التنشئة المسيحيّة لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي ثلاثيّة عيد الفصح 2017

التنشئة المسيحيّة لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي

ثلاثيّة عيد الفصح  2017

 الإفخارستيا: استمراريّة ذبيحة الفداء ووليمة الحياة ورجاء القيامة                                                                                    

الأسبوع المقدّس الذي يتضمّن ثلاثيّة عيد الفصح: خميس الأسرار، وفيه تكريس الميرون وزيت العماد ومسحة المرضى، وتأسيس القربان والكهنوت، وغسل أرجل التلاميذ؛ والجمعة العظيمة التي نحيي فيها ذكرى آلام المسيح وموته على الصليب لفداء الجنس البشري، ومكوث الربّ في القبر يوم السبت المقدّس؛ وأحد القيامة دشّن بها المسيح حياة جديدة للإنسان في العالم.

أوّلًا، خميس الأسرار

1. في هذا اليوم المقدّس، تقيم الكنيسة رتبة تبريك الميرون وزيت العماد وزيت مسحة المرضى. وكلّها مشتقّة من الزيت ومعانيه في الكتاب المقدّس. فهو هبة الله التي يُشبع بها شعبه الوفي (تثنية 11: 14)، وبركة إلهيّة (إرميا 3: 12) يحرم الله منها مَن يخون الوفاء (ميخا 6: 15)؛ وهو بوفرته علامة خلاصيّة (يوئيل2: 19)، ورمز النعيم في آخر الأزمنة (هوشع2: 34)؛ وهو عطر يُطيّب به الجسم (عاموس 6:6) ويقوّي الأعضاء (حزقيال 16: 9)، ويخفّف القروح (أشعيا 1: 9؛ لو10: 34)؛ وهو زيت المشاعل ومصدر الإضاءة (متى 25: 3-8)، والدهن الذي يبهج بعطره، ورمز جميل للحبّ (نشيد 1: 3)، وللصداقة والفخر.

مسحة الزيت هي علامة خارجيّة للاختيار الإلهي، ويصحبها حلول الروح الذي يحلّ على المختار (1صموئيل10: 1-6؛ 16: 13). هذه العلاقة بين المسحة والروح هي أصل رمزية الزيت الأساسيّة في الأسرار المسيحيّة، إذ تضفي مسحة الزيت على المسيحي نعمة الروح المتعدّدة الصور، وفقًا لكلّ سرّ تُستعمل فيه: العماد والتثبيت ومسحة المرضى والدرجات المقدّسة.

إنّ الروح القدس، عندما ملأ بشريّة يسوع، مسحه نبيًّا وكاهنًا وملكًا بامتياز. مسحة الروح القدس المرموز إليها بالميرون والزيوت المقدّسة تُشرك المسيحي في الحالة المسيحانيّة المثلَّثة: النبويّة والكهنوتيّة والملوكيّة، وفقًا للحالة الأسرارية التي يُمسَح فيها. المسحة وإعلان الكلمات المعبِّرة عن مضمونها واستلهام الروح وعمل الله الثالوث، هذه مجتمعة تقيم صاحب المسحة في الحالة التي هو فيها، وفقًا للأسرار الأربعة المذكورة.

2. وتحتفل الكنيسة في هذا اليوم بعيد تأسيس سرَّي القربان والكهنوت. في عشائه الفصحي الأخير، ليلة آلامه وموته، قدّم يسوع للآب قربان جسده ودمه تحت شكلَي الخبز والخمر. ووهبهما غذاءً روحيًّا لرسله، وسلّمهم، عبر خدمة الكهنوت، إقامة قربانه لذكراه. هذا هو التقليد الذي نقله متى ومرقس ولوقا: “وفيما هم يأكلون، أخذ يسوع خبزًا وبارك، ثمّ كسره وأعطى تلاميذه قائلًا: “خذوا كلوا، هذا هو جسدي. ثمّ أخذ كأسًا وشكر وأعطاهم إيّاها قائلًا: إشربوا منها كلّكم. هذا هو دمي، دم العهد الجديد، المهراق عن كثيرين لمغفرة الخطايا” (متى26: 26-28؛ مر14: 22-24). ويضيف لوقا: “إصنعوا هذا لذكري” (لو22: 19).

ويورد بولس الرسول هذه الرواية والتقليد المتّبع في الكنيسة الناشئة في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس (11: 23-25) ويضيف على لسان الربّ يسوع: “فإنّكم كلّما أكلتم هذا الخبز، وشربتُم هذه الكأس، تخبرون بموت الربّ، إلى أن يجيء” (1كور11: 26). ويختم هو: “فأيّ إنسان يأكل خبز الربّ ويشرب كأسه بلا استحقاق، يكون مجرمًا إلى جسد الربّ ودمه. فليختبر الإنسان إذن نفسه، وعندئذٍ فقط، فليأكل من الخبز ويشرب من الكأس… وإلّا يأكل ويشرب دينونة لنفسه (1كور11: 28-29).

3. تقيم الكنيسة في القسم الأوّل من القداس رتبة غسل أرجل التلاميذ. لا يروي يوحنا في إنجيله تأسيس سرّ القربان، بل يكتفي بالقول: “قام يسوع عن العشاء… وأخذ يغسل أرجل تلاميذه… ودعاهم ليفعلوا هكذا بعضهم لبعض. فهو الربّ والمعلّم جعل من نفسه قدوةً (راجع يو13: 4-17). أراد يسوع بذلك أن يعطي بعدًا لسرّ الإفخارستيا: بغسل أرجل سمعان بطرس والأحد عشر، وهم كهنة العهد الجديد على مثاله، عبّر بمبادرة نبوية عن معنى حياته وآلامه كخدمة لله وللإخوة: “ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم، بل ليَخدم، ويبذل نفسه فدىً عن  الكثيرين” (مر10: 47).

4. في ختام القداس، يُصمد القربان المقدّس على مذبح جانبي، من على يمين المذبح الكبير، دلالةً على وجود يسوع في بستان الزيتون. لا يُصمد على المذبح الكبير لأنّه يرمز إلى الجلجلة والموت والقيامة. وهذه لم تحصل بعد في التذكار الليتورجي. لا يُحفظ أي قربان في الكنيسة للدَّلالة على موت المسيح ودفنه.

5. يُصمد القربان طيلة اللّيل، حتى صباح الجمعة، للاحتفال بالقداس السّابق تقديسه وتناول القربان المصمود. غاية هذه الصمدة أن يتمكّن المؤمنون من السجود للقربان المقدّس “والسَّهر” مع يسوع، متذكِّرين سهره وصلاته في بستان الزيتون، ودعوته لنا لنكون دائمًا في حالة سهر وصلاة لنقاوم الشرير.

ويزور المؤمنون سبع كنائس، لتذكار أسرار الخلاص السبعة التي تنبع من سرّ القربان وتتمّ بواسطة خدمة الكهنوت.

*   *   *

ثانيًا، الجمعة العظيمة

1. تقام عند الصباح رتبة القداس السابق تقديسه. وهو رتبة مناولة القربان المتبقّى من قداس خميس الأسرار. ولهذا يسمّى “القداس السابق تقديسه”. فلا يوجد فيه تقديس للخبز والخمر، وهو العنصر الأساسي في ذبيحة القداس. ويُسمَّى أيضًا “قداس رسم الكاس” لأنّ في رتبته التي تتبع كلّ هيكليّة القداس العادي، تُكسر القربانة الكبيرة، التي كانت مصمودة، وتبارك وتقدّس الخمر والماء المسكوبَين في كأس القداس.

2. تحتفل الكنيسة برتبة دفن المسيح المعروفة “برتبة السجدة للصليب”. إنّها الاحتفال بسرّ الفداء الذي أتمّه الربّ يسوع بآلامه وموته، فتقرأ نصوص الأناجيل الأربعة بشأنها، للتأمّل في هذا السّر وفي محبّة الله اللامتناهية. تُعرّى المذابح من لباسها كرمز لجسد المسيح الذي عُرِّي من ثيابه على الصليب، كما كتب القدّيس كيرلّس الإسكندري.

لا يعطي المحتفل البركة، لأنّ المسيح الكاهن الأسمى، الذي منه تستمدّ الكنيسة كهنوتها، قد مات. فيُبطل بموته كلّ سلطان.

3. يُزيَّح الصليب في ثلاث دورات، لأنّ المسيح سيقوم بعد ثلاثة أيام ويهب العالم الحياة. يرافق بالزهور والبخور التي ترمز إلى الطيوب التي طُيِّب بها جسد يسوع. وفي ختام الزياح، يؤدِّي الكهنة سجداتٍ ثلاث، معروفة “بالمطانيات” أمام الصليب أثناء هتاف “قاديشات”. وهي تعود إلى التقليد الشَّرقي القائل أنّ يوسف الرامي ومَن كان معه، عندما أنزلوا جثمان يسوع عن الصليب ليضعوه في القبر، سمعوا الملائكة ينشدون هذا الهتاف، ورأوهم يؤدّون السجود للمسيح.

4. في هذا الجوّ من الحزن والرجاء، والتأمّل في ذروة محبة الله بالمسيح، نصغي لتعليم المعلِّم الإلهي بسبع كلمات يقولها من عرش صليبه. وكانت كلمته السابعة الأخيرة، قبل أن يسلم الروح: “لقد تمَّ كلّ شيء” (يو19: 30). وتعني أنّ عمل الفداء والخلاص قدّ تمّ، مثلما شاء الآب، وأن كلّ الكتب تجد اكتمالها في محبّة المسيح، الحمل المذبوح. إنه بتقديم ذاته ذبيحة، حوّل الربّ يسوع أكبر عمل ظلم إلى أكبر حبّ (البابا فرنسيس: المقابلة العامة، الأربعاء أوّل نيسان 2015).

5. أمّا سبت النور، المعروف أيضًا “بالسبت العظيم” ، فهو تابع ليوم الجمعة، ولا تُقام فيه ذبيحة القداس، لأنّ فيه تذكار المسيح المائت. في هذا السبت نذكر نزول المسيح إلى ظلمة الجحيم بنوره الخلاصي – ولذلك هو سبت النور – ليخلّص الأبرار ويبشّرهم بالقيامة. كون المسيح “هو هو أمس واليوم وإلى الأبد” (عبرا 13: 8)، فإنّه ينزل جحيم ظلمات حياتنا ليبدّدها بنوره، وبالرجاء.

في هذا اليوم، يتمّ الاحتفال برتبة الغفران التي تساعد المؤمنين على التوبة والعودة إلى الله والكنيسة، لابسين حلّة العرس، استعدادًا للاحتفال بعيد القيامة.

وكان يشارك فيها قديمًا الموعوظون، استعدادًا لنيل سرّ العماد المقدّس عند منتصف ليل عيد الفصح.

7. عند الظهر تُقرع الأجراس المعلنة للقيامة، استباقًا لبدء يوم الأحد مع المغيب كما هي العادة المألوفة في احتساب الأيام قديمًا. فالنهار يبدأ عند الساعة السادسة صباحًا، وتدعى الساعة الأولى، وينتهي عند المغيب السادسة مساء وتدعى الثانية عشرة. عندما نقرأ أن يسوع مات عند الساعة التاسعة، فإنّها تعني اليوم الساعة الثالثة. فيكون أنّ الربّ قام في اليوم الثالث (الأحد). فالجمعة هي اليوم الأوّل، والسبت من مغيب الجمعة إلى مغيب السبت هو اليوم الثاني، والأحد الذي بدأ عند مغيب السبت هو اليوم الثالث.

*   *   *

ثالثًا، أحد القيامة

1. نقيم في قداس أحد القيامة رتبة السلام، لأنّ قيامة المسيح هي حدث السلام. والربّ نفسه أخذ يحيّي تلاميذه في ترائيه “السلام لكم”. فقوام الرتبة رفع الصليب من القبر مع شارة بيضاء عليه، رمزًا لانتصار المسيح المصلوب على الموت والألم والخطيئة. والخروج به في زياح وسط الجماعة، بمثابة إعلان لشموليّة الخلاص، وللصليب كراية المسيحيّين وفخرهم، ولتحويل الصليب، بدم الفداء، من أداة ذلّ وعار، إلى علامة مجد وافتخار. في ختام الزياح، بثلاث دورات، يعطي المحتفل البركة بالصليب شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا، للدّلالة على شموليّة الخلاص، “بمحبة الآب، ونعمة الابن، وشركة وحلول الروح القدس”.

2. نحيي حدث قيامة الربّ من بين الأموات، كحدث حاسم في حياة المسيح، وفي حياة الإنسان وتاريخ البشر. فيسوع قام لحياة جديدة في رحاب الله، لن تعرف الموت إلى الأبد. وتختلف كلّيًّا عن قيامة فتى نائين (لو7: 11-17)، وابنة يائيروس (مر5: 22-24؛ 35-43)، ولعازر (يو11: 1-44). هؤلاء يسوع أقامهم من الموت إلى حياتهم السابقة ثمّ ماتوا نهائيًّا. ودشّن المسيح بقيامته بُعدًا جديدًا في الوجود الإنساني، يهمّ كلّ البشر ويفتح أمامهم مستقبلًا جديدًا. قام ليقيم كلّ إنسان، وليحيا في كيان كلّ إنسان. بهذا المعنى كتب بولس الرسول: “لو لم يقم المسيح، لكنتم بعدُ أمواتًا في خطاياكم… ولكنّه قام من بين الأموات وهو بكر الراقدين” (1كور15: 17 و20).

3. قيامة يسوع هي أساس الرجاء فينا، لأنّه دائمًا إلى جانبنا ولا يقطع ابدًا رجاءنا. ولا يخذلنا لأنّه أفاض روحه القدوس فينا (راجع روم5:5). بقيامته ينير كلّ ظلمات حياتنا ومعضلاتها، “يبشّرها”، “يؤنجلها”، يقول قداسة البابا فرنسيس (راجع عظة ليلة عيد الفصح في 26 أذار 2016): يعطيها معنى وبعدًا جديدًا، ويحوّل حزننا إلى فرح، ويدعونا لنعلن سرّ قيامته ونزرع الرجاء في القلوب. هذا ما اختبره  الرسل والنسوة، شهود القيامة والرجاء. لقد جعلهم، ويريدنا أن نكون مثلهم، “حرّاس الصباح” (أشعيا 21: 5)، نترقّب علامات المسيح القائم من الموت، وينبوع الرجاء لكلّ إنسان.

“المسيح قام! حقًّا قام!

                                 *   *   *

شاهد أيضاً

رسالة قداسة البابا فرنسيسفي اليوم العالمي الرّابع للأجداد وكبار السّنّ 28 تمّوز/يوليو 2024”لا تتركني في شَيخوخَتي“ (راجع المزمور 71، 9)

رسالة قداسة البابا فرنسيس في اليوم العالمي الرّابع للأجداد وكبار السّنّ 28 تمّوز/يوليو 2024 ”لا …

الرَّجاءُ لا يُخَيِّبُ مرسوم الدّعوة إلى اليوبيل العادي لسنة 2025 فرنسيس أسقف روما خادم خدّام الله إلى الّذين سيقرؤون هذه الرّسالة ليملأ الرّجاء قلوبكم

Spes non confundit الرَّجاءُ لا يُخَيِّبُ مرسوم الدّعوة إلى اليوبيل العادي لسنة 2025 فرنسيس أسقف …