التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي
الأحـد الـرابـــع عشر من زمن العنصرة 3 أيلول 2017
الجمع الدائم بين التتلمذ للمسيح والرسالة (لو10: 38-42)
في هذا الأحد، يظهر وجه الكنيسة كجماعة مؤمنين تتتلمذ للمسيح وتنطلق للرسالة، من خلال وجه مريم ومرتا أختَي لعازر. يسمّي الربّ يسوع “التتلمذ” كاستعداد لخدمة الرسالة “المطلوب واحد” و”النصيب الأفضل”.
أولاً، شرح نصّ الانجيل
من إنجيل القديس لوقا 10: 38-42
فيمَا كَانَ يَسوعُ وتلاميذهُ سَائِرين، دَخَلَ يَسُوعُ إِحْدَى ٱلقُرَى، فٱسْتَقْبَلَتْهُ في بَيتِهَا ٱمْرَأَةٌ ٱسْمُها مَرْتا. وَكانَ لِمَرْتَا أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَم. فَجَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَي ٱلرَّبِّ تَسْمَعُ كَلامَهُ. أَمَّا مَرْتَا فَكانَتْ مُنْهَمِكَةً بِكَثْرَةِ ٱلخِدْمَة، فَجَاءَتْ وَقَالَتْ: “يَا رَبّ، أَمَا تُبَالي بِأَنَّ أُخْتِي تَرَكَتْنِي أَخْدُمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُسَاعِدَنِي”! فَأَجَابَ ٱلرَّبُّ وَقَالَ لَهَا: “مَرْتا، مَرْتا، إِنَّكِ تَهْتَمِّينَ بِأُمُورٍ كَثِيرَة، وَتَضْطَرِبِين! إِنَّمَا ٱلمَطْلُوبُ وَاحِد! فَمَرْيَمُ ٱخْتَارَتِ ٱلنَّصِيبَ ٱلأَفْضَل، وَلَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا”.
1. الربّ يسوع يعلّم في كلّ مكان ومناسبة. في زيارة عاديّة لبيت أصدقائه لعازر ومرتا ومريم علّم وجوب الجمع بين سماع الكلام الإلهي (التتلمذ)، والاندفاع في خدمة الرسالة بكلّ وجوهها وفي كلّ مساحاتها، تعليمًا وتقديسًا وخدمةَ محبة. هذه الثلاث تتحدّر من رسالته: كمعلّم، وكاهن، وراعٍ. وهي ميزاته المسيحانيّة: النبوءة والكهنوت والملوكيّة. وقد أشركنا فيها بالمعمودية والميرون كحالة مسيحيّة، وبالدرجات المقدّسة (الشماسيّة والكهنوت والأسقفيّة) كحاملي سلطانه الإلهي نمارسه باسمه وبشخصه. أمّا المكرّسون والمكرّسات فيلتزمون، بحكم نذورهم أو وعودهم، بعيش كمال الحالة المسيحيّة.
الربّ يسوع في زيارة إلى بيت أصدقائه في بيت عنيا، المعروفة اليوم “بالعازاريّة” تذكارًا لآية إقامة لعازر من القبر. إنّه في زيارة دائمة لنا ولكلّ واحد منّا. فلا بدّ من استقباله مثل مرتا ومريم، والتتلمذ له مثل مريم، ثمّ الانطلاق بقوّة كلمته وهديها إلى العمل بتنوّعه مثل مرتا.
يزورنا في كلِّ يوم أحد، المعروف “بيوم الربّ”. يقدّم ذبيحته فداءً عنّا، ويهبنا وليمته على المائدتَين: مائدة الكلمة، ومائدة جسده ودمه. كنيسة الرعيّة هي البيت المشترك لجميع أبنائها وبناتها. ألا نستقبل في بيتنا هذا الضيف السماوي، بفرح كبير، مثل مرتا ومريم، ومثل زكّا العشّار (راجع لو19: 6).
يزورنا عندما نقرأ الإنجيل، لأنّه هو يكلّمنا ونحن نستمع إليه، وعندما نستغرق في التأمّل بكلامه. عندئذٍ نعرفه ونعرف تعليمه وماذا يريد منّا. يقول القدّيس إيرونيموس: “مَن يجهل الكتب المقدّسة، يجهل الله”.
يزورنا عندما نصلّي، لأنّنا نحن نخاطبه بإيمان ومودّة، إما للشكر وإمّا للتشفّع، وإمّا للاستغفار، وإما للاستنارة، وإما لطلب محدَّد.
يزورنا في الأفعال الليتورجيّة، لأنه حاضر فيها، لكونها صُنْعَ الله والمؤمنين. ويزورنا في ممارسات التقوى الشعبيّة: زيارات تقويّة، مسيرات روحيّة… ويزورنا في زيارة كاهن الرعيّة التي تنطوي دائمًا على مضمون روحي.
يزورنا في المرض والصعوبة والوفيّات في بيوتنا، لأنّها تُشركنا في سرّ آلامه الخلاصيّة. وتفتح أمامنا آفاقًا جديدة مع الله. التاريخ البشري زاخر بأشخاص عاشوا هذا الاختبار الكبير.
جميلٌ أن يعكس كلّ واحد وواحدة منا وجه يسوع الزائر، في زياراتنا نحن، أكانت إفراديّة أم جماعيّة.
3. “مريم جلست عند قدمَي يسوع تسمع كلامه” (الآية 39). تأخذ مريم موقف “التلميذ الحقيقيّ”. كان تلاميذ الكتبة يمارسون الجلوس عند قدمَي المعلّم للاستماع إلى تعليمه وحفظ الجمل التي ينطق بها. هذا ما أشار إليه بولس الرسول في كلامه عن نفسه أنّه درس عند قدمَي جمليئيل (أع ٢٢: ٣). جلوسها ليس لمجرّد عاطفة دينيّة، بل هو استعداد للرسالة؛ وهي مَن كانت أوّل مبشّر بالقيامة. نفهم إذًا، أنّ خيار مريم كان خيارًا كيانيًّا، يغيّر كلّ حياتها. لذلك تركت كلّ شيء وراءها. وبذلك ترسم صورة الشخص المكرَّس الذي يترك العالم ليختار الله والرسالة.
أهمّية هذا الخيار وهذا التكرّس. إنّ مريم اختارت ما يجعل من حياتها سعادةً لا توصف، بقربها إلى هذا الحدّ من المسيح. عالمنا الماديّ لا يقيس الأمور إلاّ من خلال أثمانها الماديّة. هذا الواقع لا ينطبق على الأمور الدينيّة وحسب، بل يمتدّ إلى مختلف محاور الحياة. كم نرى اليوم استخفافًا بالأمور الفنيّة مثلاً، كالرسم والنحت وسواها، وعدم الاهتمام بالأمور الثقافيّة. حتّى أنّنا نجد مَن يستهين بالعلاقات الاجتماعية، باعتبار أنّها “لا تُكسبه شيئًا”. هذا النمط من الحياة جعل كثيرين في صحراء عاطفيّة. غابت الفرحة الحقيقيّة عن معظم الوجوه. إنها الخسارة الأهمّ في حياتنا، خسارة الفرح.
كلّنا مدعوّون لنصنع الفرح في حياتنا وحياة غيرنا، أكنّا في العائلة، وزوجين ووالدين وأبناء وبناتًا، أجدادًا وأحفادًا. أو كنّا كهنة وإكليروسًا، أو مكرّسين ومكرّسات. أو كنّا مسؤولين عن الشأن العام، بمختلف مهامه.
لكن مصدر الفرح إنّما هو يسوع المسيح.
4. “أما مرتا فكانت منهمكة بكثرة الخدمة” (الآية 40). تُمدح مرتا على أنّ ما تقوم به نابع فعلاً عن محبّتها ليسوع وللضيوف. فقد كان بإمكانها القيام بأقلّ ما يمكن، دون أن تنهمك بكثرة الخدمة. ولذلك، نجد أنّ يسوع لم يوجّه إليها أيّ انتقاد بادئ الأمر. لا بل يمكننا أن نحمدها على اندفاعها في ما تقوم به. فلولاها لبقي الجميع بلا طعام ولدبّت الفوضى في أرجاء الدار. ما قامت به مرتا هو ضرورة لإنجاح الرسالة، حتّى أنّ يسوع لم يمنعها في ما بعد من الاستمرار في ما تقوم به، فإن انتقاده توجّه نحو النوايا، كما سنرى.
يمكننا اليوم أن نوجّه التحيّة والشكر لأياد بيضاء كثيرة تضحّي بالكثير، على مثال مرتا، في مشاريع الكنيسة المختلفة. فلولا هذه الأيادي لتوقّفت أمور كثيرة. بل يمكننا أنّ نشجّع الجميع على التحلّي بنفس الهمّ كمرتا، في تقديم كلّ ما يمكنهم لخدمة الكنيسة والجماعة المؤمنة، خاصّةً في مثل هذه الأيّام الصعبة. وهذا متاجرة بالوزنات، يطلبها الربّ من كلّ واحد وواحدة منّا.
5. أما مشكلة مرتا فهي “انهماكها بكثرة الخدمة”، لأنّها راحت تفقد شيئًا فشيئًا سلامها في العمل، وتدخل في حالة من التوتّر، دفعتها في ما بعد إلى لوم اختها. كثيرًا ما نقع نحن أيضًا في هذا الخطر. في بداية الأمر، نُسرّ بكثرة العمل، معتبرين ذلك كدليل على نجاحنا، ومسرورين بمقدار الربح الذي نجنيه من خلال تعبنا. ولكن، ومع الوقت، يبدأ التوتّر يسيطر علينا ويضعف عزيمتنا، فنضيق ذرعًا ونبدأ بالتصرّف بعصبيّة مع أقرب الناس إلينا ونُفسد كلّ شيء.
ما يريد المسيح أن يعلّمنا إيّاه هو أن نعمل بجدّ ونشاط واهتمام، دون أن ننسى ضرورة الاتكال الدائم على الله، شاعرين دومًا بوجوده وقربه وعنايته بنا، بطريقة شخصيّة. هذا ما اختبرته مريم، وما كانت مرتا بحاجة إليه. هناك فرق كبير بين الهمّ والاهتمام. يمكننا أن نهتمّ بكلّ الأمور وأن نعمل لها بكلّ طاقاتنا. كلّ ذلك يمكنه أن ينمّينا وأن يوسّع آفاق حياتنا، لما هو خير لنا. ولكن متى دخل الهمّ إلى قلبنا سوف نبدأ بإهدار طاقات من العمل في غير مكانها، بسبب التوتّر، وسنفقد حتمًا السعادة في ما نقوم به. سوف يتحوّل عملنا إلى صليب ثقيل ومحزن. سوف نفقد نعمة مريم؛ أي سوف نفقد الأساس: “ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه. أو ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه” (مر ٨: ٣٦-٣٧).
6. فجاءت مرتا تقول: “يا ربّ، أما يعنيك أن أختي تركتني أخدم وحدي؟ قل لها أن تعينني! (الآية 40).
حالة التوتر التي عاشتها مرتا بسبب “الانهماك بكثرة الخدمة”، أفقدها صبرها وسلامها الداخلي، فجاءت تلوم يسوع من جهة، وتشتكي على أختها من جهة ثانية. فأصبحت خدمتها كأنّها “تربيح جميله”، كما نقول في العامّيه. وتحوّلت خدمتها إلى عمل هي مرغمة عليه. هذا الواقع يجد سببه في الحاجة إلى سماع كلام الله الذي يقوّي ويعزّي ويعطي كلّ عمل معناه، ولو كان مضيئًا بحدّ ذاته. ما يريده الله ليس أن نقوم بالخدمة بحدّ ذاتها، بل أن نقوم بها حبًّا به وبالإخوة، وأن نجعل منها سببًا لفرحنا وسعادتنا، سعادة الأمّ في البيت.
هذا لم يحدث لمرتا. بل جاءت تلوم يسوع، وتشتكي على أختها. اللوم والتشكّي يوتّران العلاقة بين الناس، بدءًا من العائلة، وبين الزوجين. فإذا وُجِّها إلى شخص متوتّر الأعصاب بسبب التعب وانشغال البال، قد يؤدّيان إلى صدام لا أحد يعرف إلى اين يصل. هذا ما نشهده في المجتمع وفي العائلات بين الأزواج، وبين الوالدين واولادهم، وبين الإخوة انفسهم.
7. استدرك يسوع وأجاب بهدوء: “المطلوب واحد، ومريم اختارت النصيب الأفضل، ولن يُنزع منها” (الآية 42).
المطلوب واحد وهو الحياة مع الله، بفرح وقناعة واكتشاف لحضوره في كلّ مفاصل وجودنا. المطلوب هو ملكوت الله وبرّه، والباقي يزاد لنا. المطلوب هو أخونا وشريك حياتنا، اللَّذين هما أهمّ من الانجازات والمكاسب. المطلوب هو الحياة كما رسمها الله لنا.
مريم اختارت النصيب الأفضل، وهو حالة التلمذة. اختارت يسوع. تكتنز من كلامه وتتنقّى بنعمته، ثمّ تنطلق إلى الخدمة والرسالة.
بهذا الجواب دعا يسوع مرتا إلى مواصلة خدمتها المتفانية شرط أن تستمدّ قوّتها ومعناها وسعادتها من شخصه ومن كلامه ومن نعمته.
* * *
ثانيًا، الإرادة الرسوليّة: فرح الحبّ
نبدأ هذا الأحد بنقل مضمون الإرشاد الرسولي “فرح الحبّ” الذي أصدره قداسة البابا فرنسيس في أعقاب سينودس الأساقفة الخاصّ بالزواج والعائلة، في 19 أذار 2017. فنتّخذ الفصل الأوّل الذي يتناول الزواج والعائلة والأولاد في ضوء كلام الله في الكتب المقدّسة.
انتَ وزوجتك (الفقرات 9-13)
1. الأساس يعود إلى فعل الخلق “خلق الله في الاصل، الرجل والمرأة” (متى 19: 4). ودعا للزواج: “لذا، يترك الرجل أباه وأمّه ويلزم امرأته، فيصيران جسدًا واحدًا” (تك2: 24). وخلقهما الله على صورته (تك1: 27). لا بمعنى أنّ فيه بعدًا جنسيًّا، بل على صورته كخالق، إذ جعل فيها خصوبة الاتّحاد الجنسي. وهما بنقل الحياة البشرية، يشكّلان علامة منظورة لعمله الخالق.
2. الزوجان اللّذان يتحابّان وينقلان الحياة، إنّما يعكسان وجه الله الخالق والمخلّص. إنّ الحبّ الزوجي الخصب رمز لحقيقة الله الداخلية، التي يصفها سفر التكوين (1: 28؛ 9: 7؛ 17: 2-5 و16؛ 38: 3). والعائلة كشركة حبّ هي انعكاسٌ لله الثالوث، الآب والابن والروح القدس”، وتدلّ على الجوهر الإلهي. يقول القديس البابا يوحنا بولس الثاني: “الله، في سرّه، عائلة، لأنّه يحمل في ذاته الأبوّة، والبنوّة، وجوهر العائلة الذي هو الحب. هذا الحب في العائلة الإلهيّة هو الروح القدس”. والعائلة أيضًا، في لاهوت بولس الرسول، تدخل في سرّ اتّحاد المسيح بالكنيسة (راجع أفسس 5: 21-33).
3. وفي الأساس، تظهر المرأة عونًا يملأ فراغ الرجل، وهي شبيهة به ومساوية. يتكلّم سفر التكوين عن همّ الرجل في البحث عن عون له بين المخلوقات، شبيه به (تك2: 18 و20). فلم يجده بين الحيوانات والخلق كلّه. يبحث عن شخص يلتقيه وجهًا لوجه، يسمّيه “أنتِ”، فتكون “عمود ارتكاز” (سيراخ 36: 24). تهتف مثل المرأة نشيد الأناشيد: “حبيبي لي وأنا له. وأنا لحبيبي، وحبيبي لي” (أناشيد 2: 16؛ 6: 3).
4. “يترك الرجل أباه وأمّه، ويلزم امرأته، فيصير الاثنان جسدًا واحدًا (متى 19: 5؛ تك2: 42). لفظة “يلزم” في الأصل العبري تعني في آن الارتباط الحسّي والداخلي، بحيث أنها تُستعمل لوصف الاتّحاد بالله: “نفسي ترتبط بك” (مز 63: 9). وهكذا الاتّحاد الزواجي ينطوي على بعدَين متلازمَين: الجنسي والجسدي، وهبة الحبّ الإرادية. غاية هذا الاتّحاد الوصول إلى “تكوين جسد واحد”، بالاتّحاد الحسّي، وبوحدة القلوب والحياة، وبالولد الذي سيولد من الاثنين، ويحمل معه، جينيًا وروحيًّا إرث “الجسديّين”، أي الشبه الخارجي والتراث الشخصي لكلّ واحد منهما.
* * *
صلاة
أيّها الربّ يسوع، أنت تدعونا لنصغي أوّلًا لكلامك، نورًا وهداية وقوةَ اندفاع، كما فعلت مريم، ولنلتزم الخدمة باهتمام وغيرة ينبعان من كلامك الحيّ، على مثال مرتا. ساعدْنا بنعمتك كي نعود دائمًا إليك، فنسمع كلمتك التي توجّه رسالتنا في مختلف مساحاتها، وننطلق دائمًا في رحابها بفرح متجدّد. وبهذا الفرح نرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *