رسالة قداسة البابا فرنسيس في مناسبة اليوم العالمي السادس والخمسين لوسائل التواصل الاجتماعية 2022
الإصغاء بأذُن القلب
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء!
تأمَّلنا في العام الماضي في حاجتنا إلى أن ”نذهب وننظر“ لكي نكتشف الواقع ونتمكّن من أن نرويه انطلاقًا من خبرة الأحداث واللقاء مع الأشخاص. وبالاستمرار في هذا الخط، أرغب الآن في أن أركّز الانتباه على فعل آخر، هو ”الإصغاء“، وهو عمل حاسم في قواعد التواصل، وشرط لحوار حقيقي.
في الواقع، بدأنا نفقد القدرة على الإصغاء إلى الشخص الذي أمامنا، سواء في النسيج الطبيعي للعلاقات اليومية أو في المناقشات حول أهم قضايا الحياة المدنيّة. في الوقت عينه، يشهد الاصغاء تطورًا جديدًا مهمًا في مجال الاتصالات والمعلومات، من خلال العروض المختلفة للبودكاست والمحادثات الصوتية، مما يؤكّد أنّ الإصغاء لا يزال ضروريًا للتواصل البشري.
سُئل طبيب مشهور، اعتاد مداواةَ جراح الرّوح، عن أعظم حاجة للإنسان. فأجاب: ”الرغبة اللامحدودة في أن يتمَّ الإصغاء إليه“. رغبة غالبًا ما تبقى خفية، لكنّها تُسائل أي شخص يُدعى ليكون مربيًا أو مُنشِّئًا، أو ليلعب دورًا في التواصل: الوالدون والمعلمون والرعاة والعاملون الرعويون، والعاملون في مجال الإعلام، وكلّ الذين يقدمون خدمة اجتماعية أو سياسية.
الإصغاء بأذُن القلب
نتعلّم من صفحات الكتاب المقدّس أنّ الإصغاء لا يملك فقط معنى الإدراك الصوتي، ولكنه يرتبط بشكل أساسي بعلاقة الحوار بين الله والبشرية. “Shema’ Israel – اسمع يا إسرائيل” (تثنية الاشتراع 6، 4)، إنّ أوّل وصية في التوراة، تتكرّر باستمرار في الكتاب المقدّس، لدرجة أنّ القدّيس بولس سيؤكّد أنّ “الإيمان يأتي من السماع” (روما 10، 17). إنَّ المبادرة في الحقيقة هي من الله الذي يخاطبنا، فنجيب عليه بإصغائنا إليه، وهذا الإصغاء أيضًا يأتي أوّلًا وآخرًا من نعمته، كما يحدث للمولود الجديد الذي يستجيب لنظرة وصوت أمه وأبيه. من بين الحواس الخمس، يبدو أنّ الحاسّة التي يفضِّلها الله هي السمع، ربما لأنَّ وقعه أخف وهو أكثر تحفظًا من البصر، وبالتالي يترك الإنسان حُرًّا أكثر.
يتفق الاصغاء مع أسلوب الله المتواضع. إنّه العمل الذي يسمح لله بأن يُظهر نفسه أنّه بكلمته يخلق الإنسان على صورته، ثم يصغي إليه فيعترف به محاورًا له. إنّ الله يحبّ الإنسان: لهذا يخاطبه بالكلمة، ولهذا ”يُمِيل أُذنه“ ليصغي إليه.
أمّا الإنسان فيميل إلى الهرب من العلاقة، فيدير ظهره و”يسُدُّ أذنيه“ لكي لا يُضطر إلى الإصغاء. وينتهي رفض الإصغاء غالبًا بأن يصبح عدوانًا تجاه الآخر، كما حدث مع الذين كانوا يصغون إلى الشماس إسطفانس: سَدُّوا آذانَهم وهَجَموا علَيه هَجمَةَ رَجُلٍ واحِد (راجع أعمال الرسل 7، 57).
إذن، الله، من جهته، يُظهر نفسه للإنسان ويتصل به مجَّانَا، ومن جهة أخرى، يُطلب من الإنسان أن يكيِّف نفسه ويضع نفسه في حالة إصغاء. الله يدعو الإنسان بصراحة إلى عهد حبٍّ، لكي يتمكّن من أن يصير ما هو بصورة كاملة: صورةَ الله ومثالَه في قدرته على الإصغاء إلى الآخر وقبوله وإعطائه مكانًا. إنَّ الإصغاء هو في حقيقته بُعدٌ من أبعاد الحبّ.
لهذا السبب، يقول يسوع لتلاميذه أن يتنبّهوا لنوعيّة إصغائهم وحثّهم قائلاً: “فتَنَبَّهوا كَيفَ تَسمَعون!” (لوقا 8، 18). بعد أن ضرب لهم مثل الزارع، أراد أن يفهموا أنّه لا يكفي أن يصغوا وإنما عليهم أن يقوموا بذلك بشكل جيّد. لأنّ الذين يقبلون كلمة الله بقلب ”طيب كريم“ ويحفظونها بأمانة هم وحدهم يحملون ثمار الحياة والخلاص (راجع لوقا 8، 15). فإذا انتبهنا إلى من نصغي إليه، وإلى ما نُصغي إليه، وكيف نُصغي إليه، يمكننا أن نتقدّم في فن الاتصال، وهو في جوهره ليس نظرية ولا طريقة تقنية، بل هو “قدرة القلب التي تجعل القرب بين الناس ممكنًا” (الإرشاد الرسولي، فرح الإنجيل، عدد 171).
كلّنا لنا آذان، لكن في كثير من الأحيان حتى أصحاب السمع القوي لا يمكنهم أن يُصغوا إلى الآخرين. هناك في الواقع صمم داخلي، أسوأ من الصمم الجسدي. فالإصغاء، في الواقع، لا يتعلّق فقط بحاسة السمع، وإنّما بالشخص بأكمله. إنّ مركز الإصغاء الحقيقي هو القلب. وقد أثبت الملك سليمان، رغم صغر سنه، أنّه حكيم لأنّه طلب من الله أن يمنحه “قلبًا فهيمًا” (الملوك الأوّل 3، 9). وكان القديس أغسطينوس يدعو إلى الإصغاء بواسطة القلب ( corde audire)، وإلى قبول الكلمات لا في الأذنين بشكل خارجي، وإنّما في القلب بشكل روحي: “لا تكُن قلوبكم في آذانكم بل لتكُن آذانكم في قلوبكم” [1]. وكان القديس فرنسيس الأسيزي يحثُّ إخوته لكي “يُصغُوا بآذان القلب” [2].
لذلك، فإنّ الإصغاء الأوّل الذي يجب علينا اكتشافه عندما نبحث عن اتصال حقيقي هو الإصغاء إلى الذات، وإلى احتياجاتنا الحقيقية، المطبوعة في أعماق كلّ شخص. ولا يمكننا أن ننطلق مجدّدًا إلّا من خلال الإصغاء إلى ما يجعلنا فريدين في الخليقة: الرغبة في أن نكون في علاقة مع الآخرين ومع الله. نحن لم نُخلق لكي نعيش مثل ذرّات متباعدة، وإنّما معًا.
الإصغاء شرط للتواصل الجيّد
هناك سَمَعٌ ليس سمعًا ولا إصغاءً حقيقيًّا، بل نقيضه وهو استراق السمع. في الواقع، هناك تجربة حاضرة على الدوام ويبدو أنّها قد تفاقمت اليوم في زمن الشبكة الاجتماعية، وهي التنصت والتجسس، واستغلال الآخرين لمصلحتنا الخاصة. أمّا ما يجعل التواصل جيّدًا وإنسانيًّا بشكل كامل فهو أن نُصغي إلى من هو أمامنا، وجهًا لوجه، وأن نُصغي إلى الآخر الذي نقترب منه بانفتاح أمين وواثق وصادق.
إنّ غياب الإصغاء، الذي نختبره مرارًا في الحياة اليومية، يظهر للأسف واضحًا أيضًا في الحياة العامة، حيث، بدلًا من أن نُصغي بعضنا إلى بعض، غالبًا ما ”نتحدث عن بعضنا البعض“. وهذا دليل على واقع فينا وهو أنّنا نبحث عن موافقة الناس أكثر من بحثنا عن الحقيقة والخير، وبدلًا من الإصغاء نهتم بالمستمعين. فيما أنّ التواصل الجيّد لا يحاول أن يؤثِّر على الجمهور بالكلمة التي تفحم، أو بالنكتة بهدف السخرية من المخاطَب، ولكنّه يتنبّه إلى آراء الآخر ويحاول أن يفهم الواقع في كلّ تعقيداته. إنّه لأمر محزن أن نرى تجمعات أيديولوجية تنشأ، حتى في الكنيسة أيضًا، حيث يختفي الإصغاء ويفسح المجال لمواقف معارضة عقيمة.
في الواقع، في العديد من الحوارات لا يوجد بيننا تواصل. إنّنا ننتظر أن ينتهي الآخر من الكلام كي نفرض وجهة نظرنا. في هذه الأوضاع، كما يقول الفيلسوف أبراهام كابلان [3]، يصبح الحوار خطابَين منفردَين، أو مناجاة أو حديث منفرد بصوتَين. في التواصل الحقيقي، يكون ال”أنا“ والـ”أنت“ منفتحَين نحو الآخر.
الإصغاء إذًا هو المكوّن الأوّل الأساسي للحوار وللتواصل الجيّد. لا يمكن أن نتواصل مع الآخرين إن لم نصغ أوّلًا، ولا يمكن أن يُمارس العمل الصحفي الجيّد بدون القدرة على الإصغاء. وبغية تقديم معلومات أكيدة، متّزنة وكاملة، من الأهمية بمكان أن نصغي إلى الآخرين مطولًا. وكي ننقل حدثًا ما أو نَصف واقعًا في تقرير ما، ينبغي أن نعرف كيف نصغي وأن نكون مستعدين لتغيير فكرنا ولتعديل الفرضيات المكونة مُسَبقًا فينا.
إن خرجنا من الحديث المنفرد (المونولوج) فقط يمكن أن نصل إلى التناغم في الأصوات الذي هو ضمانة التواصل الحقيقي. الإصغاء إلى مصادر عدة، ”عدم التوقف عند المحطّة الأولى“ – كما يقول المتمرسون في المهنة –، هذا ما يضمن المصداقيّة والجديّة في المعلومات التي ننقلها. إنّ الإصغاء إلى أصوات عدة، والإصغاء المتبادل، حتى داخل الكنيسة، بين الإخوة والأخوات، هذا ما يسمح لنا بممارسة فن التمييز، الذي هو دائمًا بمثابة القدرة على توجيه خطواتنا وسط سيمفونية الأصوات.
لكن لماذا نكلّف أنفسنا عناء الإصغاء؟ كان الدبلوماسي الكبير في الكرسي الرسولي، الكاردينال أغوستينو كازارولي يتكلّم على ”استشهاد الصّبر“، وهو أمرٌ ضروري كي نصغي ونجعل الطرف الآخر يصغي إلينا خلال المفاوضات الصعبة، من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من الخير، في ظروف تكون الحرّيّة فيها مقيّدة. لكن يتطلب الإصغاء فضيلة الصّبر، أيضًا في الأوضاع الأقل صعوبة، بالإضافة إلى القدرة على ترك الحقيقة تفاجئنا، ولو جزء منها فقط، في الشخص الذي نصغي إليه. الدهشة وحدها تسمح بالمعرفة. أفكرُ بالفضولية اللامتناهية لدى الطفل الذي ينظر إلى العالم المحيط به بعينين واسعتين. إنّ الإصغاء بهذا الموقف النفسي – بدهشة الطفل المرفقة بوعي الشخص البالغ – هو دائمًا غنى، لأنّ هناك دائمًا شيئًا، ولو كان صغيرًا، يمكن أن أتعلّمه من الآخر وأستثمره في حياتي.
القدرة على الإصغاء إلى المجتمع ثمينة جدًا في هذا الزمن الذي يعاني من استمرار الجائحة. فَقَدْ تراكَم في السابق انعدام الثقة بـ ”الإعلام الرسمي“ سبّب أيضًا ”وباءً إعلاميًا“، حيث أصبح من الصّعب جعل عالم الإعلام مصدَّقًا وشفافًا. يجب فتح الأذنَين، والإصغاء العميق إلى الاستياء الاجتماعي المتنامي بسبب تباطؤ أو توقف العديد من النشاطات الاقتصاديّة.
إنّ واقع الهجرة القسرية هو أيضًا مشكلة معقدة ولا أحد يملك حلًا لها. وأكرّر أنّه بغية التغلّب على الأحكام المسبقة حيال المهاجرين وتخطي قساوة قلوبنا، لا بد من أن نسعى للإصغاء إلى قصصهم. وأن نعطي اسمًا وقصة لكلّ واحد منهم. العديد من الصحفيين الجيّدين يفعلون ذلك، وكثيرون آخرون يريدون أن يفعلوا الشيء نفسه لو استطاعوا ذلك. يجب أن نشجعهم! لنصغِ إلى هذه القصص! وكلّ واحد سيكون حرًا في دعم سياسات الهجرة التي يراها ملائمة لبلده. لكن سنرى أمامنا أعين هؤلاء الأشخاص، لن نتعامل مع أرقام أو مع غزاةٍ خطرين، لكن مع وجوه وقصص أشخاص حقيقيين، مع نظرات وتطلعات ومعاناة رجال ونساء ينبغي الإصغاء إليهم.
الإصغاء بعضنا إلى بعض داخل الكنيسة
حتى داخل الكنيسة ثمة حاجة كبيرة للإصغاء إلى الآخرين وبعضنا إلى بعض. إنّها أثمن هبة وأكثرها فعالية يمكن أن نقدمها بعضنا لبعض. إنّنا كمسيحيين ننسى أن خدمة الإصغاء أُوكلت إلينا ممن هو المُصغي بامتياز، ونحن مدعوون إلى المشاركة في عمله. “يجب أن نصغي بأُذُن الله، إن أردنا أن نتكلّم بكلمته” [4]. هكذا يذكرنا اللاهوتي البروتستنتي Dietrich Bonhoeffer بأنّ الخدمة الأولى التي ينبغي أن نقدمها للآخرين في إطار الشركة هي الإصغاء إليهم. من لا يعرف أن يصغي إلى أخيه، سيفقد سريعًا المقدرة على الإصغاء إلى الله [5].
في العمل الرعوي، الفعل الأهم هو ”رسالة الأُذُن“. الإصغاء قبل التكلّم، كما يقول يعقوب الرسول: “على كُلِّ إِنسانٍ أَن يكونَ سَريعًا إِلى الاِستِماعِ بَطيئًا عَنِ الكَلام” (يعقوب 1، 19). إنّ تخصيص قسط من وقتنا مجانًا للإصغاء إلى الآخرين هو أوّل عمل محبّة.
بدأت منذ قليل مسيرة سينودية. لنصلِّ كي تكون فرصة كبيرة للإصغاء المتبادل. إنّ الشركة في الواقع ليست نتيجة استراتيجيات وبرامج، إنّها تُبنى على الإصغاء المتبادل بين الإخوة والأخوات. الوَحدة في الجوقة لا تقتضي التسوية بين الجميع والصوت الواحد، بل التعددية وتنوع الأصوات، وتعدد النغمات. وفي الوقت نفسه إنّ كلّ صوت في الجوقة يغني مستمعًا إلى الأصوات الأخرى، وفي إطار تناغم الكلّ. هذا التناغم صاغه المؤلّف الموسيقي، لكن تحقيقه يعتمد على سيمفونية جميع الأصوات المنفردة.
إن وعينا أنّنا مساهمون في شركة ووَحدة تسبقنا وتشملنا، أمكننا أن نعيد اكتشاف كنيسة سمفونية، يكون فيها كلّ واحد قادرًا على الغناء بصوته، متقبلًا أصوات الآخرين ومعتبّرًا إياها هبة له، حتى يتمّ التعبير عن تناغم الكلّ الذي يؤلّفه الرّوح القدس.
أُعطيَ في روما، في بازيليكا القديس يوحنا في اللاتران، يوم 24 كانون الثاني/يناير من العام 2022، في تذكار القديس فرانسيس دي سالِس.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2022
[1]”Nolite habere cor in auribus, sed aures in corde” (العظة 380، 1: المكتبة الأوغسطينية الجديدة 34، 568). [2]رسالة إلى الرهبانية بأسرها: مصادر فرنسيسكانيّة، 216. [3]راجع حياة الحوار، في ج. د. روسلانسكي، وسائل التواصل. مناقشة في مؤتمر نوبل، شركة شمال هولندا للنشر، أمستردام 1969، 89-108.
Cfr The life of dialogue, in J. D. Roslansky ed., Communication. A discussion at the Nobel Conference, North-Holland Publishing Company – Amsterdam 1969, 89-108.
[4]ديتريش بونهوفر، الحياة المشتركة، دار النشر كويرينيانا، بريشا 2017، 76.- Bonhoeffer, La vita comune, Queriniana, Brescia 2017, 76.