلَتهُ لاكتساب المعارف في زمنٍ صعبٍ نَدُرَت فيه فُرصُ التعليم للأولاد، فتدرَّجَ فيها مُحصِّلاً الدروس الابتدائيّة في مدرسة مار بطرس بسكنتا والتكميليّة والثانويّة حتى شهادة البكالوريا في مدرسة الرسل للمرسلين اللّبنانيّين، جونيه. وبعد فترةٍ زمنيّةٍ عَمِلَ فيها في قطاعات مختلفة، شعر في داخله بنداء الربّ له ليكون كاهنًا، فَقَبِلَتْهُ الكنيسةُ في عداد الإكليريكيّين بعد أن تحقّقت من أصالة دعوته. عندها درس الفلسفة واللاهوت في الإكليريكيّة البطريركيّة المارونيّة في دير مار عبدا هرهريا، غزير، إلى أن تمّت سيامته كاهنًا في كنيسة سيّدة الورديّة، راس بيروت، في العام 1958 وهو في السادسة والثلاثين من العمر، على كثيرٍ من النضوجِ والقناعة والإندفاع.
5. ومنذ سيامته إلى حين تقاعده القسري وسَكَنِهِ منذُ العام 2009 في دير يسوع الملك ومن ثمّ في دير الصَّليب، برمّانا، التابِعَين لجمعيّة راهبات الصليب، عاش المرحوم الخوري بطرس خدمته الكهنوتيّة تكرّسًا كاملاً، واضعًا معارفَه ومزاياه وروحانيّته في خدمة أبناءِ وبنات الرعايا التي اؤتمن على رعايتها، ابتداءً من سيّدة الورديّة، راس بيروت، وسيّدة العطايا، إلى أن استقرَّ به الأمر في أبرشيّة صربا في زمن المثلّث الرحمات المطران مخايل ضوميط، ومن ثمّ في نيابة صربا البطريركيّة، في زمن أخي صاحب السيادة المطران جي – بولس نجيم، أطال الله بعمره. فخدمَ الخوري بطرس بصفة كاهن أساسي كُلًّا من رعايا سيّدة النجاة بقعتوتا، ومار عبدا بقعاتة كنعان ومار بطرس مرج بسكنتا، حيثُ سيُوارى الثرى في مدافِنِها، ومار افرام كفردبيان منذ العام 1995 حتى تقاعده سنة 2009 بعد أن كان في تلك الرعيّة مساعدًا للمرحوم الخوري لويس عقيقي منذ العام 1980. وبالإضافة إلى كلّ ذلك قام بالتعليم المسيحيّ والإرشاد الروحيّ في مدارس عدّة، نذكر منها مدرسة “المون لا سال” (Mont – La – Salle) التابعة لجمعيّة إخوة المدارس المسيحيّة، وراهبات سيّدة النياح، بقعتوتا. ونظرًا لاتِّساع خدمته في رعايا قطاع الجبل، كان يُطلِقُ البعضُ عليه لَقَب “مطران الجرد”، تَحَبُّبًا وتقديرًا.
6. في مدّة خدمته في بقعتوتا، تمّ إنهاءُ بناءِ الكنيسة الجديدة ومن ثمّ بناءُ قاعةٍ راعويّةٍ هي الصالون الحالي الذي يحتضنُنا الآن في وقت جنازته بعد أن سعى لشراء العقار المُخصَّص له، كما تَشهدُ بوضوح المراسلات بشأن ذلك بينه وبين سلفي المطران نجيم. وفي مدّة خدمته في قطاع الجبل، تمّ أيضًا بناءُ كنيسة مار عبدا الجديدة في بقعاتة كنعان وترميم كنيسة مار بطرس، مرج بسكنتا.
7. ولم يقم الخوري بطرس بتلك الأعمال العمرانيّة لتحقيق كسبٍ معنويّ أو كنسيّ بقدر ما كان يسعى إلى إيجاد مساحات راعويّة ملائمة ليتلاقى الناس فيها حول كلمة الله والقيم الإنسانيّة والإنجيليّة، فينطلقون بعدها تلاميذ رسلاً ليسوع في العالَم الواسِع. ولم تُثنِهِ تلك الأعمال العمرانيّة عن إيلاءِ البعد الاجتماعيّ في خدمته الكهنوتيّة المكانَةَ الأعلى والأفضل، عملاً بوصيّة الكتاب المقدّس التي أكّد عليها يسوع في مثل السامريّ الصّالِح، والداعية إلى محبة الله ومحبّة القريب، وبخاصة كلّ ضحيّة نتيجة ظلم الظالمين. فمحبّة القريب هي الطريق الملوكيّ إلى الله الذي هو محبّة، طالما الإنسان يحمل في قلبه وضميره دمغَةَ الله، لأنه خُلِقَ على صورته ومثاله. بالمحبة وبالمحبة فقط نستعيدُ بهاءَ تلك الصورة التي تُشَوَّهُ كلّ يوم بالأنانيّة والكبرياء والحسد والضغينة، بحيث أنّ التوبة الحقيقيّة تكمن بالإنجذاب إلى المحبة التي تَجِدُ في الله مصدرَها ومِثالَها، وفي صليب يسوع تجلِّيًا لها. في هذا السياق ارتضى الخوري بطرس أن يكون سندًا للأرامل ورفيقًا للمحتاجين بفعل تجرّده الشخصيّ وتحرّره من قيود المال فلم يعرف القَلَقَ والاضطرابَ حِيالَ هموم الدّنيا ومتاعبها بل سعى أن يكونَ إبنَ العنايةِ الإلهيّة، في ضوئها يطلُبُ أوّلاً ملكوت الله وبِرَّهُ (متى 6/33).
8. وقد عُرِفَ راحلنا الكبير بحبّه للسّفر والتشجيع عليه، لا للتمويه عن النفس بعد عناء خدمة راعوية أو لزيارة أنسباء له في دُنيا الإغتراب وحسب، بل أيضًا لاكتساب المعارف والإنفتاح على الثقافات المتنوّعة، ممّا يقيه خطرَ التقوقع في حدود المألوف والموروث فلا يكونُ أسيرًا لها. وهكذا كان يستنير من رحلاته إلى بلدان أوروبا وإلى الولايات المتحدة الأميركيّة بين الفترة والأخرى، بعدَ استئذانِ رؤسائه الروحيِّين، لتعزيز خدمته في رعايا النيابة، بحيث يضعُها قدر الإمكان في آفاق الكنيسة الجامعة وتحدِّيات العالَم الراهِنَة، فتتجدَّد من الدّاخل دون التنكّر إلى الأصول.
9. برحيلِكَ يا أبونا بطرس سنفتقدُ كلَّ ذلك. سنفتقدُ لُطفَكَ ودِفءَ لِسانِكَ وبخاصةٍ بَسمَتَكَ التي لم تُفارِق مُحَيّاكَ وأنتَ مُسَمَّرٌ على فِراش الشيخوخة.
سنقتقدُ حكمتك العالية في معالجة الأمور، همّك الوصول بإخوتك الكهنة وبالناس إلى أن يشهدوا “للحقيقة بالمحبة”!
سنفتقدُ إلى نبرَتِك العالية والمُحَبَّبَة وإلى مواهِبِكَ الأدبيّة عندما كُنتَ تَعتلي المنابرَ واعِظًا وخطيبًا. سَنَفتَقِدُ أيضًا إلى صوتِكَ الجميل والجهوريّ والقلب يُحَرِّكُ أوتارَهُ، فتأتي احتفالاتُكَ الليتورجيّة على الكثير من الوقار والتقوى والدفء والإتقان، فكان إيمانُك احتفالاً وصلاةً.
10. باسمِ صاحب الغبطة والنيافة الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي الكُلِّيّ الطوبى، وباسمِ نيابة صربا وهذا الجَمع الحاضِر، أَوَدُّ أن أنقُلَ التعازي القلبيّة إلى عائلة فقيدنا الغالي وإلى الرعايا التي خدمَها، راجيًا أن تكون حياتُهُ تعزيةً لنا جميعًا، وأن يُعَوِّضَ اللهُ على الكنيسة بِكَهَنةٍ غيورينَ أمثالَهُ. معًا ندعو له باتِّفاق: “فليكن ذكره مؤبّدًا!” آمين.