مار بشاره بطرس الراعي، بنعمة الله،
بطريرك أنطاكيه وسائر المشرق،
وكردينال الكنيسة الجامعة،
إلى السَّادة المطارنة والكهنة والرهبان والراهبات
وسائر المؤمنين أبناء وبنات كنيستنا المارونيّة،
السلام والبركة الرسوليّة.
مقدّمة
1. قرّر مجمع كنيستنا المقدَّس المنعقد بين 10 و18 حزيران 2015 إعلان سنة 2017 “سنة الشهادة والشهداء في الكنيسة المارونيّة“. وقرَّرنا مع مجلس السَّادة المطارنة، في اجتماع الأربعاء 4 كانون الثاني الماضي، أن تبدأ سنة الشهادة والشهداء في عيد أبينا القدِّيس مارون في 9 شباط 2017، وتُختم في عيد أبينا البطريرك الأوّل القدِّيس يوحنا مارون في 2 أذار 2018.
تهدف هذه “السنة” أوّلًا إلى الاحتفال بشهدائنا المعروفين، لا سيَّما رهبان مار مارون الثلاثماية والخمسين الذين مرّ على استشهادهم ألف وخمسماية سنة (517-2017)، وتعيِّد لهم كنيستنا في 31 تموز، والبطريرك دانيال الحدشيتي الذي استشهد منذ سبعماية وأربع وثلاثين سنة (1283-2017)، والبطريرك جبرائيل حجولا الذي مرَّ على استشهاده ستماية وخمسون سنة (1367- 2017)، والطوباويِّين الشهداء الإخوة المسابكيِّين الذين استشهدوا مع عدد كبير من الموارنة سنة 1860 وتعيّد لهم كنيستنا في 10 تموز.
وتهدف ثانيًا إلى وضع لائحة بأسماء أبناء كنيستنا وبناتها الذين أراقوا دماءهم في سبيل إيمانهم بالمسيح، رأس الشهداء، وهم غير معروفين ويعود استشهادهم إلى حقبات مختلفة من التاريخ عرفت فيها كنيستنا أشدّ الاضطهادات، من مثل أيام حكم المماليك والعثمانيين، وأحداث 1840 و1860، ومجاعة الحرب العالميّة الأولى، والحرب اللبنانيّة الأخيرة.
نتناول في هذه الرسالة أربعة مواضيع: مسوّغات الاحتفال بسنة الشهادة والشهداء، مفهوم الشهادة والاستشهاد في الكتب المقدّسة وتعليم الكنيسة، الكنيسة المارونيّة كنيسة الشّهود والشهداء، توجيهات للاحتفال بسنة الشهادة والشهداء.
أولاً: مسوّغات الاحتفال بسنة الشهادة والشهداء
2. تندرج هذه المبادرة في إطار الأمانة للتقليد الكنسي الرسولي والآبائي وتشكِّل تلبيةً للدعوة التي وجَّهها القدّيس البابا يوحنا بولس الثاني إلى الكنائس المحليّة، في رسالته الرسوليّة “إطلالة الألفيّة الثالثة“، الصادرة في 10 تشرين الثاني 1994: “على الكنائس المحليّة أن تبذل كلّ جهد لئلَّا تترك ذكر الذين أدّوا شهادة الدَّم يضيع، وتجمع في هذا السبيل كلّ الوثائق اللّازمة، الأمر الذي لا يمكن إلّا أن يأخذ طابعًا مسكونيًّا بليغًا. فصوت اتِّحاد القدّيسين أقوى من صوت دعاة الشقاق، وسيرة الشهداء الأوّلين كانت الأساس في تكريم القدِّيسين. والكنيسة في إعلان وتكريم قداسة أبنائها وبناتها كانت تؤدِّي التكريم السامي إلى الله نفسه، وفي الشهداء كانت تكرِّم المسيح منبع شهادتهم وقداستهم. إنّ كنيسة الألفيّة الأولى وُلدت من دم الشهداء. وفي نهاية الألفيّة الثانية صارت الكنيسة مجدَّدًا كنيسة الشهداء. فقد أدّت الاضطهادات على المؤمنين، كهنةً ورهبانًا وعلمانيِّين، إلى زرع وفير من الشهداء في شتّى أنحاء العالم. وأصبحت الشهادة المؤدَّاة للمسيح حتى الدَّم تراثًا مشتركًا بين كلّ المسيحيِّين. إنّها شهادة يجب ألاّ تنسى” (العدد 37).
3. فيما نلبّي هذه الدعوة التي تحدَّدت أثناء انعقاد جمعيّة سينودس الأساقفة الخاصّة بلبنان في روما في تشرين الأول 1995، فإنّنا نجمع إرث أبناء وبنات كنيستنا المارونيّة وبخاصّة الشهداء منهم والشهيدات، ونقدِّمهم نموذجًا لعيش الأمانة للإنجيل والإيمان بالمسيح، في عالمنا المعاصر، ونحن في بدايات الألفيّة الثالثة. وهكذا تحافظ كنيستنا على ذاكرتها التاريخيّة، وتظلّ بحكم دعوتها، وعلى مدى التاريخ، شاهدة حتى الدّم لمعلّمها الإلهي يسوع المسيح الذي أكّد لرعاتها كما لرسله: “ستُعطون الروح القدس، فتنالون قوة، وتكونون لي شهودًا … حتى أقاصي الأرض” (أعمال1: 8).
4. إن عدنا إلى تاريخنا وجدناه مطعَّمًا بروحانيّة النسك والشهادة اللَّذَين يكوِّنان البُعدَين المتكاملَين في روحانيّتنا المارونيّة التي وضعها القدِّيس مارون وعاشها تلاميذه وشعبه من بعده. وفي الحالتَين تظهر راديكاليّة العيش المسيحي في اتِّباع يسوع المسيح. وما كنائسنا وأديارنا المارونيّة سوى خير شاهد على هذا الإرث المسيحي العظيم؛ حيث شفعاؤنا هم من الشهداء ومن النسّاك الكبار أمثال: إسطفانوس، تقلا، قبريانوس ويوستينا، سركيس وباخوس، نوهرا، ماما، عبدا، شربل الرهاوي، شليطا، سابا، أنطونيوس، ضوميط، سمعان العمودي، بيشاي، مارينا، وسواهم الكثيرون من الوجوه النيِّرة والمشرقة التي طبعت، ولا تزال، تاريخنا ووجداننا ومسيرتنا المسيحيّة في لبنان والشَّرق بل في كلِّ مكان من ترحالنا وانتشارنا واستقرارنا.
5. وليتورجيّتنا تزخر بذكر هؤلاء الأبطال وتخصص لذكراهم بشكل خاص يوم الجمعة؛ والمتعيّد يحفظ مكانة لهم تأتي، من حيث العدد والأهميّة، مباشرة بعد الأعياد السيِّدية. والرّتب الطقسيّة تحتفظ بذكر ثابت للشهداء والنسّاك وتشير مباشرة إليهم بعد ذكر المسيح الإله ووالدته الدائمة بتوليّتها مريم والرسل الأطهار. كما هي الحال في رتبة رسم الكاس ورتبة الإكليل والعماد وسواها. وكذلك هو الأمر في الفرض الإلهي وفي نوافير القداس.
إنّ إحياء ذكرى هؤلاء الشهداء الذين أحبّوا المسيح، فشهدوا له واستشهدوا في سبيله واجب علينا لنقتدي بهم في عيش الإيمان وقداسة السِّيرة وقوّة المغفرة، ودعوة لنا للتعمّق في الفضائل الإيمانيّة وللجهوزيّة الدائمة لعيش المحبة والخدمة، ونشر السلام.
* * *
ثانيًا: الشهادة والاستشهاد في الكتب المقدسة وتعليم الكنيسة
6. لا بدّ هنا من التذكير بتعليم الكتب المقدّسة والكنيسة حول الشهادة والاستشهاد.
الشهادة، في الكتب المقدّسة، تكتمل في الإستشهاد. فالشَّهيد هو الذي أدّى شهادة الإيمان بالمسيح في أعماله وأقواله وتصرّفاته، وتوَّجها بشهادة الدّم. ليس كلّ شاهد شهيدًا، بل كلّ شهيد شاهد. فلفظتا “martyrion” و”martyria” اليونانيّتان تعنيان “الشّهيد” و”الشّهادة” المنفتحة على إمكانيَّة شهادة الدّم. عندما أقامَ الربّ يسوع رُسله شهودًا موصوفين لتعليمه وقيامته، فتح أمامهم إحتمال الإضطهادات حتّى الموت: “هاءنذا أرسلُكم كالخراف بين الذئاب…إحذروا من النّاس: فإنّهم سيُسلمونكم إلى مجالس القضاء، ويجلدونكم في مجامعهم… وسيبغضكم الجميع من أجل اسمي… لا تخافوا الذين يقتلون الجسد ولا قدرة لهم على قتل الرّوح، بل خافوا بالحريّ مَن يقدرُ أن يُهلِكَ الرّوح والجسد كِليهما في جهنّم” (متى10: 16، 17، 22، 28). إنّهم بذلك يؤدّون لله وللمسيح شهادة “الحبّ الأعظم”، على ما أكّدَ الربّ في الإنجيل: “ليس لأحد حبّ أعظم من أن يبذلَ نفسه عن أحبّائه” (يو15: 13).
الرّسالة إلى العبرانيّين تتكلَّم عن شهود وشهداء الإيمان في العهد القديم. وقد تحمّلوا الآلام والموت، من أجل أمانتهم للمواعيد الإلهيّة (راجع الفصل 11). كما يكلّمنا سفر المكابيِّين الثاني عن شهود وشهداء الأمانة للشريعة الإلهيّة (راجع الفصلَين السادس والسابع). ونجد في سفر رؤيا يوحنا إسم “شهود” يطلقه يوحنا الرّسول على الذين شهدوا للكلمة حتَّى بذل الذات: “رأيتُ تحت المذبح نفوس المقتولين من أجل كلمة الله، ومن أجل الشّهادة التي أدوّها” (رؤيا 6: 9).
7. في تعليم الكنيسة، “الاستشهاد هو الشهادة السّميا لحقيقة الإيمان، شهادة تصل حتى الموت. والشهيد يؤدِّي الشهادة للمسيح الذي مات وقام، متَّحدًا معه بالمحبة. إنّه يؤدّي شهادة لحقيقة الإيمان والعقيدة المسيحيّة، ويحتمل الموت قويًّا، كما فعل القدِّيس اغناطيوس الانطاكي وهو يقول لشعبه: “دعوني أصير طعامًا للوحوش. فبها سأُعطى البلوغ إلى الله” (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، عدد 2473). واعتبرت الكنيسة أنّ الشهادة معموديّة، على ما قال القدِّيس يوحنا فم الذهب: “لا تتفاجأوا إذا اعلنت لكم أن الشهادة معمودية. فكما أن المعمَّدين يغتسلون بالماء، كذلك الشهداء يغتسلون بدمائهم” في صلاة مساء الجمعة من زمن الدنح المارونية نصلّي: “أيها الربّ يسوع، بعمادك في ماء الأردن، بدأت درب الجهاد والألم، حتى الشهادة وعماد الدم. كذلك اعتمد شهداؤك الأبطال بدمائهم”. لقد حرصت الكنيسة على أن تجمع بعناية كبيرة تذكارات الذين بلغوا إلى النهاية في إعلان إيمانهم. وهي أعمال الشهداء التي تشكِّل محفوظات الحقيقة المكتوبة بحروف من دم (التعليم المسيحي، عدد 2474).
8. وتعلّم الكنيسة أيضًا “أنّ واجب المسيحيّين، الذي يقتضي منهم المساهمة في حياتها، إنّما يدفع بهم إلى السلوك كشهود للانجيل وللموجبات الناتجة عنه. هذه الشهادة هي نقل الإيمان بالأقوال والأفعال، وهي فعل عدالة يوطِّد الحقيقة أو يعرّف بها” (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد 2472). والمسيحيّون، أينما كانوا، هم ملزمون بأن يُظهروا، بمثَل حياتهم وشهادة كلامهم، الإنسان الجديد الذي لبسوه بالمعمودية، وفعل الروح القدس بمسحة الميرون (القرار المجمعي في نشاط الكنيسة الإرسالي، عدد 11).
9. لقد استقت الكنيسة لاهوت الشهادة والاستشهاد من سرّ المسيح: من تجسّده وموته وقيامته. فهو في آن مثال الشاهد للحقّ والشّهيد بدمه (يو15: 12). فأصبحت الشهادة له تمثّلًا بحبّه وتماهيًا معه واستشهادًا باسمه. واتّخذت الشهادة بذلك قِيَمًا ثلاث أساسيّة:
أ- قيمة إيمان شخصي يقوم على المجاهرة بيسوع المسيح سيِّدًا (أع 2: 36 وروما 10: 9) لكونه الشاهد الأمين وحده (رؤ 1: 5)، وعلى التتلمذ له والثبات في حبّه واتّباعه حتى النهاية.
ب- قيمة حبّ دينيّة إجتماعيّة، يلتزم خدمة الإنجيل (أع 6: 3) وخدمة الكنيسة (2 كور 8: 3). وتقابله شهادة الله نفسه عن رضاه، هو الذي يعرف ما في القلوب (أع 15: 8).
ج- قيمة رجاء رساليّة يأوّنها اندفاع المعمَّد والمعمَّدة لزفّ بشرى الإنجيل (متى 24: 14)، ولمتابعة رسوليّة الرسل التبشيريّة (أع 1: 8)، ومواصلة شهادتهم على أنّ الله الثالوث قريب من كلّ إنسان ويدعوه إلى وليمة الفرح (متى 22: 1).
10. الشاهد في المسيحيّة هو عاشق المسيح، يحبّه في كلّ إنسان، حتى في العدو. يجاهر بحضور “المسيح أمس واليوم وإلى الأبد” (عب13: 8)، ويشهد لخلاصيّة أقواله (أع 1: 22) ولقيامته (1 كور 15: 15).
الشهيد هو المتماهي مع المسيح الذي اقتدى به وامتلأ من قوّة الروح القدس ونعمة الآب، ليزفّ بإراقة دمه بشرى الإنجيل. ويشهد لإيمانه المسيحي بالآب والابن والروح القدس ولانتمائه الكنسي، ولتعلُّقه بالفضائل الإلهيّة وبتعليم الكنيسة، ويواجه بأدوات السلام والرحمة سيف المضطَّهِد الذي يعذِّبه ويقتله بوسائل شتّى.
الاستشهاد هو فعل يقوم به الشهيد على إشهار شهادة إيمانه بالمسيح وحبّه له بحرّية وصدقيّة وفرح، راغبًا في الاقتداء الكامل بالمسيح والاشتراك في تدبيره الخلاصي. إنّه يسترجع في قرارة نفسه كلام الربّ: “إن اضطهدوني فسوف يضطهدونكم أيضًا” (يو 15: 20). ليس الاستشهاد المسيحي سعيًا إلى الموت بل هو الثبات على الإيمان بالمسيح حتى الموت (راجع متى 10: 32).
11. في تراثنا الانطاكي، نقرأ لاهوت الشهادة والاستشهاد في روحانيّة القدِّيس اغناطيوس الانطاكي الذي كان يعتبر أنّ شهادة الدَّم هي دعوة خاصّة من الله في الكنيسة واختيار إلهي، وأنّها إفخارستيّا معاشة. هكذا كتب إلى أهل روما: “دعوني أصيرُ طعامًا للوحوش، فإني بواسطتها أصل إلى الله. أنا حنطة الله، تطحنني أنياب الحيوانات لأصير خبزًا للمسيح خاليًا من كلّ عيب… إسألوا المسيح أن يتنازل ويجعل منّي ذبيحةً لله بواسطة أنياب الوحوش” (إلى الرومانيين 4: 1). وكان يعتبر أنّ الاستشهاد هو فرصة لشهادة أقوى للمسيح فكتب: “اكتفوا بأن تسألوا لي القوّة الداخليّة والخارجيّة لأكون مسيحيًّا لا بالكلام بل بالقلب، لا اسمًا فحسب بل فعلًا. وعندما أغيب عن هذا العالم يظهر إيماني بكلِّ ضيائه” (إلى الرومانيين 3: 1). وإلى أهل إزمير كتب: “شهادة الدّم تُظهر حياة المسيح فينا، وتشهد للقيامة وللانتصار على الموت منذ الآن” (إزمير 3).
12. في دعاوى إعلان الطوباويّين والقدّيسين، تضع الكنيسة قواعد لتمييز الشّهداء في وثيقة “أمّ القدّيسين” (Sanctorum Mater)، الصادرة عن مجمع دعاوى القدِّيسين في 17 أيار 2007. فتعتبر، كقاعدة عامّة، أنّ بذل الذات من أجل المسيح، هو الطريق الأفضل نحو القداسة. وتعتبر أنّ الاعتراف بالاستشهاد يعفي من المعجزة المطلوبة. فهي تُجري تحقيقًا دقيقًا حول حياة الشخص واستشهاده وشهرة الاستشهاد والعلامات (المادة 31، بند2). وتولي أهميّة خاصة لشهرة الاستشهاد التي هي الرأي السائد عند المؤمنين بأنّ خادم الله، أو خادمة الله، المنوي إعلان قداسته قد مات من أجل إيمانه أو من أجل فضيلة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالإيمان. يُفترض بالاستشهاد أن يكون قبولاً حرًّا، لا أن يطلبه الإنسان أو يبحث عنه. لذا، تدعو الكنيسة كلّ مؤمن ومؤمنة ليكون مستعدًّا للموت من أجل الإيمان بالمسيح، لا أن يطلباه. وفوق ذلك، يجب التأكد من أنّ سبب الاستشهاد هو الإكراه في الدِّين من قِبَل المضطهِد أو الحضّ على إنكار الإيمان، بشكل مباشر أو غير مباشر، من دون اعتبار الأسباب السياسيّة أو الاجتماعيّة أو ما شابهها. وهذا ما لفت إليه البابا بندكتوس السادس عشر في رسالته إلى مجمع دعاوى القدِّيسين سنة 2006.
إنّ لنا مثلًا على هذا التعليم في القدّيس مكسيميليان كولب الذي قدّم ذاته للموت سنة 1941 في معتقل Auschwitz في بولونيا، بدلاً من أب عائلة كان معتقلًا معه. فلم تُعلن قداسته كشهيد في الكنيسة. أما الأب جاك هامل الفرنسي، الذي استشهد في كنيسة مار اسطفان في أبرشيّة رُوان Rouen بفرنسا في 26 تموز 2016، فقد اعتبر قداسة البابا فرنسيس أنّه شهيد، وطلب من مطران أبرشيّته أن يبدأ حالاً بفتح دعوى التحقيق لتطويبه على هذا الأساس.
* * *
ثالثًا: الكنيسة المارونيّة كنيسة الشهود والشهداء
13. اتّخذت الكنيسة المارونيّة منذ نشأتها مع بطريركها الأوّل القدِّيس يوحنّا مارون في أواخر القرن السابع، وفي انتشارها المستمرّ من بعده، خطّ الروحانيّة التي أسّسها القدّيس مارون وتلاميذه في جبال قورش والتي سعت إلى تطبيق الانجيل بأصالة في حياة زهد ونسك وصلاة وتبشير. وتميّزت تلك الروحانيّة بحياة متكاملة جمعت بين النُّسك والرسالة في إطار الشهادة للمسيح.
تميّز النُّسك الماروني بالعيش في العراء وعلى قمم الجبال، والوقوف المستمرّ، والصلاة المتواصلة، والسّهر والصمت العميق؛ وبالتقشف وقهر الذات، والعمل في الأرض واستثمارها، والعيش من ثمارها بحرّية وكرامة. أما الرسالة فتميّزت بالهجرة من أجل القيام بها وتبشير الوثنيّين وحملهم على الإيمان بالمسيح وتحويل معابدهم إلى كنائس وأديار، وبناء الأديرة وجعلها منارة لنشر الحياة المسيحيّة والثقافة والعلم.
فكانت الروحانيّة هذه روحانيّةَ الصليب التي ترتكز على بُعدَين: البُعد العمودي، وهو خطّ العلاقة بالله، بالنّسك والعبادة والصلاة، خطّ يربط الأرض بالسماء. والبُعد الأفقي، وهو خطّ رسالة الكرازة بالإنجيل، خطّ يربط أهل الأرض بعضهم بالبعض الآخر. هكذا عاش الموارنة، بعد القدّيس مارون وتلاميذه، وكانوا “جماعة الصلبوت في كنيسة الناسوت”.
14. أتى تلاميذ القدِّيس مارون أوّل ما أتوا إلى جرود جبيل والبترون والجبّة وبشَّروا وعمَّدوا ونشروا روحانيَّتهم. ولما انتُخب يوحنّا مارون أوّل بطريرك على انطاكية، أسّس البطريركيّة المارونيّة ونظَّمها في كنيسة قائمة بذاتها ضمن الكنيسة الكاثوليكيّة الجامعة. واتّبع الموارنة معه ومن بعده مقوِّمات الروحانيَّة التي تركها لهم الآباء المؤسِّسون، حاملين صليبهم في اتِّباع المسيح والشهادة له. فعاشوا في العراء إمّا على قمم الجبال، وإما في قعر الوديان. عاشوا دومًا واقفين ومستعدِّين لملاقاة ربِّهم بالصلاة والسَّهر والصوم والتقشف؛ وتحمّلوا أشدّ العذابات والاضطهادات في سبيل الحفاظ على إيمانهم وحرّيتهم واستقلاليَّتهم. ودفعوا ثمن ذلك ضريبة الدَّم بآلاف الشّهداء في مختلف العهود والقرون.
15. لم يتطلّبوا من هذا العالم سلطانًا، ولم يبنوا لهم امبراطوريّة. لم يأتوا إلى جبل لبنان لاجئين أو فاتحين، بل أتوه نسّاكًا وحاملين رسالة مطبوعة بالشهادة النسكيّة والاستعداد للاستشهاد دفاعًا عن إيمانهم وحرّيتهم. لم يتكلّل لهم شهداء نتيجة طمعهم بالمُلك أو بالسلطة، بل بنتيجة رسالتهم المسالمة، رسالة المحبّة والمصالحة واحترام الآخر. ارتبط اسمهم بجبل لبنان، وحوّلوه ديرًا للصلاة والابتهال إلى الله وأطلقوا على أعلى قمّة فيه اسم “قرنو دسوهدي” أي “قمّة الشهداء” مثالًا لكلّ قمّة روحيّة؛ وأطلقوا على أكبر وادٍ فيه اسم “وادي قاديشا” أي وادي القدّيسين. وتمرّسوا في كلّ أنواع العذابات والميتات، حتى صحّ فيهم قول الرسالة إلى العبرانيّين في شهود الإيمان: “وتحمّل بعضهم توتير الأعضاء وأبَوا النجاة رغبةً في الأفضل، أي في القيامة، وبعضهم الآخر عانى السخرية والجَلْد، فضلًا عن القيود والسجن. ورُجموا ونُشروا وماتوا قتلًا بالسّيف وهاموا على وجوههم، لباسهم جلود الغنم وشعر المعز، محرومين مضايقين مظلومين، لا يستحقّهم العالم، وتاهوا في البراري والجبال والمغاور وكهوف الأرض” (عب 11: 35-38).
ولم يَسْلَمْ لهم من الدمار والخراب شيء. انتُهكت أرزاقهم ودُمِّرت ممتلكاتهم ودُكَّت كنائسهم وتشرَّدوا في الجبال والأودية. وبالرّغم من كلّ ذلك لم يتراجعوا ولم ينكروا إيمانهم، بل ازدادوا رسوخًا في تعلّقهم بالمسيح، لدرجة أنّهم تماهوا معه. وكان لشهادتهم طابع مريمي. فاتّخذوا مريم العذراء الكلِّية القداسة مثالًا وقدوة وشفيعةً لهم ولعائلاتهم ولكنائسهم ولأديار سكنى بطاركتهم. واتّخذوا من الشهداء شفعاء لكنائسهم الرعائيّة والديريّة.
* * *
رابعًا: الاحتفال بسنة الشهادة والشهداء
16. إنّنا ندعو جميع أبنائنا وبناتنا الموارنة في لبنان والنطاق البطريركي وبلدان الانتشار إلى الاحتفال بسنة الشهادة والشّهداء عبر المشاركة في النشاطات التي تحييها الأبرشيّات والرعايا والرهبانيّات والأديار والأخويّات والحركات الرسوليّة والمؤسّسات الكنسيّة والمدارس والجامعات والأندية الثقافيّة والمفكِّرون والمؤرِّخون والفنَّانون والعائلات ووسائل الاتّصال والتواصل.
وندعوهم كذلك إلى العمل معًا على جمع المعلومات عن شهداء كنيستنا عبر الأجيال وإبراز سِيَر الشهداء المعروفين والمجهولين والمنسيّين. وقد طلبنا من بعض المؤرِّخين في كنيستنا أن يعملوا على توضيح التاريخ، لا سيَّما تاريخ الشهداء منذ بداية كنيستنا وحتى اليوم، وبنوع خاصّ استشهاد تلاميذ مار مارون الـ 350 والبطريرك دانيال الحدشيتي والبطريرك جبرائيل حجولا. إنّنا نقدّر الجهود التي ستُبذل من أجل تحقيق هذا العمل، وهو طويل الأمد ويحتاج إلى سنوات. وكما قرّرنا في المجمع البطريركي الماروني ترك الأمور العالقة مفتوحة للبحث العلمي، كذلك سيعمل المؤرِّخون على استيضاع التاريخ وقراءته في ضوء مسيرة الكنيسة اليوم نحو التلاقي والوحدة.
17. من أجل حسن الاحتفال بسنة الشهادة والشهداء، نقترح من بين أهمّ المبادرات ما يلي:
– تنظيم حملة هادفة إلى التعريف بالشهادة والاستشهاد في كنيستنا؛
– إقامة رياضات روحيّة وخلوات وندوات تشدِّد على دور الشهادة والشهداء في حياتنا اليوم؛
– إحياء احتفالات ومسيرات وزيارات حجّ إلى الأماكن المقدّسة وإلى كنائس وأديار الشهداء؛
– تنشيط حركة أبحاث علميّة تأريخيّة، وبخاصّة في الجامعات، حول تاريخ الشهادة والشّهداء في كنيستنا، تهدف إلى إغناء السنكسار الماروني الذي يورد تذكار قدِّيسي كلّ يوم على مدار السنة.
– اعتناء الجامعات والمعاهد بتنظيم سلسلة من المؤتمرات تتناول مسألة الشهداء المسيحيِّين في مراحل الاضطهادات المتنوِّعة.
– اهتمام كلِّيات الهندسة والفنّ الكنسي بالكشف عن معالم التاريخ في كنيستنا، في هندسة الكنائس وفي رسم الأيقونات وفي الموسيقى، وغيرها.
– تعاون اللَّجنة البطريركيّة للشؤون الطقسيّة مع كلّيات العلوم الدينيّة الكنسيّة، اللاهوتيّة والليتورجيّة، لوضع صلوات وتساعيّات وابتهالات وزياحات للشّهداء في كنيستنا. والعمل على ربط مفهوم الشّهادة والاستشهاد بمحطّات السنة الطقسيّة ووضع الاحتفالات في إطار الزمن الطقسي.
– التعاون مع وسائل الاتّصال والتواصل والإعلام من أجل إبراز الشهداء ودورهم في مسيرة الكنيسة وازدهارها وانتشارها.
18. ثمّة محطّات كبرى تساعد على إدراج هذه المبادرات في إطارها، وهي: 9 شباط عيد مار مارون، 2 آذار عيد مار يوحنا مارون، 1 نيسان ذكرى استشهاد البطريرك جبرائيل حجولا، 22 أيار ذكرى استشهاد البطريرك دانيال الحدشيتي والمئات في حدث الجبّة وجوارها (سنة 1283)، 10 تموز عيد الأخوة المسابكيّين وذكرى الشهداء الموارنة في جبل لبنان وزحله ودمشق (سنة 1860)، 31 تموز عيد الشّهداء رهبان مار مارون الثلاثماية والخمسين (سنة 517)، 14 أيلول عيد ارتفاع الصليب المقدّس، وغيرها.
19. وإذ كان لا بدّ من تنظيم احتفالات هذه السنة وتنسيق النشاطات والمبادرات، فقد عيّنّا لجنة بطريركيّة برئاسة سيادة أخينا المطران منير خيرالله، مؤلَّفة من: الأباتي أنطوان خليفه الراهب اللّبناني، والخوري ريمون باسيل أمينًا للسّر، والأب جوزف مكرزل الراهب اللّبناني، والأب عبدو انطون الراهب المريمي، والأب سركيس الطبر الراهب الأنطوني، والأب مارون مبارك المرسل اللّبناني، والأخت مرتا باسيل الراهبة اللبنانيّة، والأخت ليلى صليبا الراهبة الأنطونيّة، والدكتورة ماري خوري، والدكتور سمير خوري، والدكتورة راي جبر معوّض، والدكتور أنطوان الحكيّم، والدكتور الياس القطّار، والدكتور كريستيان الحلو. ونكلّفها التحضير والإشراف على الاحتفالات المنوي تنظيمها، ووضع دليل لهذه الغاية.
الخاتمة
20. سنة الشهادة والشّهداء مناسبة فريدة لتجديد التزامنا المسيحي بالشهادة للمسيح، والاستعداد لتأديتها حتى شهادة الدّم، من أجل انتصار المحبّة على الحقد، والسلام على الحرب، والأُخوّة على العداوة، والعدالة على الظلم. وهي سنة تنتزع الخوف من قلوبنا، فيما نشهد في أيّامنا اعتداءات واضطهادات على المسيحيِّين في أنحاء عديدة من العالم، وبخاصّة في بلدان الشَّرق الأوسط قتلًا ودمارًا وتشريدًا وتهجيرًا. وقد وصف قداسة البابا فرنسيس هذا الواقع في عظة له بمناسبة عيد مار اسطفانوس الشهيد، قال: “نحتفل اليوم باستشهاد القدِّيس اسطفانوس الشهيد الأوّل، الذي يدعونا للتمثّل بالشهادة التي تركها لنا بتقدمة ذاته. إنّها الشهادة الممجّدة للاستشهاد المسيحي حبًّا بيسوع المسيح، الذي لا يزال حاضرًا في تاريخ الكنيسة حتى أيامنا. وقد أعلن الربّ يسوع لتلاميذه: ويبغضُكم جميعُ الناس من أجل اسمي (متى 10: 22). ولكن، لماذا يبغض العالم المسيحيّين ويضطهدهم؟ فيجيب: للسبب نفسه الذي جعلهم يبغضون المسيح، وذلك لأنّه حمل إلى العالم نور الله، أمّا العالم ففضّل الظلمة لكي يخفي أعماله الشريرة… واليوم أيضًا تعاني الكنيسة أقسى الاضطهادات، في أماكن عديدة، حتى الاستشهاد. أخوة وأخوات لنا يعانون من الظلم والعنف والاضطهاد وهم مبغضون من أجل اسم المسيح. شهداء اليوم هم أكثر من شهداء القرون الأولى” (راجع كلمته في التبشير الملائكي، 26/12/2016).
21. في سنة الشهادة والشهداء، نرفع عقولنا وأفكارنا إلى أمِّنا مريم العذراء، سلطانة الشهداء، راجين أن تكون هذه السنة زمنَ رجاء وصمود، من أجل أن يكتمل عمل الفداء الذي بدأه وأتمّه المسيح ربّنا، عملًا بقول القدّيس بولس الرسول: “إنّي أتمّ في جسدي ما ينقص من آلام المسيح، لأجل جسده الذي هو الكنيسة” (كول1: 24). ولتكُنْ لنا هذه السنة حافزًا لاقتفاء آثار شهودنا وشهدائنا، وجمع تراثهم، واكتشاف المنسيِّين وغير المعروفين، فيكونوا جميعهم شفعاء لنا ومثالًا في اتِّباع المسيح والشهادة لمحبّته، في العطاء والتضحية والغفران والمصالحة.
عن كرسيّنا في بكركي، في 9 شباط 2017 عيد القدّيس مارون.
+ الكردينال بشاره بطرس الراعي
بطريرك أنطاكيه وسائر المشرق
الفهرس
مقدّمة
أوَّلاً: مسوّغات الاحتفال بسنة الشهادة والشهداء
ثانيًا: الشهادة والاستشهاد في الكتب المقدسة وتعليم الكنيسة
ثالثًا: الكنيسة المارونيّة كنيسة الشهود والشهداء
رابعًا: الاحتفال بسنة الشهادة والشهداء
الخاتمة